قراءة في كتاب

سلمان كيوش "مصقولة" بطعم الجنوب العمارتلي

780 سلمان كيوشسلمان كيوش قاموس ألفاظ "اشروكي" ضمَنه بسرديات وحكايات أهلنا في الجنوب (العمارتلي)، هو يستنطق (الهور) و(البردي) و(المشحوف) و(الطرَادة)، وهو يُجيد مُطاردة المُفردة الجنوبية ويُحسن الكشف عن خباياها وخفايا التعبير المكنون فيها في لحظة الحُزن والفرح.

يُطربك ويُبكيك في ذات اللحظة، ويُفرحك ويفيض عليك بألفاظ الحُزن والفرح في (الأبوذيه) أو تعبيرن الجنوبية الفياضة بالشجن الذي هو منطقة وسطى بين الفرح والحُزن بحسب موروث الألفاظ وتعابير فيض المحبة والتوَق الشجي.

سلمان كيوش يُجيد الكشف عن مكامن ضعف المرأة الجوبية وقوتها ليُحدثنا عن نساء مثل: (مسيعيدة) و(ازهية) و(غنيده) تمكنَ من خلق حياة لهنَ بها الفخر سمة وفيها العز سجية وفيه الحُزن سمة غالبة لا مغلوبية عليهنَ في التصريح بها، فهنَ نساء لهنَ القُدرة على صناعة حياة لنا وسط كل ما يعشنَ فيه من ألم. إنهنَ أمهات يُجيدنَ صناعة الأمومة وتصديرها بصدق لا تصنع فيه.

أما رجال الجنوب بشغف أهله وعشقهم لهم فقد مثلته أصوات المُطربين من أمثال: (مسعوده العمارتلي)! و(حسين سعيده) و(سيد محمد) و(عبد رويح) و(سلمان المنكوب) و(جويسم كاظم) و(عبادي العماري).

و(العلوية) و(السيد ومسبحته السوداء أم مية اواحد)، و(الرفش)، و (أبو الزمير)، وي طينة (الدهله)، و(أبو ذوي)، و(الطنطل)، و(المُضيف)، و(سياح)، و(الكهوة والفنجان والدلة)، و (اليشماغ والشيلة)، و(الهلولة) و(سويف خلف)، خلف الذي يُعادل طعم الحنظل بمرارة (التتن) الحار، و(الفخاتي) و(الزيطة) و(الزرازير)، وكأنه بلغة سردية مُدهشة يُشارك (مظفر النوَاب) هيامه في سحر الجنوب وأهله، ولكن الفرق بينهما أن النوَاب ابن بغداد سحره الجنوب الذي أجاد وصفه شعراً، ولكن كيوش ابن جنوب الجنوب الذي يُجيد صناعة حياته ومُعانته فأجاد خلقه سرداً.

مظفر النواب وسلمان كيوش عيونهم (زرازير البراري) بكل مرحها بكل نشاطها بعالي السحر.

إنه ملحمة أو "سيرة جنوبية" لم تكتمل فصولها بعد.

سلمان كيوش يكتب سرديته من خصوصية المُجتمع الذي ينحدر منه وعاش فيه ومنه ينهل حكاياته، وكأنه نجيب محفوظ بسخة عراقية و"تجلَ جميل" بعبارة (غادامير) لهذا الجنوب بكل ما فيه من قهر وقليل من الفرح ضيعته سنوات الألم والحرمان الذي عاشه أهل الجنوب.

"في الجنوب يتكاثف الزمن، يتلبد بغيوم الجمال فيمطُرها على الأرض دُرراً بحجم الذَر، لذا يسير الناس حُفاةً كي يُبيحوا لثم ما تنثه السماء وهي تعترف ما أطلت على أرض أكثر وداعة من الجنوب"

سلمان كيوش (ذاكرة الطين) و (أحلام القصب) الذي كلما فرع عوده طاله التقطيع وكأن حياته لا تقبل النهايات، وكل يوم له حكاية لها بداية وليست لها نهاية، وإن تغير قاموس ألفاظ الجنوب وقصبه وبرديه اليوم إلَا أن كيوش يحتفظ بذاكرة الطين = (الأصل) و (الهيولى) = (المادة الأولى) بلغة أرسطو التي تشكلت منها حروف الكتابة الأولى في سومر، وصورة الأنسان الحضاري الأول في التاريخ. وإن كان تاريخ الجنوب يستهويه بحكم الأصول من أرض ميسان فهو الأجدر بالقصَ عنه والحكاية وهو خير من يرويه.

في الجنوب فرح شفيف فيه يشدو مطربو الجنوب ترنيمته ببحة صوت معجونة بموروث الشجن السومري، وايقاع (خشبة) أوطبلة (عبد رويح) وعزف كمنجة (فالح حسن) ليطربوا على أغنية (كاتلنه الوجع والعالم تهلهل) ، و "إن كان للقلق صوت فهو في عُربَ صوت المنكوب (سلمان) وامتداده" الذي كان "أول من أعاد "للمنازل" قُدرتها على إجبار الدمع على الانسكاب مدراراً عبر صوت بُكائي يُعيدُ لجيناتنا فجيعتها الصحراوية بالأطلال واندثارها...هو أول من أثبت أن الحياة لا تصلحُ لغير مهمة واحدة هي أن نبكي فيها".

شغوف بالجنوب حدَ الثمالة ليقول مُخاطباً مُعترضيه "لكم جهتي ولي جنوبي..فإن كُنتم في شك من أي جنوبيَ وقولوا له بحُبَ عنَ لنا وانتظروا.."

كيوش يكتب الشعر وجعاً عبر السرد، أو أنه يكتب الوجع الجنوبي سرداً بلغة شعرية، تغلب اللغة الشعرية بـ (حسجة جنوبية) على مقتضيات السرد أحياناً في تمام الوصف للأمكنة والأزمنة وسمات أبطاله وملامحهم وطريقة عيشهم بتفصيل ليترك لقارئه مشاركة في استكمال بناء الشخصية وصور الأمكنة درامياً، ولربما هذه من مُتطلبات كتابة القصة التي يُجيد رسم الحبكة فيها كيوش.

 

في المثقف اليوم