قراءة في كتاب

حسين المرصفي ورسالة الكلم الثمان

عصمت نصارلعلّ أوّل ما يصادفنا في حديثنا عن خطاب «حسين المرصفي» هو عنوان كتابه، الذى أخرجه من معيّة الأدباء المقلدين إلى زمرة المتفلسفين المجددين.

فكلمة رسالة كان يستخدمها النهضويون في الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية بمعنى خطاب موجه للقارئ المتلقي، ويستهلون بها عناوين كتبهم، وذلك للفت الأنظار لأهمية محتوى المتن أو مضمون الكتاب.

وقد أكد «المرصفي» هذا المعنى في مقدمة الكتاب «هذه رسالة ألتمس من قرائها أن يخصوها بجانب عظيم من عنايتهم».

أمّا لفظة «الكلم» فهى جمع غير شائع للكلام، ولعله أراد محاكاة كتاب «جوامع الكلم لأحمد بن زين الدين الإحسائي (1753م - 1826م)» الذى جمع فيه خلاصة أفكاره.

أمّا رقم ثمانية فلعلها تخبر عن عدد الموضوعات التي سوف يتناولها في الكتاب، وقد اجتهد «الدكتور محمد حافظ دياب (1938-2016)» في تحقيقه الرائع للكتاب فذكر أن كلمة «ثمان» قد أوردها محاكية «لأصول المثمن الذهبى لأرسطو» أو تراه قد سار على منوال «حلقة الكلم الثمان» المتواترة في أدب الحكمة الشعبية، أو تأثر بحديث «ابن الأنباري» عن الأمة التي تنقسم في كلام العرب على ثمانية أقسام كما ورد في كتابه «الزاهر في معانى كلمات الناس»، أو تأثر بتقسيم «ابن خلدون» للسياسة الذى يحتضن ثمانية مفاهيم فرعية، ونقله عنه «الشيخ رفاعة الطهطاوي» في مؤلفه " مباهج الألباب المصرية»؟.

ويتراءى لي أن «المرصفي» قد تأثر بكتاب «إحصاء العلوم لأبى نصر الفارابي (872م -950م)» الذى جمع فيه معارف عصره في ثمانية أبواب وهى (علم اللسان، المنطق، التعاليم، الطبيعة، الإلهي، المدني، الفقه والكلام). إذ كان «المرصفي» يرى أن هذه القضايا الثمان تشغل الرأي العام ومن ثم كان لزامًا عليه أن يكشف النقاب عن دلالة مصطلحاتها ومعانيها الخفية عن الأذهان.

كما أرجح أن يكون قد حاول الجمع بين المعارف الرئيسة التي تشكل العقلية الفلسفية التي وضعها «أفلاطون» وهى (الحساب، الهندسة، الفلك، والموسيقى) وقد أطلق عليها اسم «علم العلوم».

بالإضافة إلى العلوم الأساسية التي شكلت بنية الفكر العقلي والعقدي الإسلامي وهى (علم التوحيد، علم الحديث، علم أصول، الفقه، والتصوّف).

ونخلص من تحليلنا للعنوان إلى أن «الشيخ المرصفي» قد أراد لفت الأنظار إلى أنه سوف يتواصل مع مثقفي عصره عن طريق رسالة تمثل خلاصة أفكاره عن موضوعات ثمانية قد شغلت العوام والمثقفين معًا.

وإذا ما انتقلنا إلى بناء الرسالة وترتيب موضوعاتها فسوف نجدها بدأت بالحديث عن مصطلح «الأمة» في 18 صفحة، ويعنى ذلك أن «المرصفي» انطلق من توضيح معنى الأنى قبل الخوض في الموضوعات التي تدور من حولها، وقد برر ذلك خلال معالجته للآراء المختلفة حول مفهومها ومعناها من معظم النواحي الاجتماعية والسياسية والمكانية الجغرافية والعقيدة الدينية، واستهل الحديث بأعم هذه المصطلحات، أي أنه انتقل بلغة المنطق من الجنس إلى النوع، ومن الكلى إلى الجزئي، ومن العام إلى الخاص، وقد أفرد لها جانباً كبيراً من صفحات الخطاب.

أما حديثه عن «الوطن» فجاء حديثًا مُسهبًا في 20 صفحة، تناول فيه الروابط الثقافية والاجتماعية والأخلاقية التي تشُكل هويّة المواطنين، ذلك بالإضافة إلى النظم السياسية والاقتصادية، والعوائد السلوكية المنظمة لتصرفات المواطنين تجاه بعضهم البعض من جهة، وتجاه الوطن كصفة اعتبارية لمجموع المواطنين، فسلوك الأفراد لا يقيّده إلا الحفاظ على مصلحة المجموع.

وتعرض كذلك لحقوق المواطنين وواجباتهم تجاه مصلحة الوطن واحترام الحكومة.

وقد خص المقالة الثالثة بالحديث عن «نظام الحكم والحكومة» وذلك في 8 صفحات بداية من تعريفها ومهامها في رعاية المواطنين وحفظ الأمن وحماية الوطن وتربية النشء وتعليمهم وتوجيه الرعية لما فيه الصالح.

وانتقل بعد ذلك إلى مصطلح «العدل» فيعرفه باختصار، وكذلك مصطلحا «الظلم والسياسة» فقد جمع المصطلحات الثلاثة في صفحة واحدة.

وأعتقد أنه آثر السلامة في عدم الاستفاضة في هذه الموضوعات حتى يتجنب غضبّة السلطات القائمة آنذاك.

ولعلّه قد سار على نفس الدرب في حديثه عن المصطلح السابع ألا وهو «الحرية» الذى جاء في ثلاث صفحات، فقد تجنب المخاطر في حديثه المباشر عن تلك المصطلحات الأربعة ذات الصلة المباشرة بالقصر والخديوي والسلطات ذات النفوذ آنذاك، تلك التي في مقدورها مصادرة الكتاب أو حرقه وسجن كاتبه، وفى التاريخ عبرة.

أمّا حديثه عن «التربية» في المقالة الثامنة فجاء في 44 صفحة، وهو أكبر أقسام الكتاب، وكيف لا فقد جعل مفكرنا من التوجيه والتوعية والتثقيف والتهذيب القاعدة الأساسية للنهضة المرجوة، والأمر الذى لا غنى عنه لسلامة الأمة وصلاح الوطن وبناء الفرد والمجتمع.

فتناول ما يجب عليه أن يكون الرأي العام القائد، وهو صفوة المثقفين وعقل الأمة الموجه، وأصل كل تقدم وفلاح، وهو في نفس الوقت علة كل إخفاق وفساد فهو الآلية التي تحرك المجتمع من القاع إلى القمّة، وبالعكس.

فالتربية هى المسئول الأول عن عقل الأمة وقيّمها ومشخصاتها وسلوك أفرادها وكل الطبائع المكتسبة، بداية من حب المعارف إلى تذوق الفنون وارتقاء الأحاسيس والمشاعر، والميّل إلى السلم والعزوف عن العنف والحقد والشقاق.

كما تعّرض بشيء من التفصيل لسمات المعلم المُربِى والمتعلم المُربَى، مبينًا أن انسجام هذين الطرفين وتواصلهما هو علة نجاح الأمم في بلوغ ما ترمى إليه من السعادة، والعيش في أمن وطمأنينة.

ثم اختتم حديثه بالعلوم التي يجب على المُربِى تزويد النشء بها حتى تتحقق مقاصد التربية وغاية التعلم التي تتمثل في تنشئة إنسان خلوق محب لوطنه مهذب في أقواله وأفعاله.

وقد حرص المؤلف على عرض أفكاره وآرائه بأسلوب واضح ولغة سلسة سهلة في مفرداتها عميقة في معانيها ودلالاتها، تخاطب العقل أكثر من عنايتها بالمحسنات البديعية والجرس اللفظي.

ولا يعاب على الكاتب حرصه على تدعيم آرائه وبسط أفكاره، استنادًا على النفيس من التراث، بالإضافة إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية وصحيح الحديث الشريف، وتعويله في معالجة الأخلاق على القيم المستمدة من أصل الدين، فما كان لمثله تجاهل القاعدة الرئيسة التي انطلقت منها كل خطابات النهضويين والمجددين التنويريين الذين انطلقوا من المدرسة الأزهرية، وسوف تكشف المقالات التالية عن وجهته التأليفية بين التراث التليد والفكر الوافد الجديد.

وسوف نقف كذلك على ملامح الجِدّة والطرافة في تناول القضايا الثمان التي تعرض لها «الشيخ المرصفي»...

وللحديث بقية.

 

بقلم : د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم