قراءة في كتاب

محمود محمد علي: غواص في كتاب الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم (1)

محمود محمد عليتحتل مقاصد الشريعة منزلة هامة في الفكر الشرعي؛ ولذلك فقد أصبحت علمأ أساسياً من العلوم الفقهية، أُلفت فيها المؤلفات، وفُصلت فيها الأقوال، وتوسعت فيها الآراء، وأصبح الدارس للعلوم الفقهية والطامح فيها إلي مراتب الفهم السديد، والنظر البعيد، بله مراتب التفقه والاجتهاد لا مناص له من أن يدرس علم المقاصد ويتفقه فيه، ومن شأنها أن تعين علي ولوجه، وأن تكسبه القدرة علي تحصيل كلياته وفهم دقائقه وجزئياته.

ويعد كتاب "الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم" من الكتب المهمة التي صدرت عن مكتبة الآداب بجمهورية مصر العربية عام 2011م، وتأتي أهميته بسبب تناوله لقضية منهجية معرفية، ذات أثر كبير في تطور الاجتهاد الإسلامي المعاصر.

أما المؤلف فهو الدكتور الأستاذ الدكتور "معتمد علي أحمد سليمان"- أستاذ ورئيس قسم الدراسات الإسلامية وعميد كلية الآداب السابق- جامعة أسيوط، وهو يعد واحداً من كبار المتخصصين في الدراسات الإسلامية، الذين حددوا مجالها، ورتبوا موضوعاتها، وكشفوا النقاب عن شخصياتها، وصاغوا الأطر النظرية لها، وأبان عن تاريخها وأبعادها النظرية والعملية، وعرف الخطاب الديني وخصائصه، وأوضح المنهج العلمي لدراسته. أما تلامذته فقد صرف المؤلف حياته المباركة في بذل العلم وإفادة الطلاب، ولذلك كثر طلابه والآخذون عنه بفضل تميزه بفكر نيّر، متفتح، ناقد، بعيد عن التقليد أو التعصب .

ومن عادتي عند قراءة كتاب لا أعرف محتواه، أن أخمِّن موضوعه من عنوانه، وغالباً ما يكون تخميني صحيحاً؛ فحسب علمي لم يكتب قبله كتاب في موضوع "تجديد الخطاب الديني"، وشرح أفكاره بطريقة نقديَّة، وهذا واضح من خلال التوجّه التي سار عليه الدكتور" معتمد علي سليمان" عندما استشهد بكلام غوستاف لوبون:" .. وتُشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوة الإسلام، والإسلام إدراكه سهل خال مما نراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم.. وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة" (1)، وهذا يعني في نظر المؤلف أن الإسلام دين سمح وسهل وفطري، وجموع المؤمنين به الذين عرفوه حق المعرفة يتعبدون بأحكامه في انقياد وإذعان .

وكتاب "الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم"، هو دراسة في مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد جمع فيه المؤلف الأستاذ الدكتور "معتمد علي سليمان" بين الأصالة والمعاصرة، وقرن فيه بين المصادر القديمة والمصادر الحديثة، وهي دراسة جديدة في الدراسات الإسلامية ؛ ذلك أن المكتبة الإسلامية اليوم غنية بالكتب الفقهية، ولكنها مفتقرة إلي دراسات تجمع بين النصوص الشرعية ومقاصد تلك النصوص حتي يتسني للقارئ أن يجمع بين فهم النص وبين الحكمة من ذلك النص الشرعي.

ولقد جاء الكتاب في مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، فكانت المقدمة عرضاً منهجياً لرؤية المؤلف في الفهم الصحيح الواعي المنضبط للإسلام، باعتباره دينا وتشريعا، ولفقهه باعتباره نتاجا إنسانيا، ولفكره وتراثه باعتبارهما معارف بشرية، هو الخطوة الأهم في بناء ذلك النسق الفكري الذي يسعى إليه المصلحون، كما أن تحديد طرائق ومعايير النقد للنصوص يساعد في بناء النظام المعرفي للإسلام ؛ لذا لا بد أن يتم الفهم الصحيح فى صورة كلية، وأنْ يكون فهما وسطيَّا يراعي المخاطب والزمان والمكان، وأسباب النزول للآية، أو أسباب الورود للحديث، أما الفهم المعجمي للنص، أو الفهم الجزئي، وكذا والفهم المتعجل، فهي فهومٌ بعيدة عن النظر والدراية، وليست من أعمال العلماء، أو الحذَّاق (2) .

وكان الفصل الأول خاصاً بالنص الديني: مفهومه وأهم خصائصه، وهذا الفصل يقع في أربعة مباحث: حيث ناقش في المبحث الأول: مفهوم النص الديني، و الثاني: اتجاهات فهم النصوص، والثالث:عصمة النص الديني، والرابع: خصائص النص الديني.. في حين جاء الفصل الثاني ليدرس علاقة النص بالفهم، ويقع في ثلاثة مباحث، الأول: المتوازن للنقل والعقل، والثاني:العصمة للنص وليس لفهمه، والثالث: النص المحكم، والنص المحتمل (فهم واحد وفهومٌ متعددة)، والسنة والحديث وعلاقتهما بالنصوص وفهمها، ومسئولية الفهم والتأصيل.. أما الفصل الثالث فيتناول فيه المؤلف معوقات الفهم الصحيح، وهذه المعوقات تقع في سبعة مباحث: الأول: الجهل بالعربية، والثاني: انحراف التأويل، والثالث: الجهل بالسياق، والرابع: التعصب المذهبي، والخامس: قصور وظيفة الوعظ والإرشاد، والسادس: اتباع الهوي، والسابع: الأحكام المسبقة علي الآراء والأشخاص والأفكار. ثم انتقل المؤلف إلي الفصل الرابع، وفيه تناول لضوابط نقد الفهم (ضوابط الفهم الصحيح)، ويقع هذا الفصل في مبحثين، المبحث الأول، وفيه بين لنا المؤلف، أن هناك ضوابط متعلقة بفهم النص وتفسيره، مثل كل ما جاء عن السلف قابل للنقد والمراجعة، ومراجعة فهم القرآن والسنة والتراث الفقهي، مع ضبط مضامين المصطلح مشكلة المصطلح؛ أما المبحث الثاني، فيتناول ضوابط متعلقة بنقد النص وتفسيره، وتستمل علي: ضوابط متعلقة بنقد النص وتفسيره، والتفرقة بين نقد المنهج، ونقد الممارسة، ونقد الحركات الإسلامية غير نقد الإسلام، وحدود الإنكار والتخطئة (لا إنكار في مسائل الخلاف؛ وأما المبحث الثالث من ذات الفصل، فيدرس ضوابط متعلقة بالناقد، مثل: دقة الفهم، ولكل علمٍ أهلُه ورجالُه من أهل النظر والاعتبار، والاعتدال والوسطية في المراجعة والنقد، العلم بالدليل ومعرفة القصد، والتجرد والإخلاص والتواضع.. أما الفصل الخامس فيتناول فيه المؤلف، مفهوم التنوير بين الإسلام والعلمانية، ويقع في ثلاث مباحث: الأول مفهوم التنوير بين الإسلام والعلمانية، والثاني التنوير في الثقافة العربية الحديثة، والقراءة العلمانية للنص الديني.. أما الفصل السادس: فيدرس المؤلف فيه، العمل للإسلام بين التعددية والاحتكار، ويقع في ثلاثة مباحث: الأول: التعددية في الفكر الإسلامي، وجماعات للإسلام وليست جماعة، والحركات الإسلامية والآخر.. أما الفصل السابع والأخير فيتناول فيه المؤلف نقد التيارات الإسلامية، ويقع في أربع مباحث، الأول: نقد الخطاب الإسلامي، والثاني الاجتهاد بين حرفية النص وتعليل الأحكام، والثالث السلفية منهج لا حركة، وسمات السلفية النصوصية.

لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لكل التيارات الإسلامية، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح، وأحسب أن المؤلف وبتوفيق الله عز وجل، استطاع أن يضع بين يدي القارئ، تأصيلاً شرعياً لفقه الأولويات في ظلال مقاصد الشريعة الإسلامية، والتي حين غابت عن واقع المسلمين، تسببت في خلل كبير في ميزان أولوياتهم، حتي صغروا الكبير، وكبروا الصغير، وحقروا الخطير واهتموا بالحقير، وتجادلوا في السنن والهيئات وتركوا الفرائض والواجبات، واهتموا بالجزئيات علي حساب التقصير في الكليات، وتعلموا المتغيرات علي حساب إهمال الثوابت.

وكان ذلك كما يقول الكاتب:" بسبب الانسلاخ عن قيم السماء، وتوقف العقل المسلم عن الابتكار والتجديد والاجتهاد، حيث نُحِّيَ الإسلام بشموليته العلمية، والمنهجية والفكرية، وأضحت أمتنا تعاني مشاكل معقدة مركبة من الاستبداد السياسي، والتبعية والاستلاب والتغريب، والفساد الإداري والظلم الاجتماعي، والتخلف العلمي والتقني، مما سبب حالة من الشلل الحضاري، والقصور في العطاء؛ بل في الفهم والاستيعاب لطبيعة الأزمة " (3).

ويستطرد المؤلف فيقول: وانشغل العقل المسلم بمعرفة العلل وتشخيصها، وتتابع المصلحون، والنابهون من الدعاة والعلماء، على مشروع النهوض والعودة إلى المنابع، في إطار واقع الأمة، وفى ضوء الفهم الصحيح لأصول الإسلام، مستخدمين المنهج الصحيح في التفكير، والنظر، والتحمل، والتلقي، والنقد والمراجعة، والجميع متفقون على ضرورة إعادة بناء النسق الفكري والمعرفي للأمة ؛ كي يستعيد العقل الإسلامي عافيته فيشارك في المشروع الحضاري للأمة الوسط التي تتصف بالخيرية، والشهود الحضاري، وتستعيد المعرفة الإسلامية الواعية بكافة أنساقها بناءها، ويتبوأ الاجتهاد دوره في واقع الأمة التي تحاول النهوض (4).

ومن هذا المنطلق ينصحنا المؤلف في هذا الكتاب بأنه يجب أن تُوجه الدراسات الحديثية والتفسيرية، إلى الفهم الصحيح الواعي المنضبط للإسلام كدين وتشريع، ولفقهه كنتاج إنساني، ولفكره وتراثه كمعارف بشرية، هو الخطوة الأهم في بناء ذلك النسق الفكري الذي يسعى إليه المصلحون، كما أن تحديد طرائق ومعايير النقد للنصوص يساعد في بناء النظام المعرفي للإسلام .

هذا الفهم الصحيح في نظر المؤلف يحتل المساحة الأولى في قضايا العلم، ووزن الرجال، ولذلك خير الناس من رزق الفهم.. لأن الفهم الصحيح من أهم مراحل العلم ودواعي تحمله، فالعلم لا بد فيه من نية، ثم استماع، ثم يكون الفهم والاستيعاب، وبعد ذلك يكون الحفظ فالعمل، وأخيرا النشر ص ستة

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة ‘ليها هنا ألا وهي إيمان المؤلف القوي بأن:" أحكام الشرع ثابتة بالنص القرآني، أو بالحديث الثابت التي لا يتحمل إلا فهما واحدا، أما الأحكام الفقهية، أو أقوال الفقهاء واجتهاداتهم فهي كل ما أضيف إلى الفقه الإسلامي على مر العصور من أقوال مبنية على الاختلاف في فهم النصوص المحتملة، وعلى الاجتهاد المذهبي، أو الاجتهاد المطلق (5) .

فالمسلمون مدعوون للنظر العقلي فيما لديهم من نصوص محتملة في القرآن والسنة، والتي تستنبط منها الأحكام الفقهية، أما النصوص القطعية في القرآن والسنة كما يري المؤلف فهي مصدر للأحكام الشرعية (الفهم الواحد)، التي لا يجوز إعمال العقل فيها؛ وهذا يعني في نظر المؤلف أن احتمال الخطأ وارد في كل ما نقرأه إلا ما كان قرآناً، أو سنة ثابتة، واحتمال الخطأ في الفهم عن الله  وعن رسوله وارد ؛ ولذلك ينبغي للناظر في النص الديني أن يعيش محققا مدققا؛ لأن أقواله، وفهمه، واجتهاده، وتأويله – كل ذلك يبنى على الأدلة الشرعية المختلف فيها، وهي الأدلة التبعية، وليست كل هذه الأقوال على درجة واحدة من الصحة، فبينها الراجح والمرجوح، وربما كان من بينها ما هو خطأ، وبعضها أنتجته عقلية المتعصب المتحامل (6).

وهنا يصل المؤلف لحقيقة مهمة وهي أن التفسير كفهم للنص القرآني من أكثر العلوم الإسلامية التي أصابها الخلل، فهو يحتاج إلى جهد مضن، وعمل منظم حتى يقوم بدوره في بناء الفكر الإسلامي المعاصر الذي ينبغي تصحيح كل مساراته، فالحاجة أضحت ملحة لتبني فكرة موسوعة صحيحة للتفسير القرآني، تبتعد عن المذهبية أو المرحلية، تناسب الواقع الحضاري للأمة، وتكون قابلة لاستيعاب الفهوم المتجددة لكل ناظر في كتاب الله تعالى(7).

علاوة علي أن الإسلام دين سمح وسهل وفطري، وجموع المؤمنين به الذين عرفوه حق المعرفة يتعبدون بأحكامه في انقياد وإذعان، وهؤلاء يحتاجون إلى من يعينهم على الفهم الصحيح الخالي من التعقيد، وقضايا الخلاف التي لاتسمن، ولا تغني من جوع . إن سهولة هذا الدين هى من أهم أسباب انتشاره، وهنا نجد المؤلف يعترف بأن دراسته في هذا الكتاب تعول علي الإسلام الفطري الوسطي، انطلاقا من النص الشرعي بنوعيه: القرآن والسنة، وهما الوحي المتلو، وغير المتلو وهما مصدر الأحكام، وأساس التشريع، إنه الإسلام الذي لا تشوبه شائبة "(8).

وهنا المؤلف أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صفة نظرية، وهو ما لا يعلم المؤلف أن أحدا قام به من قبل، لا في شئ محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحدا حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم كما يقول المؤلف:" علي تقديم حرية العقل في صفائه وتجرده وموضوعيته، وبحثه الدائب عن الصواب والحق؛ فإن شريعة الإسلام جاءت لتزكية النفس والتسامي بها، ولتنوير العقل وتوسيع سلطته ودائرته . إنَّ عقل الإنسان لا بد أن يكون حاضرًا وهو يمرُّ على السُّطور، وينبغي أن يكون على وعي أن هناك المقدس (الإلهي والنبوي)، وهناك البشري الإنساني (ومنه ما هو نبوي)، وينبغي أن يدرك أن الأفكار غير الأشخاص، وأن الرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال (9)، ومن ثم فإن أمر التجديد الفقهي يحتاج إلى الوعي التام بالنص فقها وتنزيلا وتطبيقا، وليس الأمر أمر حفظ للنص، ثم استدعاء له في وقت ما، إن الأمر يحتاج إلى حسن الفقه والتلقي عن المصدرين الأصيلين (القرآن والسنة)، مع ضرورة التفرقة بين نص الدين، وفهم المفسر أو الشارح،والأخير محكوم عليه بالخطأ والصواب والاستدراك (10) ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.................

الهوامش

1- أ. د. معتمد علي أحمد: الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم، مكتبة الآداب، القاهرة، 2011م، ص.11.

2- نفس المصدر، ص 329.

3- نفس المصدر، ص 5.

4- نفس المصدر، ص5.

5- نفس المصدر، ص8.

6- نفس المصدر، ص9.

7- نفس المصدر، ص 10.

8- نفس المصدر، ص 12.

9- نفس المصدر، ص 333.

10- نفس المصدر، ص 334.

 

في المثقف اليوم