قراءة في كتاب

"برديّات مصريّة" لطارق العمراوي

بسمة الشواليسفر في القطار السّرديّ من شمتو إلى الجيزة

من موقع "شمتو" الأثريّ القريب من موقع بلاريجيا بمدينة جندوبة كتب طارق العمراوي مسرحية "شمتو: حجارة العبيد والملوك"

ومن داخل الأهرامات المصرية صدر له مؤخّرا كتاب جيب يقع في 48 صفحة تحت عنوان: " برديات فرعونيّة".

السّياحة الثقافيّة مجانيّة هاهنا أيّها القارئ فاحزم حقائبك وتعال.

لم يجنّس طارق العمراوي كتابه هذا على صفحة الغلاف (وهو تمثال "الكاتب"، كنز أثريّ مصريّ لكن معروض بمتحف اللوفر بفرنسا) كما جرت العادة أو على صفحاته الدّاخليّة. ترك للقارئ حريّة أن يذهب ذهنه سواء باتجاه القصّة أو الحكاية أو ببساطة أشدّ تكثيفا نحو "تصّفح" برديات فرعونيّة رحّلتها مخيلة الكاتب من متحف الآثار وقلب الحجارة الأثريّة، ودفّات التاريخ الضارب في القدم إلى "متحف" القراءة في راهن العصر. وأمّا تلك البرديّات التي يهيدها الكاتب الشّغوف بالتنقيب المعرفيّ في التاريخ القديم والحضارات الغابرة والكنوز الأثرية للمتاحف والمواقع الأثرية الخارجيّة لقارئ هذا العصر الذي لم يعتد في الواقع على هذا التوّجه في استحضار التاريخ للمجال القصصي والسردي عموما مثلما هو الشّأن فيما يتعلّق بالتاريخ الأقرب زمنيا، وأمّا تلك البرديّات إذن فهي خمس: برديّة المقبرة، برديّة الموسيقى، برديّة الكهنة، برديّة الكاهن روما، برديّة التمثال.

1630  برديات مصربين طيات هذا الكتاب صغير الحجم يأخذنا الكتاب في نزهة مشوّقة إلى زمن الفراعنة في حكايات تخييليّة تستحضر تلك الأجواء عبر الشّخصيات (حرحور، حور ماخر، سيم،  تي، آني، نخاو، رخميرع..)، ومكونات المكان وطبيعة الشخصيات ومجال حركتها الفكرية والنفسية واللغويّة، وخصائص الأزمنة حينئذ وما انطوت عليه من خلافات سياسية مكشوفة ومبطّنة بين حكام تلك العصور والمهيمنين على الشأن العام من بطانة الحكم ومن الكهنة والحاشية، وما ميّزها من صراع التموقع بين الآلهة (كانقلاب أخناتون على الإله توت غنج آمون وما حفّ ذلك من صراع بين الكهنة من الطّرفين) والمتحكمين باسمهم من الفراعنة. وهذا ما جعل الكاتب يتجوّل بنا في المحيط السياسي لتلك الحقبة عبر اختيار دقيق ومحكم لصالح الغرض الذي ارتآه الكاتب في علاقة بوعيه السياسي والفكريّ من خلال البرديات الخمس التي يعرضها علينا للقراءة في لغة شفّافة موضوعيّة لا تتجمّل بازياء اللغة العربية الفاخرة لكن تحرص على أن تكون على قدر كبير من الموضوعيّة التي تباعد في المسافة بين الكاتب والعصر المكتوب من خلال تحييد السّرد وتكثيف الحوار بين الشّخصيات وجعله، أيّ الحوار (وهذا يحيلنا على تقنية الكتابة المسرحيّة وخصوصيتها)، منبع أفكار الشّخصيات، ومشاعرهم، ومعتقداتهم، ومواقفهم السياسية والدّينية، ومصدر معلومات القارئ الأكثر مصداقيّة إن شئنا، عن ذلك العصر المحكيّ.

هناك متحف متعدّد الكنوز والثروات يقيم في ذهن طارق العمراوي. ذلك أنّ البحث والتنقيب في موقع الخطوات الأولى للإنسان على وجه الأرض يمثّل شغفه الذي يتميّز به، ويحمله دائما في جولة حريّة معرفية إلى المجال الكونيّ للثقافة والحضارة الإنسانيّة عبر ربط ماضيها العريق بحاضرها الرّاهن، وقد انعكست هذا التوّجه في تنوّع كتاباته خدمة لشغفه هذا على غرار بعض ما صدر من كتبه: "الذّاكرة والنسيان: تشتشينات"، "جدل الحضارات"، "شمتو: حجارة العبيد والمولك"، وأخير كتابه " برديات فرعونيّة"، وما هو معدّ للنّشر من الكتب: " رُقم مسماريّة"، "حكايا أندلسيّة"، و"سفر في الغراق القديم". لكن كلّ هذا التنوّع لم يحمله على أن يستقرّ في "موقع بحث بعينه"، أو أن يجعل هواية التنقيب والتوثيق هذه مقتصرة التأليف البحثيّ والسّردي بل تجلّى ذلك كذلك في ممارسته لهواية تكوين المجموعات" على غرار "مجموعة البرايات" التي يسعى لإنجازها من أجل متحفه الخاصّ بها.

 

بسمة الشوالي

 

في المثقف اليوم