قراءة في كتاب

محمود محمد علي: المظلومية الزائفة.. قراءة فلسفية في كتاب كنت رئيسا لمصر لمحمد نجيب (3)

محمود محمد علي4- تناقضات الكتاب:

رسمت أزمة مارس 1954 نهاية محمد نجيب في الإقامة الجبرية وإلي أن توفاه الله لا زال ثنائي "الديمقراطية والدكتاتورية" يستثير شهية المؤرخين، وأصحاب الأيديولوجيات المختلفة السوي، بتقديم قصص مختلفة وآراء ورويات متعددة

وكما ذكرنا من قبل بأن كتاب "كنت رئيساً لمصر"، ليس أول كتاب يحتوى على مذكرات الرئيس محمد نجيب، بل هو الكتاب الذى يحتوى على النسخة الثالثة من مذكرات الرئيس محمد نجيب.

النسخة الأولى من مذكرات الرئيس محمد نجيب، صدرت فى عام 1955 بعنوان" مصير مصر"، وتم نشر الكتاب ببريطانيا والولايات المتحدة، وتمت ترجمته للعربية فى نفس العام، ولكن تم منع نشره فى مصر، ثم جرت ترجمته وأعيد نشره فى مصر فى ثمانينيات القرن الماضي (32).

واللافت للنظر ان الرئيس محمد نجيب أهدى الطبعة الأولى من هذا الكتاب لرئيس الوزراء العراقى"نورى السعيد"، والذى كان من أكبر الموالين لبريطانيا في العالم العربي، ومن أشد المعادين لجمال عبد وثورة 23 يوليو، وكان يصف مذهبه السياسي بقوله: (أنا هاشمى الولاء.. إنجليزي السياسة). وفى عام 1975 أصدر الرئيس محمد نجيب النسخة الثانية من مذكراته بعنوان " كلمتى للتاريخ".وفى عام 1984 صدر كتاب" كنت رئيساً لمصر"، الذى احتوى على أخر تنقيح لمذكرات محمد نجيب (33).

وهنا يقول الأستاذ عمرو صابح:" من سيطالع النسخ الثلاثة من مذكرات الرئيس نجيب، سوف يفاجئ باختلافات واضحة وفادحة فى روايات وأراء نجيب، خاصة بين النسخة الأولى من مذكراته" مصير مصر"، والنسخة الأخيرة"كنت رئيساً لمصر".سوف أعرض عبر السطور التالية بعض الأمثلة على تناقضات محمد نجيب من خلال ما ذكره الأستاذ عمرو صابح  (34): -

الواقعة الأولى خاصة برأى نجيب فى جمال عبد الناصر. " ذات يوم أحضر عامر أحد أصدقائه معه صاغاً شاباً تذكرت أنى قابلته فى الفالوجة فى فلسطين وأعجبت بشجاعته فى القتال، واسمه جمال عبد الناصر، كان قد أصيب خلال المعارك، وكاد يموت وبمجرد تعافيه رفض أن يعود للقاهرة، وصمم على العودة لميدان القتال".ص 21 من كتاب "مصير مصر" مذكرات اللواء محمد نجيب. "خلال شهور الحرب لم يلفت جمال عبد الناصر انتباهي، لكنى أتذكر أنه كان يحب الظهور، ويحب يضع نفسه فى الصفوف الأولى والدليل ذلك ما حدث في الفالوجا. كنا نلتقط صورة تذكارية ففوجئت بضابط صغير يحاول أن يقف فى الصف الأول مع القواد، وكان الضابط جمال عبد الناصر ولكنى نهرته وطلبت منه العودة لمكانه الطبيعى فى الخلف، وعرفت عنه ذلك أنه لم يحارب فى عراق المنشية كما أدعى ولكنه ظل طوال المعركة فى خندقه لا يتحرك".ص81 من كتاب "كنت رئيسا لمصر" مذكرات اللواء محمد نجيب (35).

الواقعة الثانية خاصة برأي محمد نجيب في قانون الإصلاح الزراعي. "وهل هناك من وسيلة أفضل لرفع معنويات الفلاح وبالتالى ملكاته من تمكينه من حيازة قطعة أرض، ان الفلاح الذى لا يملك أرضا لا يعدو أن يكون انسانا محطما، أما الفلاح مالك الأرض فهو رجل حى لا يتردد فى الدفاع عن أرضه ولو جاد بالحياة. والفرق بين الفلاح مالك الأرض والفلاح المعدم هو الفرق بين الإنسان والحيوان الذى يمشي على قدمين. ولا بد لنهضة مصر من رجال. لذا كان قانون الاصلاح الزراعى وسيلتنا لتحويل الفلاح المصري لرجل قادر على بناء وتنمية وطنه. لذا تخلصت من وزارة على ماهر لأصدر القانون الذى غير مسار حياة الفلاح المصري للأفضل".ص 97 من كتاب "مصير مصر" مذكرات اللواء محمد نجيب "صدر قانون الاصلاح الزراعي رغم معارضتي، ونزولا على رأى الأغلبية. فقد كنت مع الضرائب التصاعدية. وكنت أرى اننا سنعلم الفلاح الذى حصل على الأرض بلا مجهود أو تعب، الكسل والنوم فى العسل.. وكنت أرى ان تطبيق القانون سيفرض علينا إنشاء وزارة جديدة لمباشرة تنفيذه "وزارة الاصلاح الزراعي" وهذا سيكلفنا أعباء مالية وإدارية لا مبرر لتحملها. وكان من رأيي ان وجود الملاك الجدد بجانب الملاك الأصليين سيثير الكثير من المتاعب والصراعات الطبقية. ص 159 من كتاب "كنت رئيساً لمصر" مذكرات اللواء محمد نجيب (36).

الواقعة الثالثة: خاصة برأي الرئيس محمد نجيب فى جماعة الإخوان المسلمين. " في 12 فبراير 1954، أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لإمضاء اتفاقية السودان، هاجمت مجموعة من الإخوان المسلمين شباب هيئة التحرير فى جامعة القاهرة. وأشعل الإخوان النار فى مكبرات الصوت وعربات البوليس، وأصابوا اثنا عشر طالبا بجراح، لم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها، وقد حذرنا البوليس بأنها لن تكون الأخيرة، لهذا قررت حل جماعة الإخوان المسلمين، وأغلقت أماكن اجتماعاتها، وأمرت بالقبض على كثير من قادة الجماعة، وكان بينهم "مرشدهم العام" حسن الهضيبي، وصالح عشماوى محرر (الدعوة)، وهى الصحيفة الرسمية الأسبوعية الناطقة بلسانهم".ص122 من كتاب "مصير مصر" مذكرات محمد نجيب. " لم أكن موافقا على حل الإخوان. ولم أكن موافقاً على البيان - الخاص بأسباب حلهم..  وأحسست أن موقفى أصبح فى غاية الحرج.. هل أنا موافق على كل هذا؟ هل أنا رافضه وغير مقتنع به؟.. أين أنا من كل هذا بالضبط؟ ولم أجد مفرا من أن أقدم استقالتى!". ص 220 من كتاب"كنت رئيسا لمصر" مذكرات محمد نجيب (37).

وهنا يقول الأستاذ عمرو صابح:"من سيقوم بمراجعة النسخ الأربعة لمذكرات الرئيس الراحل ” محمد نجيب ” سوف يتأكد من وجود اختلافات واضحة فى شهادته على التاريخ فى كل نسخة، مما يلقى بظلال كثيفة على مصداقية تلك الشهادة التى صدرت على مدار 30 سنة، وصاغها له ثلاثة من الصحفيين، والمأساة ان كتاب ” كنت رئيساً لمصر ” الذى يحتوى على التنقيح الثالث لمذكرات الرئيس نجيب، تحول إلى حائط المبكى لكل خصوم جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو 1952، ولو راجع هؤلاء المصابون بارتكاريا جمال عبد الناصر، التنقيحات الثلاثة الأخرى لمذكرات الرئيس نجيب لأدركوا ان شهادته مجروحة، وتختلف من كتاب لأخر. لم يكن الرئيس محمد نجيب ضحية لثورة 23 يوليو، بل كان ساعياً للاستحواذ على السلطة بالتحالف مع كل خصوم الثورة، كما دخل فى خصومه مع معظم رفاقه من قادة الثورة، وقد أجمع هؤلاء فى مذكراتهم وشهاداتهم للتاريخ على محدودية دوره فى الثورة، ومحاولته تصفية الثورة، وتسليم السلطة لأعمدة النظام الذى أطاح به الثوار فى 23 يوليو 1952(38).

أكتفى بهذه الأمثلة للدلالة على شخصية الراوى، وما يحكيه من قصص تتغير بمرور الزمن بل وتتناقض أيضاً، حتى يظن القارئ ان هناك نجيبان وليس نجيب واحد.

5- خاتمة الكتاب:

من خلال مسيرتنا في قراءة هذا الكتاب اكتشفنا أن المؤلف يسعي من خلال كتابه إلي إبراز مجموعة من التوجهات كما يذكر الأستاذ عمرو صابح ؛ ومن أهمها (39):

التوجه الأول:  أن اللواء  محمد نجيب: "هو أول رئيس لمصر يتم تعيينه من قبل مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 عقب إلغاء النظام الملكي، وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953، واللواء محمد نجيب هو الرجل الذى تصدر قيادة الثورة منذ يومها الأول، وصدرت قرارات الثورة منذ 23 يوليو 1952 حتى نهاية أزمة مارس 1954 باسمه.

التوجه الثاني: ولكن رغم هذا الدور الذى لعبه محمد نجيب فى الثورة، إلا انه إنهال على الثورة والضباط الأحرار بأقذع الاتهامات وأحط الشتائم، كما تبرأ من الثورة وكل سياساتها، وهاجم جمال عبد الناصر بضراوة ونعته بأقذر الصفات، خاصة فى كتابه"كنت رئيساً لمصر" الصادر فى عام 1984"

التوجه الثالث: أنه منذ صدور كتاب"كنت رئيساً لمصر"، تحول الكتاب للمرجع الرئيسى لكل خصوم ثورة 23 يوليو من الليبراليين و الإخوان و ثكالى وأرامل الملك فاروق، فالكتاب يضم بين دفتيه نقد بالغ الحدة وشديد العصبية ضد ثورة 23 يوليو من رجل تزعمها فى بدايتها، وكان واجهة لحكم الضباط.

التوجه الرابع: إن كتاب كنت رئيسا لمصر لمحمد نجيب  من الكتب التي صورت لنا فكرة المظلومية، حتي قبل عنه يأنه يمثل مذكرات رجل حمل روحه على كفيه من أجل مصر، فلم يجد إلا الجحود والنكران والغدر ممن تصدى لحمايتهم من الضباط الشبان الذين قاموا بثورة 23 يوليو فى مصر اعتقلوه لما نادى بتسليم السلطة للشعب وضرورة عودة الضباط الى ثكناتهم العسكرية اعتقلوه من مكتبه كرئيس للجمهورية بقصر عابدين بزعم وبقسم الشرف العسكرى لأن يعود الى مكتبه بعد أسبوع فظل فى معتقل المرج 18 عام حتى أفرج عنه الرئيس السادات بعد حرب أكتوبر 1973 توفى فى 31/8/1984 .

التوجه الخامس: أن الكتاب صدر أيضا فكرة الدكتاتور بشكل واضح وهي نفس الفكرة التي قامت عليها مفهوم العدو في حروب الجيل الرابع ؛ حيث    يري المنظرون لحروب الجيل الرابع أنه لإسقاط أي نظام، لا بد من أن تقوم بعض منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج، ومعها سلسلة من الطابور الخامس ليلاً ونهاراً، عن طريق الإعلام الممول، التصدير للشعب الموجود في الدولة المستهدفة، بإبراز فكرة أن هذا النظام  دكتاتوري، وفكرة "الدكتاتورية هنا هي نوع من صناعة الوهم الذي يمكن استشفافها من واقع الفساد الذي كانت تعيشه الدولة المستهدفة" (40)، وهذا الواقع لا تخلو منه أي دولة"

التوجه السادس: أن الكتاب صدر أيضا فكرة اختراق السلطة من خلال "المستشار الخارجي في قطاع من القطاعات، أو المندوب الدولي في هيئات السلطة، واختراق المجتمع عن طريق ارتباط قوي سياسية معينة بقوي خارجية، واختراق النخبة الداخلية التي تتبني أهداف نخب خارجية" (41).

التوجه السابع: أن الكتاب صدر أيضا فكرة " التسميم السياسي  political intoxication " الذي يهدف إلي محاولة زرع أفكار معينة، أو قيم دخيلة، من خلال الكذب والخديعة، ثم العمل على تضخيم هذه القيم تدريجياً، لتصبح قيم عليا في المجتمع المستهدف. وعملية التسميم السياسي، بهذا المعنى، "مرحلة من مراحل المعركة مع الخصم أو مقدمة لمعركة قادمة، وهي تستهدف تبديل القيم أو التحلل من قيم معينة بشكل تدريجي وغير مباشر. والأخطر من كل هذا أن التسميم لا يمارسه العدو مباشرة، وإنما يتم استعمال نخب فكرية وثقافية وفئات مختارة لتُنقل لها – في مرحلة أولى - الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات – في مرحلة ثانية - لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة" (42).

وبرغم هذه التوجهات فقد فاجأ الرأىَ العامَّ إطلاقُ اسم اللواء محمد نجيب على قاعدة عسكرية هى الأكبر فى مصر، بل فى منطقة الشرق الأوسط. الرجل غاب عن سجلات التكريم التى ترعاها الدولة لأكثر من ستين عاما، قضى هو ثلثها رهن إقامة جبرية فرضتها عليه هذه الدولة نفسها. لم تفصح الدولة عن الأسباب التى دعتها لتكريم الرجل ولا هى بهذه المناسبة اتخذت موقفا من العشرين عاما التى اختفى هو فيها عن العالم، ولا من تجاهل التاريخ الرسمى له طوال العقود الستة الماضية (43).

غير أن مفاجأة من هذا النوع لم تكن لتمر مرور الكرام. ثلاثة مواقف اتُخذت من مبادرة الدولة المفاجئة هذه، اختلطت بجدلٍ بشأن وضع محمد نجيب فى «حركة الجيش المباركة»، وبخصوص ثورة يوليو عموما، ووصل الجدل إلى الخلاف بين محمد نجيب، رئيس الجمهورية فى سنة 1954، وجمال عبدالناصر تسانده أغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو الخلاف الذى حسمه هؤلاء لصالحهم (44).

 

الٍأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

.......................

الهوامش

32- عمرو صابح: قراءة فى مذكرات محمد نجيب، جريدة ديوان العرب، منشور بتاريخ الخميس ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠١٨.

33- عمرو صابح: قراءة فى مذكرات محمد نجيب، جريدة ديوان العرب، منشور بتاريخ الخميس ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠١٨.

34-عمرو صابح: قراءة فى مذكرات محمد نجيب، جريدة ديوان العرب، منشور بتاريخ الخميس ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠١٨.

35-المرجع نفسه.

36- المرجع نفسه.

37- المرجع نفسه.

38- المرجع نفسه.

39- المرجع نفسه.

40- كريمة بقدي: الفساد السياسي وأثرة علي الاستقرار السياسي في شمال أفريقيا-دراسة حالة الجزائر، مذكرة تخرج مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية و العلاقات الدولية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبو بكر بلقايد – تلمسان، 2012. ص2.

41- وليد عبد الحي: النظام العربي الإقليمي استراتيجية الاختراق وإعادة التشكيل، منشور ضمن كتاب التداعيات الجيوستراتيجية للثورات العربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، الدوحة قطر، 2014، ص 55.

42- رفعت سيد أحمد: علماء وجواسيس التغلغل الأمريكي – الإسرائيلي في مصر، مكتبة رياض الريس للكتب والنشر، القاهرة، بدون تاريخ، ص 68.

43- إبراهيم عوض: المرجع السابق.

44- المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم