قراءة في كتاب

الحزب الشيوعي بين احتلالين

ميثم الجنابيصدر حديثا عن  دار (المركز الاكاديمي للأبحاث) كتاب الفقيد يوسف محمد طه. والكتاب متوسط الحجم (122 صفحة) لكنه يتسم بقدر كبير من الأهمية، وذلك لأنه يحتوي بقدر واحد على معايشة وانعكاس للتجربة التاريخية السياسية للحزب الشيوعي العراقي من جهة، ومعاناتها الفردية من جهة أخرى. ومن ثم يحتوي على مزاج الرؤية الصادقة لأولئك الذين ضحوا بل فقدوا حياتهم في السجون والمنافي وعذاب الغربة والاغتراب من اجل القضايا الجوهرية للشعب والدولة، دون أن يحصلوا بالمقابل على أي شيئ، بما في ذلك أمكانية الموت بهدوء وسكينة بين ذويهم. وأخذوا معهم أسرارهم ومعاناتهم ودفنوها بألم لا بعرفه إلا من عانى منه بصدق القلب والعقل والوجدان. وهي شريحة عريضة تعرضت لمأساة فعلية بأثر السقوط الهائل للوجدان الثوري العارم في حضيض الخذلان والهزيمة.

الأمر الذي كان وما يزال يخامر ضمير ووجدان هذه الشريحة المهمة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر. لكنها اخذت بالتلاشي والذوبان شأن قطعة ثلج في صيف عراقي حار. ومع ذلك، فإن قطرات العرق والدم الذائبة تبقى في نهاية المطاف جزء مما يمكنه أن يروي ولو بقعة صغيرة من أرض تبدو قاحلة لكنها مليئة بالحياة.

وهذا الكتاب هو أقرب ما يكون إلى تعبير سياسي نقدي يتمثل ما وضعته اعلاه. لاسيما وأنني كنت استمع إلى حديثه الدائم معي وكمية بل نوعية المعاناة الدفينة التي عادة ما كانت تخرجه عن طوره للدرجة التي لم يكن أمامي سوى مهمة التهدئة النفسية وليس العقلية. ويمكن العثور على كل هذه الحالة والصيغة الدفينة في الكتاب. بحيث يجعله وثيقة حياتية وسياسية وفكرية بقدر واحد. فالقارئ يحس ويشم من وراء عباراته تيار الحياة والنقد العارم، على عكس ما وضعه الكثير من "قيادات" الحزب الخربة من مذكرات فقط (بلا تحليل ولا دراسة ولا نقد بالمعنى العلمي للكلمة). وهي مذكرات بلا رائحة ولا طعم شأن المصنوعات البلاستيكية.

1368 الحزب الشيوعي بين احتلالين

ويبدأ الكتاب بتقييم تاريخي لنشوء الدولة العراقية الحديثة وينتهي بسقوطها. وفي مجراها يتناول القضايا الكبرى التي صنعت الحزب الشيوعي العراقي وصنعها. وطبيعة الدراما والمأساة السياسية التي حلت بالعراق ولحد الان بأثر السياسة الخاطئة للحزب وصراع قياداته الضيقة وجهلهم المعرفي والانحطاط الاخلاقي للأغلبية الساحقة منهم. ومن ثم يكشف عن المفارقة التي أدت إلى صعوده التاريخي باعتباره احد أقوى وأكبر الأحزاب السياسية الاجتماعية في العراق الحديثة، وانهياره الشديد أيضا.

واكتفي هنا بالمقدمة التي وضعتها للكتاب. ففيها يمكن تحسس ورؤية مضمونه وأسلوبه وغايته النهائية.

(إن من لا يترك بعده شيئا فهو لا شيء، أو في أفضل الأحوال هو سماد الاحتمال. ومن ثم يحمل في طياته مختلف الإمكانات. وبالتالي لكل وجود قيمة وجودية وروحية. وهي الفكرة التي استوقفتني أمام مهمة تحديد المكان أو الحالة التي يمكنني وضع الفقيد يوسف فيهما؟ والحل الوحيد فيما يبدو هو ان أضعها ضمن إطار القيمة والمعنى في حياته وخاتمتها.

لقد ولد في الديوانية عام 1952 وتوفي في السويد عام 2019، ونقل جثمانه إلى كربلاء لكي يستقر فيها استقرار الموتى والأحياء. وما بينهما حياة مليئة بكل ما مر به العراق من أحزان وتحولات وتغيرات ونجاحات وهزائم وأفراح وأتراح. باختصار، كل ما يميز الحياة من تناقضات لا تحصى في وحدتها.

لقد ولد وعاش في المرحلة التي بلورت وحدة الشخصيات المتناقضة، التي نرى آثارها لحد الآن في العراق: صراع مقيت بلا معنى وآفاق مستقبلية مجهولة، باستثناء غريزة الفرجين وهمجية العقائد الميتة.

وبالمقابل يمكننا الجزم، بأن كل ما لا يحكم بالعقل أو يحتكم إليه ميت بالضرورة. وهي الفكرة التي تقترب بمعايير المنطق إلى مستوى الفرضية الحية والبديهة الجلية، التي أخذت تتراءى له في العقد الأخير من حياته بعد مرورها بكل دهاليز العقائد السياسية والأيديولوجية، والحياة العادية، والصراع الاجتماعي والسياسي، وحالة العراق بعد تخلصه من الدكتاتورية الصدامية، وسقوطه بين فكي الاحتلال الامريكي وهشاشة النخب السياسية العراقية الحالية وطابعها الرخوي. بحيث يبدو العراق في مراحل الدكتاتورية و"الديمقراطية" من طراز واحد. وكلاهما وجهان لمعالم الانحطاط والتخلف وانعدام الشخصية والترهل الغبي والنخب الفاسدة وهيمنة قطاع الطرق واللصوص والأنذال وكل ما يحتويه قاموس اللغة من أوصاف لمختلف مظاهر الرذيلة. وهي أوصاف لا يخلو منها كل من هو موجود أو وراء كواليس السلطة الحالية في العراق!

وقد كانت هذه الحالة المريرة أحد الأسباب التي ساهمت في مرارة حياته وموته المرير. كما أنها الحالة التي تحزّ في قلوب أغلب القوى والأفراد الذين تبلورت شخصياتهم في مجرى الثورة والجمهورية الأولى. بمعنى أولئك الذين كانت مفاهيم الحرية والتقدم الاجتماعي والعدل والمساواة وغيرها من القيم الرفيعة، بداية ونهاية وعيهم السياسي وغاية أحلامهم. وليس مصادفة أن يلاقي شعار (وطن حر وشعب سعيد) الذي رفعه الحزب الشيوعي، الذي انتمى إليه يوسف وناضل من اجله وكافح وضحى بأغلى ما يملك حتى وفاته، من تأييد على مستوى الحس والعقل والحدس لدى غالبية العراقيين. بينما كان يرى بأم عينيه ويتحسس كل ما في العراق بجلده وقلبه وأعماقه على انه (وطن مستعبد وشعب كئيب).

وهذه من المفارقات المؤلمة لمن تشبّع بقربان التضحية من اجل الحق والعدالة والنزعة الإنسانية، لكي يعود العراق إلى موقعه الفعلي، ولكي يستعيد ما فيه من تاريخ حي عميق.

فقد كانت الفكرة الشيوعية من بين تلك العقائد الفلسفية والسياسية العملية التي انتشرت واستهوت نفسية ذهنية العراقيين، وبالأخص اهل الجنوب والوسط. بحيث تحول هذا الارتباط إلى نكتة ظريفة حاولت أن تجمع في كل واحد هذه الحقيقة التاريخية بعبارة تقول شيعي وشيوعي وشرقاوي. بينما اشتق أهل الشام بطريقتهم الخاصة هذه الثلاثية بعبارة تقول: شرطي وشوفير (سائق) وشرموطة (مومس). وأيا كان شكل المقارنة ومحتواها وإمكانية تأويلها وتطبيقها إلا أنها تشير إلى حقيقة لها أبعادها وأعماقها التاريخية بالنسبة للعراق. ففي أبعادها التاريخية الفعلية تقوم في انتشار الشيوعية وتأسيسها في العراق بين شيعته. ومع أن يوسف لا يحب هذه الأوصاف وظل ينتقدها حتى آخر أنفاسه، لكنه كان يلمح إليها بعبارة "أهل الجنوب والوسط" وحملتها من بين العرب. بمعنى انه حاول أن يربط بين الطابع العربي والشيعي للشيوعية الأولى دون أن يرجع مضمونها إلى طابع قومي وطائفي. على العكس. لقد كان كل ما فيه شديد المقت للفكرة الطائفية والقومية الضيقة.

إن القبول بالشيوعية بين اهل الوسط والجنوب، أو العراق التاريخي الثقافي لم يكن اعتباطا، بل أن له جذوره الخاصة. فقد كانت سومر وبابل، والبصرة والكوفة الموازاة التاريخية الثقافية التي أرست أسس الوجود الثقافي للعراق القديم والخلافة العباسية، أي القوى التاريخية الثقافية الكبرى في العراق وللعراق والعالم العربي والثقافة الكونية.

فالأيديولوجية الشيوعية لها أنغامها الخاصة التي تتناغم مع الفكرة الإسلامية من حيث الدفاع عن مبادئ وقيم الحق والعدالة والنزعة الإنسانية الجامعة. كما أنها تستجيب للشخصية العراقية الأكثر ميلا للقيم المتسامية بما في ذلك أكثرها طوباوية.

أما الأوصاف التي جرى في يوم اطلاقها على أهله، بأنه موطن الأهواء فهو مجرد اتهام باطل وأحكام سطحية للغاية. لكنه حكم له بعض الجوانب الواقعية. بمعنى اندفاع أهل العراق الشديد صوب الأفكار المثيرة والمحفزة للوعي العملي، وبالأخص تلك التي تحمل في اعماقها وتستجيب للروح الوجداني المتحمس. وقد كانت تلك الصفات في صلب الشخصية والفردية والفكرية والسياسية ليوسف. من هنا انغماسه التام فيها في البداية وشعوره بالخيبة منها في أواخر حياته. إلا أن ذلك لم يكسر المفاهيم والقيم الجوهرية والوجدان الصادق من اجل البدائل الوطنية والقومية والإنسانية.

بعبارة أخرى، إن كل حكم أو أحكام تختزل التاريخ العريق وإبداعه العظيم في عبارات صارمة تبقى في نهاية المطاف مجرد أهواء. وكل ما قيل عن أهل العراق بأنهم اهل أهواء كانت تصدر من أهل أهواء مرتزقة للمال أو الجاه أو العقائد السلفية الميتة.

فقد كان للعراق تقاليده العريقة في الفكر والثقافة والعمل. ففيه الأسطورة العميقة والدولة والحقوق والمدن والكتابة والعمران والفنون، ولاحقا علوم اللغة والقواعد والكلام والفقه والفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية، أي كل ما يكشف ويبرهن على سطحية الأحكام عنه. كما أن معنى الأهواء في الثقافة العربية الإسلامية كان مرتبطا بالعقائد السياسية والفرق الاجتماعية السياسية. وبما ان اغلبها ظهر في العراق من هنا ظهور المتضادات فيه. وهي الحالة المعقدة التي لا تستسيغها الذهنية السلفية المتعلمة بقواعد العقائد وليس بأساليب العقل الحر واجتهاده العملي.

وهذه حالة يمكن رؤيتها في شخصية يوسف وفكرته النقدية التي كتبها آخر أيامه، وبصورة أدق قبل حوالي ستة أو سبعة أشهر من وفاته. فقد أخذ منه مرض السرطان حياته وقوته وتفكيره ووجدانه. ووضع ما كان بإمكانه وضعه بهذا الصدد. بينما كانت مخطوطته التي أرسلها لي قبل وفاته بشهر تقريبا تعكس مخططه الأول للكتاب، بهيئة مشروع فكري واسع يتناول تاريخ الحياة السياسية في العراق الحديث منذ نشوءه الجديد، وأبعادها القومية والعالمية. والمكان الوحيد الناضج والمحدد في هذه المخطوطة هو ما له علاقة بالحزب الشيوعي. بمعنى أن هاجسه أو أولويات تفكيره هنا كانت مرتبطة بتجربته الشخصية. وفي الوقت نفسه، لموقفه الخاص من الحزب بوصفه القوة السياسية الكبرى في العراق الحديث التي أثرت اخطائه السياسية في تحول العراق إلى ما هو عليه الآن. وهي فرضية يصعب اعتبارها حقيقة تامة، لكنها تحمل في طياتها الإمكانية الأكثر واقعية ودقة بهذا الصدد. من هنا يمكن القول، بأن نقده السياسي والفكري والوجداني والأخلاقي للحزب الشيوعي هو بمعنى ما نقد ذاتي وشخصي من جهة، ونقد للفكرة السياسية والحزب السياسي في تاريخ العراق الحديث، من جهة أخرى.

وأيا كان الموقف منها، فقد كان موقفه مبنيا على أساس إدراك فكري وعملي ومعايشة فعلية وإحساس اجتماعي ووجدان عراقي وعربي. وعموما يمكنني القول، بأن الفكرة النقدية في كتابه هذا اقرب ما تكون إلى تقاليد الرفض والتمرد العقلاني. ولا يغير من ذلك كونها لم تكتمل بسبب موته الذي حال دون اتمام ما كان يخطط له.

لقد كان كل ما فيه أقرب إلى نفسية وذهنية التمرد والرفض لما يراه منافيا للحقيقة والعدل كما كان يفهمهما. وأيا كان شكل ومضمون القبول بهذه النفسية والذهنية، فإن أعظم الفكر والإبداع متمرد. والأعظم منه ما يبني عليه نموذج أو نماذج البدائل العقلانية والإنسانية. وهي هموم كانت تشغل كل ما فيه في العقدين الأخيرين من حياته. وقد ترك لي كل ما كتبه لكي أقوم بإخراجه كما ينبغي ونشره. وقد كانت تلك وصيته الأخيرة الى جانب دفنه في العراق. وكان يرغب بأن يدفن إلى جوار الوالد والوالدة. وقد مازحته فيها آنذاك قائلا: إذن ندفنك في بادية الرمادي! والسبب يقوم في أن الوالد مدفون في الشام (السيدة زينب)، والوالدة في العراق (كربلاء). وقد جعل من اهدائه الكتاب لكليهما تعويضا روحيا لذكرياته عنهما وارتباطه الصميم بهما. وسوف اتناول كل ما له علاقة بتاريخه السياسي وشخصيته وأهمية ما كتبه حالما انتهي من إعداد المخطوطات الفكرية، وبالأخص كتابه عن (العقل والطبيعة) وعدد آخر من الأبحاث الأخرى.

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم