قراءة في كتاب

نيران العبيدي: كتاب جورج منصور إيفين حفرٌ في الذاكرة

على الرغم من العنوان الذي اعتمده الكاتب والسياسي جورج منصوراسم (إيفين) لكتابه والذي يقع بنحو 384صفحة من القطع المتوسط. و(إيفين) سجن يقع في جمهورية إيران الإسلامية شمال غرب طهران، ويشتهر باحتجازه للسياسيين والمثقفين الإيرانيين من أصحاب الرأي، إلا أن كتاب (إيفين) لايعدّ من أدب السجون، وإنما يحسب ضمن أدب السيرالذاتية للشخص الذي يسرد فيه جزء من حياته، والتي تسمى االبايوغرافيا الذاتية لكتب السيرة الذي لايعتمد فيه كاتبناعلى يوميات مدونة، وإنما يعتمدعلى الذاكرة الحقيقية والاضافة الأدبية التي تمتعنا بها طوال سرده الجميل .

ماكتبه جورج منصورعن سجن (إيفين) لايتراوح سوى 100 صفحة من الكتاب، أما الباقي فجاءَ منفصلاً بمرحلتين مختلفتين لحياة الكاتب، أنا أقسمها إلى مرحلة الإعداد الفكري السياسي والدراسي، ومرحلة العطاء والصعودالعملي والوظيفي .

كتب جورج منصورعن حياة والده ا لذي ينتسب إلى عائلة موصلية معروفة (معمارباشي) التي حالها حال بقية العائلات العراقية محورحياتها الدين، فوصف لنا قباب كنيسة ماركوركيس العريقة بالقدم، ومحاولة الوالد التبتل والرهبنة وعلى الرغم من علمانية الكاتب انتمائه الشيوعي، إلا أنه يذكر لنا في الصفحة 22 آية من الكتاب المقدس العالقة في ذاكرته ليبررحال قرارالوالد المنذورللكنيسة بأسلوب الكاتب المتمرس، عبر توظيف جميع مايمتلك من مَلكة أدبية وسياسية ودينية ليخدم نصه، بلغة سلسة بليغة ومعانيها ذات أبعاد فلسفية، يفتقر لها الكثيرمن الكتاب، وليعطينا نبذة عن خلفيته الكاثوليكية الكلدانية العراقية، ولِمَ لا؟وهوالحاصل على دبلوم عالٍ في الفلسفة من جامعة موسكو العام 1981الصفحة 62 أشعياء 5:6

(ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا مقيم بين شعب نجس لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود)

 في مرحلة الإعداد الفكري والدراسة في موسكو، يصف لنا الحياة الموسكوفية بدقة من تاريخها العريق وجمالها وساحتها الحمراء وكتدرائية باسيل بقبابها الملونة إلى فقر فنادقها وأسواقها ومطاعمها الراقية بذلك الوقت صفحة 50، ولقائه مع الكاتب غائب طعمة فرمان، من ثم يعرجع لىمسرحية النخلة والجيران.

جورج منصورلا ينسى بلده فهو يحشر ذكرياته في كل سطر، وفي كل لحظة حياتية بالغربة، لكنه يحاول إظهاراطلاعه على أدب البلد المضيف، فيذكرلنا حين وداع صديقته (ايرينا) بموسكوقصيدة الشاعرالروسي قسطنطين سيمونوف التي نسج عوالمهاعلى لسان جندي روسي، خاطب حبيبته من جبهة الحرب، وحينها كان جورج منصورفي طريقه إلى شمال العراق للمشاركة بحرب الأنصار يقول :

أكتب إليكِ بخلاف ماقاله الشاعرلاتنتظريني .

"انتظريني وسأعود

 انتظريني عندما تصيرالأمطارالصفراءحزناً

انتظري عندما تهطل الثلوج . . . إلخ". ص 81

يعرج الكاتب لوصف سجن (إيفين) هذا السجن الذي أصبح عنواناً للكتاب، يكتب عن الألم والعذاب والجوع والذكريات، يكتب عن السورالعالي المسيج بأسلاك كهربائية شائكة، وعن أصوات نقيع الأوراق وثنيها، وهومعصوب العينين، محاولاً الرؤيا بما تسمع أذنيه، وحفلة السباب والشتائم التي كانت تتطايرمن فم السجان، ولكن كعادته بفلسفة الأشياء، وفي الصفحة 118 يذكرنا بالكاتب الفلسطيني أدهم شرقاوي:

"الناس في نشرات الأخبار أرقام للنعي، وفي المطاعم أفواه للأكل، وفي البنوك جيوب للنهب، وفي السجون ظهورللجلد".

أية ذاكرة، وأية قراءة مفعمة بالألم، يستحضرها جورج منصورفتنسل من قلمه لتجعلنا نعي مايتعرض له من تعنيف وضرب من أجل كلمة، أواعتراف يريدها السجان من الألف إلى الياء مهدداً إياه بالإعدام.

 مرحلة الإعدادالفكري والسجن أجمل ماكتبه جورج منصور، فهولاينسى ماتعرض له من محاولة لإدخاله الإسلام بظروف يعدّ فيها مسلوباً للإرادة، لكن جوابه كان قاطعاً:

"لا أنا لن أصبح مسلماً حتى لوكلفني حياتي"هذاالرفض لم يكن من أجل الدين، وهوعلى إطلاع واسع بالإسلام، ومترجماً لكثيرمن الكتب الإسلامية التي ترجمها هناك، ولكن هذا الرفض من أجل الذات وعدم انهيارها، رفض لأي تحول يكون فيه مرغماً، ليبقى صامداً يتحسس إنسانيته ومبادئه، فمرحلة النضج والعطاء توزعت ما بين العمل في إذاعة العراق الحر، وتأسيس إعلام عراقي مستقل، ومختلف عماعرفناه بالنظام الدكتاتوري السابق، وتأسيس قناة عشتارالسريانية في عينكاوة لما يحمله من خبرة، واختصاص بهندسة تكنولوجيا الطباعة ومزاولة الصحافة بجريدة طريق الشعب، إضافة إلى العمل الإذاعي بصوت العراق الحر ولقائه مع شخصيات نافذة، ساعدته بعمله المهني، قادته لأن يصبح وزيراً في إقليم كردستان العراق

الكتاب تضمن عدد من الصورالعائلية، وصور توثق حياته السياسية والعملية، كما تعدّ وثيقة تاريخية لمرحلة مابعد التغيير في العام 2003.

 الكتاب جاء بلغة سلسة تشدّنا لجمالية أسلوبه، وحنينه إلى الوطن الأم، لكن تبقى لدينا ملاحظات لانستطيع التدخل بطبيعة خيارات الكاتب، منها قبوله العمل بإذاعة صوت العراق الحرالتي كانت تدارمن قبل جهات أميركية معروفة في براغ أيام المعارضة، وهو الشيوعي المخضرم الذي خاضِ النضال السياسي أيام الجبهة الوطنية، والنضال المسلح  إبان حرب الأنصارأيام المعارضة .

***

نيران العبيدي – كندا

في المثقف اليوم