قراءة في كتاب

إيما لاركين: البحث عن جورج أورويل في بورما

بقلك: إيما لاركين

ترجمة: صالح الرزوق

***

قلت ببطء:"جورج أورويل. ج - و- ج - أ- و - ر- و- ي - ل". لكن تابع البورمي هز رأسه.

كنا نجلس في بيته في غرفة استقبال كالفرن. وكان البيت في مدينة ساحلية خاملة في بورما السفلى. والهواء بدوره ثقيل ويغلف وجودنا. سمعت صوت البعوض يطن بنفاد صبر حول رأسي. وأوشكت أن أيأس. ولكن الرجل أكاديمي معروف في بورما، وأعلم أنه يعرف أورويل. غير أنه متقدم بالعمر، وداء الماء الأبيض صبغ عينه بلون المحار الأزرق. وكانت يداه ترتعشان وهو يرتب عباءته. تساءلت هل فقد الرجل ذاكرته، ولكن بعد عدة محاولات فاشلة، وجهت له سهمي الأخير.

كررت :" جورج أورويل– مؤلف 1984". فجأة لمعت عينا الرجل المسن. ونظر لي ببريق خاطف يدل على الفهم. ولطم جبينه بسعادة وقال:"تقصد النبي".

قبل وفاة جورج أورويل بعام واحد في سنة 1950، تمت مصادرة آلته الطابعة. استلقى أورويل تحت ملاءة كهربائية في شاليه خشبي صغير في قلب كوتسوولد Cotswolds الأخضر والمبهج وهو يحتضر من السل الرئوي. وتراكمت حول سرير مرضه كتب متنوعة: مجلدات عن فظائع ستالين والألمان في الحرب العالمية الثانية، دراسة عن الشغيلة الإنكليز في القرن التاسع عشر، وعدد من روايات توماس هاردي، وبعض بواكير إفلين ووه. وأخفى تحت السرير قارورة من شراب الروم.

نصح الأطباء جورج أورويل الذين كانوا يعالجونه في المصحة أن يمتنع عن الكتابة. قالوا له: كل أنواع الكتابة ستتعبه. وما يحتاج له الراحة التامة، فكلا رئتيه أصيبتا بالطفح والبثور، وكان سعاله مدمى. وقد وصل المرض حالة حرجة، ولم يكن لدى الأطباء أمل باحتمال شفائه. وحتى لو عاش، لن يتمكن من الكتابة – أو على الأقل ليس بنفس القوة التي اعتاد عليها، لكن تابع أورويل الكتابة. خط الرسائل، وألف المقالات، وراجع الكتب، وصحح مسودات روايته الجاهزة للنشر "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون". وكان ذهنه المحموم يخطط لكتاب جديد: وهو نوفيلا بعنوان "قصة غرفة التدخين"، وسيتذكر فيها بورما، المكان الذي لم يذهب إليه منذ أيام شبابه.

عاش أورويل في بورما في العشرينات (1920) بصفة ضابط في قوة الشرطة الإمبراطورية. ولخمس سنوات ارتدى بذة الكاكي والبوط الأسود اللماع. كانت قوة الشرطة الإمبراطورية، المسلحة بالبنادق والشعور بالتفوق المعنوي، تقوم بدورياتها في الريف، لتضبط هذه الزاوية البعيدة من الإمبراطورية البريطانية وتحتفظ بها ضمن النظام. ثم فجأة ودون سابق إنذار عاد إلى إنكلترا وقدم الإخطار الذي معه. وبنفس الروح المباغتة بدأ مهنته بالكتابة، وبدل اسمه الحقيقي "إريك آرثر بلير" باسم أدبي هو "جورج أورويل". وارتدى أسمال المتشردين واقتحم ليالي لندن المعتمة ليجمع القصص من الواقع المعاش. وبنى أورويل أولى رواياته "أيام بورمية" على تجربته في الشرق الأقصى، ولكن في أعمال تالية مثل "مزرعة الحيوان" و"ألف وتسمعائة وأربعة وثمانون" تحول إلى واحد من أهم كتاب القرن العشرين وأكثرهم تبصرا وحكمة. ومن سخرية القدر أن هذه الروايات الثلاثة تروي قصة عن التاريخ المعاصر لبورما. وتبدأ العلاقة من "أيام بورمية"، والتي تسجل تاريخ البلاد في ظل الاستعمار البريطاني. وليس بعد استقلال بورما بفترة طويلة وانفصالها عن بريطانيا عام 1948، أغلق دكتاتور عسكري البلاد عن العالم الخارجي، وأطلق حملة "الطريق البورمي إلى الاشتراكية"، وحول بورما إلى واحد من أفقر البلدان في آسيا. ونفس القصة ترويها رواية "مزرعة الحيوان" لأورويل، بقالب حكاية رمزية تتابع الثورة الاشتراكية التي ذهبت بطريق خاطئ، وفيها تطرد المزارعين جماعة من الخنازير، لتحكم المزرعة حتى تتحول إلى خراب. وفي خاتمة المطاف يقدم أورويل في "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون" وصفا مرعبا لدايستوبيا فاقدة للمشاعر، ويرسم فيها صورة دقيقة، تقشعر لها الأبدان، عن بورما الحالية، وتبدو بهيئة بلد تحكمه أعتى ألوان الدكتاتوريات وأفظعها.

في بورما نكتة مفادها أن أورويل لم يكتب رواية واحدة عن البلد، لكن ثلاثا: ثلاثية تتكون من "أيام بورمية"، و"مزرعة الحيوان"، و"ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون".

وأنا أسير في شارع ماندالي المزدحم في بورما خلال أول زيارة لي عام 1955 اقترب مني رجل بورمي متعمدا وهو يلهو بمظلة سوداء. ابتسم ابتسامة ناصعة وقال :"انشري في العالم خبر حاجتنا للديمقراطية – فالشعب منهك جدا". ثم استدار وابتعد وهو يقرع الأرض. وهكذا تم الأمر: كان واحدا من الكل. ولمعت في ذهني فكرة عابرة، أنه في بورما لا شيء يبدو كما هو في الحقيقة.

خلال الأسابيع الثلاثة التي أنفقتها بالتجوال بين مشاهد تشبه صور بطاقات المعايدة، وتمثل أسواقا مبهرة، ومعابد براقة ومحطات بريطانية باهتة مقامة على مرتفعات، وجدت من الصعب أن أؤمن أنني أرحل في بلد لديه واحد من أسوأ سجلات انتهاك حقوق الإنسان في العالم. بالنسبة لي كان ذلك أكثر الأشياء حيرة حول بورما: أنه يمكن التستر على قهر أمة يبلغ تعدادها 50 مليون نسمة. وكانت شبكة هائلة من المخابرات العسكرية ومخبريهم تضمن أن لا يفعل أحد أو يقول شيئا يهدد النظام. والإعلام البورمي -- الكتب، والمجلات، والأفلام، والموسيقا -- تحت سيطرة لجنة رقابة صارمة وبروباغاندا حكومية لا تعمل في الصحافة والإعلام المرئي فقط، ولكن أيضا في المدارس والجامعات. وهذه الوسائل التي تتحكم بالواقع تكمن في الخفاء وتعمل بحزم، ودائما تحوم حولك مخاطر التعذيب والسجن.

بالنسبة لإنسانة غريبة مثلي، لا يمكن رؤية ما وراء السطح الذي بناه الجنرالات، ولذلك استحال علي تخيل الخوف اليومي ومحاذير الحياة في دولة من هذا النوع. وخلال جهودي لتفهم هذا الجانب من الحياة في بورما فتنني جورج أورويل. فكل رواياته تستكشف فكرة أفراد وقعوا في فخ البيئة المحلية، وأصبحوا تحت سيطرة أسرتهم، أو المجتمع الذي يحيط بهم، أو الحكومة الجائرة. ويوجد في "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون" تصور آخر لمسار الفلسفة القمعية، حتى أنه قدم لنا لغة يمكننا وصفها بها. من ذلك عبارات مثل:" الأخ الأكبر"، "الغرفة 101"، "الخطاب الجديد".

