قراءة في كتاب

عقبة زيدان: عن كتاب باختين للدكتور زهير ياسين شليبه

يحلل نضج الزمان وقوة المكان

العالم الروسي ميخائيل باختين من الأعلام المعروفة في حركة النقد الأدبي المعاصر، وكثيراً ما يورد بعض النقاد اسمه. ولغة باختين تتميز عن أسلوب الباحثين الآخرين بصعوبتها بسبب تنوع أفكاره وأصالته، وهي صعبة ليس على القراء الاعتياديين وحسب، بل على الاختصاصيين الذين يقرؤونه باللغة الروسية، حيث توجد في أبحاثه الكثير من المقاطع والعبارات الغامضة، وبسبب هذه الصعوبة وهذا الغموض ، فقد حاول الكاتب الدكتور زهير شليبه أن يسهل الأمور للقارئ بتقديم مقال استعراضي تناول فيه أهم أبحاث باختين، متجنباً التشعب والانغمار في الثانوي، مهتماً بالتعريف بفكر الباحث ومكانته في علم الأدب وذلك من خلال الكتاب الصادر عن دار حوران مؤخراً بدمشق بعنوان ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية. تتجسد فكرة هذا البحث ف يتجاوزه الهوة الشاسعة بين المدرسة الشكلية ، وكذلك في دراسة الكلمة الفنية، وفي أنه يجب أن تفهم الكلمة كظاهرة اجتماعية في كل مجالات حياتها وفي الحالات كلها التي تتواجد فيها بدءاً من الصورة الصوتية وانتهاء بطبقات الصوت ذات المعنى الخاص. ولهذا فإن باختين يهدف من دراسته إلى شرح سمات لغة النثر وعلى الأخص الرواية. ولقد أدى عزل الأسلوب واللغة عن النوع الأدبي في أكثر الحالات، إلى أن  تدرس النبرات الذاتية والاتجاهية للأسلوب فقط، بينما تركت النبرة الاجتماعية بعيداً عن اهتمام النقاد.

يهتم علم أساليب الكلام ببلاغة أسلوب الفنان ومهارته المحددة ضمن مشغله – على حد تعبير باختين – ولا يعير هذا العلم أهمية إلى الطابع الاجتماعي أو الحياة الاجتماعية للكلمة ونشاطها خارج مشغل الكاتب، بعيداً عن منضدة عمله ، أي في الساحات الواسعة والشوارع والمدن والقرى والجماعات والأجيال والعصور.

إن علم أسلوب الكلام لا يمتلك صلة بالكلمة الحية ، بل بجهاز الهستولوجي (علم الأنسجة الحية) وبالكلمة اللغوية المجردة، بينما تحصل النغمات الإضافية الذاتية والاتجاهية للأسلوب عن طريق حياة الكلمة الاجتماعية ، وتحصل على إضافة تفسير سطحي وتجريدي ، ولا يمكن أن تدرس في وحدة عضوية مع مجالات المعنى في العمل الأدبي.

الهرونوتوب بتعريف باختين يعني : ( العلاقة المتبادلة والملموسة بين المكان والزمان (الزمان – المكان). لقد استخدم المصطلح الهرونوتوب) في علم الرياضيات واستعمله اينشتاين أيضاً في النظرية النسبية . وقد أدخله باختين في علم الأدب مجازاً معبراً عن ارتباط الزمان والمكان (الزمان كبعد رابع للمكان) وأراد منه فهم الهرونوتوب كمقولة مضمونية شكلية للأدب وليس معناه في مجالات الحياة الأخرى. وفي الهرونوتوب الأدبي الفني تلمس ذلك الارتباط المتبادل بين العلاقات المكانية والزمانية في الكل المدرك والملموس. ونلاحظ أن الزمان يتكثف ويتلقص ، ويصبح ناضجاً فنياً، أما المكان فيصبح بدوره قوياً ويمتد حتى يصل إلى حركة الزمان والمضمون والتاريخ وتتضح علاقة الزمان في في المكان. أما الأخير فيمكن إدراكه بواسطة الزمان. وقد تابع باختين الهرونوتوب من خلال تطور مختلف الرواية الأوروبية بدءاً من ما يسمى بالرواية اليونانية وانتهاء برواية رابليه.

في القسم الثاني من الكتاب يتحدث باختين عن الفن والمسئولية فيقول : (الشخصية يجب ن تكون دائماً وأبداً ذات شعور بالمسؤولية ولا داعي للتبجح والتباهي باللامسؤولية بحجة الإلهام. وإن الإلهام الذي يتجاهل الحياة وتتجاهله الحياة نفسها ليس إلهاماً، بل صراعاً وجنوناً.

اعتمد باختين في دراسته (حول مسألة المحتوى، المادة والشكل في الإبداع الكلامي) على علم الجمال الفلسفي مسترشداً بمنطلقاته الفكرية نفسها ، فيقدم (البطل) و (المؤلف) كمفهومين مأخذوين من علم الجمال الفلسفي العام ، أي أن باختين عمل الحدث على تأكيد الصلة الوثيقة بين الكاتب والبطل ، باعتبارهما مشاركين في (الحدث الجمالي) وتوضيحهما ، إضافة إلى تأثير الحدث على علاقتهما المتبادلة في العمل الإبداعي الفني.

لمفهوم الحدث أهمية كبيرة في فكر باختين الجمالي، ويعد من أهم مفهيمه الواسعة والعامة للحوار. يعتبر باختين الحوار حدثاً هاماً في العلاقات الإنسانية. وضمن هذا السياق يقدم تفسيره للوحدة التامة في رواية دوستويفسكي المتعددة الأصوات كحدث للعلاقات المتبادلة بين مختلف الإدراكات المتساوية فيما بينهما ، التي لا تكتفي بالتفسير المضموني المنفعي. أي أنه لا يمكن  الحدث الجمالي أن يتقوقع أو ينحصر  ضمن أطر العمل الفني، بل له امتدادات بعيدة خارج النص الأدبي.

عالج باختين في كتابه (قضايا إبداع دوستويفسكي) مسألة الموضوع الجمالي والشكل المعماري لروايات دوستويفسكي الموهبة نحو قيم العالم الإنساني – كحقيقة (الوعي الذاتي للشخصية ، أي الإنسان في الإنسان ، حسب فلسفة دوستويفسكي ، وتعايشه العميق (الحوار الدائم) مع الشخصيات الأخرى).

ويسمى باختين هذا النفاذ الفكري القيم لكل عناصر العمل بالاجتماعية الداخلية وتدل ملاحظة باختين على النزعة التاريخية، كأساس ضروري للتحليل النظري ، على سعة رؤيته لمسائل الإبداع الفني، وقبل كل شيء لمسألة تقاليد الرواية عند دوستويفسكي.

حاول باختين أن يبرهن ويؤكد على استقلالية شخصيات دوستويفسكي وحريتها، إلا أن بعض القراء والنقاد لاحظوا هذا الجانب فقط من المسألة فأطلقوا العنان لتفسيراتهم في هذا الاتجاه، ومع ذلك فكلمة البطل لا تخرج من نية الكاتب الفنية، بل من ثقافته ومداركه المونولوجية.

وقد أشار باختين إلى أن (المعنى – الإدراك) في العمل الفني، ينتمي في نهاية المطاف وفي آخر مراحل نضجه، إلى الكاتب فقط وإن هذا المعنى ينتمي بدوره إلى الواقع وليس إلى (إدراك آخر متساو)، أي أن المغزى الفني النهائي والأخير للعالم الإبداعي الذي خلقه دوستويفسكي، يعود إلى الواقع وليس إلى (المدارك المتساوية) للأبطال الذين يشكلون بدورهم ولادات ذاتية للواقع.

حدد باختين ثلاث سمات أساسية تتميز الرواية مبدئياً عن كل الأنواع الأخرى.

1-    تنوع أساليب الرواية المرتبطة بالوعي المتعدد اللغات المتحقق في الرواية.

2-    التغيير الجذري في إحداثيات الزمان للشخصية الأدبية في الرواية.

3-    منطقة جديدة لبناء الشخصية الأدبية في الرواية.

تكمن الخاصية الأولى في أن الرواية – من وهة النظر الأسلوبية – تمثل عملاً فنياً متعدد الأصوات ، التي تتسم بتنوع أشكال الحديث والتعبير الاجتماعية المختلفة للغة نفسها. وقد أغفل علماء اللغة هذه الموضوعة الجديرة بالاهتمام التي طرحها باختين ، أي أنهم لم يتناولوا اللغة الروائية كظاهرة اجتماعية، ولم يأخذوا بعين الاعتبار الخلفية الاجتماعية لمفردات النثر الروائي ولا علاقة الأخيرة بالأحداث.

السمة الثانية التي تميز بها الرواية فهي أهمية الانتقال والتغيير في تصوير الزمان ، وضرورة التعبير عنه في العمل الروائي ضمن خطوط بيانية تكشف هذا التغيير. فالزمان في العمل الروائي يمارس حضوره الدائم، وهو انعكاس لحركة المجتمع والأحداث والشخصيات.

والسمة الثالثة تكمن في خصائص تصوير البطل الروائي الذي يجب أن يقدم بشكل تدريجي وعبر مسارات تطور الأحداث وأن يكون على صلة بالواقع.

الفصل المعنون (عصر الرواية) جاء بقلم بافل غرينتسر ، وقد أراد المؤلف أن يعرض للقارئ تلك المقالات التي كتبها غرينتسر، والتي تناولت مختلف جوانب نشأة آداب الشرق وأفريقيا فيه وتطورها والأدب العربي القديم، وبواكير الأشكال الروائية الأولى في التراث الأدبي العربي. وقد اعتمد غرينتسر على أسس الأدب المقارن في كتابته لبحث (عصر الرواية) فتناول عملية التطور الأدبي التاريخية التي مر بها النوع الروائي في أغلب آداب آسيا وأفريقيا بما فيها الأدب الرعبي. وهو بهذا لخص أغلب النظريات والأفكار الصادرة فيما يخص النوع الروائي، ولم ينس أن يتطرق إلى الرواية العربية، مقارناً ظروف نشأتها بظروف نظريتها في آداب الشرق.

الكتاب : ميخائيل باختين ودراسات أخرى عن الرواية

الكاتب : د. زهير ياسين شليبه

الناشر : دار حوران – دمشق 2001

عدد الصفحات : 131 من القطع المتوسط.

***

عقبة زيدان

في المثقف اليوم