قراءة في كتاب

كتاب جديد في الحوار الصحفي.. الأهوال والأحوال!

زيد الحليلستُ متشائما، حين اقول، انني اجد نكوصا واندثارا في موضوعة (الحوار الصحفي) المؤثر، بفنونه المعروفة في عموم صحافتنا المحلية، وربما في الصحافة العربية .. رغم ان "البعض" ممن ينشر اليوم (حوارات صحفية) يتيمة لا يريد الاعتراف بهذه الحقيقة، منطلقاً من ذاتية مفرطة بالحساسية، مرتدياً بدلة محام، للدفاع من وراء صحراء المخيلة، ناكراً هذا الاندثار، وكأنه بذلك يؤسس لضبابية، مهمتها عزل الحقيقة المعاشة التي يلمسها متابع مثلي قضى جل عمره في متابعة الشأن الصحفي، انني اشبه هذا "البعض بمن يريد الشهد دون إبر النحل، محاولين الوصول إلى شهرة "وهمية " بكتابات مضطربة المعاني، ضعيفة الموسيقى، رديئة اللغة.. لقد نسى هؤلاء ان الحوار الصحفي الحقيقي هو استنطاق صامت، واستجواب متهم، وادانة مرتكب، وتوضيح غوامض وكشف مجاهل، وتصحيح أخطاء، وتصوير مجاهل النفس في اطار الحقيقة و.. و..!

وبأسف ومرارة، اقول ان شعلة (الحوار الصحفي) الذي يسحبك الى قراءته حتى سطره الاخير، انطفأت إلا ما ندر، حين زاد عدد كُتاب (صحافة القارئ الواحد) رقما، وقل ابداعا، وتسبب واقع التدني لهذا الفرع الصحفي الراقي في انحسار بيّن، تمثل بابتعاد الصحفيين الحقيقيين عنه، وتضاربت في اعماقهم امواجه الحبيسة، لتشكل فيضانا من الاحتجاج على طغيان "الكتبة الجدد".. ومع قناعتي، بأنه لا توجد قوانين جامدة لكتابة اي حوار صحفي، لكني وجدتُ فوضى في معظم ما نشر وينشر من حوارات صحفية ، فأثرها معدوم في وجدان القارئ، كونها ناقصة، مشلولة، وتحمل طابع الارتجال، وكُتبت تحت مخدر الحياة، تلف وتدور في وصف لا معقول وتكلف، لا يستسيغها عقل ولا يربطها رابط !

وازاء هذا الواقع، وقفت عند كتاب أ . د احمد عبد المجيد (الأهوال والأحوال) مليا، وفرحا، بعد قراءته اكثر من مرة، لكني، حرتُ بتوصيفه، فهو بعيد، وقريب في آن واحد، من كتب المناهج الاكاديمية في الصحافة والاعلام ، وايضا من كتب السيرة والاستذكار لشخصيات معاصرة، لعبت ادوارا في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.. انه كتاب ميداني بامتياز في درس الحوارات الصحفية، بصفحاته (366) من القطع المتوسط، وبوابة معرفية مهمة مشرعة على كل الاصعدة، لاسيما في الدرس الاكاديمي الخاص بكتابة الحوارات والاستطلاعات الصحفية التي سار على نهجها كبار الصحافيين في العالم من محمد حسنين هيكل (مصر) الى نيكولاس كريستوف (امريكا) وغيرهما من مشاهير الكتاب الصحافيين ..

وهنا، ومن الامانة، اشير الى جزئية مهمة، قبل ان اتناول ما جاء به الكتاب، وهي ضرورة اطلاع طلبة الاعلام في الجامعات، لاسيما اقسام الصحافة، على اسلوبية الكاتب في تناول الشخصيات التي التقاها، لأنني وجدت فيها تفردا في التناول، ينبغي ان يحظى بالمتابعة والدراسة، فالصحافة الحقة هي في التميز والصدق ونقل المعلومة، وفي سبر غور المتحاور وصولاً الى الغاطس في القعر، كي نغذي عقل القارئ بالجديد وغير المتناول ..

