قراءة في كتاب

حاتم حميد محسن: نقاش في القبلية.. قراءة في كتاب جديد

في وقت ما كانت القبلية a priori – وتعني المعرفة المكتسبة بمعزل عن التجربة في العالم – مبسطة. الميتافيزيقا كانت هي الأكثر نبلا تليها الابستيمولوجي او نظرية المعرفة. فمثلا، افلاطون ادّعى ان كل الأشياء في عالمنا اليومي هي صور ناقصة لأشياء في عالم المُثل. هذا العالم المجرد التام يمكن معرفته فقط بنوع من المعرفة المقدسة "التحديق في الشمس"، وخاصة عند التفكير بشكل "الخير". الطريقة القبلية في التفكير الخالص كانت هي نور العقل المقدس. انها كانت منفصلة ومتميزة عن الإدراك الحسي لأنها يجب ان تكون كذلك.

في هذه الأيام، يجري وعلى نطاق واسع الافتراض بان قدرتنا على المعرفة الفلسفية والرياضية والمنطقية وكل أشكال الحقائق المجردة ذات التفكير الخالص، هي انسانية أكثر مما هي دينية. الشك في اننا نستطيع معرفة كل شيء بمعزل عن التجربة الأرضية يبرز مباشرة من الشك في طبيعة التجريد الذي نحتاجه للقيام بهذا (مثل الله او الأشكال). ولنأخذ مثالا آخر، افتراض هندسة غير إقليدية يجعلنا مباشرة نتسائل كم هندسة هناك لكي نعرف القبلية. حتى اثنين يبدو كأنها مشكلة – ليس للهندسة ذاتها وانما لمعرفتنا بها.

القبلية حرفيا تعني "من قبل". عمانوئيل كانط اعتقد ان نوعا معينا من المعرفة القبلية يوفر الاطار المطلوب لأي معرفة ولجميع المعارف الاخرى. مبادئ معينة للفهم يجب ان توجد في أذهاننا، لأنه بدونها لن تكون هناك أي معرفة ممكنة بالعالم حسب قوله. انها شروط مسبقة لنا للإحساس بالتمثيلات الحسية للعالم المادي الذي نقطنه، بما في ذلك العلاقات المنطقية والكميات. من كانط الى الطبيعية التامة (الاعتقاد بان قوى الطبيعة وحدها هي التي تعمل في الكون)، المبادئ، الأحكام، الطرق، هي من الصعب التفرد بها، وبالنهاية كل ذلك يفسح الطريق الى شمولية ابستمية صعبة المنال كما يبدو، تكون فيها التبريرات المترابطة داخليا لعقائدنا حول العالم مشتبكة مع عقائد تعود رجوعا ليكون موضوعها المخطط المجرد الذي يربط عالم المعتقدات مجتمعا. كذلك، في العالم الطبيعي للآليات التي تنتج عقيدة صادقة في الذهن الانساني، فان القبلية، كما في كل المعرفة، وُجدت  متصلة بالسياق الاجتماعي لكل مفكر. آخرون يمكن احيانا ان يشيروا للأخطاء في تفكيرنا أحسن مما نستطيع نحن. لكن مسارنا السايكولوجي المعقد الى العقائد القبلية يتضمن الخبراء والزملاء الذين يمكن لجهازهم الادراكي ان يتقاسم المعلومات معنا  فقط ما بعد a posteriori – أي، من خلال التجربة، التي هي أساسا تجربة بمهما كان وأي كان اختيارهم للاتصال بنا. تلك هي مشاكل للصورة الافلاطونية المبسطة للمعرفة القبلية التي نبدأ بها.(علاوة على ذلك، أليس التحديق في الشمس ذاته هو نوع من المعرفة الحسية؟).

الكاتبان بول بوغوسيان و تيموثي ويليامسون في كتابهما يأخذان بكل هذا ويتحركان قدما في النقاش بطرق تنويرية. الكتاب تطوّر من سلسلة من الأوراق امتدت لأكثر من عقدين. عنوان الفصل الافتتاحي، "التحليلية إعادة نظر"، يقول لنا الى أين نحن ذاهبون. المؤلفان يعرضان اتجاها لقضية المعرفة القبلية بالإرتكاز على اللغة والمعنى. القول التحليلي القبلي هو الذي يكون صادقا فقط بمقتضى معنى الكلمات المنخرطة في الجملة، مثلا، "كل العزّاب غير متزوجين"، او "2+2 =4". في القول التحليلي، المعرفة تعتمد على فهم المفاهيم بدلا من رؤية ما يجري حولنا. لكن من هذا الاتجاه المنطقي واللغوي نحن في موقف لتحليل ماذا يعني ان نفهم القول، ومن ثم وفقط من ثم، نعرف حقيقة وضرورة ذلك القول. فهم المحتوى الافتراضي بهذه الطريقة هو نوع من لمحة سريعة للحقيقة لا تتطلب ميتافيزيقا كبيرة ولا ما يشبه ادراك الإله كما في نظرية الأشكال لافلاطون.

على طول الكتاب نحن نبقى في عالم اللغة. انت سوف تلاقي جمل كارناب و metasematics. (الدراسة الفلسفية للمعنى)، وشمولية كواين Quine’s holism . الابستيمولوجي المباشر ايضا يظهر بشكل مفاجئ، عندما يحلل الكاتب بوغوسيان حدسا فكريا قديما جيدا كطريقة لمعرفة الأقوال التركيبية. هذه هي أقوال تكشف او تحدد افكارا جديدة لنا – مثل مثال كانط الكبير،"أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المباشر".

من التحليل واليه ومن التحديات يبرز اطار للنقاش بين نظريتنين متنافستين تسميان الداخلية والخارجية. بوغوسيان كخارجي ومدافع عن القبلية، يدعو لدمج الميتافيزيقا والابستيمولوجي بموجبه تكون صلاحية الاستدلال هي الدليل لمعرفه انه صحيح. الحجة المنطقية الجيدة تبيّن تبريراتها، حسب قوله. ويليامسون يتخذ رؤية مضادة: وهي انه بينما نحن لانستطيع انكار وجود كلا الطريقتين من اكتساب المعرفة التي لا تستلزم خبرة حسية، وتلك التي تستلزم، فان هذا التمييز هو ليس الذي كنا نعتقده. انه أجوف. ذلك هو الموقف الذي يجادل به ويليامسون على طول الكتاب. في الفصل "كم هو عميق التمييز بين المعرفة القبلية والبعدية؟" هو يعطينا طريقا برجماتيا أصليا لإستنتاجه الشكوكي حول الطبيعة المتميزة للقبلية. هو يتعامل مع سؤال المعرفة القبلية  من خلال تجربة فكرية تذهب كالشكل التالي: كيف تعرف بان "الشمس مشرقة؟" أنت تحدق خارجا. ولكن كيف تعرف انه "اذا كانت الشمس مشرقة عندئذ الشمس مشرقة؟" في القول الأخير انت لا تحتاج النظر الى أي مكان. انت يمكنك إبقاء عينك على الشاشة او على الصفحة ولاتزال تعرف انها حقيقة. هناك بالتأكيد مواقف حقيقية للمعرفة القبلية لكن ذلك فقط نصف القصة. عندما نلتفت الى المحتوى الداخلي في مصطلح القبلية – المعنى الباطني للمفهوم – نحن لا نجد اساسا يستحق الانتباه، حسب رأيه.

لكن سواء كان الشكوكي ويليامسون ام المدافع بوغوسيان، ان ما يهم هو تحليل القبلية باعتبارها مستقلة عن التجربة. نحن تحدثنا عن الاختلاف بين الخبرة التي لها دور إثباتي من جهة ودور تمكيني من جهة اخرى. نحن ننظر في الداخلي مقابل الخارجي للخبرة او التجربة. آخر محطة في سفرة ويليامسون هو فصل "معرفة بواسطة التصور". هنا هو يعطي تحليلا شاملا للتصور كمصدر للقبلية. التصور فلسفيا هو مُتجاهل مقارنة بالحدس الفكري، لكنه له وظيفة ابستمية في توقّع واستشفاف ما هو ممكن.

الكتاب ومهما كان استكشافه في اللغة والمعنى، ينتهي فعلا بالعودة الى نوع مألوف من تحليل الأسئلة حول المعرفة. هل نحن خارجيون، الحقيقة بالنسبة لنا تعتمد على الحقائق الخارجية للذهن، ومستعدون للسير وراء تفكير بوغوسيان "الأعمى ولكن دون لوم"؟ ماذا نعتقد بالموثوقية reliabilism ؟وهي النظرية بان عملية اكتساب المعرفة يجب ان تُحكم طبقا لمقدار الثقة الذي تُنتج به عقائد صادقة. هل ويليامسون يرى ما يمكن اعتباره جوهر المشكلة وهو: ان النقاش حول طبيعة المعرفة القبلية هو بالنهاية حول رؤيتنا للمعرفة ككل. اذا كانت المعرفة ليست فقط عقيدة صادقة وانما حالة يمكن ان يفقدها المرء في ضوء تغيير في السياق او تحدّي من عارفين آخرين، فان المعرفة القبلية ستكون ايضا كذلك. اذا كان الأمر هكذا، عندئذ ستكون القبلية حساسة للتحديات والتعقيدات من الخبرة الحسية.

اتجاه الكاتبين المرتكز على اللغة يعمل بشكل جيد في تحليل الشكوكية حول القبلية، لكننا لا نزال نريد النظر الى صورة أكبر لفهم الطرق المنطقية او الرياضية او الفلسفية في تحصيل المعرفة القبلية.

التصورات والإستدلالات كلاهما أشياء نستطيع عملهما وعيوننا مغلقة، وبالتالي هما مرشحان ليكونا طرقا قبلية في توليد بيانات معروفة. لكن ألا نريد ايضا دراسة كل أنظمة المعرفة  وليس فقط الأسس؟ على الرغم من معرفة أقوال تحليلية مبسطة مثل "العزاب غير متزوجين"، لكن تحليل مفاهيمي على نطاق أكبر يجب ان يذهب وراء تكوين العقائد الفردية. ومن بين أشياء اخرى، انه يستلزم التنظير، المحتوى الداخلي للكلمة intension  والاعتماد على افكار ومعاني مرتبطة بالكلمة extension (1)، توازن انعكاسي، وتطور المفاهيم ضمن خلفية مفاهيم متنافسة. كيف يمكننا ربط العقيدة القبلية بأنظمة أكبر تنشأ من هذه الاسس؟ المزيد من العمل مطلوب انجازه كما يبدو.

في النهاية، المشاكل في الكتاب هي بالضبط متصلة بهدنة مؤقتة غير سهلة بين الابستيمولجيا الحديثة والاعتماد على ضوء الفكر المشرق  لنظام ميتافيزيقي كبير. المؤلفان يصلان لذلك. ولكن بدون تلك الصورة الكبيرة الواضحة، نحن دائما نشعر كما لو كنا نتجول في ظلال نظريات المعرفة المرتكزة على العلوم، نتحدث كثيرا عن تأثير إصابات العين على الإدراك البصري أكثر مما عن ضوء العقل الأصلي. الشمولية والسياقية ونقاش الداخلية والخارجية هي تعبير عن الفكرة النهائية للجدال. الشيء الجيد في هذا الكتاب الممتاز هو انه نجح فعلا في ان يأخذنا الى أي مكان نحتاج الذهاب اليه في هذا المشهد الابستيمولوجي الحديث والصعب المنال، وهو دائما يتجه في الاتجاه الصحيح - الى المفاهيم والمحتوى ومنطق الإفتراضات المعروفة. الكتاب ليس خلاصة وافية وانما بسبب تحليلاته المتأنية بشق الأنفس، هو لايزال يستحق القراءة كخارطة كاملة ودقيقة للقبلية في الابستيمولوجيا الحديثة.

كتاب نقاش القبلية للكاتبين بول بوغوسيان و تيموتي ويليامسون صدر عن مطبوعات جامعة اكسفورد بتاريخ 14 ديسمبر 2020 في 288 صفحة.

***

 حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) تشير مفردة intension  الى المحتوى الداخلي للمصطلح او المفهوم . اما مصطلح extension يشير الى نطاق من التطبيقات له بتسمية اشياء محددة يدل عليها. فمثلا  المحتوى الداخلي لـ "سفينة" هو مركبة للنقل على الماء، بينما الـ extension الخاص بها يشمل اشياءً مثل سفينة شحن، سفينة مسافرين، سفن حربية، سفن بحرية.

في المثقف اليوم