قراءة في كتاب

فاطمة الثابت: من الفهم الى الأنطولوجيا.. قراءة في سوسيولوجيا الدين

قراءة في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي / د.عبد الجبار الرفاعي

لكي نقبل هذا العالم يجب أن نرفض هذا العالم، فالوجود أستُهلك إلى درجة الأضمحلال، وهناك تناقض فعلي بين تأمل العالم وبين تحويل العالم، ومن هنا تبرز ضرورة توظيف فهماً حقيقيا ً للدين لمواجهة الظمأ الأنطولوجي ..

من منظور اجتماعي، تتضمن أنطولوجيا الدين دراسة طبيعة الكيانات والتجارب والظواهر الدينية في إطار الهياكل والمؤسسات والتفاعلات الاجتماعية. يدرس علماء الاجتماع كيف يشكل الدين المجتمع ويهكله، وينظرون إلى البناء الاجتماعي للواقع الديني، ومن أهم القراءات السوسيولوجية للدين قراءة  إميل دوركهايم، عالم اجتماع رائد، تناول دراسة الدين من منظور وجودي، لا سيما في عمله الأساسي "الأشكال الأولية للحياة الدينية" الذي نشر عام 1912، كان دوركهايم مهتمًا بفهم الطبيعة الأساسية وجوهر الدين داخل المجتمعات البشرية.

كما قدم ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني، مساهمات كبيرة في الفهم الاجتماعي للدين من خلال كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية "، بينما ركز إميل دوركهايم على التكامل الاجتماعي والجوانب الجماعية للدين، كان نهج فيبر أكثر دقة وشمل استكشاف تجربة الفرد الذاتية وتأثير الأفكار الدينية على التغيير الاقتصادي والاجتماعي، حيث وظف مفهوم (الفهم)، كان نهج فيبر في فهم الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك الدين، يرتكز على مفهوم "Verstehen"، وهو ما يعني الفهم باللغة الألمانية،  وشدد على أهمية فهم المعاني الذاتية التي يعلقها الأفراد على أفعالهم ومعتقداتهم وتجاربهم، وفي دراسة الدين كان هذا يعني الاهتمام بالتجارب الحياتية للأفراد والمعاني التي ينسبونها إلى الممارسات الدينية.

وبغض النظر عن السياقات التاريخية التي ميزت بداية وجهات النظر الحداثية وتأثيرها الدائم، فضلاً عن الظهور اللاحق لأتجاهات ما بعد الحداثة التي كشفت عن نقاط الضعف في العديد من الأيديولوجيات الحداثية، أو من زاوية مختلفة، النظر في إعادة تشكيل المشهد الفكري عالميًا إن الحاجة ملحة إلى فهم جديد، خاصة في العصر الحالي بعد تراجع الهيمنة الأيديولوجية للفكر الغربي، أصبح من الضروري بالنسبة لنا أن نفهم فهمًا جديدًا لواقعنا.

وهذا الفهم يبدأ من تشخيص دقيق لأزمة التدين حيث يبين د.عبد الجبار الرفاعي " ان ماوضع الدين اليوم في مأزق تأريخي، هو ترحيله من مجاله الأنطولوجي الى المجال الأيديولوجي هذا من جهة، ومن جهة أخرى أزدراء بعض النخب للدين وأحتقارهم للتدين، أثر الفهم الساذج المبتذل لحقيقة الدين في فهمهم، والصور في أحكامهم من نمط التدين الأيديولوجي الشائع "

وفي رحلة عميقة من الذات ينتقل بنا د. الرفاعي الى الوجود الأنساني، حيث يعتبر "الأيمان  تجربة ذاتية خلافاً للفهم والمعرفة لايتحقق بالنيابة "، تنبعث من الداخل فهي صيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجودي يرتوي به الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري .

من يقرأ الفصول الأولى للكتاب ومابعدها يفهم  هذا النص بتجلياته، يبدأ بنسيان الذات  ومن ثم نسيان الأنسان ليصل الى التجربة الدينية وأزمة الظمأ الأنطولوجي وبعدها يقف على الأحتكار الأيديلوجي لأنتاج المعنى الديني ويخرجنا من هذه الأزمات الى تجديد الفكر الديني من  (أنا قارئ قبل كل شيء) .....  مما يؤدي في النهاية إلى استكشاف التجارب الدينية والتعطش الوجودي للمعنى، فهو يدقق في أزمة الشوق الوجودي، ويواجه احتكار الأيديولوجيات لإنتاج المعنى الديني، ترشدنا هذه الرحلة إلى الخروج من هذه التحديات الوجودية، وتسهل تجديد الفكر الديني.

وفي تنمية هذا الفهم والانغماس في الأعماق الروحية لهذه المعاني، هناك تجنب متعمد للابتعاد والازدراء تجاه الذات أو نقيضها وبدلا من ذلك، يبدأ الاستكشاف من الذات، ويمتد نحو الوجود، ويرسم صورة متكاملة للوجود الإنساني.

***

د. فاطمة الثابت

في المثقف اليوم