الحوار في رأي المؤلف

في مقدمته، قال ا. د. احمد عبد المجيد الذي يتكئ على خبرة عقود في الصحافة، وفي الدرس الاكاديمي (يحتل الحوار الصحفي، مرتبة متقدمة بين الفنون الصحفية، ويحظى من الصحفيين، ولاسيما اصحاب الخبرة والكفاءة بعناية واضحة، فهم يحرصون على اختيار الشخصية التي يحاورونها ويدققون في اهمية حضورها في قضايا الرأي العام، عندما ينشغل هذا الرأي العام بالأمور الساخنة او يكون موقفا ازاء كبار المسؤولين او بعض المعنيين بالشأن العام، والحوار الصحفي يقدم للقراء، في الغالب معلومات جديدة او بيانات او حقائق حول بعض الحوادث او الموضوعات، ويهدف الى التعرف على وجهات نظر الشخصية التي يحاورها الصحفي او يلقي الضوء على آرائها في الامور الملحة او يرسم ملامح الشخصية بإزاء المناطق المجهولة منها، فيعرّف القراء بها ويسرد احداثا رافقتها او كان شاهد اثبات عليها وكانت فيما مضى اما سرية غير مكشوف عنها او ملتبسة تحتاج الى فرز، او مجهولة الوقائع يشترك اكثر من فرد او جهة في رسم معالمها عند وقوعها قريبا او بعيدا)

قدم د. عبد المجيد تجربته في الحوار الصحفي في كتابه من خلال حوارات اجراها في الاعوام ( 2013 لغاية 2018 ) مع عشرين شخصية سياسية وثقافية وفكرية وصحفية رفيعة، اختار منها 18 حوارا للنشر في كتابه ..

لمستُ عند قراءتي لتلك الحوارات دقة عالية في التناول والبساطة التي ادت إلى الوضوح، فالدقة والبساطة في رأيي ضرورتان في الصحافة , لأنهما يمنعان الوقوع في مزالق الثرثرة والضياع في متاهات المفردات التي تحمل أكثر من معنى ... كانت الانسَنَةُ في حوارات د. احمد، تطعيماً لها ومشحونة بأحاسيس الإنسان ومتاعبه وهمومه وردّات فعله الطبيعية وهواجسه وأحلامه ونزواته, حتى أشعر القارئ, أن بينه وبين المتحاور معه علاقة مباشرة.. وهنا اثبت المحاور، انه لا ينقل اجابات فقط، بل جعل الحوار مرئيا ومسموعا "

اللغة الثالثة !

وهنا اشير الى جزئية مهمة كان قد ذكرها الزميل د. احمد عبد المجيد، مرة قبل سنوات بقوله (ان الصحافة الحقة، هي التي تكتب بلغة ثالثة) فهذه العبارة كانت جديدة عليً، في المسمى، لكني لمستها في كتابه الجديد .. لغة راقية، تستمد رقيها من اصالتها . لغة كاملة محببة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، ونبرات الحياة.. ان (اللغة الثالثة) في الصحافة، لاسيما في الحوارات، هي تلك التي تكره التعبيرات المتوارثة، وتبحث عن مفردات رفيعة، راقية المورد والجريان والمصب، سامية الإيراد والموضع والمنزلة .. وتحفل بصور حياتية، مؤتلفة، مفعمة بالعواطف واللفظ المتفجر، والجمل القصيرة، السهلة الممتنعة .. وهي لغة حين يمسكها صحفي كفء، يطير بواسطتها مثل فراشة ملونة في سماء الابداع الصحفي، لأنها تحب الايجاز القوي المتماسك في عباراتها وذا حضور جمالي مع البساطة ..

ان اللغة التي ابتدع اسمها د. احمد عبد المجيد، جسدها في كتابه (الأهوال والأحوال) تدعو من يمارسها، الى غربلة الحقائق الملتقطة، ضمن تحليل منطقي يتلمس خطوطها بأمانة وثقة، وربط المقدمات بالنتائج بخيط دقيق لا يكاد يستبين، مؤلفا ما بين اطراف الكلمات المبعثرة، متدرجا من التفصيل الى التركيز ومن التركيب الى التحليل ..

اخذنا الكتاب، في رحلة عميقة الابحار، مع د. فؤاد معصوم، الامير الحسن، هاني وهيب، محمد دبدب، خير الدين حسيب، فؤاد مطر، محمد كامل ظاهر، جبار اللعيبي، فاضل ميراني، محمد نظيف قادري، عبد اللطيف جمال رشيد، عبد الرزاق عيسى، علاء بشير، على الاديب، همام عبد الخالق، رشيد خيون، حسن العلوي ومحمد دحلان .

لستُ مجاملا بالقول ان هذا الكتاب عبر في أقل عدد من الكلمات بنقل وقائع مهمة لأحداث وشخصيات اثرت في المشهد السياسي والثقافي والفكري، فكانت هناك جِدة الطَّرح، وعمقه، وقوته، وطرافةَ بعض الموضوعات، ونُدرةَ طرقها.. وانتقل خلالها من روضة أنيقة إلى روضة أخرى، ويجد القارئ الأساليب الراقية المتنوّعة، واثبت المؤلف ان الحوار الصحفي باب عظيم من أبواب الاعلام والصحافة، وطريق واسع لنشر الفكر والتأثير في القراء ..

 

زيد الحلّي

 

في المثقف اليوم