قراءة في كتاب

رحيم الغرباوي: قراءة في كتاب رؤى فانتازية للدكتور صالح الطائي

الفنتازيا هي رؤية غير مألوفة للواقع، ما يعني أن هنالك شكاً في عالم الرواية إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي الوقت ذاته يمثل معالجة إبداعية خارجة عن المألوف للواقع المعاش، إذ تُعد الفانتازيا نوعاً أدبياً يعتمد على السحر وغيره من الأشياء الخارقة للطبيعة كعنصر أساسي للحبكة الروائية، والفكرة الرئيسية، ويرى تودروف أنها ذلك الواقع المتردد الذي يصيب المتلقي الذي اعتاد على معرفة قوانين الطبيعة، ثم يجد نفسه فجأة أمام وضع فوق طبيعي حسب الظاهر.

وكتاب رؤى فنتازية للدكتور صالح الطائي الذي طرح فيه قضايا فكرية واجتماعية وسياسية، ليعالج القضايا الخارجة عن المألوف في حالاتها الاستثنائية بطرق فكرية فنجده منتقداً لها مرة مقوماً مرات. فجاء كتابه على شكل مقالات تطول وتقصر حسب الموضوع الذي يطرحه، لكن بثراء ثقافي متنوع مازجاً الفكر الغربي مع الشرقي، مُنتجاً معاني إنسانية جديرة بالاهتمام.

ويبدو أنَّ الواقع الذي نقله لنا الدكتور صالح الطائي في أكثر وقائعه اليوم هو واقع فانتازي جعله يقرؤه برؤيته الخاصة، فقد تطرق الى عدة موضوعات منها: قضية نضوج العقل مستندا الى اعتقاد انيشتاين الذي يقول "إن تفكيرنا لايبقى على حاله، إذ لايمكننا حل مشاكلنا باستخدام نوع التفكير الذي استخدمناه عند إنشائها، ولعل الطائي يطرح قضية الإنسان، فيرى أن قناعاته لاتكتمل تجاه الواقع والحياة إلا بنضوج عقله.

وقد اوجب في الكتاب مصالحة الإنسان لنفسه قبل أن يتصالح مع الآخرين فيرى أن في ذلك وفي رؤيته الفانتازية أن المصالحة للنفس، هي ما تمده بقوى غيبية تجعله سوبر إنسان يمكنه أن يجتزئ المعجزات بل ويمكنه أن يتجاوز العوائق التي تضعها الحياة أمامه؛ ليتسلق القمم ويتحول الى نجم ساطع، ولم يتوقف ذلك على جنس أو فئة أو قومية أو جماعة بشرية ، فهو يرى أن الحياة أعطت للجميع فرصاً كثيرة، وأتاحت لهم تحقيق الأمنيات، فالبشر متساوون في هذه القسمة بخلاف من يستغلها منهم، فيمكنه بذلك تحقيق الفوز بشرط أن يحسن الاختيار، فضلا عن ذلك أن لا يضع الإنسان بيضه كله في سلة واحدة، بل إن المنافسة تتأتى من الاستباق نحو النجاح.

وقد حمل الكتاب دعوة الطائي إلى السلام في أكثر من مورد، ولم نراه يتفرد في آرائه إنما استوحى ذلك من قول امير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو ينصح أصحابه حين كانوا يسبون أهل الشام، إذ قال لهم : "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وضعتم أعمالكم، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر وقلتم أمام سبِّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق مَن جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به".

أما نزعته في اجتلاب السعادة فكانت من الأولويات ويضرب لها أمثلة فانتازية ومنها ما ابتكره الأمريكان فكان طريقاً لسعادتهم وهو احتفالهم كل عام بشجر الكرز الذي أهداه لهم اليابانيون عام 1912م، والتي بلغت ثلاثة آلاف شجرة، إذ صار يؤمّها الكثير من سكان الولايات؛ ليحتفلوا بها بمناسبة يوم غرسها ... ما جعل الطائي يدعو إلى ابتكار سبل السعادة مثلما هم الأمريكان وهم يصنعون سبلها، جاعلين من الحياة أليفة صديقة معهم.

ويبدو أنَّ الطائي ينزع نزعة وجودية، فهو يستشعر شيخوخته ما جعله يرى الاشياء بنظره محض تفاهات، وهي أقل أهمية من أن يشغل المرء نفسه بها، ويبدو أن سياسات الحكام تلعب دوراً في تغيير الأمزجة، فتميل النفس في أحيان للمشاريع التخريبية في داخلها، ولاسيما لدى ضعاف النفوس، فهو يقول: "مهما حاولنا الاعتدال تأتي عواصف الغبار الهوجاء؛ لتدفعنا إلى الميلان، يا لتعس حظنا، فنحن حتى في شيخوختنا التي تطالبنا بالاعتدال نجد من يرى في اعتدالنا تعويقاً لمشروعه التخريبي، من هنا تجد في قلبي آهةً، أعتقد أن السماء كلها لاتسعها، وأظنها قاتلتي، أنا الذي اعتاد على قول كلمة حق في وجه سلطانٍ جائر فاجر فرعون، والمصيبة أنَّ جميع حكامنا هم فراعنة في كل الأزمان، وأنا لم أعتد المداهنة، فامتطيت بعير هواي منذ سبعين عجاف، وسرت في درب المتاهات بحثاً عن يقين" وهو إلى الآن لم يهتد إلى ضالته ولم يعثر على يقينه بسبب السياسات العمياء التي تلقي بكلاكلها على أبناء شعوبها.

وللطائي فلسفة حين كان يأمل بالتغيير الذي حدث عام 2003م في بلده العراق؛ ليعيد ترتيب حياته المضطربة جدأ من خلال ترسيخ التوافق بين الموروث الاجتماعي والتاريخي، والمعتقد الديني والسلوك المجتمعي، وبين المعطى الحضاري، لكنه فوجئ بعدم نجاح ذلك، فزادت الهوة أكثر؛ مما كان عليه الحال يقول: "لم ننجح في الحفاظ على موروثنا، ولا في الاندماج بالحضارة المعاصرة وصرنا مثل غراب أضاع المشيتين، من هنا تراني كلما يتقدم بي العمر تزداد قناعتي بأنَّ الإنسان هو الوحش الأخطر في الكون كله" ، مشيراً إلى المجازر الدموية التي ارتُكِبت عبر التأريخ وإلى يومنا، فلم يتحرر الإنسان من هذا الطبع، وكأنه فطِر على ذلك فلم يغير من هذا السلوك "ولازال مهما تقدم وتحضر، يحمل مواريث أجداده الهمج، وهو الخطر الأكبر الذي يهدد أبناء جنسه بالفناء".

وفي جانب آخر من الكتاب تتضح لنا رؤاه الفانتازيه حين نراه يعلِّم الجيل عن طريقة كتابته في التأليف، وفي اصطياد الأفكار وتدوينها حتى ولو في علب السجائر وهو اليوم قد أنتج أكثر من ثمانين كتاباً وما يزال ينتج . يقول: " وأكتب كل ما يخطر على ببالي من أفكار، أنشر بعضه للعلن، وأخفي بعضه الآخر سراً، ولاسيما وأني أشعر أحياناً بقوة كهروكيميائية تحرك قلمي، فتجعله يسير بعيداً عن سطوة عقلي، وكم يعجبني حينها ما قد كنت كتبته، فهو يبدو وكأنه ليس مني، وإنما مرَّ من خلالي، وهذا ما جعلني أضع قاعدة قلت فيها: حينما تأتي الفكرة لابدَّ أن تقتنصها في أي مكان وزمان وحال كنت، قبل أن تضيع منك، بادر لكتابتها حتى لو اضطررت إلى كتابتها على غلاف علبة السكاير، أو محارم ورقية، أو على حجر، أو على قميصك، أو ربطة عنقك، فهي أغلى من أن يطويها النسيان" .

وقد دعا الإنسان إلى فهم جوهر وجوده، فتناول القطيعة وأسبابها، ومنها كثرة المخاطر التي تهدد الإنسان، وهي السبب في التغيير المنشود بعد أن فقدت الإنسانية رغبتها وفاعليتها في التغيير، ولعل السير التقليدي من أقبح القطيعة، وهو ما يصادر حريته، داعياً البحث عن التغيير لا أن يتمرد على التلاقي الاجتماعي العقلاني، وعلى الإنسان أن يكون ذا رأي مسموع ومؤثر بين الجموع ، وأن يكون قائداً فاعلاً لا مُقاداً يستغفله الآخرون، فمن كان مهزوماً حتى من خياله، فعليه أنْ يعلم أنَّ الحياة بطبيعتها أصعب مما يتصور، والوصول إلى مرحلة الانتصار على الضعف والخنوع ليس صعباً، فمحاربة النفس والانتصار عليها تمكِّن من محاربة العالم بأسره والانتصار عليه .

والذي نقرؤه أنَّ الطائي يدعو إلى بلوغ الغايات والمآرب ليس في مقاطعة الحياة والانزواء في مسارب الظلمات والطقوس والأفكار البالية، بل على الإنسان أن يخرج من الكهف الفكري الذي يجعل من أفكار الكهوف تقوده، بل عليه أن يفكر ويرعوي وأن ينهض فكرياً بل وعليه أن يواجه، ويتخطى العقبات، وأن يقترح مشاريع سواء أكانت مادية أو فكرية، لأنَّ أصحاب الضلالات يسعون في كل الأوقات إلى تخدير من يبقى في عالم القطيعة ويظل يتعاطى أفيونهم ما يجعلون منهم (زمبلكاً) يدار، أو (عربةً) تدفع أينما شاءوا دفعها. فالفكر والتعقل والإرادة والتصميم للخروج من الكهف هو مجتَلَب النجاة والتقدم والازدهار.

أما أسلوب الطائي في رؤى فانتازية يختلف عن معظم كتبه، ولاسيما الدينية كونه رسالة وجهها إلى قرَّائه؛ لما فيه من مادة نهضوية تقدح فيهم حقائق تكاد تكون مجهولة لدى الآخرين فأتت عباراته سهلة واضحة بأسلوب خطابي مُعلَنٍ، فضلاً عن استيحاء الشخصيات العالمية والعربية من فنانين وعلماء وأدباء ومفكرين، كما أنه دعم نصوصه بأحاديث شريفة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولأولياء صالحين لينطلق من أقواهم لفكرة أو يعزز بها رأياً. فضلاً عن ذلك تناص مع نصوص كثر يدلل على ثقافته الموسوعية.

ولابد من الإشارة، إذ ليس كل ما طُرح في الكتاب جاء في هذا المقال، إنما هو غيض من فيض، فالكتاب جاء بثلاث مائة وست وأربعين صفحة بقِطْع كبير جمع فيه أربعين مقالاً بعناوين متعددة الرؤى في أسفلها (هاشتاكات) تمهد لعرض أفكاره، وخطاباته، وطروحاته على متلقيه.

وأخيراً نتمنى للطائي المزيد من النتاجات الفكرية النافعة. والله المستعان

***

بقلم د. رحيم الغرباوي

في المثقف اليوم