قراءة في كتاب

ريبيكا روث غولد: ضد التوازن.. لماذا لا يمكن ولا يجب أن تكون حرية التعبير محايدة

بقلم: ريبيكا روث غولد

ترجمة: لبنى بجديكن

***

يُعد الفيلسوف الهندي عقيل بلجرامي من أهم وأقل النقاد المعروفين لليبرالية المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بنقط الضعف لديها تجاه فلسطين. بعض من أفضل أعماله مكرسة لنحت مساحة للنشاط الفلسطيني ضمن تقليد حرية التعبير. من أجل خلق هذه المساحة، يرى بلجرامي أن الفهم الليبرالي السائد لحرية التعبير بحاجة إلى تحول جذري.

تطور تفكير بلجرامي حول حرية التعبير في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، وهي المؤسسة التعليمية التي شهدت نشاط الناقد الفلسطيني-الأمريكي إدوارد سعيد. وشهدت جامعة كولومبيا مؤخرًا اهتمامًا إعلاميًا بسبب الهجمات العنيفة على طلاب متظاهرين مؤيدين لفلسطين باستخدام مادة كيميائية للسيطرة على الحشود تعرف باسم "السكنك". وقبل فترة طويلة من احتجاجات عامي ٢٠٢٣ و٢٠٢٤، استُهدف طلاب جامعة كولومبيا بحملة قمعية على حرية المعارضة فيما يتعلق بفلسطين.

جامعة كولومبيا هي أيضًا الجامعة التي حصلت منها على درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا. لم ألتقِ بلجرامي قط، لكنني شعرت بالشرف عندما أيد كتابي "محو فلسطين" (٢٠٢٣) باعتباره "كتابًا راقيًا وشجاعًا يتعامل بجدية مع كل من 'محو' فلسطين الوحشي من خلال سياسات الدولة الصهيونية ومع ظاهرة معاداة السامية".

كما أشار بلجرامي في مراجعته، "يمكن التلاعب بالتعريفات وقد تم التلاعب بها لإعلان كل الانتقادات للدولة الإسرائيلية بأنها معادية للسامية بشكل افتراضي مسبق، ولكن المقاربة الجينالوجية الاجتماعية-الاقتصادية بالمقابل تسمح لنا بتأكيد أكثر القيم الإنسانية أهمية - حرية التعبيرـ التي هي ضرورية في النضال والكفاح ضد محو فلسطين."

بدأ بلجرامي بتطوير نقد لمفهوم جون ستيوارت ميل لحرية التعبير في عام ٢٠٠٧ في وقت كانت فيه حياة ومسيرة كل من العالم السياسي نورمان فينكلستين والأنثروبولوجية نادية أبوالحاج تتعرض لهجوم شديد من مجموعات الضغط الإسرائيلية. ومع استمراره في تطوير حجته، تعرض الناقد الثقافي ستيفن سلايطة "لإلغاء التوظيف" من جامعة إلينوي عام ٢٠١٤ في واقعة شهيرة. وفي كل حالة، ارتبط الجدل بكتابات هؤلاء العلماء حول إسرائيل.

في حين تم منح نادية أبوالحاج في نهاية المطاف حيازة المنصب، تم طرد فينكلستين من الأكاديمية إلى الأبد. وتم رفض منحه التفرغ الوظيفي من قبل جامعة ديبول في عام ٢٠٠٦، على الرغم من سجله البارز في النشر ودعم قسمه له.

وإلى جانب مساعيه الأكاديمية، كان بلجرامي صريحاً بشكل خاص في دفاعه عن العالم السياسي والناشط فينكلستين، كما يتضح في هذه الندوة المهمة بعنوان "دفاعاً عن الحرية الأكاديمية"، التي أُقيمت نتيجة الرفض الجائر لمنح فينكلستين التفرغ الوظيفي.3569 Rebecca Gould

نقد ميل

يبدأ دفاع بلجرامي عن "التفاوت المتعمد" بنقد جون ستيوارت ميل، مؤلف كتاب "عن الحرية" (١٨٥٩)، والذي يُعد من أكثر الكتب تأثيرًا في الدفاع عن حرية التعبير على الإطلاق. يقدم ميل عدة حجج حول سبب وجوب أن تتسامح الدول الديمقراطية مع الأفكار التي نكرهها، مع التركيز على أكثرها تأثيرًا. ويظل اقتراح ميل (باستخدام مصطلحات بلجرامي) "التسامح مع الآراء المخالفة فقط في حالة كون آرائنا الحالية خاطئة وهذه الآراء المخالفة صحيحة" من الركائز الأساسية للفهم الليبرالي للحرية الأكاديمية. ومع ذلك، فإن الأشخاص الذين يدافعون عن حرية التعبير على هذه الأسس يلحقون في الواقع المزيد من الضرر بدلا من النفع لقضية حرية التعبير والحرية الأكاديمية.

كما يلاحظ بلجرامي، فإن الحجة التي تدعم حرية التعبير المعتمدة على مفهوم التوازن كحماية ضد احتمالية الخطأ غير متماسكة حتى بشروطها الخاصة. فهي مبنية على الاعتقاد بوجود نقطة "أرخميدية" ثابتة يمكننا من خلالها تقييم النزاعات المستعصية بدقة، وعلى إنكار دور الذاتية في تكوين أبسط معتقداتنا.

ومع ذلك، فبغض النظر عن مدى عدم تماسكها، فإن هذا الخيال له تأثير في حاضرنا السياسي لأن "عدم التوازن" غالبًا ما يكون الأساس الذي يُستخدم لتشويه صورة المدرسين الجامعيين ونشطاء القضية الفلسطينية على أنهم معادون للسامية.

بشكل أعم، يُعد "التوازن" عنصرًا أساسيًا في العديد من قوانين حرية التعبير الإدارية للجامعات التي تظهر احترامًا شكليًا لحرية التعبير. لقد شجعني مسؤولون جامعيون بنفسي على إظهار التوازن كلما أتحدث عن فلسطين أو حتى عن حرية التعبير بشكل عام. كما أن الدعوة إلى التوازن هي أيضًا وسيلة لإسكات الأصوات المعارضة وتهميش الآراء غير السائدة.

إذا أخذنا في عين الاعتبار قضية ربا صالح، وهي عالمة أنثروبولوجيا افتُرض أنها تفتقر إلى 'التوازن' لأنها فلسطينية. في عام ٢٠١٧، تمت إزالة صالح من رئاسة حدث لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في جامعة كامبريدج. كما يميل هذا الجدل إلى القول إن الحل لمثل هذا الاختلال هو فرض نموذج "التوازن" بشكل مصطنع، بحيث يتعرض الطلاب لكلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. تكمن مشكلة مثل هذه الأساليب في افتراض قدرة دقيقة للغاية على تحديد الأرضية المتوسطة من قبل إداريي الجامعة، غالبًا دون ترك المسألة مفتوحة للنقاش.

حرية التعبير في الفصل الدراسي

يوضح بلجرامي بحق أن هناك عددًا قليلاً من المواضيع في العلوم الإنسانية التي تستفيد جيدا من أعمال الموازنة المصطنعة التي تقوم على الادعاء برفض الالتزام بوجهة نظر واحدة. وإليكم السبب: يجب على أي مدرس في الفصل أن يبذل جهداً ليس فقط ليكون على اطلاعٍ معقول على المواد التي يخطط لتدريسها، ولكن أيضًا لاتخاذ قرار بشأن أكثر الروايات إقناعًا وأكثر التفاصيل أهمية لتقديمها للطلاب، من بين كم هائل من المواد والأدلة والادعاءات.

قد تولد الانتقائية تحيزًا، ولكنها شرط معرفي وليست مشكلة في حد ذاتها. وبشرط أن يتم اختيار مواد الدورة الدراسية بحكمة، فإنه من السخف الإصرار على أن جميع جوانب قضية معينة يتم معاملتها بالتساوي. هل نطالب لمؤيدي فرضية أن الأرض مسطحة بأن يكون لهم مكان في سياق الفصل الدراسي؟ بالطبع لا. وكذلك الأمر بالنسبة لأولئك الذين يبرئون إسرائيل من جرائمها أو يقمعون حقائق رئيسية حول النكبة أو الهولوكوست، أو الفظائع ذات الصلة لأهداف سياسية.

ليست كل الأفكار والحجج صالحة بنفس القدر، ولا يوجد مدرس أو باحث مسؤول يتظاهر بأنها كذلك. وبالتالي فإن حرية التعبير ليست مسألة رفض دائم للالتزام، أو البحث عن شعور بعيد المنال بالتوازن، كما قد تقودنا تصريحات إداريي الجامعات إلى الاستنتاج.

حقيقة أننا يجب أن نلتزم بوجهة نظر معينة من أجل التدريس بشكل فعال لا تعني أننا نفشل في احترام حق الآخرين في الاختلاف معنا. ان التسامح مهم، ولكنه لا يوفر أقوى دفاع عن حرية التعبير.

التوازن ليس أهم معيار للانتقاء، خاصة في الحالات التي يكون فيها الوسط محل نزاع بحد ذاته. بدلاً من ذلك، يجب أن توجهنا معايير مثل الدقة والعمق. ستكون المعلمة الجيدة متواضعة، منفتحة الذهن، وصادقة في الاعتراف بمجالات الارتباك والشك. لكنها ستكون قد توصلت أيضًا إلى استنتاجات معينة بناءً على الأدلة المتاحة لها. تكمن مسؤوليتها كمدرسة في توصيل تلك الاستنتاجات ووجهة النظر التي تستند إليها بأكبر قدر ممكن من الفعالية، وليس السعي لتمثيل جميع الأطراف وجميع وجهات النظر. إن القدرة على ممارسة مبدأ الانتقائية جزء من التدريس والبحث والتفكير الجيد.

إذا لم نتمكن من التوصل على الأقل إلى استنتاج مبدئي بشأن المسألة المطروحة يتجاوز الشرط الميكانيكي للتوازن، فكما يسأل بلجرامي، ما جدوى العمل الذي ينبغي أن نقوم به في الفصل الدراسي في المقام الأول؟

يجب على المدرسين أن يكونوا مطلعين على المواضيع التي يدرسونها، ولكن سيكون من السخافة توقع ألا يكون لديهم أي رأي على الإطلاق. يعزو بلجرامي "المطالبة المستمرة بأن نقدم دائمًا كلا الجانبين من الخلاف" إلى " مفهوم التعليم على أنه نوع من التردد المزمن." بعيدًا عن كونه موضوعيًا أو محايدًا، فإن المدرس الذي يخضع لمفهوم ميكانيكي للتوازن بشأن أي قضية، بما في ذلك قضية فلسطين وإسرائيل، يقوض مصداقيته الخاصة في الفصل الدراسي. يتطلب التدريس الجيد القناعة، والقناعة تتطلب اتخاد مواقف.

حرية التعبير خارج حدود الفصل الدراسي

لا يقتصر النقاش هنا فقط على أساليب التدريس أو البيداغوجيا داخل الفصل الدراسي، بل يتعلق بالتفكير بشكل عام، والعملية التي نحدد من خلالها قناعاتنا، والحيز الذي نمنحه للقناعات التي نختلف معها.

يسعى بلجرامي إلى تأسيس حرية الأكاديمية على أرضية أوسع. وهو يعترف بالقيمة المطلقة لتعدد وجهات النظر والمنظورات والخلفيات في البيئة الجامعية. بالنسبة إلى بلجرامي، فإن التنوع - وليس التسامح - هو الحجة الأكثر إقناعًا للحرية الأكاديمية.

لكن التنوع الفكري بحد ذاته لا يكفي لتوضيح مسؤولية المثقف، والتي تتمثل في قول الحقيقة في وجه السلطة، حتى وإن كان ذلك أحيانًا محفوفًا بمخاطر شخصية جسيمة. يجب على المثقف الذي يقول الحقيقة في وجه السلطة أن يأخذ في عين الاعتبار ليس فقط محتوى ما يجب قوله، بل أيضًا السياق الذي سيتم سماعه فيه والذي قد يتم التصرف بناءً عليه.

لا تكتسب حرية التعبير معنى إلا في علاقتها بالجمهور، والذي بدوره يعني مجتمعًا سياسيًا وسياقًا محددًا. وبعيدًا عن تلبية ما قد يرغب الجمهور في سماعه، يجب على المثقفين الملتزمين والناشطين والباحثين الحياديين أن يركزوا انتقاداتهم على وجه التحديد على ما يقل احتمال أن يرغب أصحاب السلطة في سماعه. بهذا المعنى، فإن الحرية الأكاديمية لا تنفصل عن الحرية بشكل عام.

لنأخذ واحدًا من أكثر الأمثلة المؤثرة لشخص جمع بين احترام حرية التعبير والتحقيق النقدي مع القناعة، المثقف اليهودي البولندي إسحاق دويتشر (١٩٠٧-١٩٦٧) الذي أصر على أن هويته تلزمه بالتمسك بنوع معين من التحيز. وفقًا لكلمات دويتشر نفسه "أنا ... يهودي بحكم قوة تضامني غير المشروط مع الذين يتعرضون للاضطهاد و الابادة." وكان تحيز دويتشر ضد العنصرية، وفي النهاية ضد الصهيونية. ما يراه بلجرامي كمهمة للمثقف هو بحد ذاته ما يربطه دويتشر بهويته كيهودي.

من المستحيل تشريع ما يعنيه التضامن مع المضطهدين على المستوى الفردي. أولئك الذين يفرضون مفهومًا وهميًا للموضوعية على ما يسميه بلجرامي "عدم التوازن المتعمد" غالبًا ما يخفون دوافع سياسية تحت ستار الحياد. بدلاً من الاستسلام لمطالبهم، يجب أن نركز على كيف يمكننا استخدام عدم التوازن المتعمد - وهو ما يسميه دويتشر "التضامن غير المشروط مع المضطهدين" - لتعزيز حرية جميع الشعوب المضطهدة. نحن نفعل ذلك تحديدًا لأننا نؤمن بحرية التعبير، وليس بسبب تسامح مجرد لجميع الآراء الممكنة.

يعيدنا نقد بلجرامي لميل إلى نقطة البداية. إن انتقادات سلايطة لمفهوم الحرية الأكاديمية مبررة كنقد لليبرالية التاريخية والمعاصرة، بما في ذلك ميل والنهج الأنجلو-أمريكي لحرية التعبير الذي أحدثه، والذي لا يزال معياريًا ضمن الليبرالية المعاصرة.

حرية التعبير والحرية نفسها

نحن اليساريون نرى ما وراء التركيز الليبرالي على مسألة التوازن، ويمكننا التفكير في أسس مختلفة تكون أكثر ديمقراطية وأكثر جذرية لحرية التعبير، والتي تكون أكثر تعزيزًا في نهاية المطاف إلى تحرير فلسطين، وتحرير الجميع، لأنها تتطلب منا اتخاذ موقف. هذا المفهوم لحرية التعبير هو امتداد للحرية نفسها، يطبق على مجال اللغة، ولا يمكن لأي سياسة يسارية الاستغناء عنه. لقد طور كل من ماركس ولوكسمبورغ وترو تسكي مقاربات يسارية مختلفة ومبررات لحرية التعبير. بالنسبة لكل مفكر، يعتبر الحلم الماركسي بإلغاء الرقابة أساسيا للنضال من أجل المساواة.

بغض النظر عن وجهة النظر التي يتخذها المرء، من المهم أن ندرك أن الحاجة إلى حرية التعبير غريزية بقدر ما هي فكرية. إنها ضرورية ليس فقط للازدهار الديمقراطي، ولكن أيضًا بشكل أكثر جوهرية للحياة البشرية نفسها. تمنح حرية التعبير صوتًا للآراء التي ترغب السلطات السياسية في قمعها. بالنسبة لأولئك الذين يمارسونها ويشجعون عليها، فإنها تساعدنا على تقبل من نحن ومن نريد أن نكون.

عندما تم إسكات صوتي وتمت مصادرة آرائي، تعرضت قدرتي على الوجود كإنسان للتهديد. في المنظور العام، كانت الرقابة التي تعرضت لها طفيفة؛ وقد تم توثيق العديد من حالات القمع الأسوأ، وخاصة للفلسطينيين، على نطاق واسع. تقوم المبررات لحرية التعبير التي تعتمد على التركيز الليبرالي على التوازن بحجب ما يعنيه حقًا إسكات صوت شخص آخر. إن الإسكات هو إنكار، من خلال لغة الاعتدال والتوازن، لحقهم في الوجود نفسه. احترام حرية التعبير هو احترام الحياة نفسها.

***

(ترجمة: لبنى بجديكن)

في المثقف اليوم