وأنا أعيد قراءة روايات أورويل – ما لم أقرأه منذ أيام الدراسة – زاد فضولي حول علاقته الشخصية مع بورما. ما هو الشيء الذي جعله يتخلى عن مهنته في المستعمرات ليصبح كاتبا؟.

ولماذا، بعد الابتعاد عن بورما حوالي ربع قرن، بحث في البلد عن شيء يلهمه وهو على فراش الموت؟. بدأت أعتقد أن أورويل شاهد شيئا في بورما، وأمسك بخيط فكرة تغلغلت في كل كتاباته. نظرت في مختلف السير التي كتبت عن أورويل، ولكن بدا لي أن كتابها قللوا من أهمية بورما، كما أرى، ولم يجر أي منهم بحثا في المكان الذي عاش فيه أورويل خمس سنوات حاسمة بدلت مساره.

كانت البلدات والمدن التي خدم فيها أورويل في وسط جغرافيا البلد، وبمعنى من المعاني، كان لا يزال من الممكن أن تشعر ببورما كما عرفها أورويل – تقريبا نصف قرن من الدكتاتورية العسكرية منحتها جو بلد تجمد في الزمان. ولكن رحلة عبر بورما أورويل تقودك لطبيعة مفتوحة متميزة ومرعبة: كأنها إحياء لجو "ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون" حيث كوابيس أورويل تستعاد بمزيد من الوضوح المميت.

لم يسمح للكتاب والصحافيين الأجانب بالدخول إلى بورما. أحيانا أمكن لعدد قليل بالتسلل إلى البلد بصفة سياح، ولكن إذا تم اكتشاف دفاتر ملاحظاتهم وأشرطة الصور التي التقطوها، سوف تصادر ويتعرضون للطرد الفوري. أما البورميون الذين أدلوا بشهاداتهم، فتكون الإجراءات ضدهم أعظم بشكل غير محدود. تحت قانون الطوارئ لعام 1950، تقديم معلومات للأجانب، التي يعتبرها النظام حيوية، تكون العقوبة سبع سنوات في السجن. ومع أنني صحافية، نادرا ما كتبت عن بورما، وكان من الممكن أن أختلط بالسياح أو جماعة صغيرة من الوافدين التجار الحاصلين على إقامات طويلة الأمد. ولوضع كتاب أعتمد به على مشاهداتي هناك كان لا بد من تقديم التنازلات: كنت أبدل أسماء البورميين الذين أتحدث معهم، وفي بعض الحالات، أبدل أسماء أماكن سكناهم. وإذا تحليت بالحذر كان من الوارد شق طريق في بلد مغلق أمامك كما يبدو.

قبل أن أسافر إلى بورما، قمت بزيارة أرشيف جورج أورويل في لندن، لألقي نظرة على آخر مخطوطة له. حينما مات أورويل، عام 1950، كان قد بدأ مشروعه للتو، فقد خطط لـ "قصة غرفة تدخين" أن تكون نوفيلا من ثلاثين حتى أربعين ألف كلمة، وفيها يخبرنا كيف تبدل نهائيا وجه منتعش لرجل بريطاني شاب بعد أن عاش في غابات مدارية رطبة تقع في بورما المستعمرة. بكلمات منقوشة بالحبر على أول ثلاث صفحات من دفتر مغلف بورق أبيض سجل أورويل رؤوس أقلام الحكاية، ونبذة قصيرة. قلبت في بقية الدفتر ورأيت صفحات بيضاء. وأدركت أن بقية القصة تنتظرني في بورما.

*** 

...................

* مقتطفات من كتاب بعنوان "البحث عن جورج أورويل في بورما" لإيما لاركن Emma Larkin صدر عام 2004 عن دار بنغوين. لاركن صحافية أمريكية، حصلت على تعليمها في جامعة لندن - كلية الدراسات الشرقية والإفريقية. وهي مولودة في آسيا، وتعيش حاليا في تايلاند.

في المثقف اليوم