قراءة في كتاب

محمد الورداشي: محمود درويش في ضيافة السيميائيات

صدر للناقد المغربي الدكتور رشيد الإدريسي كتابٌ نقديٌّ بعنوان "محمود درويش سيميائيا أو حين يفكر الشعر" عن دائرة الثقافة الشارقة في طبعته الأولى سنة 2021، وهو الكتاب الفائز بالمركز الأول من جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى 2021، يبلغ عدد صفحاته مائة وسبعين صفحة من القطع المتوسط.

يستهل الناقد دراسته بمجموعة من الاستشهادات الفكرية والفلسفية (أبو حيان التوحيدي، هنري فريدريك أمييل...) التي تثبت العلاقة الوطيدة بين الفكر والشعر؛ ذلك أن المنطلق الذي أسس عليه الناقد رشيد الإدريسي دراسته النقدية هو إثبات العلاقة بين الفكر والشعر، وأن الشعر يفكر من خلال كون الشاعر لا يباشر كتابة قصيدته إلا بعد قراءات فكرية فلسفية متعددة، والحديث هنا عن المتن الشعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش. ومن ثم، يعمل الشاعر على استثمار هذه القراءات الفكرية مُتَناصا ومتفاعلا معها في إطار شعري جمالي؛ أي أن الشعر، وهو يفكر، لا يتخلى عن مقوماته الفنية الجمالية، وإنما يبلور هذه الأفكار في بنية القصيدة الفنية والجمالية.

يحدد الناقد خلفيته المعرفية والمنهجية في السيميائيات التأويلية التي "تدرس العلامات بمختلف أشكالها وتبحث عن معناها تأويليا" (محمود درويش سيميائيا: ص8). ومن ثم، توظيفه لمجموعة من المفاهيم السيميائية الإجرائية التي مكنته من تأويل المتن الشعري المدروس، ومن هذه المفاهيم الإجرائية نلفي: العلامة، والمؤولة، والمقوم، والموسوعة الثقافية، والتشاكل، والرمز، والسيناريو، والعالم الممكن، والنموذج بحسب الحالات، والسياق، والتناص، والتظهير..إلخ. والمتأمل في هذه المفاهيم يجد أنها تجمع بين الاهتمام البنيوي والثقافي؛ ذلك أن الناقد يُفَعِّلها بناء على المعطيات النصية، أو تأسيسا على المحاور النصية التي يمليها سياق النص المدروس، لينفتح بعد ذلك على الإمكانات التأويلية التي تتيحها الموسوعة الثقافية للقارئ، مشترطا أن يقدم القارئ الحجج والاستدلالات التي تدعم تأويله، أو تدفعه إلى إعادة النظر فيه إذا لم يتطابق مع المعطيات النصية.

حدد الناقدُ المتنَ المدروسَ في أربع قصائدَ شعريةٍ للشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهي "تنسى كأنك لم تكن"، و"لا شيء يعجبني"، و"درس في كاماسوترا"، و"عابرون في كلام عابر"؛ ومرد هذا الاختيار هو كونها نصوصا شعرية حظيت بمكانة كبيرة، كما أن الشاعر نفسه قد احتفى بقراءتها في سياقات متعددة. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن الناقد أخذ التلقي والتداول بعين الاعتبار في اختيار المتن، فضلا عن كون المتن يقدم إمكانياتٍ تأويليةً كبيرةً تسعف المحلل في قراءته وتحليله بمفاهيمَ سيميائيةٍ تأويليةٍ.

يخلص قارئ الدراسة النقدية العميقة إلى مجموعة من الخلاصات، من بينها:

- أن الناقد قد برهن على كفاءته التأويلية والتحليلية؛ ومرد هذا الأمر إلى ما اتسم به تحليل المتن الشعري من تؤدة وتريث، أي أنه تحليل هادئ يقرأ النص الشعري سطرا سطرا وكلمة كلمة دون أن يغفل السياق العام الذي تتشاكل فيه العلامات داخل السطر الشعري، والسطور الشعرية داخل القصيدة، والقصيدة داخل المتن الشعري للشاعر محمود درويش، وهذا المتن في علاقاته بالتراث الشعري والفكري العربي والعالمي. هذا بالإضافة إلى أن الناقد لا يلوي عنق النص حتى يتلاءم مع سيناريوهاته التأويلية أو أفكاره المسبقة حول النص، وإنما يعطي مساحة كبيرة للنص حتى يفيض بدلالاته، ثم ينفتح بعد ذلك على موسوعته اللغوية والنظرية والثقافية، وذلك مع استحضار دائم للمتلقي ودوره الفعال في إثراء دلالات النص بناء على تأويلات موضوعية ومشروعية ومدعمة بحجج واستدلالات تبررها وتدعمها؛

- أن السيميائياتِ التأويليةَ تتيح إمكاناتٍ تداوليةً متعددةً في قراءة الخطابات عامة، والخطاب الشعري خاصة؛ ذلك أن هذا الخطاب كثيرا ما وسم بالغموض والإبهام اللذين يوجهان عملية التلقي، ومن ثم، فإن المفاهيم الإجرائية الموظفة من قبل الناقد تفتح إمكانات متعددة، وآفاقا رحبة لقارئ الخطاب الشعري إذا ما أحسن توظيفها وأجرأتها؛ أي دون تعسف وإفراط في التأويل، وإنما من خلال استنطاق النص بناء على إمكاناته الدلالية المرتكزة على محاوره النصية وعلاماته اللغوية وغير اللغوية.

قدم الناقد رشيد الإدريسي بهذه الدراسة منهجية مهمة في قراءة الخطابات عامة والخطاب الشعري خاصة؛ ذلك أنه ينبه القارئ إلى أن النص يحمل دلالات متعددة بتعدد القراءات، وأن للتأويل شروطا وحدودا تتمثل في ضرورة استناده إلى البنية اللغوية للخطاب، واستحضار طبيعة سياقه وعناصره لئلا تكون القراءة خارج حدود الخطاب، والتأويل مفرطا ومتعسفا، وإنما على التفاعل مع النص أن يتحول إلى"نوع من الحوار بين محفلين هما القارئ والنص" (محمود درويش سيميائيا: ص161).

- أن الموسوعة الثقافية المرتبطة بقضايا النص وانشغالاته ضرورية في التحليل؛ ذلك أن الشاعر لا ينتج نصه بعيدا عن الأطر الفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي نشأ فيها، وأسهمت في تشكيل وعيه ورؤيته الوجودية والأدلوجية للعالم، وللذات والآخر، وهذا ما وظفه الناقد في دراسته من خلال تنشيط مجموعة من المؤولات التي يفسر بعضها البعض الآخر، وتتشاكل فيما بينها لإنتاج دلالات النص، ومن ثم فسح المجال أمام القارئ الذي يعيد بناءها وتأويلها مستندا إلى موسوعته الثقافية ومعرفته بالعالم.

أسهمت هذه القراءة الموسوعية الثقافية للمتن في توضيح جوانب ظلت مجهولة لدى القارئ المتسرع، وقدمت له مفاتيح وآفاقا جديدة لقراءة التجربة الشعرية لمحمود درويش في شموليتها، قراءة تتسلح بترسانة مفاهيمية سيميائية تأويلية، لا تتعسف تأويل علامات النص، ولا تتمحل في تقويلها ما لا تحتمله، ولا تغض الطرف عن أهمية السياق وطبيعته في إنتاج النص وتداوله وقراءته. إنها القراءة التي تنطلق من النص، مُفَعلةً ترسانتها المفاهيمية، وتنفتح على العالم الخارجي موظفة موسوعته الثقافية ومعرفتها بالعالم؛

- أن التحليل السيميائي والثقافي قد أثبت الفرضية التي انطلقت منها الدراسة، وهي أن الشعر يحفل بالفكر، وأن محمود درويش لا يقبل على كتابة قصائده غُفْلا من المعرفة الفكرية والفلسفية والثقافية، وإنما هناك عملية فكرية وفلسفية تسبق الإبداع؛ أي أن ثمة مخاضا فكريا وتناصا ذهنيا يخوضهما الشاعر قبل عملية الإبداع؛

- أن المتن الشعري المدروس تتشاكل فيه العلامات اللغوية والثقافية والفكرية والنفسية للتعبير عن قضايا الشاعر وانشغالاته؛ فالناقد انطلق من تحليل وتأويل هذه العلامات المتشاكلة ليخلص إلى طبيعة القضايا التي تشغل محمود درويش من قبيل: الهوية، والتاريخ، والوطن المستقل، والحرية والتحرر..الخ، وكلها قضايا تبرهن عليها نصوص المتن المدروس وكل ما أنتجه الشاعر، لذلك نجد الناقد يستحضر أسطرا ومقاطعَ شعريةً من قصائدَ أخرى للشاعر نفسه، تأسيسا على أن الشعر يفسر بعضه بعضا.

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن الدراسة النقدية للناقد المغربي رشيد الإدريسي قد برهنت على جدتها من خلال طبيعة المتن المدروس الذي يزخر بدلالات متعددة، وطبيعة المقاربة النقدية المتمثلة في السيميائيات التأويلية التي تنفتح على النقد الثقافي والأنتربولوجيا وعلمي الاجتماع والنفسي..إلخ، وهذا مرده إلى الموسوعة الثقافية التي تفترض في القارئ قدرا كبيرا من المعرفة حول عالم النص ومبدعه ومتلقيه. كما أن هذه الدراسة تفتح أمامنا آفاقا جديدة ومختلفة عما عهدناه في المناهج والمقاربات التي اهتمت بدراسة الخطاب الشعري، حتى نقرأ الشعر قراءة تفاعلية وتحاورية مع نصوصه.

كما أن قارئ الدراسة يمكن أن يتساءل: ما الحجج التي قدمها الشاعر محمود درويش لإقناع القارئ بقضاياه وأطروحاته؟ ما طبيعة هذا الحجاج؟ وما مقوماته؟ وكيف يبنى الحجاج شعريا في نصوص هذا الشاعر؟.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم