قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

المجتمع والدولة والديمقراطية في البلدان العربية، كتاب من تأليف الباحث السعودي متروك الفالح، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2002، يقع في 212 صفحة موزعة على خمسة فصول أساسية. بالنسبة للإطار العام للدراسة، تناقش الأخيرة ظاهرة "تريف المدن" في المنطقة العربية من حيث واقعها وأسبابها وآفاقها متوسلة بالمنهج المقارن، بحيث أضاء المؤلف في مستهل بحثه على الإرهاصات الأولية لظهور المجتمع المدني الحديث في أوروبا بالتزامن مع نشوء الطبقة البرجوازية، مرورا بتأثير الثورة الصناعية التي أفضت إلى "تمدين الريف" بفعل انتقال الحياة الصناعية إلى الأرياف، وما أحدثه ذلك من تحول ثقافي (ثقافة الفردانية بدل الروابط التقليدية كالأسرة... إلخ) وسياسي (الديمقراطية الليبرالية، توسيع قاعدة المشاركة السياسية... إلخ). فكيف يمكن مقاربة إشكالية المجتمع المدني في السياق العربي – الإسلامي؟

أولا: ظاهرة تريف المدن في المنطقة العربية

إن ارتفاع وتيرة التمدن في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة من جراء هجرة سكان الأرياف إلى المدن لا يعني حكما استيعاب مفهوم المجتمع المدني الحديث (بأبعاده الثقافية والقيمية لا المادية - العمرانية فحسب) بالمنطقة العربية، وبدلا من ذلك فإننا نرزح تحت وطأة  ظاهرة "تريف المدينة" (خلافا لتمدين الريف بأوروبا) وما يعنيه ذلك من استمرار ثقافة البداوة وعصبياتها بدل روابط المواطنة والتعددية والليبرالية التي تسم المجتمع المدني الحديث. وعليه فإن تأثير العولمة والحداثة يطال فقط الجانب المادي الاستهلاكي لا النسق القيمي للمجتمع.

ورغم وجود عدد وافر من الهيئات والمؤسسات التي تبدو حديثة في سطحها (أحزاب، نقابات... إلخ) إلا أنها في صلبها لا تجسم جوهر المجتمع المدني بسبب انتفاء شرط الاستقلالية عن الدولة، كما أن وفرة الأحزاب والنقابات والجمعيات لا يعني بالضرورة وجود تعددية حقيقية من حيث الأفكار والتصورات المطروحة، فضلا عن غياب الثقافة المدنية والديمقراطية الداخلية لدى تلك التنظيمات بفعل استمرار تأثير عادات وثقافة الريف وإنْ على نحو لاشعوري.

ثانيا: معيقات قيام المجتمع المدني الحديث

ثمة عامل موضوعي يعيق تكون المجتمع المدني الحديث يتمثل في الطابع السلطوي للنظم السياسية العربية، وسياساتها التنموية العقيمة المتجهة إلى تركيز الخدمات والتصنيع في المدن الكبرى، في مقابل إهمالها للأرياف والأحياء المهمشة ذات الامتدادات الريفية في المدن. لكن هناك أيضا عوامل بنيوية بالغة الأهمية تتعلق بطبيعة التجمعات السكانية المتواجدة بالمدن الحاملة لمنظومة ثقافية وقيمية ما زالت مشدودة إلى حياة البداوة والريف. وهكذا فإن تمسك معظم مكونات المجتمع العربي بمفهوم صلب وضيق بخصوص قضايا العقيدة والهوية يجعل من الصعب والمتعذر الانتقال من المجتمع الأهلي التقليدي إلى المجتمع المدني الحديث بمتطلباته القيمية (التعددية، الليبرالية، المساواة بين الجنسين... إلخ).

وعطفا على ما سبق، يشدد الباحث على أن ارتباط الطبقة الوسطى بالبرجوازية في الغرب وإسهامها الكبير في سيرورة التحديث لا يتسق مع واقع الطبقة الوسطى في مجتمعاتنا العربية من حيث هي طبقة محافظة بالأساس تعتمد على منظومة من الريع والامتيازات والتبعية للسلطة، وبالتالي فهي عاجزة عن المشاركة في إحداث التغيير المنشود. وإلى جانب هذه الشريحة من البرجوازية الصغيرة، تعرضت شرائح أخرى من الطبقة الوسطى (الموظفين، المثقفين... إلخ) للتآكل في حجمها نتيجة السياسات النيوليبرالية المتوحشة، مما انعكس سلبا على تأثيرها وفعاليتها.

ثالثا: المجتمع الأهلي كبديل للمجتمع المدني

يتبنى الباحث طرحا لافتا مفاده أن قوى الاجتماع الأهلي التقليدي (القبيلة، الطائفة، العشيرة، العائلة الممتدة... إلخ) لا تشكل عائقا بالضرورة أمام الديمقراطية، بل قد تشكل حافزا لها في ظل التنافس القائم بينها على امتلاك النفوذ والحفاظ على كينونتها، ورفضها الخضوع للسلطة المركزية الاستبدادية، وبالتالي فإن قيام مجتمع مدني خالص من مفاعيل القوى التقليدية ليس شرطا ضروريا لإرساء الديمقراطية بالمنطقة العربية في ظل استحالة تفكيك البنى الصلبة للمجتمع الأهلي التقليدي لارتباطها الوثيق بهوية وشخصية المجتمعات العربية.

وتأسيسا على ذلك، يدعو المؤلف إلى تبني مفهوم المجتمع الأهلي بدل مفهوم المجتمع المدني، الشيء الذي يستتبع المطالبة بإرساء الديمقراطية في بعدها السياسي الشكلاني (توسيع قاعدة المشاركة وصنع القرار السياسي عبر انتخابات حرة ونزيهة)، ومن ثم عدم اعتبار الأبعاد القيمية والفلسفية التي ترتكز عليها الديمقراطيات الليبرالية في الغرب، وهو ما يُعد في تقديري الشخصي اجتهادا غير موفق من لدن الكاتب لكونه يُفرغ مفهوم الديمقراطية من محتواه ويفضي إلى تبني حداثة معطوبة ذات ملامح مشوهة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

للدكتور قادة جليد من جامعة وهران الجزائر

قال الدكتور قادة جليد استاذ الفلسفة بجامعة وهران (غرب الجزائر) وباحث ونائب سابق أن مبادرة الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجديدة هو مشروع وطني حضاري أصيل تؤطره رؤية استراتيجية للمستقبل وحِسٌّ تاريخيٌّ نابع من تطلعات الشعب الجزائري لتبوأ مكانة مهمة في التاريخ العالمي فظواهر الدولة والمجتمع لا تخضع في تفسيرها لقوانين يقينية لأنها تقترن بالإنسان فردا أو جماعة يستعصى على التكييم quantification لأنه مزيج من المادة والعقل والروح، ولاشك أن المحطة السياسية التاريخية التي تربط بين 2024 و2030 ستكون بلا شك محطة ملهمة وحاسمة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية.

المبادرة السياسية من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة، التي حملت عنوان: " الميثاق الوطني من أجل النهضة والكتلة التاريخية الجزائرية الجديدة" هي خارطة طريق أو استراتيجية وضعها الدكتور قادة جليد أستاذ وباحث أكاديمي بجامعة وهران ونائب سابق، هي عصارة جهد فكريٍّ لرجل جنّد نفسه وفكره فكان له تصوّرٌ خاص لجزائر الغد، جزائر تبدأ أولا بتحرير العقل الجزائري الجديد وكل الطاقات والمبادرات التي كانت كامنة ومقموعة كما يقول هو، هي منعطف تاريخي نهضوي يُعَبِّرُ عن حركية إيجابية فاعلة في المجتمع تمس حياته الروحية والعقلية والمادية وتعكس طموحاته وتطلعاته في الحياة، هي تحوُّلٌ اجتماعي وحضاري من خلال بناء إنسان جزائري جديد، المبادرة تطمح إلى فتح نقاشٍ حُرٍّ ديمقراطيٍّ لتحريك العمل الفكري والثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري أي بين النخبة والجماهير، الملاحظ أن هذه المبادرة تندرج ضمن مبادرة رئيس الجمهورية في التأسيس لخطاب سنَوّيٍّ رئاسيٍّ أمام ممثلي الشعب والأمّة وفي إطار هذا المسعى.

 وقد حملها الدكتور قادة جليد على عاتقه وتحمّل مسؤولية تبعاتها، فهي تعتبر قوة اقتراح بعيدا عن المصالح الفئوية والطبقية والتجاذبات السياسية والإصطفافات الحزبية والإيديولوجية، وتعتبر هذه المبادرة مخرجات الحراك الشعبي الذي كان هبّة شعبية والروح التاريخي الجزائري، بل بوصلة فكرية حضارية تمثلت في يقظة الوعي الشعبي، بل الوعي الجماهيري لمجابهة كل أشكال الانحرافات التي حدثت والتي قد تتكرر وتتفاقم وتتجدد في المستقبل، هي الانحرافات التي أخرجت الشعب الجزائري إلى الشارع ليطالب بالتغيير والعدالة الإجتماعية والمساواة والإعتراف بحقوق الإنسان وإنهاء العصبيات من التأثير في التاريخ، هذا الحراك الذي كان عبارة عن تدافع، أي إبطال فكرة الصراع من الأساس، طالما التاريخ ليس صداما ولا صراعا حضاريا، خاصة وأن العالم اليوم متعدد الأقطاب والثقافات وهذا التعدد والتنوع أخذ في الانبثاق، لا شك أن هذه هي الأسباب التي دفعت بالدكتور قادة جليد إلى طرح هذه المبادرة في محاولة منه تحويل أفكار الصدام إلى فكرة التفاهم بين أبناء البلد الواحد ونبذ الكراهية العميقة بينهم، في زمن عمقت فيه التناقضات وغُيِّبَتْ المرجعيات والطلائع، فهبّ البعض الى الهجرة وبقي إلا الصّامدون، لكنهم أحيلوا على التقاعد القسري.

و تشمل هذه المبادرة كما قال هو على مسافة واحدة من الجميع، بين السلطة والمعارضة من جهة وبين السلطة والأغلبية الرئاسية من جهة أخرى، وهي تطمح إلى فتح نقاش حر ديمقراطي وتحريك العمل الفكري ة الثقافي والسياسي داخل المجتمع الجزائري أي على مستوى النخبة والجماهير، كما تأتي هذه المبادرة بعد فشل المبادرات السياسية السابقة، انخرطت فيها أحزاب ومنظمات وجمعيات لكنها انتهت بالفشل لأسباب، أهمها أن السلطة لم تكن طرفا في هذا المبادرة ثم ان أصحاب المبادرة لا يملكون وسائل وأدوات التغيير الإجتماعي وغيرها من الأسباب خاصة مسألة القيادة والتأطير، كذلك الاجتهاد في صياغة الحلول الملائمة لمشاكل العصر، وإن كانت تصلح لزمن سابق فهي ( أي المشكلات) قد لا تكون صالحة في زمننا هذا وفي زمن لاحق في مواجهة متغيرات قد لا يكون البعض قد تصور إمكانية حدوثها، ولذا جاءت مبادرة الدكتور قادة جليد، التي تأسست على نظرة استشرافية للمستقبل القريب والبعيد.

ميثاق وطني وكتلة تاريخية جزائرية من أجل النهضة

أراد صاحب المبادرة أن يرفع ثقافة اليأس في الجماهير وبخاصة الشباب والتيئيس التي أضحت أكثر الثقافات رواجا في الوطن والسلبيات الأخرى كظواهر التبعية وقصور الأنظمة التربوية وحتى الثقافية ومحدودية الفكر، وأن يدخل المواطن في دائرة النقاش، بعد أن سعت أطراف إلى إجهاض أيّ مشروعٍ فكريٍّ من شأنه أن يغير الواقع المرير نحو الأفضل ووضع حدٍّ لكلِّ ما يكرس الترف الفكري والثقافة الاستهلاكية، فمن خلال قراءتنا لهذه المبادرة يلاحظ أن الدكتور قادة جليد، أراد أن يرسم الأبعاد الاستراتيجية لمشروعه الإصلاحي والحضاري المرتبط بقضايا النهضة والتقدم، يقول الدكتور قادة جليد: " إن هذه النهضة ترتكز على مفهومين أساسيين هما: الميثاق الوطني والكتلة التاريخية الجديدة، وكلا المفهومين لهما مرجعية فكرية وسياسية في تاريخ الجزائر الحديث، فالميثاق الوطني هو بمثابة عقد اجتماعي، يشمل السلطة والمجتمع بكل مكوناتها وطاقاته، فهو يؤسس لمرحلة تاريخية جديدة، أي أنه قابل للتجديد وإدخال عليه أهدافا أخرى تتلاءم مع المرحلة والظروف.

 وقدم الدكتور قادة جليد عيّنة من الأهداف والمبادئ التي يرتكز عليها الميثاق الوطني من أجل النهضة خاصة في الجانب الإقتصادي، من أجل خلق اقتصاد إنتاجي خارج المحروقات وتبوأ الجزائر مكانة معتبرة في الاقتصاد العالمي، على أن تكون ضمن العشر دول على مستوى العالم في مجال الاقتصاد، ويذكر صاحب المبادرة أن الأهداف والمبادئ التي يكون حولها إجماع (ميثاق وطني) هي ذات طابع نهضوي من حق الجميع الانخراط فيها لتحقيقها وتقييمها من خلال كتلة تاريخية جديدة، تضم كل فعاليات المجتمع، تتحول فيها المعضلة إلى وسيلة وحافز، كما أن المتأمل في هذين المفهومين قد يتراءى له أن تحقيقهما يعتمد على الذكاء السياسي خاصة في إطار العولمة، فمن الصعب تحديد الذكاء السياسي مثلا ونحن نعيش ثقافة اللاثقافة، وبالتالي يصعب الوصول بها إلى العالمية، والثقافة السياسية لا تستند إلى العلم، بل يمارس هذا الأخير عن طريق السياسة لبلوغ "الرشد السياسي" وتحقيق الحكم الراشد في إطاره النهضوي الحداثي، لاسيما والجزائر تتوفر على خزّان لا ينفذ من التراث الحضاري والثقافي الذي ساهمت فيه كل جهات الوطن وحان الوقت لإحيائه وإثرائه، كونه تراث يزيده التنوع، ثم أن هناك في كثير من المواقع نخبٌ على درجة عالية من الكفاءة والوفاء للثورة ومكاسب النصر الذي حققه جيل نوفمبر وفي مقدمتها الاعتزاز بالمرجعية الوطنية وأبعادها الحضارية.

 وقد شرح الدكتور قادة جليد في مبادرته وجهة نظره، بحكم أنه أستاذ الفلسفة بجامعة وهران وله رؤية استشرافية للمستقبل، فهو يعتقد أن ذلك يعتمد على الإيمان أكثر، أي إيمان الفرد بمن يحيط به سواء داخل الأسرة أو خارجها (المجتمع والمؤسسة)، والإيمان أيضا بقيمة الأهداف التي يسعى الإنسان الى تحقيقها مع الوعي المشترك والجماعي بوحدة المصير، مضيفا أن هذه القوة الداخلية هي التي تعطينا القدرة والذكاء اللازم لمواجهة تحديات العولمة في تجلياتها المختلفة، الإقتصادية والسياسية والثقافية والإجتماعية...الخ، أمّا عن الكتلة التاريخية وإن كانت مفهوما شائعا في الأدبيات السياسية الحديثة والمعاصرة، فهي في المخيال الجليدي (نسبة إلى قادة جليد) هي ائتلاف فكري وتوافق وطني وإجماع داخلي محكوم برؤية استراتيجية ووفق أهداف محددة، تتشكل من السلطة والمعارضة معًا، وهي كما يقول ليست بديلا عن الأحزاب السياسية أو المنظمات الأخرى ولا يعني أن تتخلى الأحزاب عن برنامجها وتجمد نشاطها، وبالتالي يمكن تشكيل هذه الكتلة من جديد خاصة إذا كان الأمر يتعلق بقضايا النهضة والتقدم، بعيدا عن الأدلجة، إنها دعوة للدفاع عن مقومات الشخصية الوطنية وتثمين الموارد البشرية باعتبارها الثروة الوحيدة المتجددة، كل ذلك لا يتوقف على جيل ولا ينتهي بجيل.

***

قراءة علجية عيش بتصرف

لعلَّ كثرة المقالات، التي تجاوزت 200 مقالة حتى اليوم، ودار كتّابها ولهى حول كتاب: «الدين والظمأ الأنطولوجي»، بوصفه من الكتب التي أمتعتْ وأفادت قارئيها، في قراءة المسألة الدينية قراءة معاصرة، لم تدع المزيد من القول لمن يريد الكتابة عن هذا الكتاب، فما يُراد أن يُقال، قد قيل فيها، ولعلَّ هذا التصوُّر صحيح، في ما لو تمّت مراجعتها بدقّة، ففيها الكثير من التوصّلات التي اتّفق أصحابها عليها بشأن هذا الكتاب ومؤلفه عبد الجبار الرفاعي. وقد لا أجد ثمّة موجبا لي يسوِّغ الكتابةَ عن هذا الكتاب، إلا إذا أردتُ الانطلاق من مُمهِّدات تُتيح لي مخرجا من هذا المأزق، من حيث التلقّي، بوصفهِ يتغايرُ من شخصٍ لآخر، حسب المرجعيات المعرفية التي تُحدِّد جنس النص المقروء، وترسيم حدوده الأجناسية بما يُميِّزُه عن سواه.3476 الدين والظمأ الأتطلوجي

ومن هنا أجد في هذا الكتاب، منطلقات تسمح لي أنْ أصِف متنَ هذا الكتاب، بأنه يمثِّل نصّا في الرحلة، بمعنى أنَّه يدخل ضمن «أدب الرحلة»، ذلك الأدب الذي يدور حول مشاهداتٍ ينقلها لنا الرحّالة عبر مدوّناتهم، والرفاعي في كتابه «الدين والظمأ الأنطولوجي» كان رحّالة لا على النحو المعتاد عند الرحّالة، إذ يدوّنون لنا مشاهداتهم في الأماكن التي حلّوا فيها، أو التي ارتحلوا إليها، ينقلون لنا عادات وتقاليد وقيم الجماعات التي اختلطوا بها، بل كان رحّالة يجوب في فضاء الذات، وأقاليم المعرفة التي حطَّ فيها ركابه، مستخلصا لقارئه في كلِّ تلك الرحلات الذاتية والمعرفية، دروسا يضعها بين يدي قارئه، عسى أنْ يستفيد منها، ولا يعيد الكرّة التي هدرت من عمر المؤلِّف الرفاعي الكثير، فكان له أنْ يجوب في طيات الذاكرة، في مواقف كانت له في مراحل مختلفة من حياته، منذ نعومة أظفاره، وصولا إلى ما انتهى إليه، وقد لا يُخفي ضيق ذرعه مما كان عليه في السابق من تجارب ومواقف لمن مرّ بهم من أشخاص أو مؤسسات، كان لها الأثر في تحجيم الذات وتقييد إرادتها، ما جعله يُمهِّد لهذا الموقف النقدي من تلكم التجارب في حديثه في بداية كتابه عن (نسيان الذات) محترزا ومتحرِّزا في بداية هذا الفصل من سوء الفهم الذي يطال تحديد دلالة الذات، بما يريد الحديث عنه، وهي الذات الفردية «التي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري، فمن دونها يفتقد كل إنسان ذاته، ويصير نسخة مكرَّرة متطابقة مع نموذجٍ مُحدَّدٍ مُصاغٍ سلفا، وتجري (نمذجة) الكل في سياق صفات ذلك النموذج وسماته وخصائصه، وكأنَّ الجميع يُسكَبون في قوالب مُتماثلة، تُلغى فيها اختلافاتهم وتمايزاتهم، وتُمحى البصمةُ الشخصية لكلٍّ منهم. هنا يتنازل الفرد عن ذاته، ولا يكون سوى بوقٍ يتردَّدُ فيه صدى أصواتِ الآخرين، فيما يختفي صوتُهُ الخاص». في هذا التوضيح أراد الرفاعي من ورائه إيصال رسالةٍ معرفيةٍ توجز كل ما قطعه من أسفار معرفية خاضها في حياته، وهي الحرّية التي ينبغي لها أنْ تتحقّقَ فيها الذات، الذات لا يرى لها وجودا ولا صيرورة إلا عبر ما تُحقِّقهُ من حرِّيةٍ وتتحقّقَ فيه، وهي في منظوره ليست أمرا ناجزا يمكن أنْ يأخذ أثره بمجرّد التعرّف عليه نظريّا؛ لأنَّ «وجود الحرية يعني ممارستها. الحرية لا تتحقّق بعيدا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته. لحظة تنتفي الحرية تنتفي الذات، إذ لا تغتني الذات وتتّسع وتتكامل إلا بالحرّية». وهو إذ يؤكِّد ما للحرية من أثرٍ في تحقيق الذات، فإنه يُدرك في الوقت نفسه ما للعبوديةِ من هيمنةٍ على مسيرة الإنسان بصورةٍ عامة، في جعله مُكبّلا في مواقفه وآرائه لآخرين، معبّرا عن تلك العلاقة الضِدِّية بالجدل الذي لا ينتهي بين المقولتين، إلا أنَ الطريف في نظرته لتلك الجدلية العقيمة، أنّه ذهب إلى ما ورائها، باستنتاجه «أنَّ هذا الجدل هو مصدر الحركة، ومولِّد الطاقة لاستمرار الحياة. وكأنَّ هذا الكائن مجبورٌ في حرّيته، بقدر ما هو مجبورٌ في عبوديّته، ذلك أنَّ الكائن البشري في توقٍ أبديٍّ للحرية، فهو لا يكون إلا بالحرية. لو لم تطارده عبوديته على الدوام فلن يتطلع للحرية، الحريةُ بطبيعتها في صراعٍ أبديٍّ مع العبوديّة»، هذه النظرةُ الإيجابية للعبودية بوصفها واقعا تاريخيّا مر على البشرية وما زال، لا يعني الارتهان إليه، بمقدار الانطلاق منه إلى ما يُحقِّق للذات وجودا وهويّة، وأعني به الحرّية. وهي تُذكِّرنا بالنظرة الإنسانية التي أشار لها الكثير من المدوّنات في الأديان السماوية أو الوضعية، ولعل واحدة من مقولات شمس الدين التبريزي وهي: (لولا المرض ما عرفنا الصحة، ولولا الظلام ما عرفنا النور، ولولا المعاناة ما عرفنا السعادة، ولولا الفراق ما عرفنا الحب)، تُذكِّرنا بفحوى ما أشار إليه الرفاعي في نظرته الإيجابية لتلك العلاقة الجدلية بين مقولتي الحرية والعبودية، إلا أنه لا يكتفي في بيان هذه النظرة الإيجابية، فيضع لنا اشتراطات الحرّية وما ينبغي تمهيده لتحقيقها، وما تؤدِّي إليه من مآلات، وكأنه ينفي مسبقا سوء الفهم لمن يتصوَّر عبر هذه الجدلّية أنَّ كلا المقولتين متوازنتان قوّة وتمثّلا وتأثيرا، وذلك في قوله: «الحريةُ أشَقُّ من العبوديّة؛ ذلك أنّها: إرادةٌ، وحضورٌ، واستقلالٌ، وشجاعةٌ، ومسؤوليةٌ، وخيارٌ إيمانيٌّ، وموقفٌ حيال الوجود. أنْ تكون حُرّا فهو يعني أنَّكَ تُواجهُ العالمَ كلَّهُ، وتتحمَّلُ كلَّ شيءٍ وحدَكَ، العبوديّةُ: هشاشةٌ، وغيابٌ، واستقالةٌ، وخضوعٌ، وانقيادٌ، وتفرُّجٌ، وتبعيَّةٌ، ولا موقف، ولا أباليّةٌ، ولا مسؤوليةٌ. أنْ تكونَ عبدا يعني أنَّكَ لستَ مسؤولا عن أيِّ شيءٍ، حتّى عن نفسِكَ». هذه اللغة البيانية الشفيفة التي تذكِّرنا بخطاب الفرنسي إيتيان دو لابوسي في كتابه الشهير: «مقالة العبودية الطوعية» وهو يفرِّق بين الحرِّية والعبودية، من حيث أثر كلِّ واحدٍ منهما على من يتمثّلهما سلوكا وموقفا في حياته، بقوله: «إنَّ الشجعان لا يهابون الخطر أبدا في سبيل نيل الخير الذي يبتغون، ولا يرفض ذوو الفطنة مكابدة المشقَّة مطلقا، أما الجُبناء والخاملون، فلا يعرفون مكابدة الألم ولا السعي إلى الخير، فيقفون من المكارم عند التمنِّي، أما فضيلة الإرادة فمنتَزَعةٌ منهم بسبب تخاذلهم. وأَمَّا الرغبةُ في الخيرِ فتظلُّ لديهم بفعل الطبيعة، تلك الرغبة، بل تلك الإرادة المشتركةٌ بين الحكماء والأغبياء، وبين الشجعان والجبناء، للتوق إلى كلِّ الأشياء التي تجعلهم، باكتسابها، سعداء ومغتبطين: يبقى شيءٌ واحدٌ لا يقوى الناس على تمنِّيه، ولا أدري لماذا؟ إنه الحرِّية، وهي نعمةٌ كبيرةٌ ومُمتِعةٌ جدّا، فإذا فُقِدَت تتوالى الويلات، وتفقد النِعَمُ بعدها كلَّ طعمها ومذاقها، لأنَّ العبوديّةَ أفسَدَتها».

  وعودة إلى ما انتهى إليه الرفاعي أعلاه، نجده يُلخِّص بإيجاز، سبب اختيار العبودية، على ما فيها من مآلات وخيمة على الذات، تعصف بوجودها الواعي المُدرَك، بأنَّ «الناس بطبيعتهم ينفرون من التفكير، ومن كلِّ ما يُوقظ العقلَ من سُباته، لذلك يُفتِّشونَ على الدوام عمَّن يُفكِّرُ عنهم بالنيابة، فيعودونَ في كلِّ شيءٍ يسيرٍ أو خطيرٍ في حياتهم إلى منْ ينوبُ عن عقلهم. من لا يُدرِّبُ عقلَهُ على التفكير لن يتعلَّمَ الاستقلالَ في التفكير. لا نتعلمُ التفكيرَ إلا بالإدمانِ على التفكير»، وهي الحقيقة التي أراد الرفاعي استظهارها في كلِّ ما خاضَ فيه من مواقف وتجاربَ عبر محطّات حياته التي يعرفُها من خبرَ سيرته عن قرب، ما جعله وفقا لتلك النتيجة أنْ يخرجَ من طوق الجماعات التي آمنَ بطروحاتها في المرحلة العمرية المبكرة من حياته، محافظا على ما تبقّى من ذاته، بل مُعيدا صياغتها وفقا لتراكمٍ من التجارب الثريّة بالدروس، مرتحلا إلى خطابٍ إنسانيٍّ داخل المنظومة القيمية الإسلامية، أرحبَ من خطاب تلكم الجماعات، وهو خطابٌ يرحِّلُ فكرة الجماعة/ المذهب/ الفرقة الناجية، إلى غير رجعة من منطلقات أفكاره التي يسعى لترويجها الآن، في ما صدر عنه من مؤلفات، لأنَّه لا يرى في أدبيات الجماعات والأحزاب مهما اختلفت توجّهاتها سوى نسخةٍ واحدةٍ تتكرّر من حيث المضمون الذي يُكرِّس ذوبان الذات في الجماعة: «أما قيمة الفرد، ومكانتُهُ، وحاجاتُه الذاتية، الروحيّة، والعاطفية، والوجدانيّة، والعقليّةُ، فلا أهميّةَ لها، إلا في سياق تموضعها في إطار هذا المركَّب، الذي هو الجماعة ومتطلّباتُها»، وهذا ما يسعى الرفاعيِّ إلى مناهضته بكلِّ ما أوتِيَ من ثراءٍ معرفيٍّ أتاح له الخوضُ بعُمقٍ ودراية في مثابات متنوِّعة في مجالاتها المعرفية لكشفِ الباطن النفسي، والتمظهر الاجتماعي عند ممثِّلي تلك الجماعات في القديم والحديث، فضلا عن استعراض مواقف من سيرته تكشف لنا ما كان لتلك السيرة من أثرٍ عميق في تشكيل الذات وصياغتها، بما جعل كتابه رحلة تجمع بين المعرفيِّ والجغرافي منها، ويُقدِّمُ لنا من خلالها ضروبا من الخلاصات الضرورية لقراءة الدين ونصوصه في سياق يحفظ كرامة الإنسان وحريته، ولا يسحق الذات في التخندق الهويّاتي بعيدا عن روح الدين. لعل هذه الفكرةَ هي الأساس في هذا الكتاب.

***

د. وسام حسين العبيدي

أكاديمي عراقي، أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة بابل في العراق.

تربطني بالدكتور محمد جواد فراس علاقة وطيدة منذ العام 1975 وقت دراستنا في الاتحاد السوفيتي (كان يدرس الطب في معهد كوبان الطبي المسمى بالجيش الأحمر في مدينة  كراسنودار بروسيا الاتحادية) وحينما زار مدينة أوديسا في جنوب أوكرانيا كنت وقتذاك أدرس في معهد الاقتصاد الوطني للدراسات العليا.  تعرفت عليه اثناء زيارته للمرحوم طلال الصفار والذي كان يدرس معي في نفس المعهد. ألتقينا بعد ذلك في المؤتمرات الطلابية التي كانت تعقد في مدينة موسكو.  ومن باب الصدف الجميلة أن ألتقي بمحمد في شهر تموز العام 1979 في مصح ليفاديا الشهير في شبه جزيرة القرم في مدينة يالطا وهو المكان الذي انعقد فيه مؤتمر يالطا 4-11 شباط 1945 القرم بين ستالين وتشرشل وروزفلت.

في أحد أيام شهر تموز 1979 عرفنا من مسؤولة القسم الثقافي في منتجع ليفاديا بأن سواح عراقيين سوف يزورون المنتجع. كان الوضع السياسي في العراق متوترا وخصوصا بعد استلام صدام حسين رئاسة جمهورية العراق بعد تنحية أحمد حسن البكر عن سدة الحكم ومرور أكثر من سنة على اعدام 30 رفيقا من الحزب الشيوعي العراقي بسبب إقامة تنظيم للحزب الشيوعي العراقي داخل القوات المسلحة، قررنا كتابة شعارات على جدار سياج الطريق المؤدي الى المنتجع باللغة العربية  حتى نجلب انتباههم تندد بما يجري في العراق من اعدامات واعتقالات وخنق الحريات في ظل نظام قمعي ديكتاتوري.  تمكننا بعد ذلك من التعرف على أحد السواح العراقيين حتى نعرف رد فعل الشعارات التي كتبناها على المجموعة السياحية. اتضح أن هذا الشخص هو أستاذ في جامعة بغداد في قسم الاجتماع بكلية الآداب وهو أخ زميلنا ورفيقنا نصري فارس الهيتي الذي كان يدرس في جامعة كييف في قسم العلاقات الدولية (دراسات عليا). لم يتمكن السواح العراقيون من ابداء وجهات نظرهم بالشعارات بسبب خوفهم من وجود رجل أمن مع المجموعة السياحية يرافقهم من العراق.3450 محمد جواد فارس

كان زميلنا محمد جواد فارس بالإضافة الى دراسته للطب في معهد كوبان الطبي في مدينة كرسنودار، يدرس في معهد الماركسية-اللينينية فرع مدينة كراسنودار التابع الى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في الفترة الزمنية 1977-1978 لإعداد الكوادر الحزبية وحصل على دبلوم اختصاص بالشيوعية العلمية في نهاية الدراسة وتقديم الامتحانات اللازمة.

يتمتع الدكتور محمد جواد فارس بسمات الطبيب الذي يطبق بحق قسم ابقراط الطبي. هناك مقولة روسية عن وجه الطبيب الذي يمارس مهنة الطب بكل اخلاص وتفان من حيث صفاء الوجه والقلب ومساعدة الناس وخصوصا المرضى منهم والذين يحتاجون اليها حيث تنعكس على تصرفاته وتفانيه في خدمتهم وتقديم المشورة الطبية (الطبيب لا يزعل من مرضاه - مثل روسي)

عمل دكتور محمد في أنغولا (1981-1982) ضمن الفريق الاممي لمساعدة الشعب الأنغولي في بناء دولته التي تحتاج العون من الأحزاب اليسارية والتقدمية العربية والأجنبية. وبعد انتهاء مدة عمله هناك توجه الى سوريا ومن سوريا الى لبنان حيث عمل في مشفى ميداني في منطقة المصيطبة وسط العاصمة بيروت. عمل الطبيب محمد جواد في أكثر مناطق لبنان الساخنة والخطرة وقدم خدماته الطبية لمختلف الناس بغض النظر عن انتمائهم السياسي والفكري والعرقي والمذهبي والطائفي ...الخ وهذه هي خصلة إنسانية من المفروض أن يتمتع بها كل طبيب أدى القسم الطبي يوم تخرجه من كلية الطب في جميع أنحاء العالم.  

أما في دمشق فكان يفحص المرضى ويقدم لهم العلاج اللازم ويزورهم في بيوتهم ليطمئن عليهم ويتابع التزامهم بالنصائح الطبية التي يقدمها لهم.

لا أريد في هذه المقالة سرد ما جاء في الكتاب بتفصيل واسهاب وإنما توضيح النقاط المهمة فيه. أما مواقف الكاتب السياسية انطلاقا من الظروف التي مر بها العراق فهذه وجهة نظره الخاصة به ومدى فهمه وادراكه للظروف السياسية التي مر ولا زال يمر بها العراق بالدرجة الأولى. كلنا نحب العراق وكل فرد منا ينظر الى حل مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية انطلاقا من خبرته السياسية والاقتصادية والفكر الذي يستند عليه وهو حر في رأيه وتصرفاته. لقد بلغنا من العمر عتيا وها نحن نتجاوز السبعين وكل منا مر بتجارب غنية وعمل في أكثر المناطق سخونة وخطورة وكل منا يحمل تصورا خاصا لما يجري حوله.

ولهذا فأنا أحترم وجهات نظر الدكتور محمد جواد فارس فيما يتعلق بمواقفه اتجاه العراق ومستقبله. يمتلك الدكتور محمد علاقات واسعة وكبيرة مع الكثير من القيادات السياسية في الدول العربية والأجنبية: سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وليبيا واليمن وليبيا والجزائر والسودان وأنغولا...الخ ولهذا فهو يتمتع برأي يختلف عن بقية الناس والقادة السياسيين ويتمكن من طرح وجهات نظره بكل عقلانية وفصاحة وتروي.

أن كتابه الموسوم: نصف قرن في رحاب الحركة الشيوعية يستحق القراءة والتقدير العالي وجدير بالاهتمام وسوف يشغل مكانة مهمة في المكتبة العربية.

المؤلف: د. محمد جواد فارس

عدد الصفحات: 186 صفحة

الناشر: دارالرافدين، بغداد. العراق. الطبعة الأولى . حزيران/ يونيو، 2023  

الرقم الدولي: ISBN : 978-9922-691-25-1

***

أ‌. د. سناء عبد القادر مصطفى

النرويج، أواسط شهر شباط العام 2024.

تفتنني دائما الكتب التي تؤلّف عن القراءة أو عن الكتابة وكأني في بحث دائم عن تفسير هذا الشغف اللامتناهي الذي يصيبنا نحن الكائنات الورقة لأكتشف أسراره، فكنت أجد متعة لا توصف مصحوبة بفوائد كثيرة حين أطالع ثلاثية ألبرتو منغويل «تاريخ القراءة» و«المكتبة في الليل» و«يوميات القراءة» أو أقرأ كتاب برنار بيفو «مهنة القراءة» لذلك سارعت إلى اقتناء كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة .. فصل من سيرة كاتب» للدكتور عبد الجبار الرفاعي والصادر قبل أشهر عن منشورات تكوين ودار الرافدين. ولم أكن قرأت للرفاعي سوى مقالات متفرقة كانت تصادفني أو مقالا مطولا عن زيارته لقونية مدينة جلال الدين الرومي حمل عنوان «في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى».

أما كتابه هذا فهو سياحة فكرية يستحسنها كل مدمن لرائحة الورق من أمثالي، والتي لخصها منغويل مرة قائلا: «عندما قرأت في أحد الأيام أنّ سرفانتس كان يطالع – من فرط حبّه للقراءة- حتى قصاصات الورق المرمية على قارعة الطريق، أحسست بشعور جميل لأنني كنتُ أعرف ماذا يعني هذا».

يقع الكتاب في مئة وثمانين صفحة موزعة على مقدمة وثلاثة وعشرين فصلا، منها سبعة فصول عن القراءة، والبقية عن الكتابة. وقد تداخلت الأفكار بينهما أحيانا لارتباطهما العضوي. وإن كان المؤلف يرى القراءة ممتعة أكثر من الكتابة، لذلك وصفها في عنوانه ب«المسرات» المتعددة المختلفة، في حين أن الكتابة أشبه بالولادة، فهي مخاض عسير موجع، وبخاصة لمن يعتبر الكلمة مسؤولية.2004 مسرات القراءة

وأول جمل الكتاب تعطينا مفتاح شخصية المؤلف وتلخص لنا فحوى كتابته حين يقول «أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء، لم تمنحني القراءة إجازة ليوم واحد في حياتي. لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف ما دمتُ حيًا». فهذا القارئ المدمن المزمن الذي بدأت علاقته بالكتاب متأخرة نسبيا ما عدا الكتاب المدرسي لأنه ولد في بيئة فقيرة في الأهوار جنوبي العراق تعيش الكفاف في عائلة فلاحين، و«الفلاحون في ذلك الوقت لا يقرأون ولا يكتبون». حينما التقى وهو طالب في الثانوية بالجزء الأول من كتاب «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث» للدكتور علي الوردي وبهرته لغة الكتاب الواضحة المباشرة والجرأة والشجاعة العقلية لمؤلفه بدأ رحلة مع القراءة لا تنتهي. واللافت للنظر أن ثاني كتاب فرض حضوره عليه كان «معالم في الطريق» لسيد قطب. وحين تخلص من فتنته أفرد فصلا كاملا لنقده بعنوان «الكتابة الإيديولوجية» إذ رآه نفقا مظلما ومتاهة خطيرة أضاعت أجيالا، وبعضهم لم يستطع الخروج منها طيلة حياته. أما ثالث ما جرّه إلى جنة القراءة فكانت مجلة العربي، التي لا ينكر فضلها عليه وعلى جيله، لكنه يأخذ عليها فيما بعد ثبات أبوابها واحتكار الكتابة فيها من قبل أقلام مكرسة لا تتبدل.

يعتبر الدكتور الرفاعي إدمانه للقراءة وقوعا في أسر الكتب، كما سمى احد فصوله. ويحلو لي أن أسميه التورط العاطفي مع الكتاب، فهو أشبه بعلاقة حب فيها شوق وعذاب.. ألا يصلح هذا الوصف لحبيب أو حبيبة إذا حذفنا لفظة كتاب.. «وجود الكتاب يشعرني بالأمن النفسي ويؤنسني حين أشعر بوحشة الوجود» بل فيه ما في الحب من وجع وأذى يعطي الرفاعي مثلا على ذلك بقوله «ما يخدعني من العناوين يؤذيني». هي عملية أنسنة الكتب، وصحبة فعلية مع كاتبيها بحضورهم الجسدي عبر الورق وحضورهم المعنوي بأفكارهم، فهم «كأنهم يتحدّثون إليه ويتحدث إليهم يضحكون فيضحك معهم، ويبكون فيبكي، يتألمون فيتألم يكتئبون فيكتئب».

ومن أحب شيئا استكثر من حضوره، لذلك أولع الدكتور عبد الجبار الرفاعي بتأسيس المكتبات أينما كان. لكن مصير مكتباته كان عاثرا، فالأولى التي كوّنها في النجف صودرت ونهبت، والثانية التي جمّع كتبها في الكويت كان نصيبها الحرق، بعد أن خشي مالك البيت من أن تؤدي إلى هلاكه، أما الثالثة فبيعت. ويصف حاله بعد البيع بهذه الجمل الموجعة «اكتأبتِ العائلة واكتأبت أنا، وكأنّ قدرنا الأبدي رثاء مكتباتنا.. عندما يتكرر فقدان المكتبة يغرق الإنسان بكابوس خسرانه كنوزه النادرة». ومآل مكتبات الأدباء والعلماء موضوع جدير بالتأمل بقدر ما فيه من الألم. فكم من مكتبة فيها نوادر صرف صاحبها في جمعها الوقت والمال رماها الورثة في المزبلة لأنها تشغل حيّزا من البيت هم بحاجته.

ورغم أن الرفاعي يرى أن «لا شيء أقسى مرارة على القارئ من ضياع كتب عاش معها وعاشت معه، وأنفق وقته في دراستها ومطالعتها» إلا أنه يلتمس العذر للورثة أو للأبناء. فعالمهم غير عالم آبائهم، وهم يقرؤون إلكترونيا ويفتقرون لحنين الآباء للورق. وهذا يستطرد بنا إلى فكرة أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي الذي نشأ في بيئة تقليدية محافظة، وقضى سنوات طويلة من عمره دارسا ومدرسا للعلوم الدينية، وهو حاصل على ماجستير في علم الكلام ودكتوراه في الفلسفة الإسلامية، يملك مرونة فكرية متسامحة مع الجيل الجديد وآليات اكتسابه للمعرفة، فهو لا يرى الكتابَ الورقي الوسيلة الوحيدة للحصول على المعرفة، بل يرى أن الجيل الحالي قارئ من خلال التطبيقات على هاتفه الذكي ف«مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات ويتكيف وفقا لها». ويدخل ضمن فعل القراءة مشاهدة الصور وسماع التسجيلات الصوتية ومتابعة الفيديو . وكلما اتسع مجال القراءة اتسعت بموازاته الكتابة بأنماطها وأوعيتها المتجددة.

يحفل كتاب «مسرات القراءة ومخاض الكتابة» بالكثير من التأملات حول فعل القراءة وأفكار الكاتب فهو ضد القراءة العشوائية، إذ ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان بل نوعيته، ويرى هذه القراءة غير الممنهجة تبذيرا للعمر بقراءة كتابات تفقر العقل كما عنون أحد فصوله ف«ما يفقر العقل ويشيع الجهل من الكتب أكثر بكثير مما يوقظ العقل ويبعث الوعي». وهو يرى أن كثيرا من الكتب الدينية تدخل ضمن الصّنف الأول لأنّ مؤلفيها بدعوى التعلّم الديني يرون أنهم يمتلكون الحق المقدس في التحدث بكثير من الثقة عن كل شيء يعرفونه ولا يعرفونه، ويكلفون طلابهم الفقراء لينتجوا لهم كتبا كثيرة «من ركام كلماتهم». ويضع ضمن تلك الكتب التي تفقر العقل وتشيع الجهل ما يندرج تحت مسميات «التنمية البشرية» و«تطوير الذات» و«علم الطاقة النفسية» بل يراها، حتى وإن كانت الأكثر مبيعا وانتشارا، مبنية على أوهام وأساطير وشعارات غير علمية تتلاعب بمشاعر الناس، ويعتبر كاتبيها منتحلي صفة فهم يمارسون الطب النفسي دون أن يتعلموه.

في القسم الأكبر من الكتاب فصول متعددة عن الكتابة فيقول عن نفسه بأنه يتهيب الكتابة كثيرا بل يخاف منها واللغة ترهقه فيها أكثر من الفكرة، كما أنه لا يمتلك طقوسا خاصة به للكتابة فلا قواعد ملزمة ولا عادات مستحكمة ولا أوقات صارمة دقيقة، بل طقسه الوحيد هو المراجعة المستمرة لما يكتب، فحتى عندما ينتهي من الكتاب ويصدر مطبوعا يبدي ويعيد فيه ليصبح كما وصفه «تتحول الطبعة إلى مسودة لطبعة لاحقة». ولأنه لم يتدرب على يدي أحد في تعلم الكتابة ولا يتقن تدريب أحد، فهو لا يؤمن أن يتدرب شخص ليصبح كاتبا حيث كتب «لا أعرف كاتبا عظيما ولد في مدارس تدريب ورش الكتابة» وإن كنت لا أتوافق معه تماما في هذه الفكرة فالكتابة صنعة، للموهبة دور فيها لكنْ للتعلم والتدريب والمران المتواصل دور آخر أكيد.

أسلوب الدكتور الرفاعي واضح مباشر مركّز فالكتابة عنده فن الحذف والاختزال وكثير من جمله تصلح للاقتباس مصبوبة في قالب حكمي مثل قوله: «الذكاء الفائق يمحو البراءة» و«رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب» و«عندما يُكتب الجرح يُشفى الإنسان» و «كلما احترقت مكتبة انطفأ شيء من نور العالم ». وفي الكتاب أيضا فصول عن الترجمة والكتابة والإيديولوجيا والكتابة في عصر الأنترنت والكتابة والقارئ ف«مسرات القراءة ومخاض الكتاب» يفتح آفاقا للتفكير أكثر مما يعطي إجابات يقينية، كُتبت فصوله بقلم قارئ كتب لخص حياته في هذه الكلمات «لو فرضت علي الأقدار أن أختار العيش مع الكتب أو البشر لاخترت العيش مع الكتب».

***

د. بروين حبيب

شاعرة وإعلامية من البحرين

....................

* بالتزامن مع صحيفة القدس العربية لهذا اليوم

 

في  بغداد او القاهرة ما أن ادخل جناح العربي للنشر والتوزيع في معرض الكتاب حتى اجد نفسي وسط غابة ملونة من العناوين المثيرة والمتميزة، عندها يبدأ الصديق العزيز محمد بدران يشير بمحبة الى للكتب التي صدرت مؤخرا ا. هذه رواية مترجمة عن الرومانية وهذا كتاب عن تاريخ الغطرسة، وتلك مذكرات سجينة سياسية، وكاتب صربي يروي حكايته مع حي الزمالك في القاهرة، وكتاب عن تاريخ الخبز، وهذه رواية عن جامع الكتب، وفي زاوية كتاب جديد عن ماركيز .. عناوين لعشرات الروايات والكتب المترجمة من معظم اللغات، وانا القي نظرة على هذه الغابة العجيبة من الكتب وقع بصري على كتاب بعنوان " اسطورة إيلينا فيراتي "، تصفحت الكتاب فوجدت الصديق سيد محمود قد كتب مقدمة قصيرة عن الكتاب الذي تحاول فيه مؤلفته " آنا ماريا جواداجني " تتبع لغز الكاتبة الايطالية  الشهيرة " إيلينا فيراتي " صاحبة رباعية نابولي " صديقتي المذهلة .. حكاية الاسم الجديد ..الهاربون والباقون ..حكاية الطفلة الضائعة " ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد .. في كتاب " اسطورة إيلينا فيرانتي  الذي ترجمته ندى سعيد تروي لنا الكاتبة والصحفية آنا ماريا رحلتها الى نابولي لملاحقة ابطال رباعية نابولي، ومثل بطلتلا الرواية " لينو " و" ليلا " تعود الكانبة الى الحي الذي جرت فيه احداث الرباعية لتحاول الاجابة على سؤال: ما وراء "إيلينا فيرانتي" التي اختارت أن تبقى في الظل وتقدم نفسها إلى العالم من خلال أعمالها واسم غير حقيقي؟! وقد  استطاعت ان تبيع من رواياتها ملايين النسخ وتتترجم الى اكثر من 40 لغة .

من يقرأ روايات إيلينا فيرانتي المولودة في نابولي عام 1943، يدرك كيف استعارة هذه الروائية  اللغز  حياة الآخرين والتظاهر بانها لم تكتبها فـ:" الكتب، بمجرد كتابتها، لا تحتاج إلى مؤلفيها"، هكذا تكتب في ردها على أسئلة القراء المتلهفين لمعرفة من هي هذه السيدة التي شغلت الايطاليين منذ ربع قرن .

قبل ان تجرب كتابة الرواية، كانت تملأ دفاترها المدرسية بيومياتها:" وانا فتاة صغيرة. كنت مراهقة خجولة.و كل ما كنت أجيد قوله هو كلمة نعم، ومعظم الأحيان كنت أبقى صامتة.اما في مذكراتي، فقد كان الامر مختلفا، كنت اترك لنفسي العنان وأسرد بالتفصيل ما يحدث لي يوميا، حتى الأشياء الخاصة جدا والغاية في السرية وكل ما كان يخطر ببالي من أفكار جريئة كنت ادونه على الورق" . ولانها خجولة كانت تخاف ان تقع هذه الاوراق في ايدي الاخرين:" كنت خائفة جدا مما كنت افعله: فقد كنت أخشى أن تكتشف تلك المذكرات وتقرأ " .

في العشرين من عمرها قررت التوقف عن كتابة المذكرات، وتحولت رغبة الكتابة عندها إلى: " كتابة قصة من بنات خيالي "، ورغم انها لم تجد الوقت الكافي للكتابة كل يوم، الا ان اصرارها على الكتابة جعلها تنهي اول رواياتها، تبدأ رحلة البحث عن ناشر، وستعثر عليه بعد اكثر من 25 عاما حيث قرر احد اصحاب دور النشر ان يجازف وينشر روائية لكاتبة مجهولة، رفضت ان تضع اسمها الحقيقي على غلاف الكتاب واختارت اسم " إيلينا فيرانتي " .

عام 1992 تصدر الرواية بعنوان " حبّ مزعج "، لم تكن تتوقع لها النجاح، فأصيبت بما يشبه الذعر عندما اخبرها الناشر ان الطبعة الاولى نفذت خلال اسبوع، كانت وهي تكتب الرواية تحاول ان تختفي وراء اسم مستعار، لان الاحداث التي ترويها يتعلق جانب منها بسيرتها الذاتية، وحكاية امها التي وجدت ميتة، وكان الشرط الثاني انها لن تعطي احاديث صحفية عن الرواية ولن تساهم بالترويج لها:" الكُتب لا تحتاج لاحاديث، انها بحاجة الى قراء فقط " ما أن ينتهي من كتابتها .

بعدها تتوقف عن الكتابة عشر سنوات، لتعود عام 2002 مع رواية "أيام الهجران" – ترجمها الى العربية الجزائري عمارة لخوص - وفيها يتداخل اليومي بالحدث العام الذي يجري في ايطاليا لترصد لنا فيراتي تقلبات النفس البشرية وامراضها الاجتماعية، ورغم نجاح الرواية الا ان الكاتبة ظلت متمسكة بان تختفي وراء اسم مجهول، فهي لاتزال خائفة:" من الخروج من قوقعتي "، وحين راسلها احد الصحفيين ليعرف سر الأختفاء وراء اسم مستعار، قالت له ألم تقرا ما كتبه يوما رولان بارت عن موت المؤلف، فالكتب ما ان تؤلف حتّى تكون في غير حاجة إلى مؤلّفيها.

في العام 2003 تصدر روايتها الثالثة " الابنة الغامضة " - صدرت بالعربية بترجمة شيرين حيدر – حيث يجد القارئ نفسه أمام استاذة جامعية في منتصف الأربعينيات من عمرها تلتقي بالصدفة بشابة وطفلتها. حيث يتحول هذا اللقاء كشف لعلاقات إنسانية متعددة أوّلها علاقة الأمومة التي تربط الصبية بطفلتها، والتي تربط السيدة الأربعينية بابنتيها. ونجد الروائية تناقش بجراة ما طرأ على المؤسسة العائلية من تغيرات، وجد النقاد في شخصية الاستاذة الجامعية ظلال من رواية غوستاف فلوبير الشهيرة " مدام بوفاري "، وحين يرسل لها احد الصحفيين عبر بريدها الالكتروني سؤال عن روايات فلوبير تجيب فيرانتي:" اكتشفت فلوبير عندما كنت صغيرة جداً في نابولي. فوقعت في حبه من اللحظة الاولى، وعندما قرات مدام بوفاري للمرة الاولى، قمت بسحب الرواية وشخصية إيما إلى العالم الذي اعيش فيه، ولكن قبل "مدام بوفاري" بفترة طويلة، كنت أحب (نساء صغيرات) التي ابدعت فيها الاميركية لويزا ماي ألكوت، هذه الرواية هي وراء حبي للكتابة."

العام 2011 يصبح حاسماً في حياة فيرانتي حيث تصدر روايتها " صديقتي المذهلة "، والتي ستصبح فيما بعد الجزء الاول من رباعية نابولي الشهيرة حيث باعت اكثر من عشرة ملايين نسخة – ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد - .كانت في البداية تريد ان تروي جانبا من حياة مدينتها نابولي من خلال تتبع حادثة اختفاء لينا او ليلا كما تسميها صديقتها المقربة إيلينا، ففي صباح احد ايام عام 2010 تتلقى إيلينا اتصالاً هاتفيا من ابن صديقتها ليلا يخبرها ان والدته البالغة من العمر 60 عاما اختفت منذ اسبوعين، ولا احد يعرف اين ذهبت، وتدرك إيلينا ان اختفاء صديقتها عمل لم يات من فراغ، وان هناك اسباب لايعرفها سوى ليلا المختفية . في تلك الليلة تبدأ إيلينا في وضع كل ما يمكن أن تتذكره حول ليلا على الورق، ابتداء من عام 1950 في نابولي عندما بدأت صداقتهما في اللحظة التي قررتا فيها صعود السلالم المؤدية الى شقة الدون آخيل . بعدها تكبر الرواية لنجد انفسنا في حي فقير من احياء مدينة نابولي نتتبع حكاية الطفلة العبقرية ليلا من خلال صديقتها إيلينا التي تنجح في ان تصبح روائية ..لنتعرف على سيرة مدينة خلال فترة زمنية تجاوزت النصف قرن، ونشعر ونحن نتابع بلهفة مصائر الأبطال خلال الاجزاء التتالية من الرواية (الاسم الآخر – الهاربون والباقون – حكاية الطفلة الضائعة) كأن الاحداث في المدينة أبدية لاتنتهي، حيث تقع ليلا وألينا في الحب والزواج والخيانة والبحث عن دور في العالم، والتمييز، والولادة، وتربية الأطفال، وأحيانًا تكون الحياة سعيدة، وأحيانًا غير سعيدة، وتتعرضان لتجربة الخسارة والموت..ووسط حي عمالي بائس تاخذنا فيرانتي في رحلة مشوقة، يمتزج فيها الحب والطموح بظلال ما بعد الفاشية، ومعارك اليمين الإيطالي ضد اليسار واغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات من القرن الماضي، لكن الشيء المدهش هو وصف حياة النسوة داخل هذا الحي، مشاعر الغيرة والعلاقات الجنسية والصداقة التي تختلط احيانا بالغيرة، والشجاعة المتعلقة بالامل، حتى تبدو لنا فيرانتي مهمومة بالعالم النسوي اساسا حيث تبدو الرباعية وكانها دفاع عن عالم المراة في مواجهة عالم ذكوري عنيف وعبثي وخلال مقابلة اجريت مع فيرانتي قبل اشهر من خلال بريدها الالكتروني قالت:" أن النساء - أمهات أو عازبات - يعانين الأمرين في الموازنة بين إدارة متطلبات الحياة اليومية وبناء مساحات الإبداع الذاتي، وهن غالبًا ما ينتهين إلى التضحية بطموحاتهن من أجل مشاعرهن نحو الشركاء والأبناء" .

على مدى اربع سنوات تواصل فيرانتي اصدار الأجزاء الاخرى من الرباعية لتختمها بالجزء الاخير " حكاية الطفلة الضائعة "، وعند سؤالها عن جزء خامس قالت:" كان من الصعب أن أستيقظ ذات يوم أفكر، لقد انتهت قصة ليلا وأيلينا".صحيح انني انتهيت من ذلك. لكن الامر مثل الولادة فقد ة تملكني شعور فظيع بالفراغ وكانني وسط طريق طويل، لكنني أعرف قصصًا أخرى وأتمنى أن أتمكن من كتابتها" .

لكن هل انتهت حكاية فيرانتي؟ بالتاكيد لا، فقبل اعوام قليلة  قرر صحفي يدع كلوديو غاتي أن يبحث عن سر الكاتبة صاحبة الاسم المستعار، والتي ترجمت كتبها لاكثر من اربعين لغة وباعت ملايين النسخ، وزعم غاتي الذي قام بإجراء تحقيق في شخصية فيرانتي الحقيقية انه توصل إلى نتيجة تتعلق بالشخصية الحقيقية للكاتبة مؤكدا أن فيرانتي هي في الواقع مترجمة مقيمة في روما اسمها آنيتا راجا.تعمل في نفس الدار التي تنشر كتب فيرانتي ورواياتها، ما الطريقة التي توصل بها الصحفي كلوديو غاتي إلى أن شخصية فيرانتي الحقيقية هي آنيتا راجا، وقد اعتمدالصحفي في تحقيقه على مراجعة حسابات دار النشر الإيطالية. ولاحظ أن واردات الدار ارتفعت في عام 2014 بنسبة 65% مقارنة بالسنة التي سبقتها وذلك بفضل نجاح كتب فيرانتي في أميركا بشكل خاص. وفي عام 2015، بلغت نسبة الارتفاع 150% أي ما يعادل 7.6 مليون يورو. ويلاحظ غاتي أن مدخولات آنيتا راجا ارتفعت هي الأخرى بالنسب ذاتها وعلى مدى الفترة نفسها.ويقول الصحفي في تقريره بأنه لا يوجد أي مترجم آخر أو أي كاتب يعملان مع الدار ارتفعت دخله بهذه النسبة وذكر أن هذا الدخل المرتفع سمح لآنيتا راجا بعقد صفقات عقارية ضخمة على مدى السنوات الأخيرة.

لم ترد آنيتا راجا على هذا التحقيق، وأثار الأمر غضب الكثيرين من قراء فيرانتي الذين وجدوا ان ما فعله الصحفي هو تدخل في حياة مبدعة حاولت أن تحتفظ ببعض الخصوصية لنفسها،، فيما اصدرت دار النشر بيانا ادانت فيه انتهاك حياة خاصة بهذه الطريقة الفجة، واضافت ان فيرانتي ربما تتوقف عن الكتابة بسبب هذا التدخل السيء في حياتها، لكن في العام 2017 ابتهج قراء فيرانتي من جديد فقد قررت أن تعود إلى العمل، وقالت دار النشر: " نعرف أنها لا زالت تكتب، ولكن في الوقت الحالي لا أستطيع أن أقول أي شيء أكثر من ذلك".، بعدها اكدت فيرانتي من خلال

مقابلة اجريت معها عبر البريد الإلكتروني:" إنني أرغب في التحرر من جميع أشكال الضغط الاجتماعي أو الالتزام. وأن لا أشعر بذلك النوع من الالتزام حينما أصبح شخصية عامة وهذا ما سيمنحني الحرية الكاملة في التركيز حصرا على عملية الكتابة" .

وعندما سألت أين تكتب ؟ اجابت:" أنا أكتب في أي مكان. ليس لدي غرفة خاصة بي. أعلم أنني أحب المساحات الخالية، مع جدران بيضاء فارغة. لكن هناك حقيقة مهمة وهي عندما أكتب، سرعان ما أنسى أين أكون .

تخبرنا الكاتبة آنا ماريا ان النجاج الدولي الذي حققته رباعية نابولي قد ادى الى تعقيد الامور ومضتاعفة الحاجة الى الاجابة على اسئلة الصحفيين، وطلبات الجمهور والمشاركة في الجوائز الادبية وهكذا حاكت مؤلفة الرباعية شخصية خاصة بها كما في الروايات مع الاحتفاظ على مسافة مدروسة بين الشخصية المزيفة والحقيقية .. وعلى مدار السنوات لم يتغير شيء حيث عادت نهاية عام 2019 لتقديم روايتها  " الحياة الكاذبة للبالغين   " – ترجمة معاوية عبد المجيد -  وبعدما قدمت نيتفلكس  مسلسل ماخوذ عن رباعية نابولي  تحول الحي الذي جرت فيه احداث الرواية الى منطقة سياحية حيث كرمت الطفلتان اللتان ادتا ادوار " ليلا " و " لينو " ورسمت لهما جدارية كبيرة وسط الحي،تكتب انا ماريا في كتابها " اسطورة إيلينا فيرانتي " ان سكان الحي يعيشون وكانهم يسترجعون تصرفات الزمن القديم . السكان يتكلمون ويتحركون مثل ابطال الرواية والبعض منهم يتصرف كممثل في مسلسل " الطفلة الضائعة "، يقول احد سكان الحي: لقد وصفت المدينة بدقة وعبرت عن وجداننا ببراعة " .

تكتب فيرانتي:" أن المرء عندما يقرر ان يكتب فليس من المنطقي أن يخفي او يكتم شيئأ، او يفرض رقابة على نفسه، ونتيجة لذلك فان اغلب الاشياء التي كتبت عنها - وربما كانت تلك هي الاشياء الوحيدة التي رغبت في الكتابة عنها – هي تلك الاشياء التي كنت أفضل أن ألتزم الصمت عندما يدور الحديث عنها والجأ من بين أمور أخرى إلى تلك المفردات التي لم اكن اجرؤ على استخدامها في حديثي مع الاخرين " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

صدر عن دار قوس قزح في كوبنهاكن مطلع عام 2024 للناقد والأديب هاشم مطر كتابه الموسوم (قطوف التجربة.. نقد النقد في أدب سهيل سامي نادر) بواقع (190) صفحة من الحجم الوسط، كان بتقدم الكتاب من قبل الدكتور خالد السلطاني بمقدمة مؤازرة وحميمية. يتناول الكاتب في هذا الكتاب جهد الاستاذ الكاتب والناقد سهيل سامي نادر النقدي والكتابي والمعرفي. ويعد الكتاب مساهمة في مجال (نقد النقد) وحركية النص. وجاء الكتاب بواقع ـ(37) عنواناً، تناول فيها أغلب اصدارات سهيل معتمداً على أكثر من (55) مصدراً مهماً.

لغة الكتاب سلسة للقارئ الكريم البعيد عن القراءة النقدية، حيث اتبع الكاتب المقارنة والمقاربة بالنصوص النقدية الصارمة، وهو عمل أثير يستحق المتابعة والقراءة. في البدء لا بد من التعريف بالناقد والأديب والصحفي سهيل سامي نادر؛ ولد سهيل في البصرة عام 1943؛ كان أبوه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي في البصرة، حصل على اللجوء في مملكة الدنمارك في الفترة التي اقدمت فيها على اللجوء في المملكة مع الأستاذ احسان أدهم. أصدر عدة مؤلفات منها: التل (رواية)، عن دار المدى، بغداد - 2007. التل: رواية. دار المدى. سوء حظ: ذكريات صحفي في زمن الانقلابات، عن دار المدى للنشر والتوزيع، بغداد - 2020. ونزولا من عتبات البيت، عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد - 2020. وشاكر حسن آل سعيد: سيرة فنية وفكرية، عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد - 2016. والخشن والناعم، عن دار الأديب، عمان - 2013. ومؤلفات أخرى، ومقالات كثيرة.

استعرض الكاتب في المقدمة ص13-14 قائلاً: "محتويات الكتاب ليست مبنية على فصول.. فالكتاب لم يأتِ على نحو دراسة منهجية حسب آلية البحوث الدراسية التي تبتغي التأهيل.. خصوصاً وإنني إزاء أعمال كاتب كبير ومعروف هو سهيل سامي نادر... وجسد البلاد الذي أوشك جسد سهيل أن يحاكيه بحديته واضمرار هيأته.. إنما توزعت تجربته على الصحافة وانقد الفني والأدبي، كذلك النقد السياسي ثم جهده الروائي"، فقد ابتلى المثقف والأديب في هذه البلاد بكل شيء محزن بسبب ألوان الأنظمة والاستهتار السياسي، فكان للمثقف المنتصر لمبادئه النبيلة قد تكلفه حياته أو الهجرة أو الاعتقال أو خارج البلد وهذا ما حدث مع الأديب سهيل سامي نادر.

وفي ص17-18 يسلط هاشم مطر الضوء على كتاب سهيل نادر (نزولاً من عتبات البيت) الصادر عن دار المدى 2021، اشار إلى لغة الكاتب كونها "لغة مركبة بالرغم من جهد الكاتب لجعلها مبسطة وواقعية تساير موضوعاته المختارة في كتبه... فالجملة لديه ليست شاعرية أو فضفاضة المعنى... بل هي اشتقاق للمعاني على وفق سيميائي... وهي مهنية نادرة قوامها التلاقح المعرفي". وهو يبين بموجبها سيطرة الكاتب سهيل على خزينه المعرفي المترامي الأطراف وقدرته الاستنطاقية للأشياء مما يضعنا على مستوى من المساواة.

ويرى الاستاذ مطر أن كتاب سهيل (نزولاً من عتبات البيت) يلتمس من مقاله الأول في ص19-20عن "بغداديات جواد سليم وقدرته التعشيقية المذهلة لماضِ وحاضر... واستوفى شروطه المؤسسة آنذاك من حيث بؤر المعرفة والحياة... أفرد له الكاتب مساحة معتبرة من كتابه وأعماله". لكن نجد في كتابات سهيل الظاهرة والحلول الجمالية فتكون سلطة النقد أكثر مضاءة ودون مجاملة، كما أثث الكاتب من جانب آخر جمالية اشتقت طريقها كبذور نابتة في الأرض.

ويرى هاشم مطر أن ما كتبه سهيل بهذا المعنى هو "رحلة مشاركة رصد أثرها حداثياً بمنجز فني صادم، فيما كان هو ذاته يتحرك سردياً كما تتحرك المدينة باتجاهات عدة" ص22. إلا أن سهيل نجده في سياحة أمام عالم الصور وكثافتها وابعادها، ويؤشر على دائرة الصراع الأخلاقي والاجتماعي، بما فيه من اضطراب سياسي في جدارية جواد سليم، وقد رحل الأخير دون أن يكن له حضور عند افتتاح منجزه الفني. لذلك يرى هاشم أن سهيل يلتقط في مبحثه كناقد "لمعنى الرسم في البغداديات فكرة تفكيك العزلة، وهي الفكرة التي أسست إلى ثقافة أوربية ناهضة بعد الحرب العالمية الثانية... ومع أخذه المواجهة الصريحة التي سخّر لها الكاتب عصارة ذهنه المتقد ليبدو مغرداً خارج السرب الذي بدأ برحلة نقدية اتسعت فيما بعد" ص24. لذلك أجد من خلال النص الذي كتبه هاشم يحتاج سهيل إلى رحلة نقدية تفكيكية لما يحصل في التاريخ.

ويرى الناقد هاشم مطر في مادة سهيل المعنونة (الصورة المؤجلة لشارع الجمهورية)، في ص25 المطلوب "بعث الماضي بازدهار عمراني في الحاضر، وعليه سينحو سهيل في نصه إلى رؤية تفكيكية يكتنفها الحنين (كتذكارات بصرية) تشكل في الأغلب ذكريات منقبضة ترسم صورة حديثة جداً، خربة، لانعدام الجدوى في التخطيط العمراني الجديد". لذلك نجد التخطيط العمراني لأي مدينة لا يمكن أن يتم من دون مختص آركيولوجي، فما بالك بمدينة عتيقة ذات شرايين متقطعة ورئة مدمرة مثل بغداد، مع غياب ذهنية متّقدة جعلت كثيراً من مدن العالم معالم سياحية أثيرة إلا بغداد، فالبعض يرغب بتغيير أسماء شوارعها كونها لا تنسجم مع توجهه الطائفي مثل شارع الرشيد. لكن سهيل نجد له حنين وتساءل عن الفوضى التي حصلت في بغداد وشارع الجمهورية وأزقة أسواق الشورجة والغزل.

وفي مقال لسهيل (عتبات دائرية تصعد إلى البصرة)، يستطلع الناقد هاشم المقال ويجد أن البصرة تظهر في مقاله ص28-3- "كترميز مكاني لغياب دائم الحضور كحفر لأثر هيروغليفي يبدو طلسماً من دون شفرة. بل آثر سهيل بنفسه على إضاعة الخارطة التشفيرية حتى في طواعيتها. المطرقة لا تهدأ والحديد لا يلين، فيما يتحمل قلب الكاتب الضرب الشديد!... في وقت لن تبقى النخلة نخلة من دون مكان هو (البصرة) كما لن تبقى البصرة جغرافياً من دون ذاكرة متحولة تستدعي (حزن مشترك)". فضلاً عن أن هذا يقع في خانة الاشتغال الذي ألزمنا به أنفسنا لتوضيح آلية باختصار. وكقاعدة عامة إن كنت تقرأ مادة لن تلهب مخيلتك ولن تستدعيك لمشاركتها فأترك القراءة واستمتع بشيء آخر. فالمتابع لكتابات سهيل يرى بوضوح مغامراته في تناول أي عقدية لا تفتح رتجها إلا بمفتاح يمتلكه بنفسه لوحده. ولذلك نجد سهيل كناقد يقوم بعملية جراحية واجتراحية في نصه تقابله ميسرة بين النص والمرجع وقراءته النقدية.

فالناقد هاشم مطر نجده يأخذ بتفكيك اغلب مقالات سهيل سامي نادر ومادته من النصوص للحد الذي يكون فيه أعلى دراية باللغة واستخداماتها، ففي مقال سهيل (أحيا وأموت ع البصرة)، وهي مادة استكشافية لما يحدث وحدث عام 2008 في مدينة البصرة من اغراق أهلها بالحرب والاطلاقات النارية والصراع والفوضى والفقر والنذالة ووأد النساء من قبل المتريّفين أصحاب اللاوطن والهوية بعد حصولهم على مكافأة الديمقراطية، يتساءل سهيل "والسؤال للكاتب: فما الذي امتلكته مدينة يسرقها متدينون؟ سوى أن البصرة مليئة بالفقراء والوحوش"، لكن نجد الناقد هاشم يرى في ص37 أن "أهل البصرة الحقيقيين الذين ملاذهم (العمق اللامرئي) غير العابئين لقلة حيلة ومقام أرفع". لذلك نجد سهيل قد حشر نفسه بين سواد الأفكار، فهو الباحث عن صورة الإنسان بصفة التفوق والإتقان.

وهكذا يأخذنا الناقد هاشم مطر بسياحة في المادة الجميلة للكاتب والروائي والصحفي سهيل سامي نادر، فقام بتفكيك مادته بشكل جميل يرضي القارئ وأنصاف الأستاذ سهيل، ذلك الصحفي والناقد والأديب العاطفي والباحث عن الذخيرة المعرفية لكشف الحقول المعرفية كمنقب آثاري. فقد تناول الأستاذ هاشم الكثير من مقالات سهيل ومنها: (تأملات الآثار، الموت، السلطة)، ومقاله عن (جبرا)، و(الأطروحة الفنتازية لعلي الشوك: حكة جرح منسي)، و(الذي زارني في احلامي) وهي مقالة عن المخرج سامي محمد، و(ليث متي)، و(الجدلية)، و(غير المترابط)، وغيرها من المواد التي كتبها الأستاذ سهيل سامي نادر.

والموجز لمقالات سهيل سامي نادر نجدهُ مغامراً من خلال عرض أفكاره، ودائماً ما تبدأ مقالاته بخبر يجتهد أن يضع فيها ما سيكون خادماً لسرديته.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل، صدر للأديب والناقد علاء حمد كتابه الموسوم (الثقافة النصيّة في مدونة الشاعر العراقي حميد العقابي)؛ بواقع (194) صفحة من الحجم الوسط، وغلاف الكتاب يحمل صورة الشاعر الراحل حميد العقابي.

كُسِرَ الكتاب على مقدمة وأربعة فصول، معتمداً الكاتب على (36) مصدراً أدبياً نقدياً، والناقد علاء حمد المقيم في الدنمارك صدر لهً أكثر (21) مؤلفاً بين النقد الأدبي والشعر، وهو الرافض للتمييز بين شعراء الوطن العربي من حيث المذهب أو الطائفة أو الدين، متجاوزاً الرؤية الشوفينية والعنصرية، فكان يشده النص النوعي للكتابة، معتمداً التفاؤل الكتابي بعيداً عن السلبيات، وفنية النص الشعري الحديث.

أما موضوع الكتاب في مدونة الراحل حميد العقابي؛ فالعقابي من مواليد الكوت، 12 حزيران 1956، اكمل دراسته فيها، ثم سنحت له الفرصة أن يستقر في مملكة الدنمارك عام 1985م، نتيجة الظروف السياسية في العراق آنذاك وموقفه الرافض للعنف والدمار وافتقاد العدالة، بعد رحلة عذاب بين الأسر في إيران منذ عام 1982 والرحيل نحو سوريا، ثم الدنمارك كانت محطته الأخيرة ومنفاه الذي دفن فيه، ورحل عن عالمنا إثر أزمة قلبية مفاجئة يوم 3 نيسان من عام 2017م، وقد صدر للعقابي (11) ديواناً شعرياً، و(10) مؤلفات بين الرواية والقصة.

يسترجع الناقد والشاعر علاء حمد في كتابه العلاقات النصية والوظائف الدلالية في النص والبنية النصية في قصائد الراحل حميد العقابي معتمداً على النصوص الشعرية للعقابي على المستوى العرفاني والمقاربات التداولية من خلال الضوابط والارتباطات والمعاينة الرمزية واللغوية والعلاقات الدلالية الحركية الانتقالية والعلاقات المقطعية في قصائد العقابي.

يرى علاء حمد في مدونة الشاعر العقابي أن الأخير استطاع أن ينتج نصوصاً بمجاميع شعرية مختلفة، وقد اختلف إنتاج النصّ لديه من ناحية التقليلية الزمنية، ومن ناحية التقشف اللغوي، فهو يعتبر بأن المفردة، مفردة شعرية تنزل بمفاهيم تركيبية لتكوين المستوى النصيّ، ومثال ذلك قصيدة العقابي (أمطار الدرويش) من ديوانه (حديقة جورج) ص8:

أيّ فألٍ أقرأ في كفّ القتيلْ

حرّية حرباء

أم صمتاً ثقيلْ؟

أيّ فألٍ أقرأ الليلةَ في كفّي

جمراً

أم ترى أقرأ كفيّ نجمَ المستحيلْ؟

أيّ فأل أقرأ الليلة في كفّ العراق

حرّية،

نخلاً،

رحيل؟

يجد الناقد علاء حمد في ص24 أن "النص يتكون من وحدات لغوية منسجمة مع بعضها، فإن الجملة الشعرية في بعدها الفوقي وبعدها الدوني من حيث مستوى الاندماج، أي أن تكون منفصلة من ناحية المعنى وتنتهي بنقطة دالة". وهذه نتيجة حتمية تقود الشاعر العقابي إلى الدال الذي سخره من خلال حركة الفعل (أقرأ)، فيرى العقابي من خلال قراءة المشهد العراقي بين القتيل والحرية وبين الصمت والرحيل، فالدرويش له أمطاره الخاصة، وأنفراداته في القراءة.

أما قصيدة (الوهم) ص14 من ديوان (حديقة جورج):

يبتدئ الوهمُ

لكنّ سرعان ما ينتهي بالمحالْ

كيف يبتدئ الوهمُ

أو ينتهي بالمحالْ؟

ها أنا

أتوهم أنّ السؤال بابُ أغنيةٍ

ثمّ أوغل في الوهم

أحفر

أحفر في الأغنيات

أنقّب عن غجرٍ ضائعين

أو قبائل قانعةٍ بالزوالْ

قصيدة الوهم تبين الوضعية الاستدلالية في استدعاء المفاهيم التي قصدها الشاعر من مفاهيم دلالية، إذ يرى الناقد حمد في ص29 "نحن أمام ثلاثة مقاطع ضمن نصّ متواصل، لا يفصل بينهم سوى البياضات، ومن الممكن جداً أن يتحوّل الشاعر من حالة إلى أخرى، أو من بحر إلى بحر آخر، ويحافظ على المبنى النصيّ؛ هي العلاقة المتواجدة، علاقة المعاني التي تمتدّ من مقطع إلى آخر". لذلك نجد الشاعر يميل إلى اللغة الإدراكية الفعالية على خلفية تأويلية ويثقلها بالكينونات اللغوية التي تتماشى مع التفكر الشعري.

أما قصيدة (سباخ) من نفس الديوان اعلاه ص29، فيقول الشاعر

أيدوزنُ أوتاره؟

أم

يدوزنُ أوزاره؟

أم يمنّي؟

*

ماصخاً كان صوت المغني

وناي الضرير

البحور الخفيفةُ ماصخة

ماصخٌ ثدي أمّي

وخبز الرحيلْ

مفردات القصيدة مقاربات ايحائية في الاختلاف اللغوي وارتداد المعاني. ويرى الناقد علاء في ص30 أن الشاعر اعتمد "على تأطير النصّ لبناء حركته وتحقيق فعل المتخيّل التي كانت من نتائجه المعاني، وقد اعتمد على دلالة مركزية في تحريك الجمل الشعرية؛ فمفردة (ماصخ) أي عديم الطعم من المفردات المتداولة لدى العراقيين". فالشاعر اعتمد الاختزال المركزي في اختيار المفردات الدارجة الشائعة في الوسط العراقي.

وهناك قصيدة للراحل العقابي من ديوان (حدائق جورج) ص30 بعنوان (هاوية)، يذكر قائلاً:

ها

وية تحتفي بمكائدها

تتفرّس بالفأس

تقرأ ما يختفي في الرخامْ

ظمأ يتضوّع

والشمس غيمة

نثرت فوق أحلامنا – الشمع

قطراتها

جمرة الماء ترغي

ولامّ

غير غدٍ غارقٍ في الرغامْ

ها    وية تحتمي بمكائدها

وظلامْ

نلاحظ أن الشاعر "يحاول أن يقسّم الوحدة اللغوية الصغرى إلى أجزاء، فمفردة (ها   وية)، وهي تمثل كلمة مفردة، أي أنّها تمثّل أصغر وحدة لغوية بدأ بها الشاعر" ص32.

لكن الشاعر وبشكلٍ هادئ يخرج ذاكرته في احداث الثاني من آب 1990 بقصيدة تحت عنوان (كثبان) من نفس الديوان ص32 قائلاً:

في الثاني من آب

خرجت ذاكرتي، تحملُ معطفها الوبريّ

تدفئ شمساً تحتضر الليلةَ

كنتُ المجبرَ أن أنصت للذئب العاوي

كي أوهم أغنيتي

أنّ هنالك قمراً للغيّابْ

في الثاني من آبْ

يطرق دجلةُ بابي

يدخل مكتئباً

يتكوّر مرتجفاً في الركنِ

ويطلب عودَ ثقاب

ثمّ يغادر كالطيفْ

في الشارع

ألمحُ نهرً يركض

يركضُ

يركض محترق الأثوابْ

"فقد تطرق الشاعر إلى نهر دجلة، وبما أن النهر يشق بغداد إلى شقين (الرصافة والكرخ) فقد انتمى الشاعر إلى الشقين متابعاً وملاحقاً النهر الذي اتخذ منه دلالة مركزية" ص36، يستنتج الناقد علاء حمد إلى الانتباه المركزي والتلقائي والحدث الشعري والتفكر المعرفي حيث يكون الشاعر في هذه الحالة على معرفة بالهدف التفكري الذي سيخترقه من خلال النص الشعري. فكل ما يدور في النص يعد من الأدوار التداولية؛ وذلك من خلال قصدية المعنى والتأويل وتسيّد الجمل.

من خلال القصيدة اعلاه تولى الشاعر المعنى كموضوع، وذلك من خلال تجريد الذات من المعاني المباشرة. و"هنا جعل الذاكرة، ذلك الكائن الحركي، إسوة مع الأفعال الحركية التي استوطنت في النصّ" ص35.

وقصيد العقابي (مشهد/ حلم) من نفس الديوان ص47؛ يستذكر الشاعر طوابير الشحاذون كصفوف العسكر ينتظرون الله، قائلاً:

بابُ وحيدُ في صحراء

والشحاذون طوابيرَ

طوابير

ينتظرون الله

*

فجأةً

تفتح البابَ امرأةً عارية

فتندفعُ أمواجُ دلافين.

يرى الناقد علاء حمد في ص38 أن الشاعر قد "وظف مفردة (طوابير) والتي لها علاقة بالصف (وغالباً تستعمل المفردة في المعسكرات)، فهنا، الجملة تنقلنا إلى حالة التشبيه ضمن الاستعارة (الشحاذون طوابير) أي أنهم مثل صفوف العسكر؛ وكما الطابور العسكري ينتظر الضابط، فطابو الشحاذين ينتظرون الله".

وهكذا يستمر الناقد والأديب علاء حمد في تفكيك قصائد الراحل العقابي من دواونه؛ منها: ديوانه (حديقة جورج) الصادر عن دار قوس في كوبنهاكن عام 1996، و(الفادن) الصادر عن دار ألف في مدريد عام 2015، و(صيد العنقاء) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2017، و(التيه) الصادر عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام 2015، و(واقف بين يدي) الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1987.

من خلال ما ذكرنا اعلاه نجد الناقد قد فكك القصائد الشعرية وفق العتبات والبنى النصيّة والدلالة والاستدلال، وفاعلية المفاهيم واللغة النصيّة والتأويل، واجاد في ذلك واعطى كل مفردة من القصائد حقها في دراسته النقدية هذه.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

دراسات موجزة تتناول أربع شخصيات عراقية، حضارية وتاريخية. لعبت دوراً بارزاً في الماضي القديم، وقدمت إسهامات جليلة ومتنوعة في مجالات عديدة: الفلسفة والعلوم، التي تتعلق في الحياة والوجود والحكمة، واختصاصات في علم الفلك والنجوم والجغرافيا والتاريخ والرياضيات، كما برزوا كفلاسفة، ولهم أعمال مرموقة وبارزة وحكماء عصرهم الحضاري والتاريخي، سلط الضوء عليها في دراسات موجزة لكنها تحمل معلومات مهمة في القراءة والتحليل بما يخص هذه الشخصيات، برؤية معاصرة هادفة ورصينة، باعتمادها على الكثير من المصادر والمراجع المفيدة والموضوعية ، تتحرى الحقيقة والدقة في الطرح والتشخيص، وبما يدور من أسئلة وتساؤلات لفهم أكثر لهذه الشخصيات المعنية. اعتقد ان الكاتب (واثق الجلبي) بذل جهوداً مضنية في تقصي الحقائق بكل موضوعية، في البحث والتنقيب في المصادر، ليكون كلامه مستنداً الى مراجع قيمة، في تسليط حقيقة هذه الشخصيات: اسماءها المتعددة، مكان ولادتها، انتماءها الى البلدان التي برعوا فيها، وأعمالهم ونشاطاتهم، التي تركت بصمات مضيئة على صفحات التاريخ الحضاري، لذلك اعتبر هذه الشخصيات جدلية، لأن وردت أسماؤهم في الحضارات القديمة الثلاثة. العراقية والمصرية والاغريقية، لنقف على ناصية الحقيقة بتنوع اسمائها في كل من هذه الحضارات الثلاث، لأن كل حضارة تدعي بأن هذه الشخصيات تنتسب إليها. بدون شك هناك تداخل حضاري قائم بالتواصل والتبادل المعارف في مجالات شتى من الحياة والوجود. لذلك سأركز في التناول على شخصيتين من هذه الشخصيات الاربع:

1 - الشخصية الأولى: اخنوخ، هرمس. ادريس.

اي ان النبي ادريس له أسماء مترادفة في الحضارة المصرية والإغريقية، ويستخلص الكاتب (واثق الجلبي) خلاصة استنتاجه بأن ادريس (هو رجل واحد وليس ثلاثة رجال) ص24. وكتاب الأستاذ الدكتور احسان محمد الحسن في كتابه (الأنبياء. عراقيون) يؤكد على عراقية انتمائه. كما ورد اسم النبي ادريس في القرآن الكريم، ولكن الحضارة المصرية القديمة تنسبه بأنه مصري ولد في الاسكندرية، وساهم في بناء الأهرامات ودفن في الأهرام الكبير، ونسب إليه كان يسمى ايضا هرميس وفلسفته الهرمسية، وكذلك ورد ذكره في الحضارة الاغريقية بأسم (Ερμης / هرمس وفلسفته الهرمسية (Τρισγιστος أو Ερμητισμος) وهو من الآلهة الالمبيون الاثنا عشر / ست رجال وست نساء). وهو ابن رب الالهة (زيوس) ورسوله الذي يتصل بالالهة الآخرين (بمثابة شخصية جبرائيل في الاسلام)، والفيلسوف أو الاله هرمس، فلسفته تعلقت في الوجود والحكمة والحياة، ونشط في تحويل الخرافة الدينية الى فلسفة العقل أو المنطق بتنظيفها من الخرافات الى الاسطورة الفلسفية. وتتفق الحضارات الثلاث (العراقية والمصرية والاغريقية) في نشاطاته أي أخنوخ أو ادريس او هرمس، اختص في مجالات علم الفلك والنجوم والجغرافية والرياضيات والتجارة.3427 تمثال الاله

صورة الاله ايرا / Ηρα / اله الرغبة والحب والجنس والزواج

2 - الشخصية الثانية: تنكلوشا

فيلسوف وحكيم من اهل بابل، له عطاءات كثيرة في مسائل الحياة والوجود، وجاء ذكره من بين الحكماء السبعة في التاريخ القديم في كتاب تاريخ الحكماء (تنكلوش البابلي، ربما تنكلوشا والأول أصح، هذا احد السبعة العلماء الذين رد اليهم الضحاك البيوت السبعة، التي بنيت على أسماء الكواكب السبعة، وكان عالماً في علماء بابل وله تصنيف وهو كتاب الوجوه والحدود كتاب مشهور بين أيدي الناس وموجود، ومدينة الكلدانيين مدينة الفلاسفة من أهل المشرق وفلاسفتهم أول من جدد الحدود ورتب القوانين) ص29، رغم عطاءاته الفكرية والفلسفية، عانى الإهمال والإجحاف، وله اهتمامات فلسفية في الحب والعشق والرغبة (العشق مرض نفسي صعب العلاج وحالة تعرض العقل والنفس وهو بفعل الزهرة والمريخ، اوله الزهرة واخره المريخ، لأنه يبتدئ بالالفة والتشويش والاضطراب) ص30. مما هو جدير بالذكر في الآلهة الرومانية اله (كيوبيد) اله الرغبة والحب والجنس، وهو ابن الهة الحب والجمال في الحضارة الرومانية (فينوس)، يقابلها في الحضارة الإغريقية (افروديت) ويقابلها في الحضارات العراقية، عشتار واينانا، إلهة الحب والجمال . وكذلك في الحضارة الإغريقية إله الحب والجنس والرغبة والزواج إله (ايرا / Ηρω)، والبعض يدعي بأن الفلسوف / الحكيم (تنكلوشا) بأنه فارسيا أو رومياً أول اغريقياً.

ومهما اختلفت الأسماء والنسب، وهذا طبيعي جداً في تداخل الحضارات القديمة، لكن تبقى شخصيات عراقية اضاءة وجه التاريخ والحضارة في مجالات العلم والمعرفة والفلسفة، واعتقد ان الكتاب لأربع شخصيات عراقية من التاريخ مهم في المكتبة العربية، في تسليط الضوء على ثقافة الحضارات العراقية الراقية، التي تمثل الوجه المشرق لحضارة وادي الرافدين. كتاب جدير بالاهتمام والقراءة

***

جمعة عبدالله

..................

الصورة الاولى: صورة الإله هرمس وصولجانه الإلهي

كتاب (الأيديولوجيا والحداثة.. قراءات في الفكر العربي المعاصر) من تأليف المفكر المغربي سعيد بنسعيد العلوي، صدر عن المركز الثقافي العربي ببيروت في العام 1987، يضم في طياته سلسلة من المقالات المتفرقة التي تشكل في مجموعها الإطار العام للبحث المتمثل في الوقوف على كيفية تعاطي الفكر العربي المعاصر مع أسئلة النهضة والحداثة.

أولا: السلفية الإصلاحية وامتداداتها في المغرب

استهل المؤلف قراءته لأهم تيارات الفكر العربي المعاصر بالتيار الإصلاحي السلفي الذي ظهر في المشرق إبان ما عُرف بعصر اليقظة العربية، ومن بين طروحاته الأساسية تشديده على أن سبب التأخر والانحطاط ليس هو الإسلام كعقيدة، بل يعزى أساسا إلى انزياح المسلمين عن تعاليم دينهم. كما يصدر الموقف السلفي من إشكالية سياسية ترد الواقع المتردي إلى استبداد وجور الحكام، قبل أن تتحول (في لحظة تالية) إلى إشكالية دينية من خلال المناداة بإعمال العقل والاجتهاد عبر ترك البدع المثبطة للتقدم.

ويشير الكاتب إلى أن المغرب لم يكن في منأى عن هذا الطرح الفكري، بحيث تَبَلور وعي سلفي ظهرت إرهاصاته الأولية في مطالع القرن العشرين مهدت له الظروف العصيبة التي كان يعيشها المغرب في السنوات السابقة للاستعمار (تهديد خارجي، فتن وثورات داخلية... إلخ)، قبل أن يبلغ لحظة النضج الفكري مع الحركة الوطنية ومُنَظرها الفكري علال الفاسي. وفي هذا الباب، يعرض الباحث لنموذج "مثقف مخزني" برز أثناء فترة الحماية ألا وهو محمد بن الحسن الحجوي (1874 – 1956)، ليخلص إلى أن موقف التيار السلفي من دعوة التحديث والاجتهاد كان ذا نطاق ضيق في مجمله، بحيث طال البنى المادية للمجتمع (التجارة والصناعة... إلخ) دون أن يمتد ليشمل الحداثة الفكرية بمفهومها الواسع.

ثانيا: الدعوة إلى تحديث العقل العربي كشرط للتقدم

يتبنى هذا الطرح الفكري قناعة مفادها أن ثمة أولوية للعامل الفكري والأيديولوجي كمدخل للتقدم والنهوض، فالثورات التي عرفتها الأمم المتمدنة وإن كانت في سطحها ذات طابع مادي (سياسي، اقتصادي... إلخ) فإن وراءها تحول طرأ في الذهنية العامة وطرق التفكير.

1- نموذج عبد الله العروي:

إن المقصود بالتأخر عند العروي ليس التأخر المادي بل الفكري الذي يعبر عنه تخلف الذهنيات وأنماط التفكير وجمودها، ويعد طغيان الفكر اللاتاريخي من أبرز وجوهه. وترتيبا على ذلك، فإن الحل يكمن في تحديث العقل العربي والتشبع بالفكر التاريخي والنقدي، وذلك عبر الانتقال من الذهنية الاستهلاكية إلى الذهنية الإنتاجية، من التفكير الخرافي إلى التفكير العلمي والعقلاني.

ومن ناحية المقاربة المنهجية المتبعة يدعو صاحب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" إلى تبني الماركسية النقدية، فماركس حسب تأويله وإنْ عارض البرجوازية كطبقة اقتصادية مستغلة، إلا أنه لم يكن ضد الثقافة البرجوازية ومكتسبات الحداثة الفكرية والقيمية، على خلاف المثقف العربي الذي يضمر العداء لليبرالية. وبناء على ذلك، فإن الوصفة المثلى للفكاك من وضعية التأخر التاريخي هي استيعاب وتبني التراث الفكري الليبرالي الغربي.

وفي الختام، يسجل الكاتب جملة من الملاحظات على قراءة العروي للواقع العربي المعاصر، لعل أوضحها اختيار العروي مسلك القراءة الأيديولوجية للواقع العربي، والتي تجنح إلى التفكير من داخل إطار مرجعي نظري محدد (التراث الفكري الغربي)، فهي بحكم طبيعتها – لا تخلو من نزعة وثوقية في تصورها للحقيقة، وهو ما يتناقض مع دعوة العروي نفسه إلى تبني المنهجية العلمية الحديثة من حيث هي نقيض للوثوقية الأيديولوجية.

2- نموذج محمد عابد الجابري:

يُعتبر محمد عابد الجابري (1935 – 2010) بدوره من دعاة تحديث العقل العربي كمفتاح للتقدم، لكنه يضيف إلى الإشكالية المطروحة بعدا ثالثا سكت عنه العروي وهو التراث العربي الإسلامي: فالنهضة لا يمكن تحقيقها دون تنظيم العلاقة مع التراث ونقلها من مستوى اللاوعي إلى الوعي. وفي هذا المضمار، يرى المفكر المغربي أن العقل العربي ما زال مشدودا إلى آليات التفكير التقليدية التي تبحث لكل فرع عن أصل سابق له، وبالتالي فهو عقل فقهي لا علمي غير قادر على التفكير من خارج مرجعية النص المقيدة ومبدأ القياس، وهو الحكم الذي ينسحب أيضا على المثقف "الحداثي" لا السلفي وحده.

وتأسيسا على ما تقدم، يميز الجابري داخل التراث العربي الإسلامي بين المعقول (المعقول الديني ويعني به المعاني السامية التي ينطوي عليها الكتاب والسنة كالتوحيد، التراث العلمي والفلسفي الذي وفد إلى الثقافة العربية من اليونان) واللامعقول في التراث (المذاهب الهرمسية والغنوصية المستندة إلى السحر والكهانة) وما مارسته من تأثير خاصة في الفكر الشيعي، وحتى في أوساط بعض الفلاسفة المسلمين وأهل السنة.  إن هذا التمييز الذي وضعه الجابري هو السبيل – في تقديره - لاستيعاب التراث وتجاوزه عبر توظيف الجوانب العقلانية فيه في خدمة المشروع النهضوي.

وفيما يخص تقييم الباحث للنتاج الفكري لصاحب مشروع "نقد العقل العربي"، فإن الأخير لم يسلم بدوره (على غرار العروي) من التصادم بين الدافع الأيديولوجي والبعد العلمي المعرفي، ومن بين تمظهراته التناقض بين المثقف الأيديولوجي المشدود إلى الانتماء القومي – العربي من جهة، والفيلسوف الشمولي – الكوني من جهة ثانية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

خرج من المطبعة في الفترة الأخيرة كتاب الدكتور عكاب الركابي (1) عن السياسي العراقي المعروف حكمت سليمان، وهو كتاب ضخم كان في الأصل أطروحة للدكتوراه تَقَدّم بها الركابي الى كلية الآداب جامعة البصرة في عام 2004، تحت اشراف الدكتور حميد حمدان أحمد التميمي، وبرئاسة المؤرخ القدير الدكتور فاروق صالح العُمر، وقد حصلت على درجة الامتياز.

قَسّم الركابي كتابه الى مقدمةٍ وستة فصول وخاتمة، وأعقبها بتواريخ مهمة في حياة صاحبه حكمت سليمان وتاريخ العراق الحديث والمعاصر.

خَصّص الفصل الأول لحكمت سليمان "انموذج تفاعل عوامل تكوين الشخصية الراديكالية في النخبة السياسية العراقية المعاصرة". والثاني "انموذج العمل الوطني لتوكيد الحضور السياسي في فترة الانتداب البريطاني على العراق 1921 ـ 1932". والثالث "الانقلاب الى صف المعارضة الليبرالية 1933 ـ 1935". والرابع "الانقلاب الى صف المعارضة الراديكالية وتدبير انقلاب 1936". والخامس "وزارة حكمت سليمان 29 تشرين الأول 1936 ـ 17 آب 1937 وسياساتها الداخلية والخارجية". والسادس "انسحاب حكمت سليمان الى هامش الحياة السياسية بعد عهد الانقلاب حتى وفاته عام 1964".

وبشأن المصادر التي اعتمدها الركابي في كتابه، فقد كانت مصادر متنوعة وكثيرة جداً:

1ـ الوثائق العراقية غير المنشورة: ملفات البلاط الملكي وملفات وزارة الداخلية + الوثائق البريطانية غير المنشورة: وثائق وزارة الخارجية البريطانية ووثائق وزارة المستعمرات البريطانية.

2ـ الوثائق المنشورة باللغة العربية.

3ـ الوثائق الحكومية: محاضر مجلس النواب ومحاضر مجلس الأعيان + مصادر رسمية أخرى.

4ـ أوراق حكمت سليمان الخاصة.

5ـ المخطوطات.

6ـ المذكرات الشخصية + الأطاريح والرسائل الجامعية.

7ـ الكتب العربية والمُعَرّبَة.

8ـ البحوث والمقالات.

9ـ المقابلات الشخصية.

10ـ الصحف والدوريات.

11ـ الكتب باللغة الإنكليزية + الموسوعات العراقية والعربية والإنكليزية.

يُلاحِظ القارىء "ضخامة عِدّة" الدكتور الركابي المنهجية، وهذا ان دلّ على شيء فهو "جدّية" الباحث وتفاعله مع الموضوع المدروس، وليس هذا بغريب عن الأستاذ الركابي، وبطبيعة الحال لا يمكن الإحاطة بهذا الكتاب القيّم بمقال موجز كهذا.

في البداية لا بُدّ من التعريف الموجَز بصاحبنا "حكمت سليمان":

وُلِدَ حكمت سليمان في مدينة بغداد عام 1889م بمحلة حسن باشا (2) وانضم بعد تخرجه من المدرسة الملكية الى مدرسة الضباط الاحتياط صنف المشاة في إسطنبول وحصل على رُتبة ضابط ملازم مشاة احتياط (3). ومما يجدر ذكره هنا أن والده هو سليمان فائق بك المؤرخ المشهور وصاحب الآثار العلمية القيّمة (4)، وهو أخ للفريق محمود شوكت باشا الفاتح الثاني للقسطنطينية (5).

ولا نريد أن نتوسّع في الترجمة لصاحبنا، وما يهمنا هنا هو أن اسمه قد ارتبط بأول انقلاب عسكري في العراق والمنطقة، أي انقلاب عام 1936 بقيادة الفريق بكر صدقي واصبح رئيساً للوزراء (6). ليبتعد عن الساحة السياسية بعد مقتل الفريق صدقي في الموصل عام 1937 (7).

ثلاثُ نقاطٍ أثارت انتباهنا في "التحليلات الركابية الدقيقة":

الأولى: وجّه الركابي الأنظار لمسألة في غاية الأهمية في سياق حديثه عن ارتكاب حكمت سليمان لخطيئة سياسية كبيرة، وهي فتح الطريق وتعبيده لتدخّل الجيش في السياسة، فقال:

(كما أن الانقلاب، كشف عن مدى رخاوة النظام الملكي وسهولة ازاحته لولا الحماية البريطانية) (8).

صراحة، وأنا أقرأ هذا التحليل الألمعي، لا بُدّ من الاعتراف بأنه "كشف مبكّر" لمرض خطير داخل الدولة العراقية، ألا وهو أنها كانت "صناعة خارجية" رغم دخولها الى عصبة الأمم. ولولا هذا الدعم لما تَمَكّنَت من الاستمرار الى تموز 1958، ففي الوقت الذي يُصرّ فيه الملكيون على ثبات هذا النظام وتحميل العسكر مسؤولية اسقاطه في عام 1958، نجد الدكتور الركابي يُشَخّصُ هذا الداء ـ رخاوة النظام الملكي ـ في مرحلة مبكرة من عُمر المملكة العراقية، أي عام 1936.

الثانية: هذه النقطة في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهي علاقة الملك غازي بانقلاب 1936، ناقشها الركابي في فقرة بعنوان "الملك غازي وانقلاب عام 1936م في ظِلّ الوثائق الجديدة".

قرأنا الكثير من المصادر التي تعرّضت لهذا الموضوع الهام، لكننا لم نجد إشارة واضحة لاشتراك الملك غازي في هذا  الانقلاب مثل هذه "الإشارة الركابية". فما هي الوثائق الجديدة التي اعتمدها الركابي؟

عُثر في عام 2010 على أوراق الملك غازي ويومياته التي كتبها بخطه ونُشرت فيما بعد (9)، وفيها يقول الملك غازي صراحة بأنه قد طلب من بكر صدقي ومحمد علي جواد انهاء الوضع الشاذ والتخلص من وزارة ياسين الهاشمي.

وعندما علم الملك غازي بمقتل وزير الدفاع جعفر العسكري قال:

لقد رحل العسكري غير مأسوفٍ عليه (10). ويرى غازي بأن أعضاء الوزارة الهاشمية "خونةٌ تابعين للأجنبي" (11)، ونوري السعيد وجعفر العسكري ورشيد عالي الكيلاني من أعضاء هذه الوزارة.

الثالثة: وهي نقطة مثيرة جداً، ألا وهي موافقة حكمت سليمان على المساهمة في انقلاب عسكري ضد حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم! والمصدر الذي اعتمد عليه الركابي هو اللواء المتقاعد فؤاد عارف مُرافق الملك غازي:

فقد صَرّحَ عارف للركابي في مقابلة أجراها الأخير معه في داره في بغداد عام 1998، بأن بعض مخططي انقلاب 1963 كانوا على اتصال مستمر به، وهم طاهر يحيى وأحمد حسن البكر، وقد اقترح عليهم عارف اسم حكمت سليمان ليكون رئيساً للوزراء بعد سقوط قاسم، بسبب خبرته السياسية، وفقدانها عند العسكر (12).

يُعَلّق الدكتور الركابي:

(لكن الذي يهم في هذه الرواية، هو موافقة حكمت سليمان على المشاركة بهذه الحكومة وبمنصب رئيس الوزراء رغم تَبَدّل الظروف والأشخاص والنظام وتقدمه في السن ... وأخيراً قد تكون موافقة حكمت سليمان للاشتراك في انقلاب عسكري، نابعة من حقد شخصي على الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أجبره على دفع ضريبة الدخل على املاكه وثرواته) (13).

مع العلم بأن حكمت سليمان قد توفي في عام 1964 (14).

قبل أن نختم المقال، لا بُد من تسجيل ما يلي:

1ـ خلو قائمة مصادر الدكتور الركابي من كتاب الأستاذ حسام الساموك أمرٌ مثير للاستغراب، فقد ناقش فيه الساموك موضوعات تدخل في صميم عمل الأستاذ الركابي (15)، أي الملك غازي ودوره في انقلاب بكر صدقي، وقد عَدّ فيه الساموك الملك غازي من قادة الانقلاب، بل أولهم (16). قد يُقال بأن الطبعة الأولى لكتاب الساموك قد ظهرت في عام 2005، وأطروحة الركابي قد نُوقشت في عام 2004، ولكن هذا لا ينهض بالمطلوب، والا فأوراق الملك غازي التي حقّقها وعلّق عليها زهير كاظم عبود قد ظهرت في بيروت عام 2010 واستخدمها الأستاذ الركابي في كتابه؟

2ـ ناقش الدكتور الركابي "الأبعاد السياسية والعسكرية لتحركات الفريق الرُكن بكر صدقي لإنشاء دولة كردية في شمال العراق" (17)، ناقشها بالتفصيل، وقد انتظرت منه الإشارة لما ذكره المؤرخ الكبير الدكتور كمال مظهر أحمد في هذا المجال (18)، ولكن لم أجد ذلك باستثناء إشارة يتمية واحدة عن مبالغة خصوم بكر صدقي في الدعوة الى إقامة دولة كردية في شمال العراق، وفي ظِل عدم ظهور وثائق رسمية، فمن الصعب التسليم بهذه المسألة، مُشيراً الى كتاب الدكتور كمال مظهر أحمد (19).

ولكن لا أعلم ما هو سبب عدم ذكر خلاصة ما ذكره الدكتور كمال مظهر أحمد في هذا المجال ثم مناقشته ان كان هناك مجال للمناقشة كما ناقش الركابي الدكتور فاروق العمر (20)؟ يقول كمال مظهر أحمد:

(ان اندماج بكر صدقي السريع، والمتحمس في لعبة الصراع من أجل السلطة كان يعكس طموحه الذاتي أكثر من أي شيء آخر. وفي الواقع كان بكر مستعداً أن يُوَجّه في سبيل اشباع ذلك الطموح، أكبر الضربات للحركة الكردية، ولكل ما يمت اليها بصلة ... وأن كل ما قيل عن خططه من أجل تأسيس دولة كردية لا يستند الى أرضية صلدة) (21).

هذه مجرد ملحوظات استفهامية لا أكثر.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

........................

الحواشي:

1ـ وُلِدَ الدكتور عكاب يوسف الركابي في عام 1959 في قرية آل بونزال احدى عشائر الجابر بني ركاب التي تبعد عن مدنية قلعة سكر بحدود 5كم، حصل على البكالوريوس في التاريخ من كلية الآداب جامعة البصرة في عام 1993، وحصل على الماجستير في التاريخ الحديث في عام 1996، وانتهى الى العمل كتدريسي في كلية التربية جامعة واسط، له العديد من الأعمال التاريخية القَيّمة. يُنظر:

عكاب يوسف الركابي: حكمت سليمان والانقلاب العسكري الأول في العراق عام 1936 ـ دراسة تحليلية تاريخية، العارف للمطبوعات بيروت ط1 2024 ص582 وما بعدها "سيرة ذاتية لمؤلف الكتاب".

2ـ الركابي: المصدر السابق ص25

3ـ الركابي: المصدر السابق ص32

4ـ الركابي: المصدر السابق ص54 و 55 و 56 و 57 و 58

5ـ الركابي: المصدر السابق ص60 و 61 و 62 و 63 و 64

6ـ الركابي: المصدر السابق ص237 وما بعدها

7ـ الركابي: المصدر السابق ص496 وما بعدها

8ـ الركابي: المصدر السابق ص347

9ـ الركابي: المصدر السابق ص347 و 348

10ـ الركابي: المصدر السابق ص348

11ـ الركابي: المصدر السابق ص350

12ـ الركابي: المصدر السابق ص552

13ـ الركابي: المصدر السابق ص554

14ـ الركابي: المصدر السابق ص557

15ـ حسام الساموك: الملك غازي ودوره في انقلاب بكر صدقي عام 1936، الدار العربية للموسوعات بيروت ط1 2005

16ـ الساموك: المصدر السابق ص95 الى 99

17ـ الركابي: المصدر السابق ص469 وما بعدها

18ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر ـ دراسات تحليلية، منشورات مكتبة البدليسي بغداد ط1 1987 ص117 الى 130

19ـ الركابي: المصدر السابق ص485 و 486

20ـ الركابي: المصدر السابق ص439

21ـ كمال مظهر أحمد: المصدر السابق ص129

حول: كاليب إيفريت Caleb Everett[1]، عدد لا يحصى من الألسنة. كيف تكشف اللغات عن الاختلافات في طريقة تفكيرنا، مطبعة جامعة هارفارد.

بقلم لويس ساجنيير Louis Sagnières[2]، 8 فبراير2024م

ترجمة: ا. مراد غريبي

***

يظهر تجميع العمل الحالي حول اللغة، التنوع الاستثنائي للغات في جميع أنحاء العالم ويستكشف آثاره المعرفية.

على مدى السنوات العشرين الماضية أو نحو ذلك، أدت الأبحاث عند تقاطع الأنثروبولوجيا واللغويات المقارنة وعلم النفس إلى ظهور مجموعة من الظواهر التي تحول فهمنا للغة. في كتابه، يقترح سي. إيفريت C. Everett، الباحث في الأنثروبولوجيا وعلم النفس في جامعة ميامي والمتخصص في اللغة، تجميع هذا العمل من أجل تقديمه لعامة الناس. بحذر، لا يحاول تطوير رؤية تركيبية أو نظرية للغة. بدلا من ذلك، من خلال سلسلة من المقالات القصيرة، يقترح إظهار التنوع الهائل الذي يواجهه الباحثون المهتمون بهذه الكلية.وبذلك، يحاول الكتاب الإجابة على ثلاثة أسئلة: ما هو مدى التنوع اللغوي؟ كيف يمكن تفسير ذلك؟ وما هي الآثار المعرفية، إن وجدت، التي يمكن أن يحدثها هذا التنوع؟ إنها فرصة للغوص في عالم رائع من الظواهر اللغوية المذهلة والمقلقة.

التنوع اللغوي الموجود في القارة الأوروبية يجعلنا ننسى أحيانا أن جميع اللغات المستخدمة هناك تقريبا تنحدر في الواقع من لغة واحدة تم التحدث بها قبل 6000 عام في مكان ما بين ضفاف نهري الدون والفولغا. هذا يمكن أن يعطي في بعض الأحيان الانطباع بأن بعض الخصائص النموذجية للغات الهندية الأوروبية هي خصائص عالمية للغة. في حين أن هناك حوالي مائة لغة يتم التحدث بها على هذا الكوكب والتي تنحدر من البروتو الهندو أوروبية، إلا أن هناك ستين ضعف عدد اللغات التي يتم التحدث بها في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، هناك أكثر من 800 لغة مختلفة يتم التحدث بها في بابوا غينيا الجديدة، بعضها "معزول"، وهي لغات لا يمكن إعادة بناء علاقتها باللغات الحية الأخرى.

الغرض الكامل من الكتاب هو إعطاء لمحة عامة عن هذا التنوع اللغوي الهائل. تنقسم فصوله الثمانية إلى جزأين رئيسيين. تتناول الفصول الأربعة الأولى الاختلافات المعجمية في التعبير عن المكان والزمان، أو في المصطلحات المستخدمة للحديث عن الألوان أو الروائح أو العلاقات الاجتماعية. تركز الأربعة التالية على التنوع الموجود في استخدام الصوتيات والعوامل التي تفسر هذا التنوع وتؤثر على تطور اللغة.

"عدد لا حصر له من الأشكال الجميلة والمثيرة للإعجاب ... »

في الفصل الأول، المكرس للوقت، ملاحظة سي. إيفريت C. Everett هي أن بنية الوقت ليست شيئا مفروضا على اللغات. إن الرؤية الأوروبية المركزية للغة يمكن أن تقودنا بالفعل إلى الاعتقاد بأن مرور الوقت من الماضي إلى المستقبل للجميع يتطلب بطبيعة الحال من البشر التحدث عنه بطريقة واحدة فقط. ومع ذلك، لا تميز جميع اللغات بين الماضي والمستقبل والحاضر. كاريتيانا، التي يتم التحدث بها في الأمازون، على سبيل المثال، لديها زمنين فقط، المستقبل وغير المستقبل. بالنسبة للمتحدثين بهذه اللغة، إما أننا نتحدث عن شيء سيحدث، أو نتحدث عن شيء يحدث أو حدث. في الحالة الأخيرة، وبدون معلومات سياقية محددة، من المستحيل معرفة ما إذا كان الإجراء قد حدث في الماضي أو يحدث في الوقت الحاضر.

لإيفريت تقارير، ربما أكثر إثارة للدهشة، حالة nheengatú (ص 39)، التي يتم التحدث بها في منطقة الأمازون، والتي لا تحتوي على كلمات للإشارة إلى الأوقات المختلفة من اليوم. إذا كانوا يرغبون في استحضار لحظة معينة، يجب على المتحدثين بهذه اللغة الإشارة إلى السماء للإشارة إلى موقع الشمس في الوقت الذي وقع فيه الحدث الذي يتحدثون عنه. هذا المثال مثير للاهتمام بأكثر من طريقة، أولا وقبل كل شيء لأنه يوضح مدى أهمية الإيماءات في اللغة. كما أنه يوضح بشكل جيد للغاية فكرة أن اللغة تتشكل من خلال البيئة التي يعيش فيها المتحدثون بها. من الصعب حقا تخيل نظام مثل نظام nheengatú يخرج خارج الدائرة القطبية الشمالية حيث تغيب الشمس عن السماء 6 أشهر في السنة.

من ناحية أخرى، يوضح سي. إيفريت C. Everett أن بعض اللغات يبدو أنها تمتلك مصطلحات رائحة بدائية (ص 122)، أي كلمات بسيطة وظيفتها فقط التعبير عن رائحة جميع أنواع الأشياء بطريقة يمكن فهمها على أنها واضحة لجميع المتحدثين بتلك اللغة. هذه هي حالة جاهاي، التي يتحدث بها بين ماليزيا وتايلاند، أو تشابالا، التي يتحدث بها في الإكوادور. في جاهاي، يشير مصطلح cnes إلى رائحة الدخان، ونوع معين من حريش (ألف رجل)، وخشب شجرة المانجو. في تشابالا Cha'palaa، يشير مصطلح سانديو sendyu إلى رائحة معدنية أو مريبة.

تختلف هذه المصطلحات عن المفردات المتاحة باللغة الفرنسية للحديث عن الروائح. عندما نقول إن رائحة جسم ما تشبه رائحة الموز، فإننا نشير إلى رائحة الفاكهة وليس إلى خاصية تشترك فيها تلك الفاكهة وجميع أنواع الأشياء الأخرى. هذه المصطلحات تشبه إلى حد كبير مصطلحات الألوان البدائية، مثل الأحمر أو الأصفر. عندما يصف متحدث بالفرنسية شيئا ما بأنه أحمر، فإن جميع المتحدثين بتلك اللغة يشكلون صورة مشابهة إلى حد كبير للون. عندما يصف متحدث جاهاي رائحة شيء ما بمصطلح cnes، فإن كل شخص يتحدث إليه سيفهم بالضبط ما يتحدث عنه.

ليست كل المعلومات الواردة في الكتاب جديدة أو مفاجئة. بدلا من ذلك، يأتي اهتمامهم من الصورة التي تظهر عندما تضع كل هذه الملاحظات معا. لا تظهر اللغة كهيئة تدريس محدودة، بل كأداة مرنة للغاية وقابلة للتكيف. يظهر سي. إيفريت C. Everett في مناسبات عديدة أن معجم اللغة هو شيء راسخ في محيط بيئي وثقافي معين، ولكن أيضا في أجسام المتحدثين بها. على سبيل المثال، يبدو أن النظام الغذائي له تأثير على انتشار أصوات معينة في اللغة. تميل تلك التي تتحدث بها الشعوب التي تصيد وجامع الثمار إلى أن يكون لها عدد أقل من الحروف الساكنة labiodental (ص 155)، مثل [f] أو [v]، من تلك التي تتحدث بها الشعوب التي تمارس الزراعة. في الواقع، من أجل نطق هذا النوع من الحروف الساكنة، يجب أن تلمس الشفة السفلية الشفة العليا أو تنظفها. ومع ذلك، فإن النظام الغذائي للسكان الزراعيين يتطلب مضغا أقل من النظام الغذائي للصيادين وجامعي الثمار، وهذا يؤدي إلى تطور فكيهم بطريقة تتداخل القواطع العلوية مع القواطع السفلية. وبالتالي، فإن الحركة المطلوبة لنطق الحروف الساكنة labiodental تتطلب طاقة أكبر من مجموعات الصيادين وجامعي الثمار أكثر من السكان الزراعيين. هذا يقود الأول إلى جعل هذه الأصوات تختفي تدريجيا من ذخيرتهم.

ربما يكون الفصل الأكثر إثارة للاهتمام في الكتاب هو الفصل المخصص لمسألة العلاقة بين الكلمات وما تمثله. من الشائع عندما نهتم بهذا السؤال، أن نؤكد أن اللغة هي نظام من العلامات التعسفية. أفلاطون، بالفعل في Cratylus[3]، جعل هيرموجينيسHermogéne[4] يؤكد أن اللغة كانت فقط نتاجا خالصا للاتفاقية. على الرغم من أنه لا يشكك بأي شكل من الأشكال في هذه الأطروحة ككل، إلا أن سي. إيفريت C. Everett يبلغ عن العديد من الحالات التي تحد من نطاقها، لا سيما من خلال إظهار أن هذا التعسف يعتمد على أسس ليست دائما تعسفية. يذكر، على سبيل المثال، حقيقة أن بعض الأصوات تشفر المشاعر بوضوح تام. الصوت [k]، على سبيل المثال، سينظر إليه بشكل منهجي على أنه أكثر إثارة من الصوت [b]، والذي سينظر إليه على أنه هادئ إلى حد ما (ص 205). وهكذا، فإن كلمة "مذبحة" لها صوت يناسب ما تدل عليه، على عكس كلمة "الهدوء". وقد يبدو القتال أقل عنفا بالنسبة لنا من الشجار، بسبب أصوات كل منهما. بالإضافة إلى ذلك، في دراسة أجريت على حوالي 4300 لغة، اكتشف اللغويون، من بين أمور أخرى، أن كلمة اللغة تتضمن في كثير من الأحيان الصوت [l]، وكلمة الأنف تتضمن في كثير من الأحيان الصوت [n]. يمكن تفسير هذه الارتباطات، التي لا ترجع إلى الصدفة، من خلال الارتباطات غير التعسفية بين الصوت وما يمثله. وبالتالي، يمكن تفسير وجود [l] في كلمة "اللغة" بحقيقة أن حركة اللسان مطلوبة لنطقها. في حالة الصوت [n] في الأنف، يمكن تفسير ذلك من خلال حقيقة أن تجويف الأنف يتردد صداه عند نطق هذا الصوت (ص 198). بالطبع، هذا كله تخمين، ليس لدينا طريقة للتحقق من مثل هذه الفرضيات، لكنها مع ذلك تتناسب بشكل جيد مع فكرة أن اللغة ستكون أداة مجسدة.

النسبية اللغوية

إن العمل المكرس للتنوع اللغوي لا يمكن أن يثير أطروحة الحتمية اللغوية التي اقترحها ادوارد سابير Sapir[5] و بنيامين لي وورف [6]Whorf B.L، وفقًا للغة التي تحدد الفكر، بمعنى أنه لا يمكن التفكير في شيء ما إذا كانت اللغة التي نتحدث عنها لا تملك كلمات لوصف هذا شيء. المثال الكلاسيكي الذي يعود بانتظام هو أنوويت الذي سيكون قادرًا على إدراك العديد من أنواع الثلوج غير المرئية في نظر الأوروبيين لأن لديهم العديد من الكلمات لتعيينها. على الرغم من أن هذه الأطروحة في كثير من الأحيان تعود بانتظام إلى الخطاب العام بشكل أو بآخر. أحدث مثال هو فيلم وصول لــD. [7]Villeneuve الذي يتيح فيه تعلم لغة خارج الأرض يمكن من إدراك الوقت.

ومع ذلك، إذا كان سي. إيفريت C. Everett يستحضر هذه الأطروحة بسرعة، فمن المفترض أن نضعها جانباً لصالح النسبية اللغوية التي تؤكد بمهارة أكبر أن اللغة تؤثر فقط، وعدم تحديد الإدراك. في عمله السابق، النسبية اللغوية (2013)، جادل بأن هذا التأثير قد يأخذ شكلين: تأثير معتاد وتأثير أنطولوجي. عدد لا يحصى من الألسنة ليس فرصة له للعودة إلى هذه الأطروحة بالتفصيل، ولكن ببساطة لتوضيح هذين النوعين من التأثيرات بسرعة.

تأثير التعود هو فكرة أن اللغة يمكن أن تعد الفكر عن طريق العادة: من خلال التحدث عن العالم بطريقة معينة، ينتهي بنا الأمر بالتفكير تلقائيا في العالم بهذه الطريقة. لفهم هذا التأثير، لنأخذ مثال تمثيل الفضاء. لتحقيق ذلك، تحتوي معظم اللغات على نقاط مرجعية أنانية، تأخذ جسم المتحدث كنقاط مرجعية (على سبيل المثال، اليمين واليسار) ونقاط مرجعية مركزية الأرض، مع أخذ النقاط الأساسية أو العناصر الجغرافية للتضاريس المحيطة كنقاط مرجعية (على سبيل المثال، في اتجاه الجبل، في اتجاه النهر). ومع ذلك، فإن البعض، مثل Guugu yimithirr، الذي يتم التحدث به في أقصى شمال كوينزلاند في أستراليا، له معالم مركزية الأرض فقط. في سلسلة من التجارب، أظهر العلماء أن هذا لا يخلو من عواقب على الإدراك.

في الواقع، عندما يطلب من متحدث اللغة الفرنسية أو الإنجليزية النظر إلى سلسلة من الأشياء ثم يستدير لوضع أشياء متطابقة بنفس الترتيب أمامه، فإنه يميل إلى وضع الأشياء التي تحترم الموضع الذي تشغله بالنسبة لجسده. إذن، العناصر التي كانت على اليمين ستتجه إلى اليمين. سيمضي المتحدثون في Guugu Yimithirr بشكل مختلف. سوف يحترمون المواضع المتعلقة بالمعالم التي يستخدمونها، على سبيل المثال، سيبقى الكائن الذي كان في الشمال في الشمال. عادة المتحدث في استخدام هذا النوع أو ذاك من النقاط المرجعية ستغير طريقة تفكيره في الفضاء.

التأثير الأنطولوجي، من ناحية أخرى، هو فكرة أن اللغة يمكن أن تدفع أولئك الذين يتحدثون بها إلى تصنيف تصوراتهم عن العالم بطريقة دقيقة، وبالتالي جعل الناس يعتقدون أن الفئات اللغوية لها واقع أنطولوجي. وبالتالي، فإننا نميل إلى التمييز بسهولة أكبر عندما يقع الحافز في فئة مفاهيمية محددة للغة التي نتحدث بها. على عكس الفرنسية، التي تحتوي على مصطلح "جبل" يشير إلى كيان معين، فإن لاو، وهي لغة يتم التحدث بها بشكل رئيسي في لاوس، لديها مصطلح واحد فقط للتضاريس الجبلية، phuu2.

بالنسبة للمتحدثين بهذه اللغة، لا يوجد شيء اسمه جبل، بالمعنى الدقيق للكلمة، بل أجزاء من التضاريس الجبلية. هذا لا يعني أنهم لا يستطيعون إدراك الجبال، بل إن علاقتهم بهذا الكائن تختلف عن علاقة المتحدث بالفرنسية. لإيفريت أيضا تقارير عن التجارب التي تميل إلى إظهار أن اللون يتم تذكره بشكل أفضل إذا كانت اللغة التي يتحدث بها المرء تحتوي على كلمة له (ص 114 وما يليها).

عدد لا يحصى من الألسنة هو كتاب أكثر حذرا من النسبية اللغوية. أهدافهم وجماهيرهم ليست هي نفسها. يعترف إيفريت بأن تقييم أطروحة النسبية اللغوية يتطلب تجربة صارمة للغاية، وأن البحث لا يزال في مهده. الآثار التي يبلغ عنها ليست قوية جدا، ولا تزال موضع نقاش داخل مجتمع الباحثين في علم النفس واللغويات. الموقف الذي يقدمه في هذا الكتاب، من وجهة النظر هذه، دقيق للغاية. يصر مرارا وتكرارا على أن الآثار المعرفية للتنوع اللغوي لا ينبغي أن تفهم على أنها تمارس قيودا على المتحدثين بلغة ما، فهي مجرد اتجاهات. اللغة لا تسمح لنا أو تمنعنا من التفكير بطريقة معينة، إنها تجعل طريقة معينة للتفكير أكثر احتمالا.

خزانة فضول لغوي

منذ أعمال نعوم تشومسكي Naom Chomsky[8]، وحتى وقت قريب، يمكن القول دون خوف كبير من التناقض أن اللغة كانت كلية فطرية للتعبير عن الأفكار عن طريق الرموز التي تمثل بشكل تعسفي الأشياء في العالم، من خلال الاكتساب الغريزي لمجموعة من القواعد النحوية العالمية. قبل عشرين عاما، قدم عالم النفس الكندي س. بينكر S.A Pinker[9] توليفة من هذه النظرة للغة لعامة الناس في سلسلة من ثلاثة كتب (غريزة اللغة (1994)، الكلمات والقواعد (1999) و مادة الفكر The Stuff of Thought 2007، على الرغم من أنه لا يقول ذلك بصراحة، إلا أن مجموع الظواهر التي أبلغ عنها سي ايفريت C. Everett يتناقض مع هذه النظرة الكلاسيكية للغة كغريزة. صحيح أنه كانت هناك دائما مناقشات حوله، لكن الإجماع الذي ربما كان موجودا لبعض الوقت يبدو أنه تم تقويضه اليوم، يسمح لنا عدد لا يحصى من الألسنة بفهم السبب. ومع ذلك، فهو ليس عملا جدليا.

الكتاب، في الواقع، هو نوع من خزانة الفضول اللغوي، أكثر من أطروحة. لا يمكن للمراجعة الحالية أن تنصف تنوع الظواهر التي يذكرها، مثل مسألة عدم وجود أرقام بين Pirahãs[10] (ص 185)، أو مسألة عدم وجود لغة نغمية في المناطق الجافة جدا (ص 161)، أو مسألة العلاقة بين الإيماءات واللغة (ص 166). كما أنها لن تكون قادرة على معالجة مسألة ما إذا كان هناك بالفعل اختلاف بين معجم اللغة وتركيبها، وهو اختلاف مركزي في علم اللغة التشومسكي، الذي تم تقويض أسسه في الفصل 8. يخرج المرء من هذه القراءة بأسئلة أكثر من الإجابات، مما يجعلها قراءة رائعة ومحبطة. رائعة، لأنها تفتح الأبواب أمام عالم، هو عالم لغات الأمازون الــ وبابوا. ولكن أيضا قراءة محبطة، لأنه في مواجهة تنوع الظواهر المقدمة، فإن 250 صفحة من الكتاب تسمح لك فقط بخدش سطح الموضوعات المعقدة، ونحن في بعض الأحيان نظل جائعين.

***

Caleb Everett, A Myriade of Tongues. How Languages Reveal Differences in How we Think, Harvard University Press, 2023, 288 p.

ترجمة : أ. مراد غريبي

.....................

[1]  باحث وأستاذ وإداري بجامعة ميامي. يعمل على استكشاف اللغة والإدراك والسلوك عبر ثقافات العالم. ويعتمد على أساليب متنوعة، بدءًا من العمل الميداني في الأمازون..

[2] أستاذ الفلسفة في كلية ماري دو فرانس الدولية في مونتريال. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة مونتريال.

[3] حوار منطقي لأفلاطون حول مسألة صحة الأسماء. تم تأليف العمل بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. السؤال هو ما إذا كانت اللغة نظاما من العلامات التعسفية أو الطبيعية

[4]  فيلسوف يوناني من القرن 5 قبل الميلاد.، تلميذ بارمينيدس وسقراط، صديق زينوفون.

[5] لغوي أمريكي وعالم أنثروبولوجيا من بوميرانيا

[6] لغوي أمريكي وعالم أنثروبولوجيا له اهتمام خاص بلغات الأمريكيين الأصليين. وهو مؤلف فرضية سابير-وورف، إلى جانب إدوارد سابير، والتي اشتهر بها، تنص فرضية سابير وورف على أن التمثيلات العقلية تعتمد على الفئات اللغوية، أي أن كيفية إدراكنا للعالم تعتمد على اللغة.

[7]  الوصول « THE ARRIVAL » هو فيلم خيال علمي أمريكي لعام 2016 من إخراج denis Villeneuve دينيس فيلنوف.

[8] لغوي أمريكي. أستاذ فخري في اللغويات منذ عام 2002 في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث يدرس منذ عام 1955، أسس اللغويات التوليدية

[9] عالم لغوي كندي أمريكي وعلم نفس معرفي ومؤلف الكتب الشعبية الأكثر مبيعا. وهو معروف بشكل خاص بكونه مدافعا قويا عن علم النفس

[10] مجموعة من الصيادين وجامعي الثمار الأمازونيين، الذين يعيشون بشكل رئيسي على ضفاف نهر مايسي، البرازيل

 

يأتي كتاب الأستاذ عبدالله السالم الجبوري الموسوم (صراع الجينات في أرض العرب) بنسخته العربية الطبعة الأولى ٢٠٢٤، الصادر عن دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر _بغداد في ٥٢٤ صحفة، بتقديم الأستاذ المتمرس الدكتور إبراهيم العلاف أستاذا التاريخ الحديث المتمرس جامعة الموصل، ليكون مصدراً جديداً، مضافا إلى ما هو موجود في المكتبة العربية، من مصادر أخرى، عن الأنساب،وما تتعرض له انساب البنى العشائرية والاجتماعية،من حملات مسخ وتشويه وإثارة الصراعات العشائرية التى لخصها وعبر عنا بدقة، العنوان الذي حمله الكتاب تحت مسمى (صراع الجينات في أرض العرب).

وليس بغريب على المؤلف أن يتناول مثل هذا الموضوع المهم، فقد سبق له أن ألف كتاب (موسوعة تاريخ ونسب قبيلة الجبور) الذي كان جهدا كبيرا ومتميزا حقا، وثق فيه تأريخ ونسب القبيلة، بعد غياب التدوين عن ساحة الأنساب منذ امد بعيد،حيث كان أبناء القبيلة، يضطرون إلى حفظ انسابهم والعناية بها، عن طريق الحفظ والإستظهار، وتداولها بالمشافهة، مما قد يعرض الأنساب للمسخ والتشويه بضعف الذاكرة بمرور الوقت، ولاسيما في عصرنا الحاضر، مع تسارع تداعيات الحداثة الجارفة، وانحسار مجالس السمر في الدواوين،حيث تراجع الإهتمام بتداول مرويات التراث والنسب كثيراً، وخاصة مع غياب ثقافة البيئة الملائمة للتداول.

وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب، يتميز، بتغطيته الشاملة لكل تفاصيل موضوع صراع الجينات،الذي يتجسد في  موضوع الأنساب، من خلال الأبواب السبعة ألتي تضمنها الكتاب، بدءا بالباب الأول، المتضمن النسب وأهميته لدي العرب، وانتهاء بالباب السابع،أقسام العرب.

وتأتي قيمة الكتاب العلمية، والمهنية، من كونه جاء، بسرديته  الموضوعية، نتاج تأليف كاتب ومؤرخ وخبير، عاش تفاصيل مفردات العمل، والبحث التاريخي في الأنساب، والتراث، محققا وباحثا ومنقبا، لفترة طويلة، ليكون الكتاب بتلك المعطيات، مستودع خبرة متراكمة، في تاريخ وانساب العشائر، تضفي على الكتاب قيمة موسوعية إضافية.

وهكذا يعتبر الكتاب، بهذه المنهجية المهنية الشمولية، مصدرا مهما للباحثين، والدارسين، والمهتمين بالانساب،لأنه جاء وليد خبرة ميدانية متراكمة طويلة، واختصاص مهني رصين للمؤلف، واهتمام بعين تاريخية متمكنة ومتمرسة .

ولعل طرح هذا الكتاب المرجع، مترجما إلى اللغة الانكليزية مستقبلا،سيكون مفيداً جداً، لتعميم الفائدة منه مصدراً للجميع، والكتاب بعد ذلك كله، جهد علمي مهني  بمصادره، وطريقة تناوله، يستحق عليه المؤلف، الأستاذ عبدالله السالم الجبوري، خبير الأنساب، وتراث العشائر، كل الاشادة، والإطراء والثناء .

***

نايف عبوش

نحن نروح الترحال دون دخان وستار

بددوا إذا سأم السجون وأنشروا

في عقولنا المشرئبة مثل الخيام

ذكرياتكم

افصحوا ماذا رأيتم ؟

الشاعر الفرنسي بودلير

في هذا الكتاب الصادر عن دار زنوبيا، الذي اعدته الزميلة والكاتبة العراقية المعروفة، بشجاعتها واسلوبها الشيق ودفاعها عن حقوق المرأة في العراق والوطن العربي ومن خلال علاقاتها الواسعة بمنظمات المرأة في البلدان التي احتكت وعملت فيها، وفي هذا الكتاب الحديث العهد في صدوره، فيه سردية لقاءات مع مناضلات في الحركة النسوية التونسية، وإشارة هيفاء زنكنة في فصل لها تحت عنوان (لماذا نكتب الان)، أثناء تواجدي في تونس مع ست مناضلات تونسيات لتنظيم الورشة وكان لزينب فرحات مديرة المسرح ومؤسسة جمعية زنوبيا دورا هاما في أن الورشة ات ثمارها، وكانت للورشة على الرغم من بساطتها ولكنها كانت هي من تجربة خاظتها النساء الست في معتقلات النظام الدكتاتوري وجاءت هذه الشهادات دون وسيط وبمصداقية عالية كما ضربت مثال قاله الشاعر الفلسطيني محمد درويش [كان الهدف أيضا، ألا نقتصر الكتابة على تقديم شهادة تتضمن تفاصيل الاعتقال والتعذيب فقط، على أهميتها، بل تقديم سرد شخصي محوره يضئ].

والمناضلات هن آمال بن عبا ودليلة محفوظ جديدي وزينب بن سعيد الشارني، ساسية الرويسي بن حسن، عائشة فلوز بن منصور وليلى تميم بليني، وبمشاركة خاصة من هيفاء زنكنة من الحزب الشيوعي العراقي - القيادة المركزية، كانت المناضلات التونسيات الذين سردن أساليب التعذيب، هن من تنظيم برسبكتيف وتعني بالعربية (وجهة نظر) - العامل التونسي في السبعينات من القرن المنصرم، وهنا لابد الإشارة وبأيجاز عن كل منهن وبشكل مختصر لأترك للقارئ الرجوع إلى الكتاب.

1- أمال بنت فاطمة اللزام ومحمد بن عبا: مولودة بالمرسى في 28 مارس 1944، المهنة أستاذة فلسفة صحفية (دار الصباح) مسؤولة عن عمود (المرأة) بجريدة (المغرب) الاسبوعية إلى جانب نضالها في صفوف منظمة (باراسبكتيف العامل التونسي) ناضلت في نقابة التعليم الثانوي، وجمعية الصحافيين ونقابة الصحافيين. اسست مع مجموعة من النساء المناضلات (لجنة المرأة العاملة) التابعة ل (الاتحاد العام التونسي للشغل) و(جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية) و(الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات) و(جريدة نساء) مع ساسية الرويسي وزينب بن سعيد الشارني. ومن تجربة آمال بن عبا تقول: إن كان للعزلة من معنى فهو ذلك الذي يحعلنا نتخلى بسهولة عن أهدافنا، فنعيد إلى الأدراج ما خططنا من خواطر، ونتجاهل بسهولة قدراته الذاتية، ونحط من قيمة ما ينجز، ويولد فينا حذرا يتحول اضطهاد.

لقد عملت هذه المناضلة في منظمة سياسية يساري التوجه الفكري، مما تحملت الكثير من المعانات من الاعتقالات والتعرض إلى التعذيب النفسي والجسدي، متحديتا الجلاد لقناعتها بالنضال من أجل المستقبل الأفضل لوطنها وشعبها، وفي سرديتها تحدثت عن الكثير من المعانات.

2- نارودنيا: دليلة محفوظ تقول: لا اعتزم كتابة تاريخ تلك الحقبة من النضال، إذ أنها مهمة المؤرخين المختصين، ما اكتبه هو شهادة تندرج ضمن الذاكرة الجماعية، لتبرز تجربة عشتها في الماضي، واتقاسم سماتها وآثارها مع عدد من المناضلات اللواتي تعرض لمختلف أشكال الاستبداد في بداية السبعينات، لانهن اخترن النضال من أجل مشروع. هذه التجاوزات بة هي أيضا هي جزء لايتجزء من الحاضر الذي يجمعنا الان، حاضر يحمل رمز نضال مستميت لم ينطفئ، هي تحية وفاء كل من رافقتني خلال أيام العسر وفترات النصر، أيامنا بأن النضال يحيك نسيجه بصبر وأناة وقوت وإيمان.

بهذه الكلمات التي تعبر فيها عن أهمية النضال رغم الصعوبات وتحملته من سجن وتعذيب لكنها لم يزول فكرها اليأس، كانت تفك بكلمات الشاعرابن بلدها تونس ابو القاسم الشابي ؛ اذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر

ومن يتهيب صعود الجبال

يعش ابد الدهر بين الحفر

دليلة محفوظ من مواليد 5 مارس 1952 نشأت في أمواج الاب النقابي المتمرد والوطني الحر، وهيجان امي الثائرة منذ طفولتها ضد التميز والشرسة في زرع المساوات بين ابنائها وبناتها في التربية والتعليم، وعن حياتها تحدثت عن طفولتها ومدرستها في مراحل التعليم الثانوي. وتناولت ما جرى لها في الاعتقال من تعذيب وحشي على يد سلطة غاشمة لا تسمح لطرح وجهة نظر مغايرة لدكتاتورية النظام القائم والنضال من أجل رفاهية الشعب وسيادة الوطن. ذكرت دليلة محفوظ عن إحدى حفلات التعذيب مايلي ؛ فجأة انهال علي الضرب والشتم واقتلاع الملابس، تعالى صراخي ليملأ الغرفة، مرددة بين الصفعة لأخرى (انا إنسانة، ما عندكش تضربني وإلا تمسني)، قضيت ليلتين في مكان ضيق، افترش الأرض ليلا نهارا.

3- زينب بن سعيد الشارني [ول (أنتيغون) أبعاد عديدة

زينب بن سعيد: مولودة في حمام انف، سنة 1948، أستاذة جامعية متميزة في الفلسفة من جامعة دينيز ديدرو باريس، و دكتورة في علم الاجتماع من جامعة تونس، نشرت خمسة كتب في مجال البحث الجامعي، وتشرفت على خمسة ندوات دولية، ولها العديد من المقالات والبحوث في الفلسفة والفكر الاجتماعي، هي عضو في المكتب السياسي لحزب العمل التونسي شغلت مراكز اجتماعية متعدد. كتبت في هذا الكتاب مايلي: (أنتيغون) أستاذة تعلن حكية التمرد على القانون، والانصهار في طيات المواطنة والانفة من أجل الانتماء إلى بلد، وهي أستعارة تستحقر فكرة الحق في الإقامة في أرض تسير الحياة الكريمة والآمنة، ولكن (أنتيغون) تحيلنا أيضا على الذاتية النسائية المتميزة والمولدة لمغاير ينتقد العقلانية البرغماتية الاجرائية، فيفسح المجال للتفكير في المجتمع عبر الأهواء ومن خلال مشاعر الأخوة، وسخاء امرأة تجرأت على أن تتدخل في أمور السياسة.

أن زينب بن سعيد الشارني انها التحقت بحركة سياسية ماركسية من أقصى اليسار سنة 1970 عندما كانت تتابع دراستها بفرنسا جامعة السوربون، وقد نشطت في مجال تثقيف الرفاق وإنشاء جماعات عمالية في مجال الدعاية والتحريض، وبعد عودتها إلى وطنها عام 1972، وبدء مشوارها النضالي من خلال مشاهدتها لنضال الرفاق ومنهم أخيها محمد الطالب في كلية الطب، وعند إخراجها في العمل النضالي تتحدث عن الأساليب التي شاهدتها من خلال التحقيق معها، والأساليب الوحشية التي يستخدمها جلاوزة النظام في التحقيق معها، مستخدما أسلوب وحشي، مثل كما تذكر: حينها تسلح الشرطي الجلاد بخرطوم مطاطي طويل، وانهال به على باطن قدمي، كانت الآلام التي نتجت عن ذلك أفضع الآلام التي نتجت عن ذلك أفضع الآلام التي خبرتها في حياتي.

هكذا كانوا يتعاملون مع النساء المناضلات في استخدام التعذيب النفسي والجسدي وهن صامدات دفاعا عن المبادئ، وفي الكتاب إشارة إلى هذه الممارسات.

4- ساسية الرويسي (بحثا عن ساسية):

ولدت ساسية بدقاش، توزر في 20 ديسمبر عام 1946، خبيرة عقارية متقاعدة من وزارة التجهيز والإسكان وتتحدث عن اسمها تقول: حملني المرحوم والدي اسم جدته التي اشتهرت في القرن 19 شجاعة، قوية فرضت احترامها على الجميع، محاربة تمتشق السيف وتعتلي صهوة جوادها المطاوع، فكانت أسطورة أجيال وأجيال لا أدري لماذا اختارني والدي لمهمة (أحياء روح) تلك الجدة ؟ (فأنا ثالث بناته).نشأت ووثقل ذلك (الاسم - الصورة) يكبلني ويدفعني منذ الطفولة فعشت بين (ساسيتها) الأصلية، والنسخة التي كنتها (أنا). ؤقد كتبت المناضلة ساسية الرويسي قبل سردها للمعجنات التي رافقتها في حياتها السياسية، ما يلي: لم أحظى بفرحة اللقاء، ولا كنت انتقيونه ممن جمعتهن [ ورشة الكتابة (الانتقونية) التي نظمتها السيدتان الفاضلتان هيفاء زنكنة وزينب فرحات، لا لكوني لم أكن ضمن القائمة المدعوة لتلك الورشة بل لتغيبي خارج البلاد تزامنا مع إقامتها فلم احضر ذلك اللقاء المؤثر بين الرفيقات اللاتي جمعتهن التجربة وفرقتهن الحياة، وحرمتني غيابي من الاستفادة من تقنيات الكتابة].

إشارة ساسية الرويسي بعلاقاتها الإنسانية بالرفيقات في فترة سبعينات - ثمانينات القرن الماضي في فترة النضال والقمع والاعتقال والسجن والتأسيس لتونس الحديثة والتعددية السياسية والفكريةو الثقافية ونشأة الحراك المدني والسياسي الذي أزدهر مع ضعف (دولة الاستقلال) وتخبطها في ازماتها الاقتصادية والإجتماعية والسياسية الخانقة فيما بعد.

متحدثة عن معانتها في التحقيق والتعذيب في الأجهزة الأمنية للسلطان الغاشمة.

5 - عائشة فلوز سجينة سياسية رقم 362:

تكتب هذه العواطف الشجية: إلى زوجي الذي جعل من قلبه مسكنا لي، إلى حسن الوجود وأحمد المهدي اللذين أنجباني أنا، إلى عائلتي كبيرها وصغيرها الذين شحنوني بحبهم، إليك امي لأنني انت.

عائشة فلوز من مواليد 25 مارس 1952 بمدينة الماتلين (بنزرت). متحملة من الجامعة التونسية على شهادة الدراسات المعمقة في الأدب الفرنسي ومحلة ثالثة في علوم التوثيق ومحلة أولى في الصحافة وعلوم الاخبار وشهادة في التصرف من المعهد الأوربي المتوسطي، تحملت مسؤوليات مختلفة في شركة فسقاط قفصة

تكتب عائشة فيروز في وجدانياتها: أنا أحب الكلمات الجميلة، الراقصة، على نغمات الحرية، لأنها ستصنع يوما قصيدة ولحنا..

وتكتب عائشة عن معاناتها وما تحملته في سجون الدكتاتورية التونسية: أذكر أن كبير المحقيقين في وزا ة الداخلية استقبلني بهذه الكلمات (هذه هي اللي طلعتنا الشعر في...لساناتنا) ثم اردفها عبارة مبتذلة، قبل أن يحيلني على الاستنطاق في مكان هو عبارة عن شبه دهليز لا يلجه الضوء، هل كان وصولي إلى تونس في المساء؟ طاولة تتوسط الدهليز، كما في الأفلام فوقها شيء من الإضاءة، عون يسأل ويجيب في نفس الوقت.

وبعد معانات كبيرة قلتها في السجن وراء القضبان إلى أن سبقت إلى المحكمات ومنها محكمة أمن الدولة وتابعت رحلتها من سجن إلى آخر ولم تستكين في علاقاتها مع الرفيقات السجينات، وبعد السجن هناك نوع آخر وهو (سجن الإقامة الجبرية)، وتذكر: أشعر دموعي وبأنهمار دموعي كلما تذكرت أمي، كنت أكتب لها الرسائل من السجن، وتقول قول الشاعر محمود درويش:

واعشق عمري لأني،

إذا مت، أخجل من دمع امي.

[كم هو رائع وجميل انها ذكرتني بأمي وكيف كانت تتبعني من معتقل إلى آخر ومعاناتها وتحملها الضرب والطرد].

واخيرا تقول مالذي سوف يحتفظ به التاريخ منيلي بلمحنة اليسار في زمن الظلم والاستبداد زمن السبعينات؟.

6- ليلى تميم بليلي: كوبا لن تذهبي إلى كوبا !

ولدت ليلى تميم بليلي في باردو (ضاحية تونس) في 12. فيفري 1952 في وس، عائلي حداثي وميسور، كانت تتردد على متحف مدينتها، منذ الصغر الأمر الذي أثار اهتمامها للتحف والتراث، دراستها للتاريخ مكنتها من الانغماس في بيئة جامعية ديناميكية وحماسية، جعلتها تحلم بثورات كبيرة. كتبت: لن تذهبي ! عبارة آمرة طالما سمعتها من ابي. لكنها أتت هذه المرة، من زوجي الذي أطلقها بنبرة لا تدع أي مجال للتفاوض.كان يعتبر نفسه مسؤولة عن علاقتنا كزوجين شابين، وينوي إستخدام الحق الذي يمنيه اياه قانون الزواج للحد من اندفاعي. تستمر في الكتابة: كانت صورة كوبا الثورية، فيدل، وتشي غيفارا، ولاهافانا، وخليج الخنازير، والسيفاريوس الملفوف على افخاذ الجميلات السمراوات، كل ذلك المزيج من قراءات المراهقة، والحلم اليساري، ومعادات الامبريالية، تغذي في نفسي رغبة جامحة في اكتشاف تلك الجزيرة التي طالما حملتني اليها أحلامي.

كانت المناضلة ليلى تميم بليلي كانت تنشط في مجال الحركة الطلابية، تكتب انها اختارت معسكر، فالتحقت بالهيكل لنقابي القاعدي للإتحاد العام لطلبة تونس بشعبة التاريخ، كنا ننظم في هذا الهيكل أنشطة ثقافية إلى جانب التدرب على النصوص النظرية لماركس، وأنجلز، ولينين أساسا كانت هذه القراءات التي اكتشفتها مملة، فقد كنت افضل النصوص الأدبية، بيد أنه كان من الواجب ابتلاعها كما يبتلع دواء مر. كانت سنتان 1969 و1970 مليئتين بالأحداث والتحركات داخل الجامعة، وكان الشعار الأهم للطلبة رفض الحزب الواحد، . وتحدثت باسهاب عن التعذيب في معتقلات وسجون الطغمة الحاكمة، وهذا الأساليب يندى لها جبين الإنسانية في القرن العشرين.

7- هيفاء زنكنة أيها القلب ماذا ترى؟

هيفاء زنكنة كاتبة وناشطة حقوقية (بغداد 1950) أنظمة إلى منظمة التحرير الفلسطنية - فتح) عام 1974، نشر لها ثلاث روايات (في أروقة الذاكرة) عن تجربة اعتقالها بالعراق، (مفاتيح مدينة) و(نساء على سفر)، أصدرت أربع مجموعات قصصية، وأقامت معرضين فنيين شخصين بلندن وأيسلندا وساهمت بعدة معارض أخرى، من بين كتبها باللغة الانكليزية، (مدينة الأرامل) سردية امرأة عراقية عن الحرب والمقاومة) (الحلم ببغداد) و(الجلاد في المراة) مع المدعي العام الأمريكي السابق رامزي كلارك، و(دفاتر الملح) تونسيات عن تجربة السجن السياسي).

عضو مؤسس للرابطة الدولية للدراسات العراقية المعاصرة (lACIS) وإحدى مؤسسات (تضامن المرأة العراقية). عملت مستشارة للاسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والإجتماعية لغرب اسيا) لعدة سنوات من بين التقارير التي ساهمت فيها (التكامل العربي) و(نحو العدالة في العالم العربي) التقرير الذي تم سحبه من قبل الأمين العام للأمم المتحدة إثر اعتراض الكيان الصهيوني.

نشرت عديد الدراسات الأكاديمية بالإضافة إلى المقالات الصحافية، لها رأي أسبوعي في صحيفة (القدس العربي) وتحاضر بانتظام حول الثقافة، المقاومة، وقضايا المرأة.

رئيسة تحكيم (جوائز كتاب فلسطين الدولية) باللغة الانكليزية، لندن.

كتبت المدينة رقم 1

كنت في العشرين من عمري، عارية وقفت وسط الغرفة يحيط بي أربعة رجال وصناديق كتبي والمنشورات، ومكتب ضخم، وآلات تسجيل، وأريكة تمتد على احد الجدران وصينية تحتوي بقايا الطعام، والستائر مسدلة أبدأ، الجالس خلف المكتب الضخم لم يقل الكثير، كان متوسط القامة، داكن البشرة، يرتدي نظارات غامقة اللون ذهبية الإطار وبدلة غامقة اللون، يحمل في يده مسبحة، وزع نظراته عليها وعلي بالتساوي، كما لو كان متحيرا ازاء مسألة خاصة جدا. كان هو السيد المطلق لذلك القصر، قصر النهاية، ملما بكل ما يجري في أقبيته وغرفه العديدة، يستقبل زواره لالقاء نظراته المتحدة عليهم قبل توزيعهم على الغرف الأخرى، ولانشغال الحكومة بتنظيف واجهة مبناها الإعلامي، والمعرفة الرئيسية بالمساهمة في تلميع بضع اجرأت طمعا في المساهمة في بالحكم، تمتع ذلك الرجل بحرية كاملة في الاعتقال والتعذيب والإعدام، واختفى في دهاليز ذلك القصر آلاف الناس لمجرد رفع أصواتهم متذمرين، (بعد أربعة أعوام ظهيرة يوم شديد القيظ، عانى سيد القصر من الصيرورة نفسها، اعتقل وعذب وأعدم، من قبل الحكومة ذاتها).

لا اريد الإطالة لما كتبته المناضلة هيفاء، واترك للقارئ متابعة ما كتبته، وبالمناسبة أريد أن أشيد بورشة العمل التي قامت بها المناضلة هيفاء زنكنة، النشطة في الحركة النسوية العربية، مع مناضلات تونسيات تحدثن عما حدث معهن من تعذيب نفسي وجسدي، في سجون ومعتقلات الأنظمة الدكتاتورية، وفي ظل حكومات الحزب الواحد، أنه بحق عمل رائع جسد في هذا الكتاب القيم للتاريخ، لذا أجد من الضرورة اقتناء هذا الكتاب وقرأة ما جاء في صفحاته، في نضال المرأة العربية من شجاعة وصمود أمام الجلادين والقتلة، وبرأي المتواضع، انهن اكتسبن من تجارب ونضال روزا لكسمبورغ وانجيلا دايفس، والمرأة السوفيتية في الحرب الوطنية، والجزائرية في حرب التحرير، جميلة بوحيرد، ورفيقاتها والفلسطنية المناضلة ليلي خالد ورفيقتها الفلسطنيات وهن كثر، واليوم صمود المرأة الفلسطنية في عملية (طوفان القدس) في غزة بمشاركتهن في النضال ضد الصهاينة وغيرهن. فكل التحية لنساء العالم في نضالهن من أجل مستقبل افضل يسوده السلام العالمي ولكبح مشعلي الحروب.

***

صادق السامرائي -  طبيب وكاتب

لندن في شباط 2024

عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل صدر تحقيقي لكتاب الراحل د. مصطفى جواد (جاوان القبيلة الكُردية المنسية ومشاهير الجاوانيين) الصادر عن مجمع العلمي الكردي عام 1973م.

والجاوان تلك القبيلة الكُردية المشهورة وهي أحد فروع الكلهور، أسست مع بني مزيد أيام أميرها صدقة بن منصور مدينة الحلة العراقية كعاصمة لإمارتهم، وانتقلوا من منطقة النيل الواقعة مسافة 30 كم شمال الحلة باتجاه بغداد، وأول من سكنها في شهر محرم عام 495هـ/1101م أمير العرب أبو الحسن سيف الدولة المزيدي الأسدي صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد (ت501هـ/1107م)، فأزدهرت المنطقة وقصدها الشعراء والأدباء. كان لأمراء الجاوانية دور هام في المعترك السياسي لمنطقة الفرات وجنوب بغداد لعقود، وبرز من الجاوانية رجال حرب وأدب اشهرهم بنو ورّام (بهرام) ومنهم أبو الفتح بن ورّام وما زالت محلتهم باقية في الحلة باسم محلة الأكراد.

والجاوانية (قبيلة كبيرة متعددة البطون والأفخاذ، وهي من أشهر القبائل الكُردية، وأخبارها متواصلة طيلة العصر العباسي، وكانت مثل جميع القبائل الكُردية الأخرى من سكان الجبال والهضاب قبل استيطانها بمدينة الحلة وأطرافها في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي).

ويرى الدكتور زرار صديق توفيق في كتابه الموسوم (القبائل والزعامات القبلية الكُردية في العصر الوسيط)، قائلاً: "وفي الواقع كانت المناطق الجبلية الوعرة الواقعة غرب الهضبة الإيرانية (جبال زاكروس) وشمال بلاد ما بين النهرين هي الموطن الأصلي للقبائل الكُردية ومركز تواجدها في العصور الغابرة، وبمرور السنين ونتيجة لعوامل اقتصادية وسياسية وقبلية متعددة، تخلّت قبائل عديدة عن ديارها في الجبال والهضاب العالية وأستقرت تدريجياً في المناطق السهلية المنبسطة المتاخمة لها". ويقول السبكي "ت771هـ- 1369م": جاوان قبيلة من الأكراد سكنوا الحلة).

فالجاوانية والنرجسية والبشيرية والزهيرية وغيرها كان أحداها نزلت في نواحي بلدة البنديجين (مندلي) والدسكرة والنعمانية وقوسان وواسط، وأنتشرت قراها ومرابعها في المنطقة الممتدة من سفوح جبال بشتكوه إلى ضفاف نهر دجلة، وهذه المناطق كانت امتداداً طبيعياً للبلاد الكُردية، وفي الواقع إن الكُرد قد شكلّوا أحد العناصر الرئيسة من سكانها خلال القرون الستة الأولى للهجرة، فورد ذكرهم خلال الفتح الإسلامي للمنطقة وبعدها.

واضطلع أمراء وزعماء الجاوانية بدور كبير في تاريخ العراق خلال العهد السلجوقي، كما ارتبطوا بعلاقات قوية وصلات المصاهرة مع أمراء المزيدية العرب من بني عوف من بطون قبيلة بني أسد، وكانوا خير عون لهم، وخدموا في الجيش المزيدي كأمراء وقادة وأفراد.

ولا ننسى أن الجاوانية قد أنجبت عدداً من الأعلام والمشاهير من الفقهاء والزهاد والكتاب، وفي هذه المقدمة سنسلط الضوء على أبرز أعلامهم، منهم: الأمير ورّام بن محمد الكُردي الجاواني (ت403هـ- 1012م)، ويعد ورّام بن محمد المؤسس الأول للإمارة الجاوانية وأول ظهور له يعود إلى سنة 397هـ- 1006م حين اجتمع مع غيره من الأمراء الكُرد والأمير علي بن مزيد الأسدي إلى أبي جعفر الحجاج بتدبير من الأمير بدر بن حسنويه البرزيكاني، وذلك بهدف مواجهة الأمير محمد بن عناز وجنود الاتراك ومحاصرتهم ببغداد، ويعزى سبب الحصار إلى الخلاف القائم والعداء المستحكم بين الأميرين الكُرديين بدر بن حسنويه ومحمد بن عناز الشاذنجاني، حيث نصب أبو علي بن جعفر بن استاذ هرمز المعروف بعميد الجيوش، الأمير الشاذنجاني حامياً لطريق خراسان – أراضي محافظة ديالى -، الأمر الذي أثار غضب الأمير بدر، فقام ما قام به من جمع الأمراء الموالين لهُ واستدعى أبا جعفر الحجاج وحشد حوالي عشرة آلاف فارس. وتختفي أخبار الأمير ورّام إلى أن وافته المنية سنة 403هـ/ 1012م، فخلفه ابنه ابو الفتح، وتوهم ابن الجوزي (ت597هـ/ 1200م) حين عدهُ من الأتراك، وهو خطأ بالتأكيد.

في لقاءاتنا المتجددة أنا والأديب ذياب مهدي محسن آل غلام مع الباحث والمسرحي الصديق ثائر هادي جبارة في مقر عمله في الحلة، دار النقاش والحوار حول أصل الكُرد، وفي حينها كنت قد بدأت بالكتابة عن "تأرِيخ الأكراد فيِ العِرْاقّ" كدراسَة تأريخِية سياسِيّة اِجتِماعِية، وكان بحثي عن أصلهم وتأريخهم ولغتهم ومراحل حياتهم التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وقد طرح وقتها الصديق الأديب وعاشق المسرح ثائر جبارة فكرة تحقيق كتاب العلامة مصطفى جواد (جاوان القبيلة الكردية المنسية ومشاهير الجاوانيين)، وكان يحتفظ بنسخة قديمة من الكتاب في مكتبته، وأوعدني حين العثور عليها سيسلمني إياها، وقد وفى بوعده وهو المعرف بالطيبة والوفاء؛ وكان ذلك في مطلع شهر آب من عام 2023م، ومن خلال تتبعي حول قبيلة الجاوان وجدت أن الموضوع قد طبع بمجلة المجمع العلمي العراقي كبحث أولاً، ضمن المجلد الرابع، تحت عنوان: (جاوان القبيلة الكردية المنسية ومشاهير الجاوانيين)، العدد: (1)، وتاريخ الإصدار: يوم 1 آذار 1956، والموضوع عبارة عن محاضرة ألقاها العلامة جواد في مقر المجمع، وكانت هذه هي قصة هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

قراءة في كتاب "أوراق صفراء من الصندوق الأسود" لمحمد السعدي

صدر قبل أشهر قليلة كتاب جديد للكاتب والناشط السياسي العراقي محمد السعدي بعنوان "أوراق صفراء من الصندوق الأصفر" عن "مؤسسة أبجد للنشر والتوزيع". في هذا الكتاب الذي يضم أكثر من ستمائة صفحة من القطع المتوسط، يواصل السعدي رواية وتسجيل شهاداته الشخصية التي سجلها في أكثر من كتاب، كنت قد قرأت منها كتابه " بيني وبين نفسي" الصادر سنة 2021.

في كتابه الجديد لا يغادر السعدي دائرة الحدث العراقي الساخن، والممتد زمانياً طوال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ومكانيا وأسلوبيا. فمن ناحية الأسلوب تستمر الرواية بصيغة المتكلم، في جنس من النثر الذي لا يمكن وصفه تماما بالمذكرات الشخصية لأنه يختلف من حيث التقنيات الكتابية التي تمزج بين المقالة والسرد القصصي والتأرخة القائمة على الاستذكار والكشف. فهو - إذن - سرد يأخذ أحياناً شكل مقالات مستقلة ذات مواضيع مختلفة، كتبت في مناسبات مختلفة هي الأخرى، ونشر بعضها في مواقع التواصل والصحافة الإلكترونية، وأحياناً أخرى نتابع تجارب المؤلف في خضم مرحلة الكفاح المسلح ضد النظام الاستبدادي العراقي الذي حول العراق إلى شبكة من السجون والمقابر الجماعية وسهل احتلال البلاد وقيام أكثر الأنظمة رجعية وفسادا ولا يكاد يختلف في أسلوبه الدموي في التعامل مع المحتجين المدنيين السلميين عن النظام البعثي الشمولي السابق.

ولكن هذه النصوص يجمعها من حيث الجوهر اهتمام واحد وصوت داخلي واحد همُّهُ المركزي هو أن يبوح ويروي للجيل الحالي وللأجيال القادمة من اليساريين وعموم العراقيين حكاية هذا اليسار العتيد بكل تألقاته وهزائمه، مآثره وكبواته، إنجازاته وجراحه بلسان شاب قروي جاء إلى بغداد من قريته الصغيرة "الهويدر" في محافظة ديالى ليكمل دراسته الجامعية في ثمانينات القرن الماضي، ليجد نفسه في خضم النضال الطبقي الوطني في فترة معقدة من تأريخ العراق، وليبدأ خوض تجربة سياسية كفاحية شديدة التوتر والخطورة ستأخذه بعيدا إلى جبال العراق مقاتلاً غوارياً ضمن صفوف الأنصار الشيوعيين ومناضلاً متسللا إلى تنظيمات الداخل السرية في ذروة القمع الدكتاتوري الدموي بعد انفراد صدام حسين ومجموعته بالحكم في أعقاب ما سمي مؤامرة "قاعة الخلد"، والحروب والكوارث التي مرَّ بها العراق ثم لتنتهي به مسيرته لاجئا في إحدى الدول الأوروبية.

يتأكد لنا طابع البوح والكشف للذات قبل الآخر في ما كان قد عبر عنه المؤلف في عنوان كتابه السابق "بيني وبين نفسي"، فيقول في كتابه الجديد شيئاً مشابها: "كنت في بداياتي أكتب لنفسي ص 35". ويبدو أنه استمر باعتبار الكتابة نوعاً من التطهير والارتقاء النفسي الفردي الذي يفتح في الوقت نفسه نافذة على تجارب الآخرين ويتواصل معهم. مؤكداً وفاءه لمقولة أوسكار وايلد التي يصدر بها أحد فصول الكتاب والقائلة "الواجب الوحيد الذي يترتب علينا حيال التأريخ هو إعادة كتابته - ص75".

كتب المؤلف عدة صفحات - ص 102 ومابعدها -عن الشهيد المقدم خزعل السعدي والذي يمت له بصلة قربى "خاله"، الذي أطلق وقاد المقاومة الشعبية في قضاء الكاظمية في مواجهة الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده البعثيون والقوميون ضد عبد الكريم قاسم وحكومته، التي رغم اضطهادها للشيوعيين في سنتيها الأخيرتين حُسبت وما تزال تحسب على اليسار والشيوعية. وقد دفع قاسم ثمن فرديته وانفراده بالحكم من دمه ودماء رفاقه في قيادة الجمهورية الفتية ودفع معه ضحايا اضطهاده اليساريون الثمن الباهظ، ولكنهم دافعوا عنه في يوم الانقلاب الغادر عليه وحملوا السلاح في بغداد كما فعل الشهيد خزعل السعدي ورفاقه في محاولة لصد الانقلاب وإفشاله وهي محاولة لم يكتب لها النجاح لأسباب عديدة. وقد وردت في هذه الصفحات من كتاب السعدي معلومات ثمينة ومهمة إنما يعوزها التوثيق لأنها تعتمد إلى الروايات الشفهية المتداولة غالبا.

إن الضرورة القصوى للتوثيق، وخاصة في الأحداث المهمة والتي لم يسبق لأحد أن كتب عنها أو تناولها تتجدد حين يتطرق المؤلف إلى تفاصيل الاجتماع الذي عقد في بيت خير الله طلفاح وعزل خلاله الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ص 149، فقد كان من المهم توثيق هذه التفاصيل.

ثمة فصل عن دور اليهود العراقيين - شخصياً، لا أحبذ عبارة "يهود العراق" التي تستعملها الصحافة السائدة لأنها تشي بشيء من التبعية وتقديم الهوية الطائفية على الأخرى الوطنية العراقية، وقد تنتقص من وطنية هؤلاء العراقيين الذين تمتد علاقتهم المواطنية بالعراق إلى أكثر من ألفي عام بخلاف اليهود في جميع دول العالم- في النضال التحرري والطبقي وفي بناء الحركة الشيوعية العراقية في النصف الأول من القرن الماضي وإعدام عدد منهم على أيدي السلطات الملكية الرجعية التابعة للاستعمار البريطاني والدائرة في فلكه.

ولكن المؤلف يقدم لنا جديدا على شكل تساؤل بخصوص القيادي الشيوعي يهودا صديق والذي أعدمه النظام الملكي الهاشمي العميل لبريطانيا، غير أن الإبهام والغموض أحاطا بشخصيته وسيرته في ضوء عدم اعتباره من شهداء الحزب والاحجام عن تمجيده والتوقف عند حدود ما أشيع لاحقاً من أنه " صديق" ضعُف خلال التحقيق واعترف للجلادين ببعض أسرار رفاقه. وأعتقد أن السعدي كان محقا تماما في طرح السؤال حول حقيقة ما حدث، سيما وأن هذا الرفيق قد أعدم إلى جانب رفاقه الآخرين من قادة الحزب؛ فكيف يكون قد ضعف أو تعاون مع السلطات الملكية العميلة إذا كان لم تختلف عنه في المآل وأعدم مثلهم؟ إنَّ من الضروري في حالات خاص كهذه التعامل مع المناضلين الثوريين الذين سقطوا بين أنياب السلطات الرجعية الدموية، وخاصة أولئك الذين ضحوا بأنفسهم، بالكثير من الرهافة والحساسية والإنسانية فحتى لو كان يهودا صديق قد ضعُف للحظة خلال التحقيق معه ولكن استشهاده يكفر عنه جميع زلاته ولحظات ضعفه وينبغي التعامل معه كإنسان بمشاعر وأحاسيسي وذكريات لا كإنسان آلي خال من المشاعر والأحاسيس.

ملاحظة أظن أنها مهمة، بدا لي من المفيد إبداؤها حول هذا الفصل الذي يحمل عنوان "شيوعيون يهود في العراق". إذْ يكتب المؤلف أيضاً أن "هيمنة اليهود على الحزب الشيوعي العراقي وتحديد مواقفه ومساراته من القضايا الداخلية والعربية ومنها قضية فلسطين جاءت بموقف مؤيد لقرار تقسيم فلسطين عام 1947. ص 255". أعتقد أنَّ المؤلف يبالغ كثيراً بدور العناصر الشيوعية من أسر يهودية عراقية، فدورهم لا يختلف عن الدور المهم لأبناء الأقليات الأخرى والذين يفوق دورهم حجمهم السكاني غالباً في الأحزاب الثورية - وتجربة الحزب البلشفي في روسيا مثال واضح جدا على ذلك حتى أن القياديين الروس السلافيين كانوا أقلية في قيادته مقارنة بالروس من أبناء الأقليات القومية والدينية وخاصة اليهود - إيمانا منهم في أن هذه الأحزاب هي الكفيلة بضمان العدالة والمساواة المواطنية في دولتها الاشتراكية الموعودة.

أعتقد أن المؤلف لم يكن دقيقاً في تحميل الشيوعيين اليهود العراقيين مسؤولية مواقفه قيادة الحزب على قرار التقسيم. ومعلوم أنهم كانوا من المبادرين إلى رفض وإدانة المشروع الصهيوني في فلسطين فأسسوا "عصبة مكافحة الصهيونية"، وكانت قيادة العصبة في غالبيتها منهم، ورئيسها هو يوسف هارون زلخا، وهو من أسرة يهوديّة عراقيّة، وقد وجه زلخا نداءً إلى رئيس الحكومة السوفييتيّة بتاريخ 29/3/1946 ناشد فيه "الرفيق ستالين" تأييدَ "قضيّة فلسطين عندما تُطرح في الأمم المتحدة،" إذ: "لا التباسَ في حقّ شعب فلسطين العربيّ بالاستقلال، وقضيّتُهم لا علاقةَ لها بمأزق اليهود المقتَلَعين... إنّنا واثقون من أنّ حكومتَكم التي تعتمد مبادئُها وسياساتُها الخارجيّة على احترام حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، سوف تقف إلى جانب العرب في محنتهم.". وأخيراً فمعلوم أن من هؤلاء الشيوعيين العراقيين ارتقى أول شهيد تحت علم فلسطين واسمها برصاص الشرطة الملكية وهو المناضل الشاب شاؤول طويق وهو من أسرة يهودية أيضا.

وكنت قد ناقشت مواقف الحزب عموما من القضية الفلسطينية آنذاك في مقالة بعنوان "الحركة الشيوعيّة العراقيّة والقضيّة الفلسطينيّة" نشرت في مجلة الآداب اللبنانية قبل خمس سنوات، وقد يكون من المفيد التذكير ببعض ما ورد فيها بهذا الخصوص في الفقرات التالية:

*موقف الحزب الشيوعيّ العراقيّ من قرار تقسيم فلسطين: في هذا المفصل سنحاول أنْ نتفهّمَ موقفَ الحزب ونضعَه في سياقه التاريخيّ، لا بقصد التبرير بل الفهم. فهذا الحزب لم يختلف آنذاك، من حيث تبعيّتُه الفكريّة والتنظيميّة والسياسيّة للحزب الشيوعيّ السوفييتيّ وللقيادة الأمميّة الشيوعيّة (الكومنترن)، عن سائر الأحزاب "الشقيقة." ولكنّ الفارق، الذي يحقّ للشيوعيّين العراقيّين الفهدويّين أن يفتخروا به، هو أنه شذّ عن قاعدة الانصياع التلقائيّ للموقف الستالينيّ، ومانع كثيرًا وبقوّة، قبل أنْ يحذو حذوَ الأحزاب الشقيقة الأخرى في نهاية المطاف.

هنا نسجِّل الآتي: اختطّتْ قيادةُ الحزب الشيوعيّ العراقيّ الفهدويّة خطًّا قريباً جداً من الموقف الماركسيّ الثوريّ التقليديّ الرافضِ للحركة الصهيونيّة ومشاريعها ودولتها، وناضل طويلًا وبشجاعةٍ ضدّها. وحين صوّت الاتحادُ السوفييتيّ في الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 لصالح قرار تقسيم فلسطين، شكّل ذلك صدمةً وإرباكاً وتفتيتاً للصفوف لدى الشيوعيّين في العراق... رفضتْ قيادةُ فهد في البداية أنْ تتخلّى عن شعاراتها القديمة المعادية للصهيونيّة، ولقيام إسرائيل، ورفضت الانحناءَ للتوجّه السوفييتيّ الستالينيّ الجديد. بل هي أصدرتْ توجيهًا حزبيًّا أشارت فيه إلى تداعيات هذا التوجّه، فقالت إنّ "موقف الاتحاد السوفييتيّ بخصوص التقسيم وفّر للصحف المرتزقة ومأجوري الإمبرياليّة فرصةً لا للتشهير بالاتحاد السوفييتيّ فقط، بل أيضًا بالحركة الشيوعيّة في البلدان العربيّة." ولذلك رأت أنّ على الحزب الشيوعيّ العراقيّ تحديدَ موقفه من القضيّة الفلسطينيّة بحسب الخطوط التي انتمى إليها، ولخّصها في أربعة مبادئ، هي كالآتي:

ــ الحركة الصهيونيّة حركة عنصريّة دينيّة رجعيّة ومزيّفة بالنسبة إلى اليهود.

ــ تقسيم فلسطين مشروع إمبرياليّ قديم يَفترض استحالةَ التفاهم والعيش المشترك بين اليهود والعرب.

ــ شكلُ الحكومة في فلسطين لا يمكن أنْ يقرّرَه إلّا الشعبُ الفلسطينيّ الموجود في فلسطين فعلًا، وسيؤدّي التقسيمُ إلى إخضاع الأغلبيّة العربيّة للأقليّة الصهيونيّة.

ــ قيام دولة إسرائيل سيؤثّر سلبًا في آمال السلام في المنطقة.

كتبت أيضا: "هناك إشاراتٌ ومعلوماتٌ في السجلّات الشيوعيّة تربط التوجّهَ المساوِم والداعي إلى تقسيم فلسطين، وبيانِ ما يسمّى "اللجنة العربيّة الديموقراطيّة" في باريس، بالدور الذي لعبه يوسف إسماعيل. وإسماعيل شيوعيٌّ عراقيّ، أقام في باريس طويلًا، وليس واضحًا إنْ كان هو محرِّرَ البيان فعلًا، ولكنّ البيانَ وُزّع في العراق في إطار العمل السرّيّ، وقد أزعج ذلك قياداتِ الحزب وكوادرَه الوسيطة، وكان فهد حينها سجينا في سجن الكوت. ويروي حنّا بطاطو ــمعتمدًا كعادته على الملفّات السرّيّة في دائرة المخابرات ــ أنّ البيان أُوصل الى داخل السجن، وحين بدأ أحدُ الرفاق السجناء في قراءته بصوتٍ مرتفع، أمره فهد بالتوقّف. أمّا القياديّ الشيوعيّ عزيز شريف، فعبّر عمّا كان يشعر به الكثيرُ من الشيوعيّين العراقيّين وأصدقائهم، واستبق بيانَ باريس فكتب:

"ليس مسموحًا أن نستمدّ مواقفَنا في القضايا الوطنيّة من الاتحاد السوفييتيّ وأنْ نعتبر أنّ سياساتِه مستوحاةٌ دائمًا من المبادئ. فالاتحاد السوفييتيّ دولةٌ تفعل وتنفعل ضمن الوضع الدوليّ. وإذا كان علينا أن نقبل دون تحفّظٍ كلّ السياسات، فإنّنا سنثير عدمَ الثقة بالحركة الوطنية بين جماهير الشعب. لقد أقيمت دولةُ إسرائيل من خلال عملٍ عدوانيٍّ على أساس الاستيلاء بالقوّة على فلسطين من شعبها صاحبِ الحقّ. وإذا كانت مقاومتنا للصهيونيّة صحيحةً قبل أن تحقّق هذه الأهداف، فلماذا يمنعوننا من مقاومتها بعد أن حقّقت أهدافها؟"

وأخيرًا رُفض بيانُ مثقّفي باريس، وأصدرت اللجنة المركزيّة للحزب بيانًا اتّهمتْ فيه بعضَ العناصر المشكوك فيها بأنّها نجحت في أنْ تدسَّ في صفوف الحزب مفاهيمَ خاطئةً بالنسبة إلى الصهيونيّة، ومن بينها بيان باريس".

وهكذا يتجلى واضحا أن تراجع قيادة الحزب عن خط رفض التقسيم وخضوعها للموقف السوفيتي الستاليني لم يكن سهلا وسلسا ولم تكن هناك علاقة للعناصر الشيوعية اليهودية العراقية فيه بل ربما تتحمل "مجموعة باريس الانتهازية" بقيادة يوسف إسماعيل مسؤولية كبيرة عن ذلك.

في الختام، أعتقد أن كتاب الصديق محمد السعدي جدير بالقراءة المتمعنة والدقيقة ففيه الكثير من المعلومات الثمينة التي لم يسبق لأحد ان كتب عنها بشيء من التفصيل ولعل من المفيد أن يتدارك المؤلف في طبعات الكتاب القادمة موضوع التوثيقات الدقيقة للمعلومات التي أوردها في العديد من الصفحات لتكون الفائدة أعم وأشمل وأكثر جدوى وفاعلية في البحث التأريخي في هذه الأبواب التي تهم الحياة العراقية السياسية وخصوصا تجربة اليسار العراقي في العقود القليلة الماضية والتي لم ينته تأثيرها وفعلها في الحاضر حتى الآن.

***

علاء اللامي

...................

* رابط يحيل إلى النص الكامل لمقالتي "الحركة الشيوعيّة العراقيّة والقضيّة الفلسطينيّة" يجد فيها القارئ هوامش توثيق المعلومات الواردة فيها:

https://al-adab.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D9%88%D8%B9%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%91%D8%A9

صدر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع في القاهرة 2022م، كتاب الدكتور فالح مهدي الموسوم (استقراء ونقد الفكر الشيعي) بواقع (383) صفحة من الحجم المتوسط، وتضمن الإهداء (إلى كل شرفاء العراق، وفي مقدمتهم أبطال الانتفاضة، من مات ومن عاش من أجل خلق وطن يليق بهم)، وهو الهاجس الذي دفع الكاتب إلى تأليف هذا الكتاب بسبب التدخل الإيراني في الشأن العراقي، وانتفاضة تشرين 2019م.

وفاتحة الكتاب استعراض لما صدر من مؤلفات سابقة للمؤلف للخوض في موضوع بحث الجذور العقائدية وفق نقد العقل الدائري. كُسِر الكتاب على ثلاثة فصول وملاحظات نهائية حول الخروج من الجهل.

تناول في الفصل الأول مقدمات في اللغة والثقافة والفكر من خلال الروح السامية التي صنعت المخيلة والفكر وعلاقتها بإيران واللغة الفارسية، وقد سلط الضوء على الضعف اللغوي الفارسي، إذ يؤكد في ص27 قائلاً: (كانت مسألة اللغة والخط من العلامات البارزة على ضعف الحضارة في بلاد فارس. القوميون الإيرانيون حاقدون على العرب لأنهم أنهوا المجد الفارسي بعد سقوط الامبراطورية الساسانية، لكن هذا الحقد لم يمنعهم من اللجوء إلى اللغة العربية، بل هيمنت الآرامية قبل الإسلام بزمن طويل، وهي غير مسلحة ولا تملك جيوشاً، وأصبحت اللغة الأولى عند الأخمينيين). لذلك نجد الحضارة الساسانية لم تمتلك أثاراً عظيمة في منطقة الشرق الأوسط، ولم تصل إلى ما وصلت إليه الامبراطورية الرومانية. فضلاً عن تصريحات القادة الإيرانيين أن العراق جزء من الامبراطورية الإيرانية.

إلا أني أجد أن الحضارة الساسانية لها الدور في تعلم المسلمين النظام الإداري؛ فهم كانوا بارعين في هذا المجال، وقد تبنى المسلمين العمل في تطوير مجال تنظيم الري والزراعة والضرائب، بدلاً من اعتمادهم على الغزو في اقتصادهم الريعي والطفيلي.

أما في مجال اللغة فيجد د. مهدي أن الفتح العربي في القرن السابع قد أثر على اللغة، ففي ص42 وما بعدها يذكر أن  العربية أصبحت (لغة التواصل ولغة العبادات والصلوات... بل أن معظم الكتابات الأساسية دونت بهذه اللغة حتى بعد مرور أكثر من ألف عام)، مما اثرت اللغة العربية على نمط الكتابة الفارسية... إن عدداً كبيراً من الكلمات العربية ظهرت في الشعر الفارسي أو عبر النصوص الأدبية والثقافية). لذلك لا يمكننا القول إلا أن العربية كان لها الدور والتأثير الكبير على اللغة الفارسية، وكان واضحاً جداً تأثيرها على الشعر الفارسي ومقدار تأثير المفردات العربية إلى الفارسية يتعدى 40%.

أما في الفصل الثاني فقد سلط الضوء على الكوفة نموذجاً وبداية التشيع فيؤكد في ص78 قائلاً: (لم تكن الكوفة بيت الرحم الذي انطلق منه التشيع فحسب، بل أصبحت رأس الحربة بمواجهة السلطة الأموية بثوبها المرواني)، وهذا يؤكد لنا ظاهرة التشيع والتحضر في الكوفة باعتبارها انشط مركز في صدر الإسلام، حتى تاريخ عام 145هـ بعد تأسيس بغداد بدأت الكوفة تفقد اهميتها كمركز لإمارة). ويؤكد د. مهدي في ص92 على تأثير الموالي على المجتمع الكوفي قائلاً: (من الناحية الموضوعية لا يمكن الاستناد إلى كتابات الشيعة نظراً لتغلب عناصر الاحباط والمبالغة والتهويل، بل حتى الكذب فيما ورد فيها)، بسبب ما ذكرته مدونات الكليني في القرن الرابع الهجري وانحراف المسيرة الشيعية عبر خطه الخطير ومن جاء بعده.

وسلط الضوء في الجزء الثالث من الكتاب على الإبداع والخبث في اسماء اعلام ظهروا في الحقبة الزمنية للقرن الثالث والرابع الهجري ومنهم الكليني المؤسس للتحريف في المذهب الشيعي والمجلسي كما يرى ذلك الدكتور. ففي ص111 يذكر في الكتاب أن كتاب الكافي للكليني (الذي قضى ثلاثين عاماً في تأليفه كما يدعي اتباعه... لم يذكره ابن النديم –توفى في نهاية القرن الرابع- في فهرسه. بل لم يهتم أحد بشأنه خلال قرن من الزمان بعد موته، وهذا امر جدير بالملاحظة. ولم يتطرق إليه أحمد بن عبدون (423هـ-1030م) إلا بهذه المعلومات البائسة والتي تتمثل في "أن لا معلم لقبره"!). مع العلم أن الكليني قد عرض كتابه (الكافي) على القائم كما يذكر في المقدمة فيقول الكليني (استحسنه وقال "كاف لشيعتنا") ص25.

ويؤكد الدكتور في كتابه على الاساءات التي قدمها الكليني في كتابه، من خلال الأحاديث الواردة والتي تنسب إلى الإمام جعفر الصادق منها ما ذكره في ص117 قائلاً: ((نحن وشيعتنا من طينة خاصة) ويؤكد الدكتور كيف نصدق ذلك؟... الشيعة كالسنة وكأي مجموعة بشرية فيهم الحقير والدوني، الذكي والغبي والنبيل والمجرم، التافه والحصيف، الدجال والشريف... وإذا صح ذلك من أن الشيعة من طينة خاصة فكيف يمكننا أن نفهم أن أمهُ حفيدة أبي بكر الصديق! وأن أباه محمد الباقر الإمام الخامس كان مصاباً بمرض نفسي خطير منع عليه وضوح الرؤيا، للزواج من حفيدة جده علي بن أبي طالب! إن رأسمال الافتراءات والأكاذيب لا يصمد أمام الحقائق التاريخية. كيف يمكننا أن نصدق ولو للحظة واحدة بأحاديث وحكايات تنسب لمحمد الباقر وابنه جعفر الصادق من أن أعداء الشيعة من الطين النتن لجهنم)). لذلك نجد أن كتاب الكليني وما ورد فيه من احاديث بعيد عن المفاهيم الإنسانية، ولذلك يجد الدكتور مهدي أن كتاب الكليني وما جاء فيه هو (قمة الابداع وقمة الخبث) ص119. ويسرد الدكتور في كتابه الكثير من الأحاديث التي لا يقبلها العقل والمنطق، فيجد معظم الأحاديث عارية عن الصحة بدرجة أن الشريف المرتضى وهو من كبار مثقفي القرن الرابع الهجري اعتبره غير الموثوق به، ودليله على ذلك في ما ورد في الكتاب ص126 يقول: (في الصفحات الأخيرة من المجلد الأول، نجد الكليني وعلى لسان أبي عبد الله "والحقيقة أن أبا عبد الله ليس إلا الكليني: يقول: "نحن الراسخون في العلم، ونحن نعلم تأويله" –ص529 ج1- وهذا القول سيقود الكليني إلى تنحية القرآن والاعتماد على الحديث النبوي الذي صنعته يداه وعقله الايديولوجي)، كما يذكر أن الكليني ورد كلاماً عن (مصحف فاطمة ص595 ج1) قال: (مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد). ويذكر الدكتور في كتابه الكثير من الأحاديث التي ذكرها الكليني في كتابه الكافي الذي لم يسندها إلى مصدر، وهذا ما يؤكده السيد كمال الحيدري في أحد لقاءاته مع الاعلامي سعدون محسن ضمد.

وفي ص135 وتحت عنوان (الخروج من الجهل.. ملاحظات نهائية) يذهب الدكتور برحلة سياحية عن مركز الكون وتضخيم الذات وعقدة الدونية وعقدة العظمة، والشاهنامة الملحمة للفردوسي المعبرة عن عقدة النقص الفارسية، ويسلط الضوء في ص164 وما بعدها على عنوان (زرادشت علي بن أبي طالب) ليعرض لنا في ص167 صور للإمام علي بالرسم الفارسي التي ترمز لعلي والأسد قائلاً: (وفق المخيلة الإيرانية التي تحول علياً رمزاً للجمال الذكري ذات بشرة بيضاء يشع من وجهه نورٌ سماوياً، ونجده في معظم الصور وأمامه سيفه الذي أريد له أن يكون ذو الفقار –ذو الفقار الذي اختلف عليه المؤرخون الأوائل هل كان له ثماني فقار على ظهره ولم يتحدث أحد عن رأسين في طرفه-) ص166/173.

كما استعرض الدكتور في الكتاب صفحات كتابه 175- 186 تحت عنوان (عمر بن الخطاب الرمز المطلق للشر) قائلاً (عمر بن الخطاب يمثل أحد أمراض الطفولة في العقل الجمعي الفارسي، وفي تقديري أن تلك الصورة القاتمة السوداء لهذا الرجل تعود إلى انتصاره على الامبراطورية الساسانية... وكراهية القوميين الإيرانيين لعمر بن الخطاب يعود في تقديري إلى الترابط ما بين العقائدي والسياسي والأسطوري). مع العلم أن عمر بن الخطاب اقام أعظم حضارة في القرون الوسطى، لكن الفرس لهم موقف معه من الكراهية بسبب انهاء الامبراطورية الساسانية.

ثم ينقلنا الدكتور في هذا الفصل إلى عناوين كثيرة لا يمكن نقلها في هذه القراءة الموجزة، منها (قراءة في الجهل، الجهل والسياسة، العقل والعقيدة، الروح والجسد، الكليني والروح، المؤسسة الشيعية والجهل، صناعة الجهل، تطور الجهل، مفهوم المهدي وصناعة الأمل، الانتظار، الغزالي وعلاقته بالزرادشتية، صورة العربي في الأدب الفارسي الحديث، التنقل والتحضر، المرجعية الدينية كقوة معادية للشيعة في العراق، عرقنة المؤسسة الشيعية، الجغرافيا والطموح الإيراني، الشعوبية، دور الكليني والفردوسي والمجلسي في سرطة الذات الفارسية، دور فاطمة في الهندسة الكلينية- المجلسية، وهم اسمه سلمان الفارسي، المخيلة الرثة، الذات المسرطنة).

وملخصاً لما ورد في الكتاب يؤكد الكاتب في قرائته النقدية لذلك الموروث الذي تم تشييده في القرن الرابع الهجري، ونحت في تلك الثقافة المسمومة التي لا زالت حيَّة ترزق، ويفنّد الكاتب مهدي في كتابه هذا تاريخ الموقف الإيراني على الإسلام، وعلى سياقات السنة النبوية بشق صفوف المسلمين عبر تشكلات وارهاصات واحاديث موضوعة ما زالت تقوم حتى يومنا هذا، تحت شتى المسميات مدعية الأحقية والنسب لآل الرسول (ص). وإن التشيع المعاصر تشيع فارسي في جوهره، ويخدم الطموح الإيراني للسيطرة على هذه المنطقة. لأن تشيع القرن الأول الهجري بعد مقتل الإمام علي بن أبي طالب، لا علاقة له بالتشيع الذي تشكَّل في القرن الرابع الهجري وفي بغداد تحديداً.

واخيراً بعد هذه القراءة الموجزة أنا أجد الكاتب قد وضح بشكلٍ كبير الموقف الإيراني في المنطقة عامة وفي العراق خاصة، ودور الهجمة الفارسية على العراق ومحاولة اعتباره جزءاً لا يتجزأ منهم، ليتحول التشيع العراقي إلى نسخة إيرانية لا ترضي ابناء الشعب العراقي بقومياته ومذاهبه واطيافة، فالكتاب عبارة عن بحث متنوع ومتشعب وعميق في توضيح الدور الفارسي في التراث الشيعي، وقد وضح الكاتب الخنوع والخضوع لدى الكثير من التابعين دون أن يفكروا بنتائج هذه التبعية، والابتعاد عنها والانتماء لأرض الرافدين.

كما اعتمد الدكتور فالح مهدي في كتابه على الكثير من الهوامش والمراجع والمصادر الاجنبية والعربية والمعاجم والموسوعات.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

كيف نتعامل مع الاختلافات الثقافية في المجتمعات المتعددة ثقافيا؟ هذا السؤال كان موضوعا لنقاشات عامة ساخنة. أي نوع من الملابس يكون ملائما لبركة سباحة عامة، او لأداء القسم في احتفال المواطنة؟ هل يجب على المدارس الممولة من الدولة ان تعطي تعليمات لترسخ ثقافة دين واحد فقط؟ كيف يجب ان تحكم الدولة بين المواطنين الذين لديهم قيم مختلفة راديكاليا حول قضايا مثل الاجهاض؟ في كتاب (مناقشة التعددية الثقافية وهل يجب ان تكون هناك حقوق للاقليات  يجادل  العالمان في السياسة بيتر بالنت و باتي لينارد بقوة حول الكيفية التي يجب ان تجيب بها الدول والمجتمعات على هذه الأسئلة. وكما يشير عنوان الكتاب، هما يهتمان بشكل خاص بحقوق الأقليات في سياق التنوع. هما يعالجان نقاشات حول نطاق واسع من الاختلافات الثقافية ويذكّراننا بأن هذه الاختلافات هي عميقة، تذهب بعيدا الى ما وراء التقاليد المختلفة حول الطعام واللباس. الناس لا يتفقون حول أسئلة مثل الحق في الموت الرحيم، على سبيل المثال، وما اذا كان مسموحا به دائما او يُسمح به في ظروف خاصة. ونظرا للاختلافات الثقافية المتجذرة عميقا حول قضايا العالم الواقعي كتلك التي أشرنا اليها الان، كيف يمكن ان نعيش مجتمعين في مجتمعات متعددة ثقافيا؟

بالنت يتبنّى الرؤية الليبرالية بان المطلوب هو التسامح. لتحقيق هذا، يجب على الدولة ان تسعى الى الحيادية، والتي يمكن ان تتخذ عدة أشكال. الدولة يمكنها ان تساعد جميع الأديان في اختيارها لكل اشكال التعليم الديني. او ان الدولة لا تساعد أي منظور ديني، وبدلا من ذلك تضمن الدولة ان يكون كل التعليم في البلاد علمانيا. كلا الاتجاهين يلبيان معايير الحيادية، ومن ثم الدولة المتسامحة. ان أهمية انجاز مثل هذه الحيادية هي انها لا تعطي أي أفضلية معينة ولا كراهية معينة لأي جماعة معينة سواء كانت هي الأغلبية في البلاد او الأقلية. لكن هناك حدود لحيادية الدولة، كما يعترف بذلك بالنت. الدولة العادلة لا تستطيع ان تكون حيادية عندما تواجه طرقا للعيش تؤذي الآخرين. الدولة لا يمكنها معاقبة التطرف العنيف، ولا يمكنها ايضا ان تكون محايدة حول إجراءات السلامة التي تحمي الناس – مثل الحاجة لتطبيق قوانين تمنع السياقة تحت تأثير الخمر او العقاقير الاخرى. وبشكل عام، الدولة يجب ان تحمي حياديا حقوق الأغلبية والأقليات في اختيار أساليب الحياة المتميزة، ولكن فقط عندما تكون أساليب الحياة هذه منسجمة مع العدالة، وتُفسر بشكل رئيسي كوسيلة لتجنّب الاذى.

وكما في الدولة، المواطنون ايضا لديهم مسؤوليات ليكونوا متسامحين. نحن لأسباب أخلاقية (دينية او علمانية)، ربما نعارض بقوة وجهة نظر الآخرين في الموت الرحيم او الإجهاض. يجادل بالنت ان مثل هذه المعارضات هي مقبولة تماما في المجتمع المتعدد ثقافيا. في الحقيقة، هو يرى بان الإختلافات العميقة حول هكذا أسئلة هي في الحقيقة خصائص للمجتمع المتنوع . نحن يمكننا الحفاظ على وجهات نظرنا المختلفة بعمق ونظل متسامحين، كما يقول، من خلال رفض التصرف بناءً على اعتراضاتنا واستيائنا. مهما كانت عقيدتنا، المجتمع المتسامح يتطلب ان نتصرف كما لو كنا غير مختلفين تجاه قيم وآراء الآخرين. هذه "اللامبالاة النشطة" هي أسهل ولذلك هي أكثر ملائمةً من طلب تقدير متبادل من اولئك الذين يؤمنون بقوة بآراء مضادة، خاصة حول أسئلة أخلاقية خلافية.

هناك مزايا هامة للدول المتسامحة والمواطنين المتسامحين. يرى بالينت، انها تعزز الحرية لكل المواطنين، وليس فقط للجماعات الأثنية. هو يعرض أمثلة عن اليهود الأرثودكس المتحفزين دينيا لرفض التصويت في أيام السبت. نظرا لهذا الالتزام، لو اُجريت الانتخابات يوم السبت، هم سوف يُحرمون من حق التصويت. بدلا من سن قوانين تمنح اليهود حقوق أثنية خاصة للتصويت في يوم آخر، فان الدولة الحيادية يمكنها مثلا السماح بالتصويت عبر عدة أيام. هذا يعزز الحرية لجميع المواطنين بما في ذلك المواطنين الذين يعملون في أيام السبت وليس فقط اليهود الارثودوكس. وبالمثل، مهما كانت اراؤنا الشخصية حول الجاذبية والأهمية الدينية للذقون، نحن ندعم حرية كل شخص عندما لا نكون مبالين سواء ربّى الناس الذقون ام لم يربّوا. وكما في الدولة المحايدة، المواطن الذي لايبالي في سلوكه تجاه اولئك ذوي الآراء المختلفة وبنفس الوقت يؤمن بقيمهم وأفضلياتهم، هو سيكون مرغوبا لأن ممارسته للتسامح هي تعزيز لحرية الجميع.

في دفاعها عن حقوق الأقليات في المجتمعات المتعددة ثقافيا، ترفض لينارد هذه الحجج. هي تجادل بان هذه التفسيرات لا تعالج المآزق التي تبرز في العالم الواقعي. هي تلاحظ بانه في العديد من المجتمعات وربما معظمها، الناس من ثقافة الاقليات يتم التعامل معهم دائما باحترام أقل من جانب ثقافة الأغلبية. صوتهم له سلطة قليلة في الأماكن العامة وهو ما يضر بمشاركتهم في الحياة السياسية والاجتماعية. لكن خلق حياة مشتركة عامة قوية هو ضروري لديمقراطية ذات معنى. تؤكد لينارد ان الحاجة لمشاركة نشطة لجميع المواطنين بمن فيهم ذوي ثقافة الأقليات سوف يعمق الاندماج السياسي الذي هو من حيث الجوهر يعني مشاركة في كل مظاهر الحياة العامة. في كندا، يُمنح السيخ في الشرطة الوطنية الكندية إعفاءً من معايير ارتداء القبعة، لأنه يصعب ارتداء العمامة والقبعة الطويلة في وقت واحد. الإعفاء الخاص بجماعة السيخ مقبول لدى لينارد لأنه يزيل عوائق عمل السيخ في الشرطة الكندية. احدى مزايا هذا الإعفاء انه يساهم بثقافة وطنية مشتركة تحترم الاختلافات. ان تطوير اعجاب عام بالتنوع هو مفيد لثقافة الاقليات كونه يشجع اندماجها بمختلف مظاهر الحياة السياسية.

ترى لينارد ان الاقليات الثقافية تتطلب حقوقا خاصة اخرى. لغات الأقليات يجب ان يكون لها الحق بترجمة المواد القانونية والطبية والسياسية الى لغتهم الخاصة. هذه الترجمات هي ضرورية للاقليات للوصول للمنافع الاساسية السياسية والطبية والقانونية، وتعزيز الاندماج الحيوي عبر مختلف مظاهر الحياة العامة. حقوق "مساعدة" للاقليات مثل حق الترجمة له نتائج مفيدة للجمهور العام ايضا. المشاركة بمعلومات الصحة العامة بعدة لغات اثناء الوباء ساعد حسب لينارد في ضمان تقليص انتشار الوباء . هذا ساهم في الحفاظ على صحة اولئك في الأغلبية، بالاضافة الى اولئك الذين يتحدثون لغة الجاليات. غير ان هناك  بعض الحقوق المساعدة مثيرة للإشكالية. سياسات العمل الايجابي جرى نقاشها كثيرا، طالما هي توفر طرقا مفضلة للاقليات للوصول الى التعليم والعمل وما شابه. تؤكد لينارد ان سياسات العمل الايجابي هي ضرورية عندما تكون الاقليات مستبعدة منهجيا من المواقع السياسية والاجتماعية الهامة. الفعل الايجابي يعالج هذه اللاعدالة عبر مساعدة الاقليات الثقافية ليتم دمجها بانصاف. العمل الايجابي، كحق للاقلية، يستجيب الى اللامساواة  في العالم الواقعي ويساعد في اصلاحها وتحسين اندماج الأقليات الثقافية.

غير ان هناك بعض الاقليات الثقافية لا تسعى الى اندماج كبير في الجالية الأوسع. بعض مجتمعات الاميش،مثلا، تعتمد سياسات انعزالية. فما هي حقوقهم كأقلية؟(1)

لتقرير كيف يجب ان تكون حقوق الاقليات المنعزلة، لينارد تدعو لدراسة متأنية للاضرار المحتملة. طلبات عوائل الاميش لإعفاء الاطفال من التعليم لأجل العمل في المزارع يجب احترامها، لأن "التدخل القسري" لإجبار الاطفال على المشاركة في التعليم يسبب أذى كبير. أطفال الاميش لا يجب إعفائهم من قوانين العمل التي تحميهم من اخطار بعض اشكال عمل المزارع.هذا يعني بان حقوق خاصة للاقليات يجب موازنتها بدقة مع الأضرار المحتملة في تلك الحقوق. هناك فوائد واسعة لإحترام القيم الثقافية للجماعات المنعزلة. هذا الاحترام يعزز الثقة الضرورية للتعاون بين ثقافة الأقلية وثقافة الأغلبية. نظرا لأن الحركات الثقافية الانعزالية لايمكنها ابدا ان تكون مستقلة بالكامل، فان هذه الثقة ستعزز الكثير من الحياة السياسية الاندماجية.

تجادل لينارد لأجل دول متعددة ثقافيا ذات اندماج سياسي يدعم الحقوق الثقافية للاقلية ويحترم الاختلافات الثقافية. بالنت من جهته يدافع عن دولة محايدة متسامحة وعن مواطنين يمارسون لامبالاة نشطة تجاه اولئك الذين لا يتفقون معهم. ربما هي قوة في الكتاب وليس ضعفا ان بالند ولينارد لايحاولان تسوية اختلافاتهما. هما لا يقدمان حلا ولكن يقدمان بدلا من ذلك مبادئ مختلفة تؤطران آرائهما المتضادة، لذا يساعداننا للتفكير بطرق جديدة. في أوقات الاستقطاب الذي نعيش به، حوارهما هو تذكير نافع باننا يمكننا عدم الاتفاق باحترام. اذا اردنا العيش في مجتمعات متنوعة ثقافيا، فان مثل هذا النقاش الدقيق هو مكان جيد للبدء.

كتاب مناقشة التعددية الثقافية: هل يجب ان تكون هناك حقوق للاقليات؟ للكاتبين بيتر بالنت و باتي تامارا لينارد، صدر عن مطبوعات جامعة اكسفورد عام 2022 في 320 صفحة.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) الآميش هم جماعة عرقية دينية ذات اصول سويسرية والمانية. يعيش الاميش حياة بسيطة، هم يقدسون الحياة الريفية والعمل اليدوي الشاق، يميلون للتواضع. يهتمون بتربية الاطفال واقامة علاقات مع الجيران والأقارب. هم يعتقدون ان العوائل الكبيرة نعمة من الله. يسافر الايميش باستخدام الحصان او العربات التي تجرها الخيول لأنهم يعتقدون ان العربة التي يجرها الحصان تعزز الحياة بوتيرة بطيئة. هم لا يرغبون بالتكنلوجيا لأنها تقلل الحاجة للعمل الشاق وتعكر وقت العائلة، كما انهم يحبون المحادثات وجه لوجه. حسب احصاءات عام 2023 بلغ عدد الايميش في الولايات المتحدة 377 ألف شخص وفي كندا حوالي 6000.

 

كتاب الفتنة والانقسام من تأليف الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، وهو بمثابة استكمال للجزء الأول من الدراسة التي أعدها الباحث والموسومة ب "النبوة والسياسة"، صدرت الطبعة الثانية المنقحة من الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2012، إذ يقع في قسمين رئيسيين وعشرة فصول، بحيث يتناول أبعاد وخلفيات الصراع المسلح على السلطة الذي نال من وحدة المسلمين خلال عهد الخلافة الراشدة، وتحديدا أثناء حكم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وسنضيء فيما يلي على أبرز محطات ذلك الصراع الدامي، فضلا عن الخلاصات التي يسعنا استنباطها حول المسببات الفعلية لتلك الأحداث. 

أولا: حروب الردة: تمرد سياسي من قبائل الأطراف على دولة المدينة

عرفت فترة حكم الخليفة أبي بكر الصديق وقائع صادمة اصطلح على تسميتها ب "حروب الردة" بعد وفاة الرسول (ص)، والتي هددت مصير الجماعة الإسلامية في وقت مبكر من اجتماعها السياسي بحيث طال التمرد أجزاء واسعة من الجزيرة العربية حينئذ (اليمن، البحرين، عمان... إلخ)، ويمكن إيجاز أهم أسبابها وخلفياتها كما يلي: 

* لقد كان إسلام القبائل المرتدة في معظمه بعد فتح مكة إسلاما صوريا أو مصلحيا أملاه الخشية من فشو وتوطد سلطان دولة المدينة بعد إسلام قريش، وليس إسلاما عن قناعة وتصديق، بل حتى إسلام قريش كان – عند الكاتب - إسلاما سياسيا بمعياري توقي الضرر واستجلاب المصلحة.

* آذن حدث وفاة النبي عند القبائل المتمردة بانهيار دولة المدينة وانفراط عقدها، وهو التقدير السياسي الذي أثبتت وقائع الصدام المروعة بأنه بُني على حسابات خاطئة، إذ تصدى أبو بكر الصديق بكل حزم وغلظة لتمرد القبائل، مما أفضى إلى سحقه ومن ثم الحفاظ على وحدة الجماعة الإسلامية في حدودها الدنيا.

تأسيسا على ما تقدم، يرى الكاتب بأن حروب الردة انطوت على دلالات سياسية أكثر منها دينية بحتة، بحيث عكست صراعا بين منطقين متقابلين: الدولة/ القبيلة، وخاصة في ظل حداثة عهد العرب بفكرة الدولة التي لم تنضج بعد في أذهانهم: "ولذلك ما حسب (أبو بكر) حربه على المرتدين حربا دينية وإنما سياسية هدفها إخضاعهم للدولة، لا حملهم على اعتناق الإسلام من جديد"، لكنه توسل بخطاب ديني (اتهامه لمانعي الزكاة بالردة والخروج من الإسلام رغم معارضة كبار الصحابة له ومن بينهم عمر بن الخطاب في ذلك الاتهام) لضمان التفاف واسع حول استراتيجيته السياسية.

ثانيا: الصراع المسلح على السلطة في عهدي عثمان وعلي

عرف العهد الثاني من فترة حكم عثمان بن عفان ظهور معارضة سياسية قوية للخليفة ارتكزت على مجموعة من المطاعن: إسناده المناصب السياسية والامتيازات المالية إلى بني أمية والمقربين منه وإقصاء الهاشميين (آل البيت) من السلطة، مخالفته سنة الرسول (ص)... إلخ، وهي المعارضة التي ما لبثت أن تحولت إلى ثورة مسلحة على الخليفة انتهت بحصاره ثم اغتياله في ظروف تراجيدية.

كما شهدت فترة حكم علي بن أبي طالب عددا من الحروب الأهلية المسلحة بين كبار الصحابة على السلطة، بدءا من تمرد البصرة الذي قاده حلف طلحة والزبير وعائشة وانتهى بانتصار علي في معركة الجمل، مرورا بانشقاق الخوارج عن جيش علي وإقدام الأخير على تصفيتهم في معركة نهروان، وصولا إلى الصراع الأكثر كلفة من حيث الخسائر في الأرواح والتداعيات السياسية بين علي ومعاوية بن أبي سفيان، والذي حسمه الأمويون وممثلهم معاوية لصالحهم دون أن يؤذن ذلك قطعا بنهاية الانقسام الحاد.

وإجمالا، شكلت تلك الأحداث مؤشرا واضحا على سقوط هيبة الخلافة وفقدانها لمضمونها ووظيفتها السياسية المفترضة كأداة لحفظ وحدة وتماسك الجماعة الإسلامية. وفي هذا المضمار، ينبه الباحث إلى بعض الروايات التاريخية الذاهبة إلى أن عليا لم يتمتع بسلطة فعلية لأنه كان سجين إرادة الثوار (على عثمان) من القراء والقبائل الطرفية (بدليل إجباره على قبول التحكيم من طرف قادة جيشه في معركة صفين التي دارت بين علي ومعاوية رغم معارضته له)، إذ نشأ واقع سياسي جديد يتمثل في رجحان ميزان القوى لصالح الأطراف في علاقتهم بالسلطة المركزية للخليفة.

ثالثا: استنتاجات عامة

من خلال التمعن في مضامين الكتاب، في وسعنا تلخيص أهم العوامل التي أفضت إلى انفجار الصراع التراجيدي بين كبار الصحابة على السلطة من منظور تحليلي شامل دون الإمعان في تفاصيل وجزئيات الأحداث كما يلي:

1. عدم وجود قواعد سياسية واضحة لعقلنة وتنظيم الصراع على السلطة وأساسا غياب نص تشريعي ديني (من القرآن أو السنة) قاطع بشأن مسألة خلافة النبي، وبالتالي ادعاء كل فريق من المتنافسين بأنه الأحق بالخلافة تحت مبررات مختلفة: امتياز النصرة (الأنصار من أهل المدينة)، امتياز السابقة والقُدمة في الإسلام (المهاجرين)، امتياز القرابة من النبي (ص) (آل البيت وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب)، الاستناد إلى العصبية الأقوى في قريش (بني أمية)... إلخ. 

2. هشاشة المجال السياسي الإسلامي، وعدم رسوخ فكرة الدولة وما تقتضيه من خضوع للسلطة المركزية في ظل واقع تمرد الأطراف على سلطة المركز.

3. جدلية الديني – القبلي: ولعل أجلى مظاهرها الصراع الممتد بين الفرعين الأقوى في قريش (= بني أمية وبني هاشم)، الشيء الذي يدل على انبعاث العصبيات القبلية وخروجها من عقالها بعد وفاة النبي (ص).

4. عامل الصراع على السلطة والثروة الذي برز على نحو صارخ في أعقاب لحظة الفتوح وما أسفرت عنه من تدفق هائل للثروة. وبرغم بعض النتائج الإيجابية المتولدة عن الفتوح كاتساع رقعة دولة الإسلام التي عرفت نوعا من المأسسة والتطور الذي طال أجهزتها، فإن لحظة الفتوح – بالمقابل – أفرزت تفاوتا طبقيا واجتماعيا نتيجة تركيز الثروات لدى فئات بعينها، وظهور طبقة جديدة (من كبار الصحابة) مالكة للأراضي والثروة نتيجة سياسة الإقطاعات والأعطيات، دون إغفال ما تمخض عن ذلك من تغير قيمي طرأ على تلك الفئة من أوضح تعبيراته: الانتقال من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش، من الزهد والتبسط في العيش إلى البذخ والإسراف، من التآزر والتراحم إلى التحاسد، مما سيفضي بالمحصلة إلى انفجار الخلاف الدموي على السلطة والثروة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

رغبني صديق عزيز عليه، وهو باحث بالشأن السياسي العراقي، وأثق بتحليلاته ورؤيته السياسية حول مجريات الوضع في العراق ومستقبله، بقراءة كتاب ” سهام الليل ” للصحفي الامريكي المتمرس ريتشارد بونين حول رحلة أحمد الجلبي الطويلة في العراق وترجمه الى العربية محمد شيا . الكتاب بموقع ٤٧١ صفحة وبقطع متوسط . وقد أعارنياه صديقي لقراءته، وهذا ما قرأته في صفحاته .

يستهل ريتشارد بونين في كتابه ”سهام الليل ” سيرة أحمد الجلبي العجيبة والغربية منذ بواكير طفولته الأولى في بغداد ونشأته في عائلة بغدادية إرستقراطية، حيث والده عبد هادي يمتلك أراضي ومشاريع ووضع مالي يفرده عن الآخرين من أبناء المجتمع العراقي لحين أن تحل ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، وتقتل العائلة المالكة بطريقة مرعبة والرقص على جثثهم وتقطيعها . السيد هادي والد أحمد الجلبي ومن تداعيات الموقف يقرر ويترك ما يملكه في العراق من جاه ومال ويحمل أولاده هارباً الى عاصمة الضباب ” لندن ” . وهنا تبدأ سيرة الطفل أحمد الجلبي بعمر ١٤ عاماً، وهو يرى والده منزوياً في غرفته في العاصمة لندن حزين ويبكي !.

يكلل المرحوم أحمد الجلبي جهوده المضنية في إقناع الامريكان بتجيش جيوشها في إحتلال العراق وإسقاط نظامه السياسي وتدمير كيانه وتحطيم مؤسساته، بعد أن كان ينعتوه بعض السياسيين الامريكيين بالانتهازي والدجال والمختلس. على ضوء تداعيات بنك ” البترا ” في العاصمة الاردنية عمان، وفشله الإداري في تبديد حوالي بليون دولار، وما لحق به من سمعة سيئة لاحقته لسنوات، وصدر بحقه حكم غيبابي من قبل القضاء الاردني، وبات مطلوب بحكم قضائي وعرضه للتشهير والاختلاص . فكل الممرات أمامه أصبحت غير متاحة وهو المصرفي السيء السمعة، فوثب دخول عالم السياسة، وهو حلم قديم كان يراوده بين الحين والآخر في معاداته لحكم نظام صدام حسين، فشتغل على نهج الطائفية ومظلومية الشيعة في العراق واستبدال حكم الاقلية السنية بحكم الاكثرية الشيعية، لقد كانت فكرة في غاية التطرف، فمنذ قيام السلطة العثمانية في القرن الثالث عشر، أستمر السنة في حكم الارض العربية، حتى في الاجزاء التي يشكل الشيعة الأكثرية فيها، كما كان حال العراق .

وقد لاقى الجلبي صعوبات ومعوقات جمة في إستمالة الموقف الامريكي بدعمه في إسقاط نظام صدام حسين . والعراق كان يخوض حرب مع إيران ومحاولة الآخيرة في إحتلال اراضي عراقية من خلال غزوات بشرية هائلة والامريكان وأصدقائهم يدعمون العراق في حربه ضد إيران، خوفاً من تميل كفة الحرب لصالح إيران وتتعرض المصالح الامريكية الاستراتيجية للضرر في السعودية والكويت . في ٢ آب ١٩٩٠ غزا العراق الاراضي الكويتية وضمها الى العراق وإعتبارها محافظة عراقية التاسعة عشر . أستغل الجلبي غضب الموقف الامريكي من قدوم العراق على هذا التصرف الأهوج، ونشط في الاتصالات بالجهات الامريكية المعنية في وزارة الدفاع ودائرة سي أي آيه، وبين صفوف المعارضة العراقية من أكراد وقوميين وإسلاميين وبعثيين وشيوعيين في العواصم دمشق وطهران ولندن، بعد أن كانوا منسيين وبعيدين عن أي دعم من دول خارجية مؤثرة في القرارات الدولية .

يذكر سالم الجميلي الضابط المسؤول عن شعبة أمريكيا في المخابرات العراقية في كتابه ” المخابرات العراقية أسوار وأسرار ” الصادر في حزيران عام ٢٠٢٣ . في صفحة ٣١٠ .

” كان الجلبي خبيراً مالياً يقيم في عمان ويرأس مجلس إدارة بنك البتراء في فترة الثمانينات، وبالنظر لحاجة جهاز المخابرات إلى خبير مالي لأهداف مرتبطة بالحرب مع إيران فقد تم التحرك عليه بغطاء وزارة المالية كمرحلة أولى، ثم أصبحت العلاقة به مباشرة من خلال مدير عام الخدمة الخارجية كاظم مسلم، حيث التقاه في عمان وكذلك أشرف على إدارته فاروق حجازي، وكان الجلبي سعيداً بعلاقته مع الجهاز . تم تكليف الجلبي بمهام تتعلق بجمع المعلومات الخاصة بالصيرفة والحسابات السرية لبعض شخصيات المعارضة العراقية والحسابات الشخصية لرؤساء عرب، وكانت المهمة الأساسية كشف الحسابات الخاصة بمافيا تجار السلاح وحركة الاموال لتغطية العقود العسكرية السرية الخاصة بتجهيز إيران بالعتاد والسلاح، وقد زود الجهاز بمعلومات قادتنا الى معرفة صفقات السلاح السرية التي عقدتها إيران مع بعض الدول، وبالتالي معرفة مصادر التسليح وحجمه ونوعه ومعلومات هائلة تتعلق بالمجهود الحربي أثناء فترة الحرب العراقية الإيرانية، وبذلك فقد ساعد الجلبي بشكل مباشر في عمليات دعم المجهود الحربي، كما إنه تبرع في عام ١٩٨٩ بست عشر سيارة تويوتا بيك أب في حملة إعادة إعمار ميناء الفاو، وقد أثنى الرئيس صدام حسين على الجلبي وقال عنه إنه أبن عائلة عراقية عريقة وليس لدينا شيئ ضده، وقد خطط الجلبي لزيارة العراق في تلك الفترة، وكان الرئيس قبل ذلك قد وافق على طلب الملك حسين تولي الجلبي رئاسة مجلس إدارة بنك البتراء في الاردن في عام ١٩٨٢ .

بعد غزو الكويت عام ١٩٩٠ وما ترتب على ذلك من عقوبات وحملة عسكرية، ألغى الجلبي زيارته للعراق وانقلب علينا، وفي عام ١٩٩٢ أسس الجلبي المؤتمر الوطني العراقي كحزب معارض للنظام . وفي عام ٢٠٠٠ أسس مكتب المعلومات لصالح استخبارات وزارة الدفاع الامريكية، وكان أحد مصادر المعلومات المفبركة عن برنامج العراق الكيميائية والبيولوجية التي قادت الى إحتلال العراق، وعلى الرغم من أن المخابرات المركزية الأمريكية لم تثق به ورفضت اللقاء به وأعتبرته شخصاً كاذباً إلا أن الهيئة السياسية في وزارة الدفاع هي التي إلتزمته واعتبرته أحد مصادرها الموثوقة عندما كانت تسوق الأكاذيب لإيجاد أدلة على وجود أسلحة دمار شامل في العراق . وبعد إحتلال العراق في العام ٢٠٠٣، كانت إحدى مهام مكتب الجلبي القذرة في نادي الصيد هي أستدراج المسؤولين السابقين بعد تقديم ضمانات كاذبة وطمأنتهم وبالتالي تسليمهم إلى القوات الأمريكية، كما أن أحد أعضاء مكتبه المدعو انتفاض قنبر، كان الدليل الذي قاد القوات الأمريكية الى مسكني للقبض علي في نيسان ٢٠٠٣ بعد أن جند أحد أبناء الجيران لمراقبتي ”” أنتهى النص .

تدلك صفحات الكتاب على جهود الجلبي المستمرة في السعي للانقضاض على النظام رغم كل الخيبات والمواقف المتناقضة من قبل الأجهزة الامريكية في اتخاذ القرارات وصراعات مراكز القوى بينها . في العام ١٩٩٦، عندما إجتاحت قوات الحرس الجمهوري مدينة أربيل العراقية في أقليم كردستان، دمرت وأستباحت مقرات ومواقع المؤتمر الوطني العراقي على بكرة أبيها والتي كانت بحماية ”سي أي آيه ” . وكان الجلبي في يومها يقضي وقتاً مع زوجته وأولاده الاربعة في عاصمة الضباب لندن . وعندما عاد الى أربيل وجد بقايا وشظايا ما بناه طيلة سنوات، ولقد أتخذ قرار مسبق من قبل ” سي أي آيه ” بالتخلي عن دعم المؤتمر الوطني ورئيسه أحمد الجلبي على كافة المستويات . مما أصيب الجلبي بالعزلة لكنه لم يراوده اليأس، لقد عاد الى لندن مرة آخرى يبحث عن منفذ أمريكي آخر يدله على تنفيذ مشروعه فأخترق البنتاغون الامريكي عبر عدة سيناتورات يكظمون الحقد والكراهية للعراق وأهله، وتم عبرهم إحتلال العراق وتدميره بحجج واهية . وما يعانيه العراق اليوم وشعبه من نتائج الإحتلال من دمار وفساد وطائفية تكلل ما بذله الجلبي بالتعاون مع كل قوى الشر في تدمير بلدنا .

***

محمد السعدي

مالمو/٢٠٢٤

 

تُعدّ السّيرة الغيريّة سجلّا لحياة إنسان، يخطّه قلم غير صاحبه، فهي رحلة عبر الزّمن تعيد إحياء قصة إنسانيّة بكلّ تفاصيلها، من لحظة الولادة إلى لحظة كتابتها. تشبه رحلة استكشافيّة، ينطلق فيها الكاتب باحثا عن خيوط حياة شخص آخر، مستعينا بالوثائق والمخطوطات، وروايات الشّهود وصور الماضي.

تُبنى السّيرة الغيريّة على قاعدة من الحقائق، مستخدمة أسلوبا أدبيّا يضفي عليها سحرا خاصّا، فهي ليست مجرّد سرد للأحداث، بل هي رحلة عبر أفكار ومشاعر بطلها، تسلّط الضّوء على تجاربه وتأثيرها على مسار حياته، وتشكل جسرا بين الماضي والحاضر، تعرّفنا على شخصيّات مؤثّرة وتلهمنا الدّروس من قلب التّجارب، وتساعدنا على فهم العالم من حولنا بشكل أفضل.

إذن، فالسّيرة الغيريّة نوع أدبيّ جميل، يجمع بين الدّقة التّاريخيّة والسّرد الأدبيّ، ليقدم لنا قصة إنسانيّة ملهمة تثري حياتنا وتوسّع آفاقنا.

كتاب "شقيقي داود- سيرة غيريّة" للأدب جميل السّلحوت، يقع في (200) صفحة.

يكتب السلحوت في مقدّمة كتابه: لفت انتباهي أديبنا الكبير محمود شقير في تقديمه للسّيرة الغيريّة التي كتبتها سابقا بعنوان "ابن العمّ أبو شكاف" عندما كتب: "وإذا كان مألوفًا ظهورُ سِيَر ذاتيّة أو غيريّة للمثقّفين والأدباء والفنّانين ورجال السّياسية، فلماذا لا يكون مألوفًا بل مطلوبًا ظهور سِيَر لرجال الأعمال النّاجحين، الّذين صنعوا نجاحهم بجدّهم واجتهادهم، وليس عن طريق الغشّ والتّزوير والسّرقة والاستغلال، وكذلك لغيرهم من الكفاءات في حقول العلم والتّجارة والاقتصاد، وغيرها من الحقول التي تميّزت فيها فلسطينيّات، وتميّز فلسطينيّون يستحقّون أن تُذكر أسماؤهم، وأن تُدوَّنَ تجاربهم للاقتداء بها، فلا يطويها النّسيان".

يشار إلى أنّ الأديب السّلحوت قد كتب من قبل سيرته الذاتيّة في كتابين هما "أشواك البراري-طفولتي" و" من بين الصّخور-مرحلة عشتها".

سيرة داود:

يُقدّم لنا الأديب السّلحوت سيرة شقيقه داود المولود عام 1963م، مسلّطا الضّوء على تميّزه اللافت منذ ولادته، وصولا إلى مسيرته الحياتيّة الحافلة بالإنجازات.

يصرّح الكاتب أنّ اختياره لكتابة سيرة داود لا ينبع من تحيزه لشقيقه دون إخوته الآخرين، بل لِما يمتلكه من معرفة عميقة بتفاصيل حياة داود منذ ولادته.

لقد عاش السّلحوت مع داود في بيت واحد حتى سفره إلى أمريكا عام 1988م، فكان بمثابة الأخ الأكبر المسؤول الذي تابع مسيرة داود الحياتيّة عن كثب. وقد زاره وشقيقه الأصغر "راتب" في أمريكا أكثر من خمس وعشرين مرة، كما حرص على زيارته في الوطن بشكل متكرّر. وما زال التّواصل بينهم حميميّا بعد عودة داود للاستقرار في الوطن عام 2021م.

يركّز الكاتب في سيرة داوود على تميّزه اللافت منذ ولادته، ونجاحه في حياته العمليّة بفضل جدّه واجتهاده، فهو يمثّل قدوة يحتذى بها، مما يضفي أهميّة بالغة على تدوين سيرته.

يتطرّق في سرده إلى جذوره العميقة، يتناول البيئة التي نشأ فيها بكلّ تفاصيلها، يرسم صورة حيّة للواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والعلميّ الذي عاشه وأخيه في طفولته، يقدم رحلة عبر الزّمن يمضي بها إلى مسقط رأسه، حيث نشأ وترعرع. يعرّفنا على عائلته وأصدقائه، ويشاركنا ذكرياته، مبرزا تأثيرها عليه وعلى أخيه، يحلّل الواقع الاجتماعي الذي عاشه، مشيرا إلى التحدّيات والعقبات التي واجهها وأخيه داوود، كما يركّز على القيَم والتّقاليد التي سادت في تلك الفترة، يناقش أيضا الواقع الاقتصاديّ متطرقا إلى الأوضاع المعيشيّة للنّاس، وفرص العمل المتاحة، ومستوى المعيشة بشكل عام، ولا يغفل عن الواقع العلميّ وتأثيره على حياتهم.

يعقد داوود العزم على السفر إلى أمريكا، مؤمنا إيمانا راسخا بأنّه سيحقق هناك أحلامه وطموحاته. كان يدرك أنّ العمل الجادّ والاجتهاد هما مفتاح النّجاح، وأنّ المثابرة تؤتي ثمارها في نهاية المطاف.

كان حلمه الأساسيّ هو الاستثمار في مشاريع داخل البلاد، فهو يريد أن يوفّر فرص عمل لأبناء العائلة؛ ليساعدهم على تحقيق استقلاليتهم الماليّة والوصول إلى حياة كريمة.

لم يكن ذلك الحلم مجرّد رغبة في الثّراء، بل كان مرتبطًا برغبته في مساعدة عائلته وتحسين ظروفهم المعيشيّة. كان يريد أن يُؤمّن لهم حياة كريمة تحقّق لهم الاستقرار والسّعادة. وكان على دراية بالتحدّيات التي ستواجهه في أمريكا، لكنّه كان مؤمنًا بقدراته وإمكانياته، فهو يدرك تمام الإدراك أنّ العمل الجادّ والمثابرة هما السّبيل الوحيد لتحقيق أحلامه.

الوجه الآخر للمهاجرين العرب، رحلة بين النّجاح والضّياع:

يكتب السّلحوت: في حواراتي مع شقيقي داود حول أوضاع المهاجرين العرب في أمريكا، كشف لي عن صورة مزدوجة للواقع هناك، فبينما تعدّ أمريكا إمبراطورية غنيّة ومتطورة، تتيح فرصا لا حصر لها للجادّين، تخفي أيضا وجها قاتما لمن يفرّط في طاقاته.

يؤكّد داود أنّ أمريكا تمثّل حلما للكثيرين، فهي بلد الفرص لمن يحسن اقتناصها، فالنّظام الرّأسمالي فيها يكافئ العمل الجادّ والمثابرة، ولا مكان فيه للكسالى أو المتواكلين، ويشير أيضا إلى وجود العديد من العرب النّاجحين في أمريكا من متعلّمين وغير متعلّمين، فهؤلاء اتّخذوا من العمل الجادّ والمثابرة نهجا، وحقّقوا النّجاح والرّخاء.

لكنّ الصّورة لا تخلو من الجانب المظلم، ففي أمريكا أيضا سبل الضّياع موجودة بجانب سبل النّجاح؛ فالمخدّرات والملاهي تشكل خطرا على كلّ من يفرّط في طاقاته ويهمل نفسه.

يروي داود قصة فلسطينيّ ثريّ أرسلته عائلته لحضور حفل تخريج ابن شقيقته، لكنّ الأمور لم تجرِ كما هو مخطط لها، فبعد تخرّج ابن شقيقته وعودته إلى البلاد، ضاع الخال في متاهات أمريكا. باع أملاكه وترك زوجته وأبناءه، وأضاع كلّ ما يملك على موائد القمار والمخدّرات.

يذكر الكاتب أنّ بعض العرب ينجرفون وراء أحلام الثراء السريع، فيلجأون إلى تجارة المخدّرات، ممّا يؤدّي إلى ضياع أعمارهم في السجون. وينتقد ظاهرة زواج بعض العرب من أمريكيات بقصد الحصول على الجنسيّة، ثمّ تطليقهم بعد تحقيق هدفهم متخلّين عن أبنائهم دون أيّ مسؤوليّة. يتحدّث عن ظاهرة إنجاب بعض العرب من أمريكيات دون الاعتراف بأبنائهم، ممّا يؤدّي إلى ضياعهم وسط صخب الحياة الأمريكيّة. كما يقدّم قصة ستيف جوبز مخترع الأيفون، كنموذج مؤلم لطفل عربيّ ضاع وسط المجتمع الأمريكيّ، فقد تركه والده العربيّ السّوريّ عبد الفتاح الجندلي، مع والدته الأمريكية جوان شيبل؛ لينشأ في كنف عائلة أخرى.

خلاصة القول: تؤكّد هذه الظّواهر على أهميّة الوعي بالمخاطر التي تهدّد العرب في أمريكا، والتّمسّك بالقيم الأخلاقيّة والمسؤوليّة الاجتماعية، للحفاظ على استقرار العائلة والمجتمع.

كما تقدّم رحلة المهاجرين العرب في أمريكا نموذجا مزدوجا، فبينما يحقّق البعض النّجاح والرخاء، يواجه آخرون خطر الضياع. وتؤكّد هذه الصّورة على أهميّة العمل الجادّ والمثابرة، والابتعاد عن كلّ ما يؤدّي إلى الضّياع والانهيار.

ختاما، تُمثّل هذه السّيرة رحلة مثيرة عبر صفحات حياة حافلة بالإنجازات والذّكريات، تقدّم للقارئ معلومات كثيرة عن حياة السّلحوت وشقيقه داود، وتعرّفه على شخصيتهما معا ومبادئهما وأفكارهما. ولا شكّ أنّ هذه العجالة لا تغني عن قراءة السّيرة كاملة، ففيها الكثير من التّفاصيل والمشاعر التي لا يمكن حصرها في بضعة أسطر.

إنّ قراءة هذه السّيرة تتيح للقارئ فرصة التّعرّف على تجربة إنسانيّة مختلفة، وفهم العوامل التي ساهمت في تكوين شخصيّة داود ونجاحه في حياته.

أُوصي بقراءة هذه السّيرة لمن يودّ أن يتعرّف على قصة إنسان مثابر واجه التّحدّيات وحقق أحلامه.

***

صباح بشير

27-1-2024

 

قد يكون كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعيّ "الدين والظمأ الأنطولوجي" الصادر عن "دار الرافدين" (بيروت – بغداد)، ومركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، نوعاً من السيرة الذاتيّة الكاشفة عن تجربة إنسانيّة عميقة التحوّلات، تبتدئ من مرحلة الطفولة وتَشكُّل الذات، مروراً بمرحلة الشباب والنشاط السياسيّ، وصولاً إلى مرحلة النّضج المعرفيّ.

يستمدّ الرفاعي مضمونَ الكتاب الموزّع على سبعة فصول وملحقين من بداياته الريفيّة الموسومة بالفطريّة، ثم يستعرض مرحلة نشاطه الحركيّ ذي المرجعيّة الإيديولوجية الإسلامية، وصولاً إلى اكتشافه خيار الإسلام الأنطولوجيّ، فيقدّم خلاصة حياةٍ، وموقفاً قيميّاً يؤكّد أن الدينَ جوابٌ عن سؤال وجوديّ، وبيانٌ لحقيقة الوجود الإنساني المفتقر إلى الوجود الكليّ المقدّس، في الوقت الذي يُشكّل فيه (الدين) إرواءً للظمأ الأنطولوجيّ التكوينيّ لدى البشر، بعيداً من جفاف علم الكلام، وأدلجة الإسلام السياسيّ، الذي أخرج الدين من "مجاله الروحي والأخلاقي" (ص22)، فنسيَ الإنسان وحاجته إلى الفن والجمال والإيمان المنفتح.

قد يتوهّم البعض أن الرفاعي في نقده الأدلجة يُسيء إلى الدين، لكنّه على العكس من ذلك يرى أنّه ينزّه الدين، ويجعله حبل الله ما بين العبد ومحرّكه الدائم بفضل البُعد الأنطولوجي، الذي يعرّف الظمأ إليه (ص 25) بأنه "الحنين للوجود المطلق. إنه ظمأ الكينونة البشريّة بوصف وجود الإنسان وجوداً محتاجاً على الدوام إلى ما يُثريه". فـ"الإنسان كائن متعطّشٌ إلى وجود غنيّ مكثّف بذاته يروي به ظمأه، ويثري به وجوده، ويسقي به عطشه المزمن". "وحيث كان الظمأ للمقدّس فلا بدّ من أن يحضر الدين".

يتّخذ الرفاعي في الكتاب موقفاً حاسماً مناوئاً للإسلام السياسيّ معتبراً إيّاه مسيئاً إلى الدين والإسلام. ويركّز هجومه على أبرز المنظّرين الثوريين الدكتور علي شريعتي وسواه من الإيديولوجيين الإسلاميين الذين أساءوا بنظره إلى الدين، حين أدلجوه وجفّفوا منابعه الروحيّة تماماً مثلما أساءت السلفيّة بفكرها التبسيطيّ والحروفيّ، والصوفية الطرقيّة باستعبادها أتباعَها، إلى مضامين الدين العميقة المُثرية، ليُعلن بعد ذلك انحيازه إلى التصوّف المعرفيّ.

إزاء تحدّيات الإسلام السياسي وطرحه التجديد، يردّ الرفاعي في الكتاب على سؤال التجديد في العالم العربي والإسلامي، فيرفض اقتحام المجال الإسلامي من خارج، ويؤكّد (ص 103) أن "تجديد علوم الدين يعتمد على استكشاف المنطق الذاتي لها واستيعابه"، مشدّداً على أن "الفكر لا يغيّره إلا فكر من الخميرة ذاتها"، قبل أن يُشكّك في محاولات التجديد من خارج الحوزة وفضائها وأدوات اشتغالها، ويجزم (ص 20) بأن الطارئين "هؤلاء يضلّلون الشباب المفتونين بهم؛ حين يعلنون أن مهمّتهم تجديد الفكر الديني، بينما هم أعداء الجهود العلمية في هذا المضمار. كل من يتهكّم على الدين، ويسخر من التديّن لا يصلح لمهمة التجديد". ويُحدّد في التجديد أهدافاً ضروريّة تتمثّل بـ"إيقاظ الإيمان لا تقويضه"، وبـ"اكتشاف الحدود بين الدين وتمثلاته البشريّة" وبـ"تفكيك ركام التاريخ الذي حجب رسالة الدين"، و"يفضح التفسيرات المتعسّفة".

لكنّه يوضح بأن المعرفة الدينية ليست منعزلة عن المسار العام للمعرفة، بالرغم من خصوصيّتها، ويضيف (ص 103) أن "المعرفة الدينية حقل من حقول المعرفة، تخضع لشروط الإنتاج العامة المولّدة للمعرفة البشريّة، وتحكمها القوانين والمشروطيّة التاريخيّة واللغويّة نفسها".

يعطي الرفاعي انطباعاً بأن معرفته دائريّة غير خطيّة، تنطلق من بيئته الريفية الأولى البسيطة في كلّ شي، وذات الإيمان الشهوديّ المزدحم بالقداسة، لتعود إلى تلك البيئة بتمثلات مدينيّة معرفيّة، فينقل لنا انطباعاته الأولى أو ما وعيه في وقت لاحق بأنّها انطباعاته الأولى حول إيمان والدته الغنيّ، وحول نخوة والده الكادح، ثم يعرّج على عالم الإسلام السياسي، حيث اختبر حياة التخفّي ومجانبة الظهور وكثيراً من الأمراض الاجتماعية، والحرمان النفسي، وحيث دُجّن وأُجبر على التماهي مع الجماعة بآحادها المتكثّرين، حيث لا حياة فرديّة، ممّا أخذه إلى النظر من الجهة المقابلة فوصل إلى رفض الأدلجة، ثم منطق الإسلام السياسي، وصولاً إلى الاكتفاء من الدين بالبُعد الأنطولوجي. 

يطوّر الرفاعي رفضه للأدلجة عموماً، ولأدلجة الإسلام السياسي الذي أفرغ الدين من أفضل مزاياه – بنظر الرفاعي -  فيكتب (ص 11) في مقدّمة الطبعة الرابعة بسعادةٍ عن دور له في تغيير صورة الله في أعين أعداد من الناس: "أبتهج حين يبادر قرّاء أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في كلّ شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدين يمكن أن يحيي كلّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظ الضمير الأخلاقي، ويكرّس التكافل العائلي، والتضامن المجتمعي، ويخفض طاقة الشّرّ التدميريّة، ويبعث منابع الخير في الأرض، ويجعل صناعة السلام والعيش المشترك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن".

الإيديولوجيا التي يمقتها الرفاعي

يشدّد الكاتب على أن موقفه السلبيّ من الإيديولوجيا لا يتوجّه إلى المفهوم بمضمونه الذي وضعه أنطوان دستيت دو تراسي (Antoine-Louis-Claude Destutt de Tracy)، ويعني "دراسة الأفكار"، بل إلى المعنى التضميني الذي ابتدعه نابوليون بونابرت، واستعمله في سياق ازدراء مفاهيم التنوير، تماماً كما هو المعنى الوارد في كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" ويعني "الإدراك المقلوب والوعي الزائف". ويقول: "أعني بالإيديولوجيا نظاماً لتوليد المعنى يُنتج وعياً زائفاً بالواقع، ويصنع نسيج سلطة متشعّبة وفقاً لأحلام مسكونة بعالم طوباويّ متخيّل. الإيديولوجيا تحتكر نظام توليد المعنى، بغية إنتاج وعي يطمس مختلف أبعاد الواقع، ويبتكر صورة متخيّلة له".

شريعتي والغواية الإيديولوجية الفاتنة

يشرح الكاتب دور الدكتور علي شريعتي السلبيّ في أدلجة الدين وإفقاده مزاياه الروحية والنزوع به إلى منحى بروتستانتي، بالرغم من إشادته بمزايا النص الشريعتي وحرارته، حين كتب في الصفحة 21: "فكر شريعتي يتلفّع بأقنعة متنوعّة، كلماته لا تخلو من غواية فاتنة، عباراته لا تخلو من سحر الشعر والفنّ، وكلّ ما يستثير المشاعر. محاضراته تُعلن عن شهامة وغيرة وشجاعة، أفكاره يسودها نقد الواقع الذي عاشه هو، وعاشه وطنه إيران قبل الثورة الإسلامية... يتطلّب كشف المضمون الأيديولوجي مزيداً من تأمّل العقل النقدي".

ويعترف الرفاعي بغواية شريعتي، ويكتب: "يرى أكثر من يقرأ شعاراته (شريعتي) الغاضبة المثيرة أنه مجدّد، خلافاً للقراءة المتأنيّة لأفكاره، وما تكشفه من أن خطاباته المتنوّعة وكتاباته يوحّدها قاسم مشترك هو توظيف الدين في الدولة والاقتصاد والعلوم والمعارف المتنوّعة وكلّ مجالات الحياة، وتلك هي خلاصة ما ينشده الإسلام السياسي".

بالإضافة إلى نقده وموقفه السلبي من إسهامات شريعتي الثورية وانعكاساتها المعرفية الإيمانية، لا ينسى الرفاعي مقاربة مساهمات الشخصيّة الإسلامية المصرية التاريخية سيّد قطب بأسى، وهو الذي حظي بسمعة قوية بين الإسلاميين فيقول: "...بعد أن طالعت كتاب معالم في الطريق لسيد قطب في الصف الخامس الثانوي. جرحت روحي غواية شعاراته وأناشيده، مثلما استنزفت مشاعري النصوص الأخرى لأدبيات الجماعات الدينية. إنها نصوص كلما غرقت في مطالعتها أسجّل غياباً إضافياً من عوالم الفنون الجميلة، بل إن مطالعتي للمزيد من تلك النصوص تُغيّبني عن تذوّق صورة الله الجميلة، وتجلّيات جماله في الوجود".

لكنّ الرفاعي - في مقابل الأدلجة، يستهدف السلفيّة كمنهجٍ في عالم المعرفة، ويحسم بأنّها أضرّت بالإسلام بتبسيطها وفهمها الحرفيّ للدين والإسلام، ويشرح ذلك بالقول (ص 22): "أعني بالسلفيّة ما يشمل كلّ قراءة سلفية للنصوص الدينية، وكلّ محاولة لاستدعاء الماضي أياً كان ودسّه في الحاضر كما هو، مهما كانت الفرقة أو المذهب أو المعتقد الذي يدعو لها ويتبنّاها...السلفية تتسع لكل تفسير تبسيطيّ للنصوص الدينية؛ قابع في الحرف، عاجز عن تذوّق مقاصد النص وأهدافه، مهما كانت الفرقة أو المذهب أو المعتقد الذي ينتمي إليه صاحب التفسير".

ويحكم على السلفيين وعلى الذين يتشبّثون بالماضي من أتباع الجماعات الدينية بالسطحيّة (ص 105) وبأنّهم "لم يعرفوا أنفاق التراث، ولم يكتشفوا مسالكه الوعرة، رؤيتهم صاغتها أدبيات الكثير منها: رومانسية لا تقول شيئاً، بقدر ما تنشد شعراً كثيراً يُثير المشاعر ويحرضها، يطرب له الحالمون بعالم متخيّل سعيد، و"جيل قرآني فريد"، حسب تعبير سيّد قطب".

ثم يشير إلى خللٍ معرفيّ لدى الإسلاميين أدّى إلى الخلل الذوقيّ الفادح، ويتجلّى في الخلط بين مقام الثبوت والإثبات، حيث "يقع الخلط في مناهج المعرفة عند الإسلاميين بين مرحلة صدور المعرفة وإدراك الحقائق، وهو ما يصطلح عليه "مقام الثبوت"، ومرحلة بيان ذلك الإدراك، والتعبير عنه، وإيصاله إلى الغير، وهو ما يصطلح عليه "مقام الإثبات". وذلك انعكس على فهمهم للدين وصلتهم بربّ العالمين.

لا بدّ للإنسان من دين وشعائر

في الوقت الذي يذهب فيه الرفاعي إلى الانفتاح الشديد على الأفكار والمفاهيم والأديان والتجارب، لا ينسى أهميّة الانتماء، فيرى أن الإنسان يتمثّل المفاهيم والتجارب وفاقاً للقوالب الفكرية والمقولات التي تبنّاها أو كان يعتقدها حتى لو بدّل عقيدته وغيّر؛ لذلك يتمسّك بالطقوس والشعائر التي خبرها ويعيشها ويقتنع بها، ويقول (ص 28): "لا دين بلا طقوس وعبادات، لا دين بلا عبادة منبثقة من اعتقاد. الطقس يوصل الكائن البشريّ عضويّاً بإيقاع صيرورة الوجود ولغته، ويشدّه إلى مداراته، بل يدمجه في تلك الصيرورة الأبدية".

ويضيف (ص 106): "لا أتذوّق حلاوة الإيمان، ولا تُضيء التجربة الدينية روحي من دون أداء الصلاة والتمسّك بالتقليد العبادي المستمدّ من الإسلام وشريعة نبيه الكريم".

لذلك يدعو الرفاعي إلى مواظبة السالك على العلاقة بالوجود الكليّ عبر الطقوس التي اعتادها، والتي تشكّل ضرورة للتجدّد الروحي والمعنويّ، ويجزم بأن الجمال لا ينتج من دون عبادة وطقوس، والمواظبة على الصلاة ضروريّة للشخص كيلا يذبل.

الجماعات الدينية إطارٌ لتماهي الذوات وإفقارها 

يكرّر الرفاعي على مدى صفحات كتابه أسفه على العمر الذابل في صفوف الجماعات الدينية، ويوضح أنه "في العمل الحزبي افتقدت ذاتي". ثم يعبّر عن رفضه لمنهج التأطير في تلك الجماعات التي تسبّب تشوّهاتٍ وذبولاً للنفس الإنسانيّة، وتقطع على الروح معراجها إلى بارئها، فيقول (ص 38): "أدبيات الجماعات والأحزاب تتجاهل فرديّة الإنسان، ولا تتحدّث عن الأنا الشخصية عادة، وهو ما يبدو ماثلاً في أدبيات الأحزاب اليسارية، والقومية والجماعات الدينية". ويضيف (ص 39): "ربما ينتهي تجاهل الأعضاء لحياتهم الداخلية، وتكتّمهم على عالمهم الباطني، إلى تورّطهم في ارتداء أقنعة تعلن عن سلوك خارجيّ لشخصيّة تجسّد ما تُمليه تعاليم الجماعة، فيما يخفي الشخصية قناعات ومعتقدات ورؤى... ازدواجية ونفاق".

ويخلص إلى القول (ص 46): "ربّما يتوهّم الإنسان أنّه سيجد ذاته في كلّ ما هو خارج عن ذاته، وهو لا يدري أنه لن يجد ذاته إلا في ذاته"، فـ"لإيمان خيار شخصي وتجربة ذاتية، والانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين" (ص 47).

العود الأبديّ إلى تجربة الأم الإيمانية

في نهاية الحديث عن الرؤية الرفاعية في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي"، وبعد الإشارة إلى المسيرة الدائرية للدكتور عبد الجبار الرفاعي في دروب الإيمان، أقمنا رباطاً بين إيمان والدته وتجربته، وهو ما وعاه الرفاعي لاحقاً نظرياً، بعد اختباره حياتياً، إذ يؤكّد أن مواقفه كانت بتأثير من تلك الشعلة الإيمانية التي أوقدتها والدته سلوكياً لا نظرياً، ويكتب في الصفحة 63 أن "تديّن أمي غرس الإيمان في روحي"، وقد "استلهمت دروسي الروحية منها (الأم). لم تكن أنشودتها كلمات إنها من جنس الحالات الوجودية، كلماتها تضيء روحي".

ويضيف: "وإلى نمط تديّنها الفطريّ العفوي البريء الشفيف يعود الفضل في رسوخ إيماني وتجذّره ومقاومته لأية مجادلات أو مناقشات أو تساؤلات أو مشاكسات أو قراءات تشكيكية". فـ"الطمأنينة تسكن قلبي حين أتحسّس أسرار قلبها الذي يتقن لغة العشق الإلهي".

ويذمّ في مقابل فطرية الأم احترافيّة الأخلاقيين حيث يقول: "لم أتذوّق الأخلاق من المعلّمين الذين يعتاشون على الكلام في الأخلاق. أكثر من يتخذون الكلام بالأخلاق مهنة لا أخلاق لهم". فـ"الحياة الأخلاقية حقيقة نتذوّقها لا فكرة نتعلّمها"(ص 64). ثم يأسف (ص 141) لظلم الكثيرين أهلَ الإيمان بقوله: "تمنعنا معظم الجماعات الدينية ووعاظ السلاطين والمرتزقين...من رؤية النساء المغمورات... من العاملات والفلاحات...القدّيسات". 

الخلاصة

لا ينفكّ د. عبد الجبار الرفاعي في كتابه، الذي أراده ضوءاً في الطريق إلى الله تعالى، عن التذكير بالجرح الشخصي الذي حثّه على تجديد نظره إلى الدين وأبعاده التي تمثّلتها أمم من المسلمين، ويوضح بأن اكتشافه البعد الأنطولوجي للدين جاء بعد مسيرة شاقّة كرّست انحيازه إلى المهمّشين، ورسّخت تبنّيه لمبادئ الحب والجمال والخير، وكتب (ص 59): "أظن أن النواة الجنينية لتحيّزي الأبديّ لهموم وآلام المضطهدين والمهمّشين والمنبوذين والضحايا تشكّلت من هاتين المحطتين القاسيتين في بداية حياتي، أي غربة الطفولة الاجتماعية، واغترابي عن ذاتي في الإسلام السياسي".

***

طارق قبلان  - كاتب من لبنان

............................................

* عن موقع الميادين

 

توطئة: قبل الحديث عن كتاب (التّداوي بالفلسفة) للكاتب المغربيّ "سعيد ناشيد" (1969)، لا ضير من الحديث عن الفلسفة بصورةٍ عامّة، ونبدأ من تعريف الفلسفة وأبرز اشتغالاتها، على الرّغم من أنّها – أيّ الفلسفة – تنوّعت وتباينت تعريفاتها.

لكن إجمالاً نستطيع القول أن الفلسفة من أهمّ علوم المبادئ العامّة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسيّ (رينيه ديكارت) (1596/ 1650)، وهي دراسة المفاهيم التي تُفضي إلى الحكمة، وهي الفكر المُدرك لذاته والذي يشتغل في إدراك شموليّة الوجود.

ويُمكن القول أيضاً أنّ الفلسفة كمعنى مُبسّط هي مجموعة المشكلات والمحاولة لمعالجتها، وهذه المشكلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضايا الكبرى، والمفاهيم الأساسيّة، وهو ما ذهب إليه (برندان ولسون 1953).

ويقول الفارابي (874/ 950م) بأنّ الفلسفة هي (العلم بالموجودات بما هي موجودة)، أمّا الكنديّ (805/ 873م) فيقول أنّ الفلسفة هي: (علم الأشياء بحقائقها الكُلّيّة)، ويؤكّد أن الحقائق الكُلّيّة هي إحدى خصائص الفلسفة الجوهريّة التي تُميّزها عن غيرها من العلوم الإنسانيّة، بينما يرى ابن رُشد (1182/ 1198م) أنّ التّفكير في الموجودات يكون على اعتبار أنّها من المصنوعات، و(كلّما كانت المعرفة بالمصنوعات أتمّ كانت المعرفة بالصّانع أتمّ)، ويذهب "إيمانويل كانت" (1724 / 1804م) فيقول أنّ الفلسفة هي من المعارف التي تصدر من العقل. وبالتالي، فإنّ الفلسفة لابدَّ أن تكون من توليفات الحكمة، بل هي التّوليفة الأساس لذلك، وكُلّ العلوم تبدأ من الفلسفة وتنتهي إليها، تبدأ من نشوء الفرضيّات وتدفّق منها الإنجازات.

نعود الآن إلى كتاب (التّداوي بالفلسفة) للكاتب "سعيد ناشيد" فهو من الكتب المهمّة والمُثمرة في بابه، حيث يشتغل على توظيف الفلسفة كأسلوبٍ مهمٍّ في معالجة المشكلات الكبرى التي تتعلّق بالفرد والمجتمع، لأنّه يؤكِّد على ضرورة أن تكون الفلسفة من الأمور الأساسيّة التي يستطيع الفرد بها ومن خلالها أن يواجه أشدّ صعوبات الحياة. ويذهب "سعيد ناشيد" إلى أنّ الفلسفة تُرشد إلى إعمال الفكر والفهم العميق والمُعمّق للنفس الإنسانية، ويؤكّد في مقدّمة كتابه (التّداوي بالفلسفة) إلى أنّ الكتاب هو استذكار لبعض البداهات المنسيّة ومحاولة لإنصاف الفلسفة من أهلها أنفسهم. وهو أيضاً هو محاولة للدّفاع عن الفلسفة في صناعة الحياة.

ويذهب "سعيد ناشيد" إلى أنّ الفلسفة يُمكنها تحقيق مقوّمات الحياة الأساسية، ومن خصائصها المهمّة، وهي أن تكون حياة يعيشها الفرد بأقلّ ما يُمكن من الشّقاء والمعاناة، وأن يكون الفرد مُتصالحاً مع أقداره الخاصّة ويتقبّلها ولا يرهق نفسه بمقارنتها مع الآخرين، وأن يكون الفرد في حياته كما هو لا يكون غيره، وأن تكون حياةً يصنع الفرد فيها المتعة بأقلّ ما يُمكن.

في بداية الكتاب يتساءل "ناشيد" ما هو الدّور الذي لعبه الفلاسفة في صناعة وإنتاج الحضارة، لاسيّما في زمننا المعاصر وهل يا تُرى هل كان لهؤلاء الفلاسفة دور مهمّ فيما وصلت إليه البشريّة من منتجات حضاريّة مادّيّة؟ أم أنّ مجهودات هؤلاء المفكّرين المعرفيّة والبحثيّة لم تكن أكثر من كلام لا جدوى منه وفارغ من أيّ مضمونٍ عمليّ حقّيقيّ؟

في معرض الإجابة عن هذا السّؤال يعترف "سعيد ناشيد" بأنّ الفلسفة ليست بالضّرورة أن تكون من الشّروط الحتميّة لبناء الحضارات، وأنّ هناك مجموعة من الحضارات القديمة التي قامت وازدهرت من دون الاعتماد بشكلٍ كاملٍ على الفلسفة، ويرى أنّ ذلك بسبب طبيعة الفلسفة نفسها، ذلك عندما يقول أنّ التّفكير الفلسفيّ هو النّشاط العقليّ الأكثر هشاشة، والاستمرار في التّفلّسف جهد استثنائيّ نادر يحتاج إلى بيئةٍ حاضنةٍ لا تلزم العقل بتقديس المُسلّمات.

إلّا أنّه يؤكّد أنّ ابتداع أنساق علميّة جديدة في العلوم والمعارف الحضاريّة المادّيّة، يحتاج إلى طفراتٍ فلسفيّة جديدة، فإذا ما أردنا تقديم نظريّات مهمّة في الفيزياء الفلكيّة أو الميكروفيزياء بحيث تتخطّى ما وصل إليه كُلّ من "ألبرت أينشتين" و"ماكس بلانك" من قبل، فقد صار من اللازم علينا أن نستند إلى أطروحاتٍ فلسفيّةٍ جديدة تتجاوز المعارف الفلسفيّة المعروفة حالياً. فالفلسفة كما يراها "سعيد ناشيد" هي وحدها القادرة على نقد المفاهيم الكبرى، وعلى التّنظير لمفاهيمٍ بديلة عنها، وتلك المفاهيم تُمثّل حجر الزّاوية في مسألة الإبداع والابتكار المعرفيّ. فبواسطتها يستطيع عقل الإنسان أن يُفكّر في العالم والحياة.

وبالتّالي، يُقدّم "ناشيد" رؤيةً خاصّة للفلسفة باعتبارها السّبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله تطوير الحضارة البشريّة، والتي ظهرت آثارها في ميادين السّياسة والفنون والأخلاق، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانيّة.

كما يؤكّد "سعيد ناشيد" أنّ الفلسفة يُمكنها مساعدة الإنسان في إعادة التّفكير في أنماط التّفكير الاعتياديّة، وهو الأمر الذي يتيح الفرصة للتّخلُّص من الآلام والمشاعر السّلبيّة التي لطالما ارتبطت بأوقات الانكسار والخسارة في حياتنا. ومن أمثلة ذلك يتساءل "سعيد ناشيد" حول السّبب في الشّعور بالأسى والغضب، فيجيب بأنّ السّبب الرّئيس في ذلك هو أنّ الإنسان يتصوّر الألم وكأنّه نوع من الظّلم والاعتداء، أو أنّه احتمال لشيء ليس بعادل، هنا يأتي التّفكير الفلسفيّ كملجأٍ وملاذٍ أمن، حيث سيتيح هذا النّمط من التّفكُّر، الفرصة أمام اكتشاف حقيقة مهمّة، وهي تلك التي تعتقد بأنّ الغضب مجرَّد ردّ فعل انفعاليّ يضرب بجذوره في أعماق اللاوعي الجمعيّ عندما كان الإنسان البدائيّ يرى الألم لعنة من الآلهة أو السّحرة أو الأرواح الشّريرة. وبهذا النّحو من الإدراك العقلانيّ الهادئ يمكنني أن أتحرّر من سطوة بعض الانفعالات السّلبيّة البدائيّة، لن يختفي الألم بالضّرورة لكن ستتحسن قدرتي على التّحمُّل، بل قد أجعل الألم فرصة للإبداع بدل الشّكوى، والغضب، والإحباط.

ويرى "سعيد ناشيد" أنّ هناك ثلاثة مشكلات أو عقبات رئيسة تقف في وجه الإيمان المطلق بأهمّيّة الفلسفة في الحياة، وهي:

أوّلاً: إنّ الفلاسفة عبر التّاريخ قد اهتمّوا بالعقل، وتخصّصوا في دراسة المجتمع والسّياسة والعلم والمنطق، ولم يولوا اهتماماً يذكر بالجسد، فكيف يمكن الإدّعاء أن هؤلاء يستطيعون إرشادنا على الطّريق الأمثل للعيش؟

ثانياً: إنّ معظم الفلاسفة قد عاشوا حياة كئيبة وفاشلة، فقد عانوا من الأمراض المزمنة، والإخفاق العاطفيّ، والإفلاس الماليّ، وحتّى المنفى والسّجن والإعدام، هذا بالإضافة إلى فشلهم في أغلب الوقت على صعيد الحياة الاجتماعيّة والأسريّة.

ثالثاً: إنّ تاريخ البشريّة يذكر لنا كيف أن الكثير من الحكماء الكبار مثل "بوذا" و"كونفوشيوس"، قد عاشوا حياة رائعة وقدّموا طرقاً بديعة في التّعامل وتحقيق السّعادة من دون أن يحتاجوا أبداً لدراسة الفلسفة. ويذهب "ناشيد" إلى أنّ المبدأ التي تقوم عليه فلسفات فَنّ العيش بسيط ومتّفق عليه في تاريخ الفلسفة، التّفكير هو أداة تحرير الإنسان من الانفعالات السّلبيّة والغرائز البدائيّة والتي هي العامل الأساسيّ في تعاسته وشقائه، ويؤكّد أن أغلب مشكلات الحياة تدور في فلك طريقة التّفكير في المشكلة.

الخلاصة، كتاب (التّداوي بالفلسفة) يُعالج الكثير من الأمور الحياتيّة عن طريق الفلسفة إذا ما أعدنا النّظر في مفهوم الفلسفة وتوظيفها التّوظيف الصّحيح، أيّ نعتبرها واحداً من الأساليب الحياتيّة الرّئيسة.

***

علاء البغداديّ - كاتبٌ وباحثٌ من العراق

كتيبة الأربعين هو اللقب الذي أطلقه المفكر فهمي هويدي على الكتّاب العرب شعراء وروائيين وصحافيين ومثقفين المساهمين في تحرير مقالات الكتاب الداعم للمقاومة والمندد في ذات الوقت بجرائم إسرائيل في حق المدنيين العزل.

هو كتاب صادر حديثا تزامنا مع طوفان الأقصى كانون الأول/ديسمبر 2023 عن دار الفنار بمصر في 254صفحة مواكبة لهذا الحدث الجلل وأبعاده السياسية والعسكرية والإستراتيجية، فقد كان هذا الطوفان مفاجئا لإسرائيل، وقد ظنت أنها أخمدت نفس كل انتفاضة ولهيب كل ثورة، وأنها ماضية في قضم المزيد من الأراضي، وفي بناء المستوطنات الجديدة على حساب الأراضي الفلسطينية بدعم أمريكي مكشوف، وليس على الفلسطينيين إلا الدخول في متاهة مسار التسوية أو مسار السلام وليس السلام، وليس كذلك أمام الدول العربية إلا التهافت – تهافت الفراش على النور- على مسار التطبيع من أجل رفاه اقتصادي وهدوء سياسي ودعم أوروأمريكي، أسوة بمن طبع من الدول العربية، فجاء الطوفان في السابع من تشرين ليوقف هذا المسار وليكشف في الوقت ذاته مخططات إسرائيل المضمرة والمعلنة من أجل تصفية نهائية للقضية الفلسطينية - قطب الرحى ومعقد الوجود للعالمين العربي والإسلامي- وقيام إسرائيل الكبرى بالرغم من كل الترضيات الضمنية للنخب السياسية الفاعلة.

الكتاب شارك في تدبيج مقالاته خمسة وثلاثون كاتبا وكاتبة من سبع دول عربية هي مصر ولبنان والأردن وسوريا والجزائر والمغرب والعراق ويخصص عائد الكتاب لأهل غزة دعما ومناصرة .

قدم للكتاب الكاتبان العربيان فهمي هويدي وعماد الدين خليل وقد أشار فهمي هويدي إلى أن جهد المثقفين هنا في نصرة غزة أشبه شيء بكتيبة الأربعين التي تضم كتابا ومثقفين انضموا إلى جانب أهل غزة وإلى المقاومة في إشارة إلى ضرورة تخندق المثقف العربي مع المقاوم، لأن قضيتهما واحدة وهذا هو الوقت الذي تصبح فيه الكلمة الداعمة للحق إلى جانب المواقف البطولية للمقاومة الفلسطينية، وقد كتب (ومع ذلك ينبغي أن نحمد لتلك الكتيبة من حملة الأقلام العرب حماسهم النبيل حين اختاروا أن يخترقوا جدار الصمت والحصار، ولم ينتظروا ذيوعا أو منصات للتواصل الاجتماعي، فقرروا أن يعلنوا على الملأ موقفهم، مؤكدين على أن ما هو عزيز وغال ليس فقط الدم الفلسطيني الذي تتغنى به مقاطع الأغنية ذائعة الصيت، ولكن فلسطين كلها لها مكانتها الراسخة في قلب الأمة وضميرها).

وبدوره أشاد المؤرخ والكاتب عماد الدين خليل بهذا العمل معلنا أن ما تشهده غزة الفلسطينية حالة نادرة لم يكد التاريخ البشري يشهد لها مثيلا من قبل، فهي ملحمة التاريخ كله، ومن ثمة إنه من أولويات المقاومة العربية والإسلامية الشاملة وقف مسار التطبيع، وإنها لمفارقة كما كتب أن يطرد سفراء إسرائيل في أمريكا اللاتينية بينما تظل الدول العربية متشبثة بالإبقاء على علاقاتها مع قتلة إخواننا في غزة، إن ثقافة الاستخذاء لن تؤدي إلا إلى مزيد من الهزائم ومن النزف والتداعي في كيان الأمة العربية، ولن يكون ذلك إلا على حساب الموقف الفلسطيني ومن ثمة على الأمة أن تكف عن ثقافة الغرق في عالم الأشياء والبحث عن ضمانات الأمن والاستقرار، فالدم النازف في غزة يجب أن يوقظها من السّبات فما تفتح الأبواب إلا للأيدي المضرجة، كما يكتب أن المصيدة الكبرى هي في انتظار العقاب الأخير، وهو بذلك يشير إلى عقدة الثمانين التي لازمت دولة الكيان منذ التاريخ القديم وعنها تحدث إيهود باراك ولفيف من السياسيين والمثقفين الإسرائيليين.

 إن ما تتعرض له غزة اليوم من إبادة ومذابح وتهجير ينذر بالويل ومفاتيح الخلاص لا تزال بأيدي العرب شرط أن يحسنوا التعامل معها، فمن أوكد الأولويات في دعم غزة ونصرتها ونصرة الحق الفلسطيني المشروع وقف مسار التطبيع وتكريس ثقافة المقاطعة حسب توصيفه، فالكرامة أهم من البضاعة والدم الفلسطيني النازف في غزة أغلى من كل صفقة، ويختم مقالته بالإشادة بمقالات الكتاب(إن بحوث هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه، والذي يدير كاميرته على المشهد من أطرافه كافة، إنما يعكس هذا كله، ويعكس معه الرؤية الحقيقية لا المزيفة لما تشهده الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية على السواء.. قد تنطوي هذه الرؤية على شبكة من البقع المعتمة السوداء، ولكنها تنطوي في الوقت ذاته على المساحات البيضاء التي تعد فيه بيوم سوف يقدر فيه للأمة الإسلامية أن تستيقظ من سباتها العميق).

بينما كتب منير لطفي وحاتم سلامة وأحمد المنزلاوي في التقديم الثالث للكتاب أن الكلمة سلاح والكتابة معركة تخدم المجتمع والوطن والدين، ومعركة تنتصر للحق على الباطل وللخير على الشر وللجمال على القبح ومن منطلق شرف الكلمة وأمانة الكتابة لابد للقلم الحر أن ينتفض إزاء أعدل وأشرف قضية وهي القضية الفلسطينية التي طال أمدها وبحّ صوتها وغار إلى العظم جرحها ولا مجيب!

وهكذا ومن منطلق نصرة القضية والوقوف مع أهل غزة نبتت فكرة الكتاب مادامت المقاومة تكون بالكلمة كما تكون بالسلاح، وقد كان حجم الاستجابة كبيرا وقد كتبت هذه المقالات تباعا منذ اندلاع طوفان الأقصى في 07تشرين الماضي مواكبة لأحداثه وخلفياته وتحليلا لأبعاد الصراع العربي الإسرائيلي ومآلاته وأطماع إسرائيل المستقبلية في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية والتنقيب عن الغاز في بحر غزة ومشروع قناة بن غوريون وسياسة التهجير إلى سيناء بالنسبة لسكان غزة وإلى الأردن بالنسبة لسكان الضفة الغربية وصولا إلى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية كما تفضح ذلك مخططاتهم الاستعمارية.

فالوعي العربي لازم والوقوف مع القضية العادلة واجب كل عربي وخاصة المثقفين باعتبارهم طليعة الأمة وواجهتها الفكرية وقوتها الناعمة وأصحاب تأثير في الرأي العام - قلّ أو كثر- خاصة ونحن نرى أحرار العالم في الغرب لا يتوانون في نصرة القضية، فالمسألة كما يقول فتحي الشقاقي (فلسطين نقطة التماس بين تمام الحق وتمام الباطل)، أو بتوصيف فهمي هويدي (قل لي ما موقفك من القضية الفلسطينية، أقل لك ما موقعك من الانتماء الوطني، بل والعربي والإسلامي).

ومن الكتّاب العرب الذين حرّروا مقالات هذا الكتاب الهام والمواكب لطوفان الأقصى: أيمن العتوم، منير لطفي، أحمد المنزلاوي، حاتم سلامة، أحمد الحاج، إبراهيم مشارة، بلال رامز بكري، محمود الحسن، محمود خليل، أميرة إبراهيم، نهى الرميسي، نور الدين قوطيط، هشام الحمامي، يحي سلامة، وليد الصراف وغيرهم.

ومن المقالات التي تضمنها الكتاب نقرأ العناوين التالية "حلّ الدولتين"، "العنصرية الصهيونية"، "غزّة والحراك الشعري"، " نهر التطبيع"، "لبيك يا كتائب العزّ"، "ثورة سجن مقلوب"، "القضية الفلسطينية في البرازيل وأمريكا اللّاتينية "، "حرب غزّة حتمية "، "طوفان الأقصى والاعتماد على الذات"، صمودهم وواجباتنا "، "التغريبة "الفلسطينية"، "ملحمة غزّة: الدلالات والرمزية"، "خذلوك فقالوا"، "رؤية لصناعة النصر"، "محاولات الاستيطان المبكرة في فلسطين"، " المسكوت عنه في العدوان على غزّة"، "الأقصى مهوى الأفئدة والعقول"...

وكما جاء في إحدى المقالات في خاتمة الكتاب فالتّطبيع لن يكون إلا مع فلسطين والقضية الفلسطينية وذلك بإعادة القضية الفلسطينية إلى بؤرة السياسة العربية وإن هذا التطبيع مع فلسطين (سلطة ومقاومة) كان أولى سياسيا وأمنيا واستراتيجيا وحتميا من التطبيع مع إسرائيل.

كتاب مهم ينضاف إلى المكتبة العربية - والفلسطينية خاصة- في دعم حق الشعب الفلسطيني والدعوة إلى سلام عادل وشامل، يقف مع غزّة شعبا ومقاومة ويفضح الجرائم الإسرائيلية التي أحرجت العالم المتمدن من فرط بربريتها وهمجيتها في مطلع القرن الجديد، ذك أن إسرائيل ظلت تقدم نفسها على أنها الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط والنموذج الأوحد لهذه الديمقراطية، ولكنها مع طوفان الأقصى كشفت عن حجم التناقضات والانقسامات الداخلية، وعرّت بعض السياسات الرسمية العربية التي لم تتفاعل بالحجم المطلوب فحدث الشرخ بين الموقف الشعبي العربي والموقف الرسمي، كما كشف الطوفان الإجرام والعنصرية والهمجية التي مورست في حق المدنيين العزل من النساء والشيوخ والأطفال وحتى المستشفيات لم تسلم من القصف والتخريب، والأمر كما قال الصحفي وائل الدحدوح (إنهم ينتقمون منا بقتل أطفالنا).

ومن جهة أخرى أكد كتّاب هذه المقالات على واجبات المثقف إزاء أمته وقضاياها وفي الوقوف مع الحق والدفاع عن الإنسان وإدانة العنصرية والإجرام واغتصاب الحقوق المشروعة، وسياسة العنصرية والغطرسة وعقلية الاصطفاء والاستعلاء، وهو موقف يحسب لهؤلاء الكتّاب، في حين سكت بعضهم وما سمعنا لهم صوتا، وقد ظلوا يشدخون رؤوسنا بصراخهم عن الحرية الفكرية والدولة المدنية وحقوق المرأة وقدموا أنفسهم- لنا وللغرب- على أنهم طواطم أو إيقونات مقدسة فإذا بطوفان الأقصى يكشفهم على حقيقتهم فقد فضلوا المكاسب الشخصية والسمعة والجوائز المحلية والدولية والتموقع داخل أجهزة السلطة على حساب معاناة غزة ومأساتها وعلى حساب الحق الفلسطيني المشروع وقد جاء هذا الطوفان ليكشف العورة ويعري كل نفاق وزيف.

***

إبراهيم مشارة

 

ليس أكثر مِن الحديث عن المهديين أو المُخَلِّصين، في الأديان والمذاهب، ولدى المسلمين مهديٌّ وفق الرواية السّنية، ومهديّ وفق الرواية الشّيعية، وليس موضوعنا عن المهدي بذاته، الذي سيخرج مِن بين النّاس، ومشروط بكون اسمه واسم أبيه "محمد بن عبد الله" مثلما الخبر في كتب السّنة، وعند الشِّيعة "محمد بن الحسن" مثلما هي الحال في كتبهم أيضاً. قلنا ليس هذا موضوعنا، لكن الموضوع رماه أمامنا الباحث العراقيّ شاكر شاهين وعنوان كتابه "الإمام الثَّالث عشر العامة والعِمامة في الحقل الشّيعيّ" (دار مكتبة عدنان 2022). لم يتعرض شاهين إلى ما فكر به أو تخيله باحثون وكُتاب عمّا بعد الاثني عشر إماماً، وبذلك تنتهي فكرة التوقف عند هذا العدد، مثلما ورد: "الاثنا عشر إماماً من آل محمد كلُّهم محدث من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وولد علي بن أبي طالب - عليه السلام - فرسول الله - صلى الله عليه وآله - وعلي - عليه السَّلام - هما الوالدان" (الكُليني، كتاب الكافي).

كانت الفكرة المطروحة في الكتاب المذكور أنَّ الفقيه هو الإمام الثالث عشر، فالفقهاء وضعوا أنفسهم ورثة للأنبياء، وعلى هذا الأساس، كان لهم ما كان للنبي وورثته، من الأئمة، وعليه كانت نظرية "ولاية الفقيه" العامة (الخميني، الحكومة الإسلاميَّة)، فتأسست دول على روايات مختلف عليها، فقبل ولاية الفقيه الإيرانية ظهرت على فكرة المهديّ الدَّولة العبيديّة، حيث تونس اليوم، ثم امتدادها الفاطمي في مصر، والموحديّة في المغرب، ظهر المهدي نفسه وأسس الدّولة، أمّا في الحالة الإيرانيّة الراهنة، والصّفويّة من قِبل، فجرى الأمر بالنيابة عنه.

أوضح كتاب "الإمام الثّالث عشر..." هيمنة الفقيه على العامة، فلم يبق التقليد شأناً عبادياً، في صلاة وصوم، بل تحول إلى التقديس، حتّى أخطاء الفقيه وخطاياه، أو رجل الدين، يفهمها العامة على أنها الصّواب بعينه، لأنه بمثابة الإمام الثّالث عشر، من دون نسب بالإمام أو تصريح بذلك، وقد يكون هذا الفقيه مِن آل النّبي يعتمر العمامة السّوداء أو من بقية النّاس يعتمر العمامة البيضاء. لذا كان الخلاف، إلى حد العداء، بين الفقهاء أنفسهم على هذه المنزلة، فمنهم مَن ادعى المعصوميّة، عندما يقول: "ليس للخطأ إلى كلماتي سبيل لأنني تابع للأئمة"(الإمام الثالث عشر).

الرأي بالعامة

تكون العامة، أو العوام، من الأتباع عند الفقيه كالقطيع، الذي يحتاج إلى سائس، وهو السَّائس، فمَن شبههم بالأنعام، قال: "كالأنعام على الطَّريق العام مِن شريعة الإسلام"(نفسه)، لدى الفقيه فكرة أن يبقى متميزاً بالعلو والرِّفعة عن مقلديه، ليس بدرجة العلم فحسب، بل بالمستوى الاجتماعي، فلا يكثر مجالستهم، يغيب عنهم، خلف الحاشية، كأنه يحاكي الإمام المهدي نفسه في غيابه، ولا يلتقي به إلا الأصفياء مِن الفقهاء، وعندما يُقدم المُقلدون الأموال للفقيه يكون ضمن الواجب الإلهيّ، مثل الصّلاة والصّوم، وهو صاحب الفضل بقبولها، وربّما تظاهر برفضها إذا لم تُقدم بشكل لائق بمكانته.

أمّا مَن يخرج لتوضيح الصُّورة ويحاول توعية العوام عما هم به مِن جهل وتجهيل، فلا يكون الموقف منه بأقل مِن الموقف مِن محسن الأمين(تـ: 1954)، عندما هم بتشذيب عاشوراء مما لحق المناسبة مِن خرافة ومبالغة، استُغل فيها العوام أيما استغلال، وهنا يأتي مركز رجل الدّين، خطيباً كان أو صاحب مجلس عزاء، ويُحسب المركز الاجتماعيّ بعظمة المجلس أو الموكب، وقد تمادى سياسيو، بعد 2003 في العراق، بالتباهي بالمواكب. هذا وليس عنوان "الفقهاء حُكام على الملوك" لسعد الأنصاريّ، لم يتم في عهود الدّولة الإيرانيّة منذ العهد الصّفوي إلا بعد هيمنة الفقيه المطلقة على العامة، يحركها ضد الملوك متى يشاء وباسم الأئمة، فهو وريثهم "الثّالث عشر". ليست مشكلة إذا كان التقليد الأعمى بحدود العبادة، لكنه خرج إلى السياسة، وما حصل من توجيه للانتخابات العراقية الأولى (2005) مِن قبل بيوت المراجع كان واضحاً. 

لذا بوجود هذه الهيمنة على عقول العوام، فلا معنى لانتخابات وديموقراطيَّة مِن الأساس، وخصوصاً إذا كانت لا تحقق مقولة "الفقهاء حكام على الملوك". فمَن يدقق في الروايات التي تناولت طبيعة الأئمة والثاني عشر المهدي المنتظر، لا يستغرب مِن فكرة أنَّ الفقيه هو الإمام الثّالث عشر، أو البحث عن إمام ثالث عشر، وقد بعد زمن الغياب وطال. فهذا السّيد الحِميري (تـ: 173هـ) قالها قبل ظهور فكرة غياب الثاني عشر (260هـ) بأكثر مِن مئة عام، فكيف تكون الحال بعد ألف عام. قال الحِميريّ في مهديه محمد بن الحنفيّة (تـ: 81هـ): "يا شِعب رضوى ما لمَن بك لا يُرى/وبنا إليـك مـِن الصَّبابة أولقُ/ حتَّى مـتى وإلى مـتى وكم المدى/يا ابن الوصيّ وأنت حيّ ترزقُ"(ديوان السّيد الحميريّ).

المتنبي الثالث عشر

قبل ما صرح به شاكر شاهين، مِن العثور على الإمام الثالث عشر بشخصية الفقيه، من دون أن يقولها صراحة داخل كتابه، لفت آخرون، مِن قبل، الأنظار إلى أبي الطَّيب المتنبي (اغتيل: 354هـ)، أن يكون هو الإمام الثّالث عشر لأنه ابن الإمام الغائب. فما شاع عن أبيه أنه حُسين السقاء، فهو أحمد بن الحُسين، لكن أشعاره، وبحثه عن الإمارة والمنزلة، أوهمت الشك في أن يكون أبوه مجرد بائع ماء. 

درس حياة المتنبي المحقق محمود شاكر (تـ: 1997)، وأظهر أنه علويّ النَّسب، كان ذلك في مجموعة مقالات نُشرت في مجلة المقتطف (1936-1937)، ثم نُشرت كتاباً، مع التوسعة، تحت عنوان "المتنبيّ رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا" (1977)، متهماً طه حسين بانتحال أفكاره وضمنها كتابه "مع المتنبيّ".

 التقط فكرة علوية أبي الطيب المتنبيّ الأديب والشّاعر البحريني إبراهيم العريض (تـ: 2002)، عندما أصدر كتابه "فن المتنبيّ بعد ألف عام"، وكان نشر مقالتين عن المتنبيّ في مجلة "البيان" الكويتيّة (العددان: 49 و50 السنة 1970)، فتوصل إلى أنَّ والد المتنبي هو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن، وليس أي علوي آخر، فكانت ولادته، أي المتنبيّ، السّنة 303هـ، أي خلال ما عينه إخباريو الشيعة الإمامية بالغيبة الصُّغرى (260- 329هـ)، وظل المهدي الأب متوارياً حتّى (329هـ)، حين إعلان الغيبة الكبرى، بوفاة سفيره، أو وكيله الرابع عليّ بن محمّد السّمريّ، ومن ذلك اليوم انقطعت أخبار المنتظر، إلا على الفقهاء الأصفياء، فظل الاعتقاد أنهم يلتقونه (راجع التنكابني، قصص العلماء). 

بحسب ما أورد الأديب العريض أن المتنبي سيكون الثّالث عشر، وإذا كان ما زال حياً غائباً، فماذا عن ولده؟ الذي يرى العريض أن علويين متآمرين على الأب والابن قاموا بتدبير اغتيال المتنبي في الحادثة المشهورة (354هـ).

جاء بعد محمود شاكر وإبراهيم العريض الأديب العراقيّ عبد الغني الملاح (تـ:2001)، وكتابه "المتنبي يسترد أباه" (1974)، فأغراه نسب المتنبي المجهول، وبحث الباحثين عن أبيه، فاستخرج مِن شعره، وخصوصاً قصيدته في جدته نسباً له، وإذا كان قد صرح بأبوة المهدي المنتظر له، لكن يبقى لإبراهيم العريض الفضل والسّبق في هذا التَشخيص. فلا يكون قائل: "سيعلم الجمع ممَن ضم مجلسنا/بأنني خير مَنْ تسعى بـه قدم"، أو: "ولـو لم تكـوني بنت أكرم والد/ لكان أباك الضخم كونك لي أمّاً"، إلا صاحب نسب شريف، وليس ابن سقاء. وبهذا تجاوز العريض والملاح إلى القول بالإمام الثَّالث عشر، وجعل للمنتظر وريثاً، وأمراً دنيوياً خالياً مِن الخوارق!

قد لا يبدو التفكير باستمرار نسل الأئمة الاثني عشر، مِن عقب آخرهم المهدي المنتظر، غريباً بمكان، فالأئمة عند الإسماعيليّة، المستعليّة والنزارية، مستمرون بالتناسل، ولكلّ منهم تسلسله في تولي الإمامة، كذلك مِن الشِّيعة الاثني عشرية القدماء مَن اعتقد بوجود هذا العدد مِن الأئمة، أي تجاوز الاثني عشر إلى الثَّلاثة عشر، وصاحب هذا الرأي أبو نصر هبة الله أحمد بن محمّد الكاتب (تـ 400هـ) ابن بنت أُم كلثوم بنت أبي جعفر العمريّ (السّفير الثَّاني مِن سفراء المهديّ الأربعة) عن (الطوسيّ، كتاب الغيبة)، لما أدخل زيد بن عليّ بن الحسين (قُتل: 122هـ) ضمن الاثني عشر إماماً، وكان صاحب الفكرة أبو نصر معاصراً لشيخ الطَّائفة أبي جعفر الطُّوسيّ (تـ: 460هـ)، جاء في الرّواية: "وكان يتعاطى الكلام، ويحضر مجلس أبي الحسين بن الشبيه العلويّ الزيديّ المذهب، فعمل له كتاباً، وذكر أنّ الأئمة ثلاثة عشر مع زيد بن علي بن الحسين، واحتجّ بحديثٍ في كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّ الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين" (مؤسسة بصائر، بحث للشيخ إبراهيم جواد عن رجال النَجاشي. جواد علي، المهدي المنتظر).

خصوبة الفكرة

مِن العادة، أنَّ الفكرة الدِّينيّة خصبة، تنشطر بسرعة كبرى، والثًّابت فيها أنْ تُحافظ على قُدسيتها، في أذهان العوام، وفكرة المهدويّة مستمرة بالانشطار، خصوصاً بتوظيفها السياسي المباشر، فكمْ مِن مهدي خرج، وادعى قيادة ثورة أو تمرد، وقلنا ان من الحركات المهدوية من أسست دولاً، قديماً الدولة العبيدية والفاطميّة، ودولة الموحدين، جماعة المهدي محمَّد بن تومرت بن عبد الله بالمغرب (تـ: 524هـ)، وفي العصر الحديث ظهرت دولة في السودان بقيادة محمّد بن أحمد ين عبد الله المهدي (تـ: 1885)، وكانت أصلاً لظهور الديانة البابيّة والبهائيّة في القرن التّاسع عشر، عندما أعلن عليّ محمد الشّيرازي المعروف بالباب (أعدم: 1850)، أنه باب المهدي ثم المهديّ، ثم تشكلت ديانة مستقلة عرفت بالبابيّة فالبهائيّة، وقبل الجميع بما يخص الثّورات، كان محمّد بن عبد الله النَّفس الزَّكيَّة (قتل: 145هـ) مهدياً، ثم قدم أبو جعفر المنصور ولده محمَّد بن عبد الله (تـ: 169هـ) مهدياً، ليلغي به مهدية النفس الزّكيّة، فجاء الحديث عن النّبي "المهَديُّ مِنْ وَلَد العَباس عَمِّي" (كنز العمال). غير أنَّ الحديث "المَهْدِيُّ يُوَطئ اسمُهُ اسمي، واسمُ أَبيهِ اسم أَبي"(كتاب الفتن) ثابتاً اسماً لكل مَن قُدم نفسه أنه المهدي، ما عدا مهدي الاثني عشرية الاسم يواطئ اسم النبي لكن اسم الأب "الحسن". كما كثر المهديون في العراق، بعد سقوط النّظام السابق (2003)، وما زال الانشطار مستمراً، فكلما اشتد الجهل تكاثر المهديون.

كل ما تقدم، مِن المهديين، توظيف لروايات الموضوعات أو المختلقات، مِن أجل العمل السّياسيّ، كتأسيس دولة أو قيادة ثورة، لكن مِن دون أن ينطقها الفقيه، ويدعيها صراحة، تجده يمارسها، نائباً للإمام، فلا الطّيب المتنبيّ ولا زيد بن عليّ الإمام الثّالث عشر إنما هو الفقيه المرجع بعينه، وما تأسيس نظام سياسيّ على روايات مختلف عليها إلا يأس في الوعي السّياسيّ، حيث نظام "ولاية الفقيه"، الممهد لظهور الغائب المنتظر. 

لا اعتراض إذا ما ظلت عقيدة، مثلما يؤمن بها المراجع، أن ظهور المهدي يكون أمراً إلهياً، فـ"كلُّ رايةٍ ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل" (الكُليني، الكافي)، لذا وجدوا تخريجاً وقالوا بنيابة الإمام الممهدة لظهوره. فالفاجعة كلّ الفاجعة بالممهدين، واستغلال العقيدة لنيل السّلطة، كنوع مِن الحاكميّة الإلهيّة.

***

د. رشيد الخيّون

من المركزيةِ الغربية إلى مركزيةٍ إنسانيَّة تصبُّ فيها الرَّوافدِ الثَّقَافيَّة الإنسانية

أعتقدُ أنَّ الدكتور عبد الجبار الرفاعي يريدُ من خلال مؤلَّفه هذا، أن تكون له مساهمةٌ في تطوير الثقافة العربية وفكرها، فكتابُه "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتُّراث" أراده جسراً موصولاً بين فكريْن شرقيين متجانسين تاريخيا وجغرافياً: الفكر العربي، والفكر الإيراني، ولعلَّه بذلك يكون قد ربط ماضي هاتيْن الثقافتيْن بحاضرهما، فقدْ تلاقحا ماضياً، بما حقَّق تألُّق الحضارة العربية الإسلامية. يقوم الكاتب بمدِّ حبل التَّواصل بينهما باعتبارهما ثقافتيْن عريقتيْن غنيتين بمحموليْهما، لاعتقاده أوانَ تلاقيهما، لتتشاركا معاً في مصاحبة المسيرة الإنسانية العالمية إلى مصيرها.

يريدُ كتابَه صرحاً جديداً في هذا البناء الفكري العربي المعاصر، وربَّما يكون هذا العملُ حافزاً، فتتفتَّحُ ثقافاتٌ شرقيةٌ أخرى على الفكر العربي من تركية وماليزية، وإندونيسية وباكستانية وغيرها، كما يتفتَّحُ هو عليهم، لِتتوسَّع بذلك الدَّائرةُ الفكرية الشَّرقِيَّةُ، ونخرُجَ من أسار الإبْهار المُزمن لِـ "المركزية الغربية"، ونعملُ على تأسيس "المركزية الإنسانيَّة "، تصبُّ فيها جميعُ الرَّوافدِ الثَّقَافيَّة الإنسانية.

استثمر الرفاعي في مصطلح "المثقف الديني النقدي"، بإثارته في مقال له في صحيفة "الصباح" العراقية، ثمَّ دفع به إلى السَّاحة الفكرية قصد إثرائه، وعمل على إبانته، وبيان الغرض منه، وتحديد إطاره (ص32)، وذكر دوره في ولوج المناطق المعتمة، والمسكوت عنها في التراث أو الفكر الديني، متَّخذاً العقل وسيلةً وآلةً، متسلِّحاً بثقافة الموروث وثقافة الحداثة (ص26)، واشترط أن يظهر المثقفُ الديني النقدي بصورة المتكلم الجديد، أو الفقيه المجدِّد، أو المفكِّر، لا متكلم قديم، ولا فقيه أحكام، ولا داعية (ص27)،  كما أكد الكاتب على ضرورة توفر الضمير الأخلاقي اليقظ، والنزعة الإنسانية عنده (ص303)، ثم مضي بعد هذه الاستفاضة، إلى اختيار نماذج يعمل عليها، قد انتقاها من مجاليْ الفكر العربي والإيراني.

أمَّا الفكرُ العربي، فقد اختار منه نماذج مشرقيةٍ ومغربيَّةٍ، وتتمثَّلُ النَماذجُ المشرقيةُ، في شخصية ثقافية عراقية، ومن مصر اختار مفكِّريْن، وآخر سوري، ومثَّل النَّموذجَ المَغاربي مفكِّرٌ جزائري، بينما مثَّل الثقافةَ الإيرانيةَ ثلاثةُ فلاسفة. كل هذه النماذج يربطها إطار زماني واحد، فقد وُجِدُوا جميعا في النصف الأول من القرن العشرين.

اعتبر الكاتبُ الرفاعي "علي الوردي" أولَ مثقف ديني نقدي (ص21)، عرَّف به وبإنجازاته، وظروف عمله، وبأنَّه صَاحِبُ تكوينٍ أكاديمي ممتازٍ بمقاييس عصره (ص28). حرٌّ جريءٌ، له تأثيرٌ واسِعٌ على الأجيال التي نهلتْ منْ صافي معينه، جمع علي الوردي كنزاً هائلا من المعلومات التي تتعلق بالمظاهر الاجتماعية العراقية، والعادات والتقاليد، والسلوك والأخلاق، معتبراً نفسه ابن المجتمع الشعبي البسيط، يعيش وسطهم، يعرفهم عن قربٍ في معايشهم ومهنهم، وطرائق تفكيرهم وأساليب أحاديثهم.

نقل هذا الواقع نقلاً موضوعياً، ونثره تحت مشرحة طاولته دارساً محللاً، نقدَهُ نقد الحصيف، لم ينجرَّ وراء عاطفة، ولا استسلم لميلٍ ذاتي، مفضلا استخدام منهج ابن خلدون، كأفضل منهجِ تشخيصٍ لمجتمعه، وأوجد لذلك مصطلحات العمل، من مثل: صراع البداوة والحضارة، وازدواجية الشخص العراقي، والتناشز الاجتماعي (ص94).

خرج بنتائج محدَّدة دقيقة، تحفَّظَ الرفاعي على بعضها، بل كانَ له التَّحفظ من المنهج الخلدوني نفسِه معلِّلاً ومستشهداً (ص96)، ويقدِّم الكاتب نقد علي الوردي للمنطق الأرسطي الجامد، الذي يفضل عليه المقاربة السوفسطائيَّة (ص108)، القائمة على الشكِّ، وهو ما يريدُ علي الوردي تحقيقُه على السَّاحة الثقافية العراقية، كما أنَّ هذه المقاربة أيضاً تجعلُ من الإنسان معياراً، وهو مبتغى علي الوردي في الإنسان العراقي.

مع كلِّ هذه البضاعة المزجاة، يؤسفُ الكاتبَ أن يجده مفتقراً إلى ثقافة تراثية رصينة، وهذا الفقد هو إحدى هناته، لأنَّه من دونه يتكئ على عصا دون أخرى (ص28).

ثمَّ قارن الرفاعي بين المثقف الديني النقدي، والمثقف العضوي (ص44)، بين علي الوردي، وعلي شريعتي المثقف الآخر، وشرح أوجه المقارنة (ص47)، وامتاز علي الوردي بمراجعة أفكاره وقناعاته (ص52)، والإقرار بأخطائه، وله مواقف صادمة يخالفُ فيها العرفَ، وما جرى عليه الناسُ والمجتمع، من ذلك موقفه من مركزية الشعر، والفصاحة والنحو (ص68)، أقرَّ الكاتبُ الأسلوبَ المبدع الذي سَوَّقَ به علي الوردي كتاباته، وفي طريقة عرضه وتفسيره، وأسلوبه القصصي المشوِّق، وشجاعته النقدية التي مكنته بنشر ما لا يجرؤ على فعله مفكرو الزمن الحاضر.

أمَّا المثقف الديني النقدي الثاني، فهو حسن حنفي، يشيد الرفاعي بثقافته الموسوعية، وتكوينه الأكاديمي الصارم، الذي ناله من جامعة السوربون (ص121)، يشهد بأنَّه مفكر مدهش (ص139)، تجتمع فيه الموهبة الفذَّة، والذِّهنيَّة المراوغة، والإرادة العنيدة (ص186).

وقف حسن حنفي حياته كلَّها على مشروعه الفكري الذي أطلق عليه عنوان "التراث والتجديد" (ص125)، تضمَّن منهجه "اليسار الإسلامي"، استند فيه على التراث يتدارسه بأدوات عقلٍ معاصر تجديدي، عمل فيه على الجمع بين المتناقضات، يبحث عن طريقٍ ثالثٍ، يضع فيه وطنه على أرضية التقدم والازدهار.

صحيحٌ أنَّه خبير بالتُّراث، لكنَّ خبرته وضعها في خدمة منجزه الأيديولوجي، كان انتقائياً، والعمل الانتقائي يلوي عنق النص المستشهَد به، للواقعة المستشهَد لها (ص137). يصنف حسن حنفي نفسه فقيها، يجتهدُ خارج أصول الفقه، متكلماً يخرج عن مقولات الكلام، فيلسوفاً خارج العقل الفلسفي (ص129ـ130).

أمَّا منجزه الثاني، فيتمثل في تأسيس علمٍ جديدٍ أطلق عليه "علم الاستغراب"، يقومُ فيه بدراسة الغربِ بعين الشرق، كما درس الغربُ في "علم الاستشراق" الشرق بعين الغرب، لكن لم يُكتبْ لهذين المشروعيْن النجاح، فقد سقطا، ولم يجدا انتشاراً ولا صدىً إلاَّ قليلاَ.

خلع الرفاعي على حسن حنفي صفة رجل الأضداد، حتى أنَّه جعل العنوان المتصدر لاسمه هو: "الأضداد في كأس واحد" (ص119)، كان حسن حنفي مفكراً إسلامياً منغلقاً رغم أن مادته العلميَّة التي توفَّرتْ له، كانت باستطاعتها أن تجعل منه أحد أقطاب الفكر العربي البارزين، لكنَّه أغلق نفسه في حصن التراث، فبدأ منه، منتهياً إليه، من هنا كان مشروعه إحيائياً لا تجديدياً (ص177).

المثقف الديني النقدي الثالث هو محمد عمارة، تميز بارتداد مراحله الفكرية، فهي دوماً إلى حركة عكسية، ابتدأ نشاطه الفكري ماركسياً، أي بقناعة أيدولوجية، كانت صرخة العصر زمن شبابه، ذات آلياتِ مبنية على قاعدة فكرية فلسفيةٍ، تتجلَّى في مستوياتٍ سياسيةٍ، واجتماعية اقتصادية، ساحتُها تعجُّ بمختلف المناقشات مع المعادل المقابل، وهو الفكر الرأسمالي، أو في تلك الانشقاقات الإيديولوجية والاجتهادات الداخلية، فهي حركة وعيٍ لا تفترُّ.

انتقل من الماركسية إلى العقلانية الاعتزالية، وهي درجة أقلُّ، لأنَّ مساحة فاعليتها محدودة، تتعلَّقُ أكثرُ مقولاتها بالجانب التاريخي، إذْ نشأتْ منْ واقع الدفاعِ عن العقائد الإسلامية، نتيجة تناحرٍ مذهبي، ثمَّ امتدَّت في جدالات المِلل والنِّحل لأديانٍ أخرى مقابل الدين الإسلامي، ثمَّ انتقل إلى الوسطية الإسلامية، وهي درجةٌ أخرى أقلُّ، باعتبار التَّعامل يكون مع فكر إسلامي محافظ، يعتمد على الموروث النقلي.

ثم انتقل إلى مذهبية سلفية وهي درجة أخرى أقلُّ باعتبار التعامل الانتقائي مع مذهبٍ ديني دون سائر المذاهب الأخرى من نفس الدين، ورفض فتح الأبواب على ما عداها من مدارس ومناهج وأعلام آخرين، (ص318ـ319)، فتفكيرُه بحكم الطبيعة المعرفية السَّلفية يتوقف عند السطح من خلال أحكامٍ عامَّةٍ، أشبه بأحكام القضاء، فقد اتَّهم طه حسين بوقوعه تحت تأثير القسِّيس، عمِّ زوجته الفرنسية (ص321)، وكان المفكر الإسلامي الإشكالي نصر حامد أبو زيد من ضحايا تشدُّده (ص320).

ولا يخفى أنَّ لمحمَّد عمارة تأثيراً كبيراً على شريحةٍ واسعةٍ من الشَّباب، نتيجة الصَّحوة الإسلامية العامَّة، وهو صاحبُ تآليف بلغتْ 250 كتاباً، له وزنٌ معتبرٌ في الفضاء العامِّ للفكر الإسلامي، إذْ كان مستشاراً في "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" القائم على أسلمة المعرفة، تقدَّم إليه المفكِّر محمد أبو القاسم حاج حمد سنة 1991، بكتابه "المنهجية المعرفية القرآنية"، ولكنَّ محمد عمارة عارض طبعه، وبقي إلى غاية 2013، حيث نشره "مركز دراسات فلسفة الدين" ببغداد في العراق (322).

المثقف الديني النقدي الرابع، هو جودت السعيد، داعية اللاعنف، يرى أنَّ الحربَ مكتوبة على جبين الإنسانية، والعنف طبيعة إنسانية، قامتْ عليها، وانتهتْ بها حضاراتٌ، وأخطر العنفِ العنفُ الديني (ص341)، لأنَّه في اعتقاد جماعات العنف مُسَوَّغٌ بنص قدسي، وأدرك مبكراً خطره على المجتمعات، خاصّةً الإسلامية، فنشر كتابه "مذهب ابن آدم الأول: مشكل العنف في العمل الإسلامي" عام 1966، دعا فيه إلى نبذ أشكاله (ص333)، ودعا إلى التَّعامل مع الذي يخالفُنا في الفكر، أو المعتقد بوصفِهِ إنساناً، لا بصفته العرقية، أو الهوياتية، أو الدينية، لكنَّ الرفاعي يذهب إلى أنَّ العنف الديني له جذور تكلَّستْ، أسَّس لها الكلام القديم، وما انبثق منه من مدونات فقهية وفتاوى (ص335)،

ويحبِّبُ جودت السعيد إلى المسلمين قراءة القرآن الكريم، لكن بآليات القراءة التي تفتح النص على الإنسان وعلى المطلق، فيقترح أن يُقْرَأ القرآن من حيث هو عملُ الإنسان، ويُقْرَأ مَرَّةً أخرى من حيثُ هو عملُ الله، ليجد القارئ فعلاً بشرياً يتحدَّث عنه القرآنُ، كما يجده فِعلاً إلهياً يتحدَّثُ عنه (ص333).

جميلٌ ما دعا إليه جودت السعيد، لكن الأمر لا يتعلق بأمنياتٍ ورغباتٍ كما أكد الرفاعي، فموضوعا اللاعنف، وموت الحرب حين يتحَّولان إلى عملٍ فكري، يتطلبان تأسيساً نظريا، وهو ما لم يتوفّق فيه صاحبُ الفكرة، فانزوتْ إلى دعوة أخلاقيةٍ إنسانيةٍ نبيلة.

المثقف الديني النقدي الخامس، هو مالك بن نبي، يعترفُ الرفاعي بقدرته في صياغة أفكاره ضمن نسقِ نظريةٍ علمية دقيقة، وأنَّ له موهبةً في صناعة المفاهيم، وفي تركيبها، بما يشبه المعادلات الرياضية (ص347)، ثم يرى أنَّ كتاباته غذَّتها عواطفُه وغيرتُه المشتعلة على وطنه وأوطان المسلمين، يخلص من ذلك الكاتبُ إلى أنَّ الحماسَة إذا اتَّقدت أخمدت العقلَ، وتراجع التفكير النقدي، فالعواطف المتَّقدة في نظره لا تفكِّرُ، ثمَّ يعودُ، فيراه مرَّةً أخرى متميِّزاً ببنية ذهنية تتجلى في معادلاته (ص353)، واستشهد بما قدَّمه من تحليل ظاهرة "التخلُّف" في سلسلته "مشكلات الحضارة، بصياغته تعريفاً للحضارة، ومنْ أنَّها حصيلةُ اجتماع ثلاثة عناصر هي: الإنسان، والتراب، والزمن، كما رسم مراحل دورتها التي تمرُّ بها كلُّ حضارة إنسانيةٍ، وهي: مرحلة الروح، ومرحلة العقل، ومرحلة الغريزة (354)،

ويرى الكاتبُ أنَّ مصطلح "القابلية للاستعمار" ربما يكون صدى لفكر وطرح ابن خلدون، في ولع المغلوب بالغالب (355)، ويرى أنَّ أكثر معادلاته لا تخلو من مثالية لا يمكنُها أن تتحقَّقَ في واقع المسلمين، كحلمه في محورٍ يجمع الأمة الإسلامية، سماه "محور طنجة - جاكارتا" (356)، كما تظهر في كتاباته بصمة لاهوت التحرير، إذْ يرى العنف مكّوَناً أساسياً لماهية الدين، ولاهوت التحرير نسخة من الإسلام السياسي (359).

اختار الرفاعي لتمثيل الفكر الإيراني الحديث ثلاثة فلاسفة: داريوش شايغان، وسيد حسين نصر، وأحمد فرديد، عاشوا في فترة متقاربة. أولهم داريوش شايغان، الذي ابتدأ حياته المعرفية في سن مبكرة من خلال مجالس "حلقة أصحاب التأويل"، التي ضمَّتْ العلاَّمة محمد حسين الطباطبائي وهنري كوربان، وتدارسوا فيها الفلسفة الإشراقية، وفلسفة الحكمة المتعالية، والعرفان (ص199)، ثم حاز على تكوين أكاديمي رصينٍ في جامعة السوربون، توَّجَهُ بإجازة الدكتوراه، ليقوم بعد ذلك بتدريس الفلسفة المقارنة، واللغة والآداب السنسكريتية، والتيارات الفلسفية الغربية في جامعة طهران (ص204ـ205)،

ومرَّت حياته الفكرية بثلاثة محطَّات، تأثَّر في محطَّته الأولى بالفرنسي رينيه غينون، والسويسري كارل غوستاف يونغ، والألماني مارتن هايدغر (ص207)، كان نتيجتها إنكاره المعارف الغربية في عصر الأنوار، وأنَّ الأنوار الحقيقية منبعها الشرق، فدعا إلى الرجوع إلى الذاكرة الذاتية، والهوية الثقافية والقيم الموروثة (ص208)، وكتب في هذه الفترة "الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية"، عام 1976،

وأما محطته الثانية، فتأثَّر فيها بميشال فوكو، وغاستون باشلار، ولويس ألتوسير، وهابرماس... وفيها تمكَّن من تصحيح رؤيته، فلم يعد يرى قدسيةً للذاكرة والهوية، ونادى في هذه المرحلة بتعميم "الرؤية النقدية"، التي هي إعادة تفكيك الموروث، واكتشاف خلله، ومواطن قصوره، ونشر كتابه "ما الثورة الدينية" عام 1982 (ص220)، رأى أنّ قوة الحضارة الغربية آتيةٌ من التشغيل النقدي الدائم، ثم ارتقى إلى محطته الثالثة، حيث نضجت شخصيتُه المعرفية، مضيفاً إليها مقولات جيل دولوز، وفيليكس غاتاري، تبيَّنت له حقيقةُ المجتمعَيْن الإنسانيين الغربي والشَّرقي، وأنَّهما أصلاً قائمين على أساس تناقضاتهما الداخلية، إذ أصل تكوينهما تعدُّدي، ولا يمكنُ أن يكون إلاَّ كذلك، فمن هذ التعدد يأتي التناقض،

وصاغ للتعبير عن رؤيته الجديدة مصطلحاته، من مثل:" أنطولوجيا مهشمة. تزامن الثقافات المتنوعة. العالم في هذا العصر شبحٌ. الهوية أربعين قطعة، هوية مركبة من شبكة ترابطات دقيقة، تعددية ثقافية. اختلاط قوميات. تمازج أفكار. تهجن مضطرد. تمازج لغوي وعرقي تعمل كالريزوم، تكتسبُ شكلا جذموريا ريزومياً، فينبثقُ نموذجٌ مرقع..." (ص231).

توصَّل إلى أنَّ عالمنا المعاصر ذو "هويَّة ريزوميَّة"، وهي هوياتٌ متداخلةٌ، وثقافاتٌ متمازجةٌ، وتلاقحٌ واختلاطٌ دائمان مستمران في الزمان والمكان، فلا وجود لهوية نقيَّة صافية، العالمُ ذاته سائرٌ إلى التمازج، الهويَّة الواحدة قماشٌ من أربعين قطعةً تخاطُ باستمرارٍ (ص233)، فمن هنا، فجميعُ الثقافات من الإنسان وللإنسان أُبْدِعَتْ، بل الإنسان نفسه هو للإنسان، وفي هذه المحطة اعتبر داريوش شايغان منجزات الأنوار إضافةً مهمَّةً للإنسان.

أمَّا سيد حسين نصر، فقد درس مرحلته الثانوية والجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصل منها على إجازاته العلمية، وحضر دروس براتراند رسل، وتأثر برينيه غينو، وشوان، وبوكهاردت، وكان هؤلاء ضمن تيار فكري أطلق عليه الكاتب عبد الجبار الرفاعي "الحكمة الخالدة" (ص255)، وهي في بحث نصر حكمةٌ جوانيةٌ ساريةٌ من الأنبياء إلى الحكماء والفلاسفة (ص257). ولا يولي الغرب هذا العلم أيَّ اهتمام، لذا يرى سيد حسين نصر الشرقَ رمزَ النور والعقل والروحانية، والغربَ رمزَ المادية والانحطاط (273)، إلاَّ أنَّ الرفاعي يرى هذا الطرح دعوةً مبهمةً غامضةً، تقومُ أساساً على رفض المنجز الغربي (ص263)، كما لم تخرج هذه الدعوة من برجها النظري أبداً، وبقي حسين نصر متمسكاً بها حياتَه كلَّها دون مراجعة (ص275)،

وأمَّا أحمد فرديد، فهو صاحب التَّأثير الواسع في الفضاء الفكري الإيراني عبر حلقته الأسبوعية المسمَّاة "الحلقة الفرديدية"، تُناقش فيها تاريخ الفلسفة الإنسانية، والفلسفة الغربية والشرقية، ولمْ يتركْ أحمد فرديد أيَّ أثرٍ مكتوبٍ، بل اكتفى بتعليمه الشفهي، لذا أُطلِقَ عليه "الفيلسوف الشفهي" (ص287). صاغ للتعبير عن رؤاه مصطلحاتٍ غامضةٍ مركَّبة مثل: "الحكمة الإنسية، علم الأسماء التاريخي، وباء الغرب، تجلي أسماء الله في التاريخ... (ص286)، وقد صاغ رؤيته لعلم الأسماء الإلهية من فلسفة هايدغر، وعرفان ابن عربي، وعلم اللغة المقارن، والفيلولوجيا واللسانيات، لكنَّ هذه الرؤية كما يحللها الرفاعي مزيجٌ غيرُ متجانسٍ (ص290)، رآهُ مجرَّدَ نَقْعٍ لغوي لا ينجلي على أيَّة نتيجةٍ ذاتِ قيمةٍ.

يخلُصُ الرفاعي إلى أنَّ أحمد فرديد شخصية إشكالية مؤثِّرةٌ، فقد وقع في شراك غوايته مثقفون كثيرون، وإنْ كانوا قد انفضُّوا من حوله.

يتكوَّن الكتابُ من 367 صفحة، خصَّصها لعرض ثمان شخصيات. اختار لتمثيل الفكر العربي خمس شخصياتٍ، مثَّل الأولى "علي الوردي" بِـ 67 صفحةً في 13 مقالاً، والثانية "حسن حنفي" بِـ 58 صفحةً في 9 مقالاتٍ، والثالثة "محمد عمارة" بِـ 18 صفحةً في 3 مقالاتٍ، والرابعة "جودت السعيد" بِـ 17 صفحةً في 3 مقالاتٍ، والخامسة "مالك بن نبي" بِمقال واحدٍ من 11 صفحةً، الملاحظُ هو العدُّ التنازلي للمقالات وعدد الصفحات، فبين الشخصية الأولى والأخيرة فجوةٌ واسعة.

وتجلى عمل الفكر العربي في هذه الفترة من خلال هذا الكتاب على معالجة أوضاع اجتماعية كالذي ورد عند علي الوردي، أو عرض لأيديولوجية كاليسار الإسلامي، أو طرح لعلمٍ مُجْهَضٍ كما عند حسن حنفي، أو نظرة دينية منغلقة كما عند محمد عمارة، أو رؤية طوباوية في موت الحرب كما عند جودت السعيد، أو عرضاً غير مكتملٍ لطرح نظري كما عند مالك بن نبي، فليس هناك أي مبحث فلسفي، أو تأسيسي، أو فكري، لذا رأى الكاتبُ أنَّ ظاهرة الفكر العربي، تدعو للرثاء، كما لفت انتباهه فيه أنَّ له بداية متفتحة، ونهاية منغلقة (316)، ولا يمكن للعقل العربي أن يقوم بدوره، إذا لم ينهل مرتوياً من عوالم الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع (ص18).

أمَّا الفكر الإيراني، فقد مثَّله ثلاثُ شخصيات، الأولى داريوش شايغان بِست مقالات في 44 صفحةً، والثانية سيد حسين نصر بخمس مقالات في 34 صفحةً، والثالثة أحمد فرديد بسبع مقالاتٍ في 29 صفحةً، والملاحظ هو التوازن النسبي في عرض الشخصيات الثلاثة. عمل الفكر الإيراني في نفس الفترة على مبحثيْن: فكرُ الهويَّة، أو العودة إلى الذَّات، والاهتمام بالروحانيات الشَّرقيَّة، وطريقة إصلاح أو تجديد الفكر الديني على ضوء منجزات العلوم الحديثة (288).

في خلاصة القراءة، يبدو أن عنوان الكتاب له نصيبٌ من اسمه في موضوع الكتاب، فرجعُ اللفظتين "مفارقات"، و"أضداد" تتردَّد بين جنبات الموضوع، نجد الفكر العربي في توظيفه التراث والدين فكر مفارقات، ولفظة أضداد صفةٌ تصدق على الفكر الإيراني.

****

عبد اللطيف الحاج اقويدر

كاتب جزائري

...........................................

مراجعة لكتاب: د. عبد الجبار الرفاعي، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ط1، يناير كانون الثاني 2024، منشورات تكوين، الكويت، دار الرافدين، بيروت.

 

من بين كتبه التي بلغ عددها (٨٤) كتابا لم احظ الا بعدد قليل منها، في حدود عشرة إصدارات، حمل أقدمها تاريخ ٢٠١٣ واحدثها ٢٠٢٣، وفي هذا العقد من السنين، ومن خلال مطالعتي لكتب صديقي الكبير الطائي، وجدته يتحرك في خط عقلنة البحث، وأنسنة التشخيص، وعصرنة القراءة بروحية منفتحة على آفاق المعرفة في فضاء متعدد الاتجاهات. متجاوزا حدود الانتماء البيئي وضغوطات الأنا وقيود الفهم الايديولوجي للحدث وللنص والشخصية موضع الدراسة، فهو يخاطب القارئ بلغة لا لون فيها لصبغته البشرية، ولا طعم فيها لعرقه وعقيدته..

وعد ظهور الفكر المنحرف حالة طارئة يجب معالجتها لكيلا ينحرف الإنسان عن محتوى التقويم الأحسن الذي خلقه فيه الله تبارك وتعالى.. ومن ذلك وجدت الدكتور صالح الطائي يستعمل أدواته الفكرية في البحث والتنقيب والكشف بما يمكنه من الوقوف على أسباب نزوع العقل البشري الى انتهاج الانحراف الفكري، بما يترتب عليه من انحراف أخلاقي وسلوكي فجاءت (سلسلة اثر النص المقدس) لتصادق على ما ذهب اليه ميخائيل نعيمة من ضرورة توافر الكاتب على ثلاثية (الشعور والفكر والبيان) كي يحظى بلقب (كاتب) وعندما يباشر القلب الواعي نفسا نقية سيتشكل في رحم العقل فكر إيجابي ينمو بشكل تدريجي ليعيش صاحبه مخاض ولادة إبداع حقيقي، ولا اجدني أبالغ إذا قلت إنني وجدت ذلك بعد قراءتي لهذا العدد القليل من كتب العزيز د. صالح الطائي، فقد قدم من خلال كتبه وصفات فكرية تعالج (عقيدة التهجير) و (عقيدة المثلة) و(عقيدة التكفير) و .. وامتد شباب عقله ليصل بأعوامه التي تجاوزت السبعين الى شواطئ الجيل المعاصر، فلم يكتف بدور المتفرج او الناصح بل نزل معه الى ميدان الحياة، وركب أمواجها كي يشخص أدواءها حتى بعد تعرضه الى الخطف والتعذيب والتهجير ومصادرة تاريخه الشخصي والعائلي كما يصف في أحد كتبه.

***

د. عدي عدنان البلداوي

كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الهادي البياض، صدر عن دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت، يتألف من بابين رئيسيين موزعيْن على عدة فصول، وهو بمثابة دراسة أكاديمية تبحث في تأثير الكوارث الطبيعية (القحوط، المجاعات، العواصف، السيول، الجراد، الحرائق، الزلازل، الأوبئة) على ذهنية وسلوك إنسان المغرب والأندلس، وما قد تفضي إليه من تحولات قيمية، وذلك في الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري، عبر مقاربة منهجية تمزج بين ما هو كمي إحصائي، فضلا عن المناهج الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، ومقاربات التحليل النفسي والسلوكي، والمنهج المقارن. كما يقر صاحب الكتاب ببعض الصعوبات المنهجية التي اعترضته من قبيل ندرة المصادر النصية التاريخية التي يمكن الاستناد إليها.

وفيما يخص الآثار المترتبة على وقوع كارثة ما، عادة ما ينجم عن ذلك عواقب ديمغرافية من حيث تناقص عدد السكان، فضلا عن بروز توزيع جغرافي جديد (هجرة القبائل الصحراوية إلى الأراضي الخصبة، إذ كان سكان المناطق الصحراوية أكثر صمودا في وجه الكوارث بفضل المناخ الصحراوي الحار ونظام التغذية المعتاد على التقشف)، بالإضافة إلى تداعيات سياسية مثل إضعاف وباء 610 ه لسلطة الموحدين، ومن ثم استفادة خصومهم المرينيين من ذلك المعطى، دون إغفال تداعيات أخرى سنعرض لها فيما يلي:

أولا: ردود فعل عدوانية

ونعني بذلك مجموعة من مظاهر السلوك المشين مثل انتشار قطاع الطرق وأعمال الغصب والسلب التي طالت موارد عيش الإنسان المنقولة أو الثابتة كالأراضي، دون إغفال الغلاء الفاحش في أسعار السلع الأساسية في الأسواق، بحيث كان المحتكرون والمضاربون يغتنمون حدوث الكوارث ويتعمدون رفع الأسعار لمضاعفة أرباحهم. وفي هذا المضمار، يذكر الكاتب بأن نجاعة مؤسسة الحسبة التي يوكل إليها مكافحة المحتكرين والمضاربين رهينة بقوة أو ضعف العصبية الحاكمة وفق تصور ابن خلدون.

ثانيا: ردود فعل استسلامية

أسفرت الكوارث الطبيعية بالمغرب والأندلس عن سلوكات استسلامية تشي بتسرب اليأس والقنوط إلى نفوس الناس، بحيث أضاء المؤلف على نماذج منها: "كما أن نساء البوادي كن يفزعن زمن المجاعات الرهيبة إلى الحواضر، ويدعين موت أزواجهن، ويطلبن الزواج على أساس انقضاء عدتهن بهدف الإحصان والستر. إن المتأمل في هذا السلوك يكشف مدى ضغط المجاعات على إنسان المرحلة المدروسة، وبروز ذهنيات التفكير في الخلاص الشخصي والتنكر للأهل والفرار عن الولد لإيجاد حل فردي لخطر المجاعة القاتل. ومن الناس من اختار مكرها بيع أبنائه أو تسليمهم لغيره، ولو من خارج دائرة العقيدة... إلخ".

ثالثا: الكوارث الطبيعية وسيادة الذهنية الخرافية

لطالما أثارت نبوءات العرافين والمنجمين بقرب حدوث كارثة طبيعية حالة من الذعر والفزع لدى العامة، في ظل الافتقار إلى عقل نقدي فاحص، إذ عرف المغرب والأندلس جملة من السلوكات التي تنم عن التشبث بالسحر والخرافة والدجل مثل نسبة بعض الكوارث كالعاصفة البحرية التي أغرقت أسطول أبي الحسن المريني إلى العين الحاسدة، بل إن تلك الممارسات كانت تجد صدى لها حتى لدى دوائر المخزن الرسمية وبعض النخب "العالمة"، فقد كانت السياسة الأمنية لبعض السلاطين والحكام متوقفة على مشورة المنجمين (التنبؤ بثورة فئة اجتماعية ما على الحكم... إلخ)، فيما كان التحليل العلمي للآفات والكوارث الطبيعية يشغل حيزا محدودا.

رابعا: الأساليب العملية لمواجهة الكوارث الطبيعية

برغم فشو جملة من السلوكات العدوانية والخرافية بالمغرب والأندلس خلال المدى الزمني للدراسة، فقد جرى الاهتداء إلى بعض الأساليب العملية المسخرة لتطويق تداعيات الكوارث الطبيعية وتحجيمها، وفي جملتها نذكر ما يلي: التنقيب عن المياه الجوفية وترشيد استعمال الماء في أوقات الجفاف، بناء الجسور والقناطر والسدود للحد من عواقب الفيضانات والسيول، جمع وطحن ثمار البراري في أوقات المجاعة لصنع الخبز.

ويعد الادخار من أبرز السلوكات الاحترازية والاستباقية التي تم اللجوء إليها للتخفيف من وقع أي جائحة أو مجاعة قد تحدث في المستقبل، مع ما يقتضيه ذلك من اقتصاد في استهلاك المواد الغذائية تحسبا لما هو أسوأ. وفي هذا الصدد، ظهرت أدبيات خاصة بأماكن ومستودعات المؤن المدخرة، بحيث يتعين مراعاة مجموعة من الاعتبارات في جملتها مدى ملاءمة المكان المخصص للادخار من الناحية الطوبوغرافية (ألا يكون عرضة للزلازل والسيول، ألا يكون معرضا للرطوبة ومن ثم ضرورة توفر شروط التهوية، تجنب المناطق ذات البيئة الملوثة) لضمان سلامة المواد الغذائية المخزنة وعدم تعرضها للتلف. وفي نفس المنحى، ثمة مناطق ومدن مغربية شهد لها المؤرخون بملاءمة بيئتها للادخار: مكناس، تازة، المناطق الجبلية... إلخ.

خامسا: التضامن والتكافل الاجتماعي

كثيرا ما أفضت الكوارث الطبيعية إلى بروز توترات اجتماعية. ففي فترات الجفاف مثلا كان ثمة خلاف على حقوق استغلال الماء، فضلا عن النزاعات الكثيرة بين الملاك والمكترين من قبيل الامتناع عن أداء واجب الكراء بدعوى وقوع جائحة أو كارثة طبيعية. ومع ذلك، لم تخل أوقات الكوارث والملمات من تضامن رسمي وشعبي، إذ كانت السلطات الحاكمة في فترات القوة لا تتوانى عن مساعدة المعوزين وتوفير القوت لهم. كما ينبه الكاتب إلى الدور التكافلي الذي نهض به الأولياء والعلماء وإسهامه في التنفيس على السلطة الحاكمة عبر الحيلولة دون وقوع اضطرابات وثورات اجتماعية تزعزع السلم الأهلي. وعطفا على ما سبق، ثمة مظاهر أخرى للتضامن الأفقي بين أفراد الرعية مثل "إخراج الأموال من الوصايا والصدقات"، وتحبيس الفئات الاجتماعية الميسورة لأراضيها لفائدة الأعمال الخيرية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

عرض مختصر لفكرة كتاب (أثريات الانتلجنسيا.. الموروث التقليدي لدى المثقف العضوي – (الهجنة الإيديولوجية) أنموذجا") للباحث ثامر عباس 

إن الفكرة المركزية التي يتمحور حولها موضوع هذه الدراسة تقوم على افتراض؛ إن ما يسمى (بالمثقف العضوي) في المجتمعات التي من النمط المتخلف القابل للتصدع والتشظي، لا يمتلك – بالضرورة - شهادة حسن سلوك تبرؤه من اتهام حيازة (الوعي التقليدي)، كما ولا تجيز له التمتع بالحصانة أو المناعة ضد ما أميل الى تسميته (الهجنة الإيديولوجية)، وبالتالي لا تعفيه من نيل حصته من النقد المعرفي والتعرية السلوكية . ولهذا فهو لا يختلف عن نظيره (المثقف التقليدي) من حيث (نوعية) الوعي الذي يضمره وإنما (بمقدار) ذلك الوعي، حيث إن كليهما ينتميان لنسق سوسيو- ثقافي واحد، ويمتحان من نسغ قيم وتصورات مشتركة، ويحتكمان إلى تراث وتاريخ وحضارة مشتركة، وهو الأمر الذي يفسّر لنا شيوع مظاهر (الازدواجية) في المواقف و(التناقض) في السلوكيات، التي غالبا"ما يقع ضحيتها المثقفين (العضويين) أنفسهم دون أن يفطنوا / يشعروا بذلك . وإذا ما أشرنا – في بعض الأحيان - إلى وجود فارق (ايجابي) بدرجة (الهجنة) الإيديولوجية وبمستوى استبطانها من لدن المثقف (العضوي)، فلأن ظروف معينة سمحت له بحيازة بعض المزايا الاعتبارية / النوعية مقارنة بنظيره (التقليدي)؛ منها، على سبيل المثال لا الحصر، انفتاح فكري أكثر مرونة على أفكار الآخر، وأفق ثقافي أوسع مدى لاستيعاب ثقافات المختلف، ورصيد معرفي أكثر غنى لتقبل  معارف المغاير .

وهكذا فقد قادتنا هذه الاستقراءات والاستنتاجات إلى ضرورة التمهل في إطلاق النعوت المزاجية وإزجاء الأوصاف العشوائية، والتريث من ثم في صياغة الأحكام القطعية والضوابط الجزافية، إزاء تحديد طبيعة الشرائح (المثقفة) وبيان أصولها السوسيولوجية / الطبقية، وإظهار خصائصها الابستمولوجية / المعرفية، والكشف عن اتجاهاتها الإيديولوجية / الفكرية، وإماطة اللثام عن مضمراتها السيكولوجية / الأخلاقية . لاسيما ما يتعلق بمسائل تصنيف أنماطهم وتوصيف أنواعهم ما بين (عضوي) و(تقليدي) بالمعنى الغرامشي الكلاسيكي، والتي أصبحت من أبرز معايير التصنيف والتوصيف الرائجة في دراسة النخب / الصفوات الثقافية في العالمين الغربي والشرقي على حدّ سواء . ولعل ما يعطي لهذا التصنيف أهميته وضرورته في نفس الآن، ليس فقط كونه يقلص من هامش الغموض والالتباس الذي يحيط بماهية هذا الفاعل فحسب، وإنما لأنه الأنسب علميا"والأجدى منهجيا"بالنسبة لمجتمعات بلدان العالم الثالث / المتخلفة، التي كانت – ولا تزال – تعاني من ضروب (نكوص) و(ارتداد) نخبها الثقافية إلى مضارب مواريثها التاريخية والاجتماعية والثقافية، على حساب ولائها الوطني وانتمائها الجمعي وارتباطها التاريخي واندماجها الحضاري، كلما شعرت إن هناك أزمة / عاصفة تلوح في الأفق السياسي، بصرف النظر – طبعا"- عن مستويات تحصيلها العلمي / الأكاديمي، أو إمكانات خزينها المعرفي / الثقافي . لا بل أنها تتصرف – في بعض الأحيان – بشكل يثير السخط والاستهجان، إزاء ضروب التعصب لجماعاتها الانثروبولوجية والتطرف لفكرياتها الأصولية . 

***

ثامر عباس

 

تعريف موجز

يدهشك هذا الكتاب بمفاجئتين، الأولى لأنه يتحدث بلغة سيكولوجية فلسفية جديدة وغريبة تخالف المألوف مع ان الكاتب ليس فيلسوفا ولا عالم نفس. والثانية ان المؤلف شاب من مواليد1984 فيما يتضمن الكتاب مفاهيما وافكارا عن الذات البشرية والآخر والحياة وكأنها لعالم نفس وصل مرحلة التنظير بعد عمر طويل.

ومع ان كتاب (فن اللامبالاة) هذا يعدّ من كتب التنمية البشرية فان مؤلفه يصف كتب التنمية البشرية بانها تبيع الوهم للناس، باستثناء كتابه هذا الذي يصدمك (مثلما تصدمك صفعة تأتيك من افضل صديق) بوصف ستيف كامب (..لكنه يحرّك التفكير الى حد هائل ولا تقرأه الا اذا كنت على استعداد لتنحية الاعذار كلها).

والكتاب بوصف ديريك سايفررز يخالف كل كتاب اخر..موجز لكنه عميق مدهش.وهو بوصف كير كوس كتاب كله افكار تخالف الحدس المعتاد.

وما يصدم علماء النفس العرب بشكل خاص هو قولهم ان التفكير الايجابي هو المفتاح الى حياة سعيدة ثرية فيما يسخر مارك من هذه الايجابية ويقول:

فلنكن صادقين..السيء سيء وعلينا ان نتعايش معه، ولا نتهرب من الحقائق ولا نغلّفها بالسكّر، بل نقولها كما هي جرعة من الحقيقة الفجّة الصادقة المنعشة التي تنقصنا في هذا الزمان.والمثير للجدل فيه ان الكتاب يتحدث عن أن الانسان لا يجب بالضرورة أن يكون إيجابياً طوال الوقت!..وقول مانسون:" سيُعلمك الكتاب كيف تخسر دون أن تُشكل الخسارة مصدر قلق عليك!".

والشاب مانسون (بكلوريوس من جامعة بوسطن)، هو واحد من أشهر صناّع المحتوى على المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي، وقد تصدّر كتابه «فن اللامبالاة" قوائم المبيعات في العديد من دول العالم ومن بينها دول عربية، ونال بسببه شهرة كبيرة.

يتضمن الكتاب تسعة فصول تبدأ بفصل لا تحاول! وتنتهي بفصل..وبعد ذلك تموت!.. يقع في 270 صفحة بالترجمة العربية لـ(الحارث النبهان ) و269 صفحة باللغة الأنجليزية.

سيكولوجست ..بلغة جديدة

حين بدأت اقرأ (فن اللامبالاة) عادت بي الذاكرة الى ستينيات القرن الماضي يوم قرأت كتابين لسارتر (الغثيان ، و فلسفة الوجود والعدم)، وكتاب الأديب البريطاني كولن ولسون (اللامنتمي) الذي عالج فيه موضوع نفسية الأنسان  غير المنتمي لحزب او مبدأ او عقيدة او دين و يعيش عزلة وقلقا واغترابا.

وما احدثته تلك الكتب انها قصفت افكارا في رأسي كنت اعتبرها ثوابت أبدية، و وجهت لي تساؤلات محرجة: هل انا اعرف نفسي حقا؟ وهل انا مثقف فعلا؟ وهل ان الذين يرتادون مقهى البرازيلية بشارع الرشيد ..مثقفون ، وانهم يشكلون موجة جديدة في الثقافة العراقية كما يدّعون؟.

وما احدثه (فن اللامبالاة) أنه قصف افكارا سيكولوجية لدى أكاديميين بعلم النفس ما زالوا يعلمونها لطلبتهم بوصفها ثوابت، تأتي من شاب ليس متخصصا بعلم النفس!.2154 فن اللامبالاة

التقدير العالي للذات

يقول مانسون: (في سنوات الستينيات صار تطوير " التقدير العالي للذات ، توجها واسع الانتشار في علم النفس. وقد توصلت الابحاث الى ان الاشخاص الذين يقيّمون انفسهم عاليا يكونون عادة اصحاب اداء افضل ويسببون نسبة اقل من المشاكل. ثم نشات قناعة لدى كثير من الباحثين وصانعي السياسيات في ذلك الوقت مفادها ان تحسّن تقدير الجمهور لنفسه يمكن ان يؤدي الى منافع اجتماعية ملموسة: نسبة جريمة اقل، واداء اكاديمي افضل، ونسبة بطالة اقل، وعجز اقل في الموازنة العامة. ونتيجة ذلك بدأت ممارسات "تقدير الذات" اعتبارا من عقد السبعينيات ليست موضوعا يتعلمه الاهل ويشدد عليه المعالجون النفسيون والسياسيون والمدّرسون فقط بل صار جزءا من السياسية التعليمية ايضا). ( ص 63).

ويضيف: بعد جيل اظهرت البيانات اننا لسنا استثنائيين كلنا، واتضح ان مجرد احساسك الجيد تجاه نفسك لا يعني اي شيء في حقيقة الامر، وتبين ان المشاق والفشل امران مفيدان حقا! ، بل حتى انهما ضروريان حتى يكبر الطفل فيصير شخصا ناضجا ناجحا قوي العقل. واتضح ان تعليم الناس ان يعتقدوا انهم استثنائيون وان يكون لديهم احساس جيد تجاه انفسهم بصرف النظر عن اي شيء، لا يمكن ابدا ان ينتج مجتمعا مليئا بامثال بيل غيتس ومارت لوثر كينغ) .( ص 64)

ويخلص الى القول: (ان مشكلة حركة تقدير الذات هي انها كانت تقيسها من خلال مدى ايجابية احساس الناس تجاه انفسهم، لكن من شان المقياس الحقيقي الدقيق لتقدير المرء لذاته ان يكون معتمدا على شعور الناس تجاه الجوانب السلبية في انفسهم. (ص 64).

وللتوضيح فان تقدير الذات يعني في ادبيات علم النفس :تقييم الفرد لنفسه وشعوره بالاحترام والقيمة والكفاءة وقناعاته بخصوص نفسه، وتوكيدها على ان رؤية الفرد السلبية لنفسه هي سبب فشله في الحياة فيما رؤيته الأيجابية لها تدفعه دائما الى النجاح. وعنها تم تأليف عدد من الكتب اشهرها كتاب "ناثانيل براندن" (The Psychology of Self Esteem ).

تصنيف مارك للقيم

بخلاف الفلاسفة وعلماء النفس الذين يصنفون القيم الى ستة انواع واكثر :سياسية، اقتصادية، اجتماعية، اخلاقية، ثقافية، عائلية، انسانية، جمالية ، ترفيهية..فان مارك يصنفها الى نوعين:

قيم جيدة يحدد موصفاتها بثلاثة:مؤسسة على الواقع، بناءّة اجتماعيا ، وآنية قابلة للضبط .

وقيم سيئة يحدده بثلاثة ايضا: خرافية او خيالية ، هدامة اجتماعيا ، وليست آلية ولا يمكن ضبطها.

ويضرب مثلا بالصدق كقيمة جيدة، لأنه يمكن ضبطه والتحكم به، ولأنه يعكس الحقيقة، ومفيد للاخرين، فيما يضرب مثلا بالشعبية والشهرة كقيمة سيئة.

ويصف القيم الجيدة بأنها صحية كالصدق، التجديد، الدفاع عن النفس، الدفاع عن الاخرين، احترام الذات، حب المعرفة، الاحسان، التواضع، والابداع.. فيما يضرب امثلة عن القيم السيئة غير الصحية بـ :الهيمنة من خلال العنف او التلاعب، الرضا عن النفس طيلة الوقت ، الحرص على احتلال مركز الاهتمام على الدوام، السعي الى ارضاء الجميع، والثراء من اجل الثراء.

بصلة ادراك الذات!

يقدم مارك وصفا جميلا للذات..بالبصلة! فيقول ان ادراك الذات يشبه البصلة ، فهو له طبقات كثيرة وأنك كلما قشرت هذه الطبقات واحدة بعد اخرى كلما كان من المحتمل ان تذرف الدموع في اوقات غير مناسبة.ويحدد الطبقة الاولى من بصلة ادراك الذات بفهم الفرد الاولي البسيط لمشاعره وانفعالاته،  وان هنالك اشخاصا كثيرين يفشلون حتى على هذا المستوى الاولي من ادراك الذات. ( ص 95)

ويحدد الطبقة الثانية من بصلة ادراك الذات بقدرتنا على السؤال عن السبب الذي يجعلنا نحس هذه المشاعر والانفعالات بعينها، وتدفع كثيرين الى الذهاب لمعالج نفسي يشخّص لهم السبب الخفي فيصيرون قادرين على فعل شيء ما من اجل تغييره.

ويصل مارك الى المستوى الاكثر عمقا في ادراك الذات فيصفه بانه هو ما يسبب ذرف دموع اكثر من اي مستوى اخر، يحدده بمستوى قيمنا الشخصية   والمعيار الذي يحكم فيه الفردعلى نفسه ومن حوله، ويعترف بان الوصول لهذا المستوى صعب الى حد لا يصدّق!لأنه يتعلق بتشخيص مشكلات هي التي تحدد جودة الحياة.

الألم جزء من المسار

بعكس الفكرة الشائعة بأن التعرض لاحداث مؤلمة يشعرنا بالتعاسة والشكوى من الحياة ، فان مارك يورد لنا ما يناقض هذه الفكرة بادلة واقعية ، فيذكر انه في خمسينيات القرن العشرين، اجرى عالم النفس البولندي دابروفسكي دراسة على اشخاص ناجين من الحرب العالمية الثانية، وكيف تعايشوا مع التجارب الصادمه المؤذية التي مروا بها ، حيث الوضع في بولندا كان مروعا : هولوكوست وتعذيب سجناء، وقصف احال مدنا باسرها الى حطام، وحالات جوع جماعية، واغتصاب..

راقب دابروفسكي الناجين ولاحظ شيئا مفاجئا انه رأى نسبة غير قليلة منهم، جعلتهم معاناتهم للحرب اشخاصا افضل، واكثر مسؤولية، واكثر سعادة في الحياة رغم شدتها وألمها!

وقد وصف كثير منهم انهم كانوا قبل الحرب اشخاصا جاحدين تجاه من احبوهم، ولم يقدرّوهم حق قدرهم، وكانوا كسالى تستهلكهم مشكلات تافهة ، وكان لديهم شعور بانهم يستحقون كل ما ما كان يعطى لهم، وبأن لا فضل لاحد فيه. وانهم صاروا بعد الحرب اكثر ثقة، واكثر اعترافا بقضل الغير،  وصاروا اشخاصا لا تنغصّهم توافه الحياة وصغائرها المزعجة.

وينتهي باستنتاج لعالم النفس دابروفسكي ان الخوف والقلق والحزن ليست بالضرورة حالات عقلية غير مفيدة وغير مرغوب فيها على الدوام، بل غالبا ما تمثل الالم الذي لابد منه من اجل النمو النفسي الانفعالي، وليس انكار ذلك الالم الا انكارا لمقدراتنا نفسها..ومنها يخلص مارك الى القول بانه غالبا ما يجعلنا ألمنا اكثر قوة واكثر مرونة واكثر رسوخا!. واننا في حاجة الى نوع من الازمات الوجودية تجعلنا ننظر بموضوعية الى طريقة استخلاصنا مغزى حياتنا، وان علينا ان نتعلم (فن النحت في المشقات) ليمنحنا القدرة على تغيير مسارنا في الحياة.( 195ص).

وتبقى حقيقتان

الأولى:ان كتاب مانسون (فن اللامبالاة) جاء حصيلة معايشته لاشخاص متنوعين اجتماعيا بينهم اصدقاء بسطاء واخرون اصحاب شركات ورجال اعمال وفنانون وسيدات وبائعات هوى، وانه قرا الكثير مما كتب عن الحروب الكبيرة بما فيها الحربان العالميتان والحرب الامريكية اليابانية وضحايا القنابل النووية، بطريقة مغايرة تماما لما كتبه سياسيون وعلماء نفس.

الثانية: هناك علماء نفس سبقوا مارك بقصفهم افكارا ومفاهيم تعد ثوابت وكتبوا بلغة اكثر رصانة وحظوا بشهرة مستحقة بينهم عالم النفس (لينج) الذي الف في الستينيات كتابه (The Politics of Experience ) انتقد فيه الاسرة والمؤسسات السياسية، وبيع منه ملايين النسخ.

وعراقيا، اجرى كاتب هذا المقال دراسات ميدانية على سجناء في سجن ابو غريب بينهم قتلة محكومون بالاعدام ولواطيون وزناة بالمحارم، ودراسة تعد الاولى عراقيا وعربيا وعالميا شملت 270 بغيا وسمسيرة، واشرف على اطروحة دكتوراه شملت اكثر من 300 ارهابيا من جنسيات مختلفة في سجون العراق..ودراسة في مستشفى الشماعية شملت قتلة مصابون بالفصام (شيزوفرينيا).. وعايش سجناء سياسيين وعاديين، توصل فيها الى مفاهيم جديدة في علم النفس تضمنها كتابه (امراض النفس والعقل - تنظير جديد في الأسباب والمعالجات) اعتبرته شبكة العلوم التربوية والنفسية في تونس، افضل مرجع للصحة النفسية في العالم العربي.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: نعيمة حمروني [1] في 11 ديسمبر

ترجمة : أ. مراد غريبي

***

تحت الميثاق الاجتماعي الافتراضي للفلاسفة يوجد عقد عنصري حقيقي للغاية، يبرر استغلال غير البيض على أساس الفروق الأخلاقية والمعرفية والجمالية التي لا تزال آثارها تزن حتى اليوم. هذه هي أطروحة تشارلز ميلز[2](Charles W. Mills)، التي ترجمت أخيرا إلى الفرنسية.

لطالما انتظر العالم الناطق بالفرنسية هذه الترجمة الفرنسية لكتاب العقد العنصري (Contrat racial) لتشارلز ميلز (1951-2021)، وهو فيلسوف رائد صنع حياته المهنية في الولايات المتحدة وساهم في جعل العرق والعنصرية وتاريخ عدم المساواة العرقية قضايا فلسفية خطيرة، مما أجبر على تجديد تقليد المساواة الليبيرالية في الفلسفة السياسية المعاصرة.

عمل "قصير وقوي"، مكتوب بطريقة "في متناول جمهور غير فلسفي" (ص 21)، العقد العنصري يقدم إعادة قراءة نقدية للتقاليد الفلسفية والسياسية، من الحداثة إلى يومنا هذا، وتفكيك قطعة قطعة العديد من الأساطير التي بنيت عليها: أساطير الميثاق الاجتماعي العادل، الإنسانية العالمية. إنه (يعيد) إعلامنا - دون أن يدخرنا من التفاصيل الأكثر دناءة - ما كنا نعرفه دائما بطريقة ما، لكننا رفضنا بعناد أن نرى: أن "تفوق البيض هو النظام السياسي الذي، دون أن يتم تسميته على الإطلاق، جعل العالم الحديث على ما هو عليه اليوم" (ص 31). العقد العنصري يصفع العدسات على أعيننا التي لم تعد مثالية للعلاقات العرقية اليوم، ولم تعد تتجاهل تأثير العرق على حياتنا، ولم تعد تتخيل تاريخ أجدادنا. النظارات التي يطلب منا ميلز ارتدائها عندما نتولى المهمة كفلاسفة سياسيين ومنظرين للعدالة.

بطريقة ما، قبل وبعد قراءة هذا الكتاب، والذي يجب تصنيفه بين الكلاسيكيات الأساسية للعلوم الإنسانية والاجتماعية. أزالت الترجمة الفرنسية العذر الأخير الذي كان لدينا لرفض تدريسه في العالم الناطق بالفرنسية.2149 book of Mills

ضمن العقد الاجتماعي، عقد عنصري

العقد العنصري هو أولا وقبل كل شيء استجابة مباشرة لنظرية العقد الاجتماعي، والتي يمكن العثور عليها في أشكال مختلفة من الحداثة الغربية إلى يومنا هذا، والتي تقدم المجتمع على أنه نتاج اتفاق بين الأشخاص الأحرار والمتساوين، بهدف منح أنفسهم حكومة وتوزيع حقوق وواجبات كل منهم بشكل عادل. من وجهة نظر ميلز، سواء عند هوبز ولوك وروسو وكانط أو جون راولز، فإن "استعارة العقد الاجتماعي" هي "أداة (...) مغرضة ومنحازة بشدة من الناحية النظرية" (ص 23).

بالنسبة للرجل الذي نشأ في جامايكا، البلد الذي رسمت معالمه القوى الإسبانية والبريطانية التي، بعد أن أهلكت السكان الأصليين البالغ عددهم حوالي 600000 شخص، قاتلت على الأرض لإقامة اقتصاد العبيد القائم على استيراد الأفارقة الأسرى، "الدول الغربية الليبرالية (...) التي يدعونا راولز إلى رؤيتها كمحاولة للتعاون من أجل المنفعة المتبادلة" هي في الواقع "دول تفوق البيض" (ص 17، ص 23).

وفقا لميلز، فإن نظرية العقد الاجتماعي تكتسح تحت بساط الذاكرة الجماعية أحداث الخمسمائة عام الماضية التي شكلت تقسيم العالم على طول خطوط العرق التي نعرفها اليوم. يخفي العقد الاجتماعي وجود عقد عنصري حقيقي للغاية، وهو الاتفاق الضمني (ولكن تاريخيا أيضا الصريح - لنفكر في الرموز السوداء، والقانون الهندي، وما إلى ذلك) الذي تم إبرامه بين البيض للاستيلاء على العالم واستغلال موارده وشعوبه. وهكذا يتم التقاط جوهر أطروحة العقد العنصري في هذا القول المأثور للعامية الأمريكية السوداء، المستخدمة كمنقوشة للكتاب، كما لو كانت تحدد نغمة البحث بأكمله: عندما يقول البيض "العدالة"، فإنهم يقصدون "نحن فقط".

بهذا المعنى، بالنسبة لميلز - وهذا هو نداء المؤلف لطريقة غير مثالية للنظرية في الفلسفة - من المناسب التخلي عن استعارة العقد الاجتماعي، "للعمل مع الاستعارة المنافسة والأكثر فائدة ل "عقد الهيمنة" (ص 23). ويجادل بأن هذه الاستعارة لعقد الهيمنة موجودة بالفعل لدى روسو، الذي يدين، في خطاب عدم المساواة، الاتفاق بين المالكين على حساب غير المالكين. في تأكيده على وجود عقد عنصري (غير مرئي) يقوم عليه العقد الاجتماعي، تتبع ميلز أيضا خطى سابقته النسوية كارول بيتمان [3](Carole Pateman)، التي اقترحت في كتاب يحمل نفس العنوان أن العقد الجنسي كان أساسيا لإنشاء العقد الاجتماعي بين الرجال للاستيلاء على الحياة الجنسية للمرأة واستغلال عملها المنزلي والرعاية. عقد بيتمان الجنسي هو، كما يكتب ميلز، "مصدر إلهام" لكتابه الخاص هذا (ص 37)، وباتمان نفسها، المنظر الذي يعترف له بأنه "مدين له. . . على وجه الخصوص" (شكر وتقدير). وبعد بضع سنوات، نشرا معا كتاب العقد والهيمنة (Contract & Domination)[4] (2007).

عقد إستغلال قبل كل شيء

الفكرة الرئيسية الأولى للكتاب، والتي يميل منتقدوها إلى نسيانها، هي أن العقد العنصري لا يحدث فقط على مستوى هذه الدولة القومية أو تلك، ولكن أيضا على نطاق العالم بأسره: إنه "شمولي"، كما يكتب، بمعنى عالمي. هذا العقد العنصري العالمي هو أولا وقبل كل شيء عقد استغلال، مدفوع أساسا بالربح وتراكم رأس المال والهيمنة الاقتصادية. على وجه التحديد، كتب ميلز أن العقد العنصري العالمي يعتمد على "عقود فرعية"، مصممة خصيصا للظروف المحلية وأنماط استغلال الأماكن والظروف التي تتكشف فيها. في العصر الذهبي ل "العقد العنصري بحكم القانون" (ص 123)، أي الوقت الذي تم فيه الترويج للعقد العنصري علنا من قبل الإمبراطوريات الاستعمارية ومؤسساتها والاعتراف به قانونا (تذكر مرة أخرى القوانين السوداء التي تحكم العبودية)، تم تنظيمه بشكل أساسي حول ثلاثة أنماط من الاستغلال:

1/ عقود نزع ملكية الشعوب الأصلية لأراضيها (ص 59-60)،

2/وعقود العبيد للأسرى الأفارقة والسكان الأصليين (ص 60)،

3/ والعقود الاستعمارية (ص 62).

ارتكزت عقود الاستغلال العنصري هذه على مجموعة من المذاهب القانونية والأخلاقية (عقيدة الاكتشاف، والرموز السوداء، والقوانين الهندية، وما إلى ذلك) التي "قننت رسميا الوضع الثانوي لغير البيض و(ظاهريا) نظمت معاملتهم" (ص 63). بررت هذه المذاهب أحيانا إبادة أو تشريد غير البيض، وأحيانا اخضاعهم واستعبادهم بالكامل.

يميز ميلز بين الوقت الذي تم فيه الدفاع عن العقد العنصري صراحة وتكريسه في القانون (العصر الذهبي ل "العقد العنصري بحكم القانون") والعصر المعاصر، بعد النضال من أجل الحقوق المدنية، تم الاعتراف رسميا بالمساواة بين الجميع بغض النظر عن العرق في القانون، ولكن تم استنساخ عدم المساواة العرقية بشكل خبيث وهيكليا في الممارسة العملية (تحدث عن "العقد العنصري بحكم الواقع"). على الرغم من إلغاء أنظمة امتلاك العبيد والفصل العنصري والاستعمار والاعتراف بالمساواة الرسمية أمام القانون، لا يزال العقد العنصري يبني العلاقات البين- عرقية ويؤثر على حياة الأشخاص المميزين عنصرياً.

الأسود جميل

من أجل العمل وتبرير أنفسهم أخلاقيا، كانت عقود الاستغلال مصحوبة بميتافيزيقيا العرق التي تعمل تقسيما أخلاقيا بين، البيض، المرموقين إلى وضع الأشخاص القانونيين، وغير البيض، السافلين إلى وضع أدنى كأشخاص دونيين "غير قادرين على الاستقلال الذاتي وتقرير المصير" (ص 103) وهبطوا إلى هوامش مجال الاعتبار الأخلاقي. كان هذا التقسيم الأخلاقي مدعوما بتمثيل معرفي للأشخاص المميزين عنصريا (على أنهم معدومي العقلانية) و"تطبيع جمالي" (ص 107) مصنف على أساس العرق.

من خلال "جعل الجسد الأبيض هو المعيار الجسدي" (ص 108)، النموذج الأولي للجمال، أدان العقد العنصري دائما في احتقار الذات تلك الهيئات التي، ابتعدت أمس واليوم، عن هذه القاعدة. بموجب العقد العنصري، يصبح الجسد نفسه أحد مواقع النضال ومقاومة القمع. وبالتالي، ينبغي النظر إلى حركة "العودة إلى الطبيعة" المعاصرة وشعار "الأسود جميل" في ستينيات القرن العشرين ليس فقط على أنه تعزيز لإيجابية الجسم، ولكن كحركات تشارك بشكل أساسي في "المشروع السياسي لاستعادة وضع الشخص" (ص 183) من قبل الهيئات المميزة عنصريا.

كما أن مشروع "تطبيع (الإخضاع) / الأشخاص الدونيين" قد انعكس أيضا على المساحات والأقاليم والأحياء التي يسكنها الناس المميزين عنصريا. من خلال التفسيرات الرائعة للأعمال الأدبية والتاريخية، يظهر ميلز إلى أي مدى يتم تفسير كل من الأشخاص المضطهدين والتربة التي يملكونها (التي كانت ذات يوم برية شاسعة وقارات مظلمة، هذه الأدغال الحضرية اليوم) التي ينظر إليها على أنها غير متحضرة، مقدر لها أن يتم الاستيلاء عليها وتطهيرها وتدجينها وزراعتها، وفي النهاية تحكمها إرادة الآخر. إن التمييز العنصري للبشر والأرض التي يسكنونها يعزز كل منهما الآخر ويدعم منطق السيطرة واستغلال بعضهما البعض. يمكن بالتأكيد تطوير حوار مثمر بين هذه الأطروحات الأقل شهرة لميلز والعمل المعاصر حول العنصرية البيئية وإنهاء الاستعمار.

بياض وبياض

جانب آخر من الكتاب يساء فهمه في كثير من الأحيان هو أنه يتجاوز تماما "المنطق الأبيض / الأسود الثنائي والخادع"، ويميز بوضوح بين البياض (كنظام سياسي اقتصادي مخصص لتفوق البيض) وبياض البشرة (كنمط ظاهري). بعبارة أخرى، عند ميلز لا يشارك جميع البيض بشكل منهجي في نظام الهيمنة العرقية البيضاء (أو على الأقل، قد يسعى البعض إلى رفض المشاركة على الرغم من الامتياز المتأصل في عرقهم). وعلى العكس من ذلك، يمكن للأشخاص ذوي البشرة الداكنة أيضا المشاركة في تفوق البيض دون أن يكونوا ضحايا سلبيين تماما له. نتيجة لذلك، يمثل العقد العنصري أيضا جميع التسلسلات الهرمية القائمة على العرق والتي لا تتضمن بالضرورة أشخاصا من اللون الداكن (البشرة)، أو حتى التي لا تتضمن أي شخصية شاحبة (البشرة). يمكن للمرء أن يكون مظلما ويشارك في البياض. يمكنه أن يكون أبيض البشرة ويعمل على إحباطه .

في الواقع، لأن العقد العنصري يعتمد على مفهوم بنائي للعرق، والذي يميز لون البشرة، كسمة مظهرية، عن "العرق" كوضع اجتماعي أدنى أو متفوق (مبني اجتماعيا من خلال ديناميكيات القوة غير المتكافئة)، يناقش ميلز في الكتاب التجسيدات المختلفة التي تجلى فيها العقد العنصري على مدى القرون القليلة الماضية، وهذا في أجزاء مختلفة من العالم.

عقود عرقية متعددة

بالإضافة إلى مؤسسة استعباد الأمريكيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة، والعقد العنصري الفعلي في عصر ما بعد الحقوق المدنية الذي يسميه البعض حقبة ما بعد العنصرية، يناقش ميلز على نطاق واسع الأشكال المحددة التي ربما اتخذها العقد العنصري في تاريخ العالم الحديث. على سبيل المثال، ينظر إلى الوراء في مذبحة الإبادة الجماعية لشعب التوتسي [5](Tutsis) في رواندا في عام 1994 والعقود السابقة التي أدت إليها - يذكرنا بشكل عابر بالمدى الذي "يمكن أن تقع فيه جميع الشعوب في البياض (المشاركة في توطيد تفوق البيض) في ظل الظروف المناسبة "(ص 191). كما يسعى إلى فهم اضطهاد اليابان لشعب الأينو [6](Aïnou) من منظور العقد العنصري. يكرس العديد من صفحات التحليل للهولوكوست الذي نظمته ألمانيا النازية، وللإبادة الجماعية للسكان الأصليين في الأمريكيتين ومنطقة البحر الكاريبي. كما أنه يتعامل مع العنصرية التي يعاني منها "الأوروبيون" الحدوديون، والبيض الذين لديهم علامة استفهام - الأيرلنديون، والسلاف، والمتوسطيين" (ص 130). إن محرري الكتاب ومعلقي البوب الذين ينسبون إليه منظورا أمريكي متمركز ومانويا ومتفرع ثنائيا ومزدوجا، يحرض البيض بلا خجل ضد السود في العالم، وبالتالي لم يفهموا بالتأكيد أي شيء - وربما قرأوا الكتاب حقا خارج عنوانه.

ابستيمولوجيا التجاهل

واحدة من أشهر أطروحات الكتاب هي أن العقد العنصري يجب أن يظل مخفيا من أجل العمل والتكيف والتكاثر. على غرار سلسلة طويلة من المفكرين السود، مثل لويس جوردون( Lewis Gordon)[7]، الذين تعاملوا مع "سوء النية البيضاء" قبله (ص 154)، وعلماء المعرفة النسويين الذين طوروا "نظرية وجهة النظر الواقعية"، صاغ ميلز مفهوم "ابستيمولوجيا التجاهل" (ص 152) وافترض أن العقد العنصري يشمل، بالإضافة إلى بنوده الأخلاقية، السياسية والاقتصادية، شرط معرفي، يتعلق بالمعرفة والمعرفة الخفية. في الواقع، فإن الاتفاق بين أعضاء المجموعة المهيمنة لإخضاع واستغلال الشعوب الداكنة في العالم يتضمن "اتفاقا على إساءة تفسير العالم" (ص 52) والاتفاق على سرد "مطهر، أبيض، فاقد للذاكرة" (ص 184). ينطوي هذا الفهم على بطولة وتضخيم التاريخ الوطني والحضاري لأحفاد الإمبراطوريات الاستعمارية، والذي "يختلف عن الواقع الحقيقي" (ص 52) من حيث أنه يخفي أحلك عناصر السرد (إخراج الإبادات الجماعية للسكان الأصليين من كتبنا المدرسية، على سبيل المثال). يشمل هذا "العمى الأبيض المتعمد" (ص 53) أيضا منصة الإعدام المعقدة، المدعومة بالإنتاج الثقافي والأدبي والعلمي، لتمثيل سلبي ملفق للشعوب غير البيضاء.

وهكذا، تدعونا تحليلات ميلز إلى اتخاذ وجهة نظر مختلفة للخطاب التقليدي حول صعود أوروبا وأمريكا الشمالية وازدهارها الاقتصادي الملحوظ ("المعجزة الأوروبية")، والتي تعلمناها منذ المدرسة المبكرة فصاعدا لاعتبارها دليلا على التفوق الحضاري. "في المقابل، يميل [الغرب] إلى التقليل من شأن دور الغزو الاستعماري واستعباد الأفارقة أو تجاهله ببساطة" في نموه (ص 73). إن أيديولوجية المعجزات الأوروبية والاستثنائية تزيد من إنكار الدّين الذي استمر الغرب في تحمله تجاه حضارات العالم الأخرى على مدى الخمسمائة عام الماضية.. الحضارات التي صنعها بشكل متناقض تنهار تحت الديون والمطالبات التعويضية التي فرضها عليها في أعقاب الاستقلال. من خلال عكس السرد، يدعونا ميلز إلى فهم أفضل لماذا "تصبح مسألة العدالة الاجتماعية مسألة عدالة تصحيحية" (ص 24) من منظور العقد العنصري.

يكتب ميلز أن ابستيمولوجيا التجاهل مع اللدغة التي تميزها، ستنتج هذه "النتيجة الساخرة حيث لن يتمكن البيض عموما من فهم العالم الذي خلقوه بأنفسهم" (ص 52)، وسيكونون في حيرة مستمرة من ظهور المفاهيم التي من شأنها أن تسمح لهم بفهمه بشكل أفضل (على سبيل المثال، مفاهيم تفوق البيض أو العنصرية النظامية). على العكس من ذلك، فإن العديد من الذين يعانون من وحشية عنصرية الشخص الأول لم يواجهوا أبدا صعوبة في رؤية "نفاق النظام السياسي العنصري" (ص 170) وتمكنوا، من خلال الشدائد، من إنشاء الكلمات لفك رموز أعماله (على سبيل المثال، ذلك الابتكار المفاهيمي القاطع "تبييض" للكاتب ريتشارد دبليو رايت (Richard W. Wright)[8] في أوائل القرن العشرين، المرجع الوارد في الصفحة 195). في الواقع، فإن الجانب الآخر من ابستيمولوجيا التجاهل بالنسبة للمهيمن هو الامتياز المعرفي الذي يتمتع به التابعون (ص 169 وما يليها)، الذين طوروا معرفة حميمة ومميزة بكل من أعمال العالم الأبيض، المستمدة من تجربتهم في القمع، وعالمهم التابع. ككتاب، يستند العقد العنصري إلى "بصيرة أجيال من" رجال ونساء من العرق "مجهولين، في أصعب الظروف، غالبا ما علموا أنفسهم بأنفسهم وحرموا من الوصول إلى التعليم الرسمي والموارد الأكاديمية (...) ومع ذلك نجحوا في صياغة المفاهيم اللازمة لتتبع معالم النظام الذي يضطهدهم" (ص 195). بعبارة أخرى، يسعى العقد العنصري إلى شرح وتوثيق ما عرفه النشطاء السود دائما بطريقة أو بأخرى.

دور للمتمردين البيض

وأختتم قراءتي بالتأكيد مجددا على أن أحد الآثار المترتبة على تجريد فئات العرق من الجوهر لدى ميلز، وبالتالي، فإن التمييز بين البياض (السياسي) و(الظاهري) هو أنه يصبح من الممكن تصور "التنصل من العقد من قبل البيض أنفسهم" (ص 166).

سيستفيد البيض دائما من شروط العقد العنصري طالما استمر. ومع ذلك، "هناك خيار حقيقي للبيض"(ص 167) وفقا لميلز، حتى لو كان من الصعب اتخاذ هذا الاختيار في الممارسة العملية. أولئك الذين يسميهم "المرتدين البيض" وغيرهم من "خونة العرق" (ص 167، ص 190) يمكنهم بالفعل أن يدركوا العقد، ويكشفوا حقيقته - ويتعهدوا بخرقه.

بالنسبة لميلز، لم يكن الأمر أبدا مسألة قتال ضد الكون، باسم الخصوصيات أو المجتمعات المنغلقة على الذات. بدلا من ذلك، باسم الكونية الحقيقية، يسعى الكتاب إلى رفع الحجاب عن خصوصية محددة للغاية تقدمت حتى الآن تحت قناع الكونية والإنسانية: الخصوصية البيضاء.

وبهذا المعنى أيضا، يسعى العقد العنصري إلى تجديد المثل الأعلى للأنوار من خلال إعادة تأسيسه على أسس مساواة حقيقية (وليس مجردة) (ص 193). لم يعتبر ميلز أبدا أن المثل العليا للمساواة والحرية التي روج لها التعاقديون "إشكالية في حد ذاتها". ومع ذلك، فهو يجادل بأن المدافعين عنهم قد "خانوهم" بشكل مؤسف (ص 193)، وأنه يجب علينا أن نبدأ بتخطي ضيق الأفق إذا أردنا أن نلزم أنفسنا بإكمال ما اعتبره هو نفسه المثل الأعلى الراديكالي للتنوير.

***

.........................

ترجمة : أ.مراد غريبي

تشارلز دبليو ميلز، العقد العنصري، ترجمة آلي ندياي، مونتريال، 2023، 197 صفحة.

الرابط: https://laviedesidees.fr/Mills-Le-contrat-racial

[1] حاصلة على كرسي أبحاث كندا في الأخلاق النسوية وأستاذة مشاركة في الفلسفة - قسم الفلسفة في جامعة كيبيك في (trois  riviéres)  تروا ريفيير.

[2] تشارلز ويد ميلز (3 يناير 1951-20 سبتمبر 2021) فيلسوف جامايكي-أمريكي، وكان أستاذا في مركز الدراسات العليا، جامعة مدينة نيويورك، وجامعة نورث وسترن. ولد ميلز في لندن، ونشأ في جامايكا وأصبح فيما بعد مواطنا أمريكيا. تلقى تعليمه في جامعة جزر الهند الغربية وجامعة تورنتو.

[3]  نسوية إنجليزية وعالمة سياسية. وأستاذة فخرية في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. كأستاذة وباحثة، عملت على النظريات النسوية والنظريات السياسية.

[4] في هذا الكتاب يناقش باتمان وميلز خلافاتهما حول نظرية العقد وما إذا كان لها مستقبل مفيد، وينقبان عن عقد المستوطنين (البيض) الذي خلق مجتمعات مدنية جديدة في أمريكا الشمالية وأستراليا، ويجادلان من خلال عقد غير مثالي لتعويض الأمريكيين السود، ومواجهة مراوغات منظري العقود المعاصرين، واستكشاف تقاطعات الجنس والعرق والعقد الجنسي العرقي العالمي، والرد على منتقديهم.

[5] هم مجموعة سكانية تعيش في منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا. كل من التوتسي والهوتو (الهوتو) هم جزء من سكان بانيارواندا وباروندي، ويقيمون في رواندا وبوروندي.

[6] المعروفون أيضا باسم أوتاري، هم شعب أصلي يعيش في شمال اليابان، وخاصة في جزيرة هوكايدو، وفي الشرق الأقصى لروسيا

[7] هو فيلسوف أمريكي من أصل أفريقي. يعتبر أب ظاهراتية ما بعد الاستعمار وهو أحد الفلاسفة المعاصرين البارزين المهتمين بالفلسفة الأفريقية والوجودية السوداء.

[8] كاتب أمريكي ومناضل حقوقي من أجل المساواة بين البيض والسود

 

بالرجوع إلى معاجم اللغة نتبين أن كلمة التافه مشتقة من «تفه» و«تفه الطعام أي صار بلا طعمٍ أو ذوق».

"نظام التفاهة" كتاب للمفكر والفيلسوف الكندي" آلان دونو "صدر باللغة الفرنسية سنة 2015.  يعرف "دونو" هذا النظام بكونه "النظام الاجتماعي الذي تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة..."

يقول هذا المفكر الكندي أن التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة المجالات فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، واستحوذوا على مواقع القرار..صار قولهم هو القول الفصل.

يشرح "دونو" كيف طالت التفاهة كافة الميادين حتى الأكاديمي منها. هو يرى أن قطب الرحى في سيطرة التافهين على كل مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهي بالميادين الأكاديمية، وهي الجامعات والكليات ومراكز الأبحاث. فالمنظومة الأكاديمية، في العالم أجمع وحتى في أشهر وأرقى جامعات العالم، قد صارت رهينة التفاهة والتافهين.

في هذا تحدث "دونو" عن تنحى المثقف والحكيم والعالم، ليحل محله الخبير والاختصاصي.  بين أن المثقف (الحكيم والعالم والباحث) يعمل لإعلاء الحق. هو يزن الأمور استنادا على وازع الضمير قبل أن يصدر أحكامه وبالتالي لا يمكن لأي ترغيب أو ترهيب أن يؤثر على مواقفه. هذه المواقف يتخذها وفقا لما يقتضيه ضميره العلمي. فلا يكون للإغراءات والضغوطات أي اعتبار لديه.

في الجهة المقابلة نجد الخبير (الاختصاصي والبروفيسور والدكتور) الذي يبيع كلمته وضميره، خدمة لمصالحه الخاصة وذلك  على حساب الحق فيؤقلم الحقائق العلمية خدمة للفئات التي تحتكر النفوذ. هو بخلاف المثقف على استعداد تام لتضليل الرأي العام.

وقياسا على ما خلص إليه كاتب " نظام التفاهة" في المجال الأكاديمي فنحن عندما نتمعن من حولنا نجد أن كل الميادين تعج بالتافهين. أصبح الأهم لدى كل تافه هو أن "يؤدي اللعبة"، لعبة أنه الاكثر أهمية والأكثر تفانيا، لعبة إتقان فنون التملّق والتزلّف واللغة الخشبية..لعبة تجعله يؤدي دورا قد يبدو ناجعا ولكنه مفرغ من كل قيمة، كالطعام بلا ذوق. إن سيطرة هؤلاء جعلت الأكفاء ينؤون بأنفسهم عن مجالات هم الأحق بها.

صحيح أن نظام التفاهة لم يسحق الأكفاء لكنه جعلهم ينسحبون. هذه النخب تكورت على نفسها لتفسح المجال للتافهين في كافة المجالات.

ولأن عجلة التاريخ تدور فإنه وبالرغم من قلّة هذه النخب وتشرذمها أمام تكتل التافهين وتضامنهم، فهي لا تزال قادرة  على التصدي ومن ثم التغيير.

التافهون موجودون في المدرسة..في الكلية.. في الإعلام وفي الإدارة. ولئن أصبح كل تافه نجما في ميدانه في عصر أصبحت قيمة الإنسان تحدد بما يملك وما يستهلك..عصر لم يعد فيه للفكر أو المعرفة أي قيمة.. عصر يحمل فيه الأغلبية الشهائد العلمية بل ويضعونها في إطار للعرض وهم يفتقرون لأبسط أبجديات الأخلاق واللياقة واللباقة، إلا أن الكلمة، التي يختم بها "دونو" كتابه حمالة لكثير من الأمل.

 هو يقول "كن راديكاليا"..

أن تكون راديكاليا يعني أن تقاوم الرداءة والرديئين..أن تسعى إلى التغيير في العمق ومن الجذور..أن لا تمر دون أن تضع علامة ترمز إلى فعل المقاومة، وإن كره التافهون.

***

درصاف بندحر - تونس

 

البحث عن المعنى والشعور بالسعادة المعنوية من ضمن الدوافع الكبيرة التي تدفعني إلى تكرار قراءة مؤلفات د. عبد الجبار الرفاعي أكثر من مرة، فهي تنعش روحي وتلامس قلبي وتثير فكري وتساعدني على ايقاظ ذهني. تعودت منذ فترة ان أراقب مؤشر الرضا والسعادة في عالمي الداخلي، واجتهد لإعادة منسوب السعادة بدرجة المقبول فما فوق. أسرع للبحث عما يلامس الروح ويثير الشغف ويعيد الوهج، ويجعلني أكثر تقبلا ليومي، وان أتشبع بالرضا والسكينة، وأشعر بشيء من الضوء في نفسي.

أقرأ كتب الرفاعي على الدوام، مرة أنتقي "الدين والظمأ الأنطولوجي"، ومرة أخرى أعرج إلى كتاب "الدين والكرامة الإنسانية"، وثالثة "مسرات القراءة ومخاض الكتابة"، وأعماله الأخرى، كي أرفع مؤشر المعنى في أيامي. اليوم تجولت في "الدين والكرامة الإنسانية"، هذا الكتاب كرّس قاعدة احترام الذات في كينونتي، وفي كينونة كل شخص آخر يقرأه. كم تسحرني مقولة الرفاعي: "الكرامة مقصد مقاصد الدين وأسمى أهدافه". كما يبهرني هذا النص الآخر، وأقف بصمت رهيب أمامه: "أكثر الكتابات المتمركزة حول الإنسان تنسى الدين، وأكثر الكتابات المتمركزة حول الدين تنسى الإنسان. الدين يبدأ باكتشاف الإنسان واعادة تعريفه ليصل إلى الغيب، ولا يبدأ بالغيب ليصل إلى الإنسان".2112 الدين والكرامة الانسانية

التعريف الخاص للدين الذي وضعه الرفاعي بكتابه هذا وغيره من كتبه، يبتني على تعريفه للإنسان بأنه: "كائنٌ عاقلٌ، عاطفيٌّ، أخلاقيٌّ، دينيٌّ، جماليٌّ، اجتماعيٌّ، تاريخيٌّ. الإنسانُ كائنٌ متفرّدٌ، يتميز عن غيره من الكائنات في الأرض بـ: العقل، واللغة، والعواطف، والمخيّلة، وتذوق الفن والاستمتاع بالجمال، ووعي الموت، والشعور بالزمان، والحاجة للأخلاق، والدين، وإنتاج الميثولوجيا، والرموز.كلُّ إنسان واحدٌ في الوقت الذي هو فيه متعدّد، ومتعدّدٌ في الوقت الذي هو فيه واحد". وفي ضوء ذلك يعرف الرفاعي الدينَ بأنه: "حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". ويعقب على تعريفه بقوله: "هذا هو تعريفي للدين الذي اقترحته ويعرفه من يقرأ كتاباتي، وفي ضوء هذا التعريف توالدت كتاباتي، ورؤيتي لله والإنسان والعالم".

  الرفاعي هنا يرسم أبهى صورة للدين أتمعن هذا النص وأدبر كثافته وأبصر معانيه العميقة. كم يكشف أمام قلبي قيمة مشرقة سامية للإنسان يدلنا عن حاجات وجودية يساهم الدين في تجلياتها والابداع في مضمارها، انتاج معنى روحي واخلاقي وجمالي. يلفت قلوبنا وعقولنا هنا الرفاعي للجانب السامي في الإنسان، ذلك الجانب الذي يبرهن حياة الإنسان في الإنسان، الجانب المضيء العطر المثمر المتوهج. تشدني قراءة نصوص هذا الكتاب وترشدني احياناً كثيرة لدروب الحياة في الحياة. أحفظ بعض نصوصها وأرى بعض منها مادة أولية اساسية لصياغة بعض قواعد حياتي. رافد من روافد سعادتي المعنوية وأداة كبيرة لرفع منسوب السكينة والرضا، مفتاح جميل لفهم بعض طلاسم النفس البشرية التي أتلمسها في نصوص الكتاب.

 هكذا أتلذذ في قراءة مؤلفات الرفاعي ومنها هذا الكتاب، حيث لا تستوعب مقالة واحدة ايضاح قراءتي له، وتصوير روعة شعوري وانا أتمعن وأتذوق وأتزود من نصوصه. ما أجمل وأكثف عناوين موضوعاته كل عنوان يحمل من الكثافة والجمال ما يجعله منهج تربية أو علامة ترشد الحائر للطريق. المميز في هذا الكتاب لغة عباراته التي ينصت لها القلب بدفئه، ويستيقظ أمامها العقل ويقف بإجلال عند معانيه، وتحلق الروح في عالم السمو والمعنى في حضرته.

المقدمة في كتب الرفاعي لا تكفيها قراءة واحدة، ولا تناسبها مهارات القراءة السريعة، المقدمة عبارة عن سيرة ذاتية يبطن فيها الجمال والعمق والحب والحزن والألم، مرة أخرى يعلمنا الرفاعي بصورة غير مباشرة كيف للتواضع من تجليات واعترافات تبني الأنسان وتزيد من ضوء روحه فيقول: "ليس هناك كتابة مكتفية بذاتها، أعترف أن كتاباتي جهد لا يختص بي ولم أنجزه وحدي. للقراء الأذكياء دور مهم في ترصينها وإثرائها وتكاملها. إنها جهد مشترك فيه كل من يقرؤها وهي مخطوطة وبعد نشرها".

نص آخر يدلني عن الالتصاق بالذات الحقيقية والبعد عن النرجسية: "ما أكتبه يظل مفتوحا ينضج ببطء وهدوء، ولن يصل إلى نهايات مغلقة". وستلهمني ذات الاشارة في قوله: "يظل النص مفتوحا ينمو باستمرار تبعا لآفاق الكاتب، وانطباعات ونقد القارئ، تثريه المزيد من القراءة والمراجعة والتأمل، يتطور النص بالتدريج ويتكامل، وان كان لن يبلغ نهاياته ويكتفي بذاته مهما امتد عمر الكاتب".

يكرس لنا الرفاعي مفهوم النفس الواحدة في نص يحمل من الضوء والجمال لكل من يرى "ان انتهاك كرامة أي كائن بشري هو انتهاك يطال كرامة غيره من البشر أيضاً ". كثيرة هي النصوص التي يقف ضميري وعقلي امامها وتنصت روحي ولايرغب قلبي مغادرتها واني لأتسائل لماذا لا تنتخب هذه المؤلفات وأمثالها في مناهجنا الدراسية؟ لماذا لا نعلم ابنائنا وبناتنا اهم حاجاتهم الوجودية ونبين لهم ان سلوكهم وانفعالاتهم وحتى احلامهم وأهدافهم واضطراباتهم وإرهاصاتهم النفسية ماهي الاتجليات وتعبير واشارة وصرخة لعدم الالتفات لتلبية هذه الحاجات.

نص آخر التقيه كعلامة ترشد وتهدي الى طريق الارتقاء "إنسان اليوم يفتقر لتدين عقلاني اخلاقي رحماني ينقذه، لأنه يعيش في عالم يضمحل فيه معنى كل شيء في حياته، عالم تزداد فيه كآبته، ويشتد اغترابه". ثم علامة أخرى ترشدنا وتدلينا على الطريق، إذ يقول الرفاعي: "قراءة الفكرة لا تكفي وحدها لتطبيقها، ما لم تتبناها سلطة تفرض حضورها، أو تتجند لها جماعة تحشد كل طاقاتها من أجلها ".

في نص آخر أبصر أهمية الانتقاء، الانتقاء وسيلة مهمة ليقظة الإنسان داخلنا، الانتقاء عامل مهم يساهم ويساعد في انتاج معنى لأيامنا، فيقول الرفاعي وكأنه يشير لنا إلى أهمية الانتقاء، إذ يقول: "بعض الكتاب اتخذتهم جماعات يسارية وقومية وأصولية مرجعيات لها، ففرضت كتاباتهم حضورها في ضمير القراء، وان كانت هذه الكتابات سطحية هشة، تفتقر إلى اي مضمون متماسك رصين، ويدثرها ركام شعارات تذكي العواطف وتثير المشاعر".

الإيمان يتكلم لغة واحدة، أتى الرفاعي بهذه الجملة اللافتة عنوانا لأحد موضوعات كتابه، وهكذا بقية العناوين يجدها القارئ لوحة جديرة بالتذوق والتزود من الجمال الكامن فيها وبنفس الوقت تثير الشغف لمعرفة المخفي منها أي لغة يتكلم الإيمان؟

لنتذوق ونتزود ونسمو مع هذه النصوص "يسكن الإيمان الروح مثلما تسكنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به"، و "أودع الله في كل إنسان روحا منه، إلا ان هذه الوديعة تحتجب متى احتجب الانسان عن الله"، و"الله لا ينسى الإنسان إلا عندما ينساه الإنسان"، و "يضيء الإيمان الروح لحظة تحققها به، مثلما تضيء الكهرباء المصباح المظلم لحظة وصله بها، وهذا معنى كونه حالة نتذوقها كما نتذوق الطعام الشهي والشراب العذب".

ليس لدي القدرة على الاستمرار في قراءة تامة وكتابة مراجعة لهذا الكتاب في مقالة واحدة، فنصوصه تفرض على ضميري الأخلاقي وذائقتي وقلبي وعقلي أن أجزئ مراجعتي لهذا الكتاب. أرى كل عنوان داخل مكنون هذا الكتاب الثري جدير بالوقوف بكل حب واجلال أمام نصوصه وكتابة مقال في مراجعته. لذا اضطر للتوقف عند هذه النصوص لعلي أهضم جمالها واستدل بعض الطريق بعلاماتها، وامنح عقلي وقلبي وروحي فرصة وفضاء اوسع للسياحة في معانيها،كوجبة شهية جدا نصوص هذا الكتاب أود التهامها في الوقت ذاته.

نختم بهذه النصوص: "الإيمان مستقره القلب، ومأواه الروح، انه ليس صورة ندركها، الصورة يختزنها الذهن. خلافا للفهم والمعرفة، لا يتحقق بالنيابة"، و"الإيمان وحب الله كلاهما كيمياء للروح،كلاهما ينبثقان من جوهر واحد". "في الإيمان تتناغم الاديان وتتعايش وتأتلف، بعد ان تكتشف شفرة اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلمها الإيمان". "لغة الإيمان مضيئة، لغة الإيمان عابرة للغات والمعتقدات والفرق والمذاهب".

***

د. حميدة القحطاني

دكتوراه فلسفة القانون الدولي العام.

...............................

مراجعة لكتاب الدين والكرامة الإنسانية للدكتور عبد الجبار الرفاع

 

حول: جورج شتاينميتز (George Steinmetz)[1]،

الأصول الاستعمارية للفكر الاجتماعي الحديث. علم الاجتماع الفرنسي وإمبراطورية ما وراء البحار، مطبعة جامعة برينستون[2]

بقلم جان لويس فابياني (Jean-Louis Fabiani )[3]، 26 أكتوبر2023

ترجمة: مراد غريبي

***

كان الاستعمار مصحوبا برغبة في المعرفة تستند إلى مؤسسات محددة والتي أدت، في مجال العلوم الاجتماعية، إلى ظهور إستشراق عنيد.

اللاوعي الاستعماري للعلوم الاجتماعية

2106 شتاينميتزأحدث كتاب لجورج شتاينميتز، أحد أفضل دعاة علم الاجتماع التاريخي الجديد للعلوم الاجتماعية، مدفوع بطموح كبير: تقييم أهمية المصفوفة الاستعمارية في تطوير العلوم الاجتماعية في العالم الحديث. الحالة الفرنسية متميزة، لأن التجربة الاستعمارية كانت دائما مصحوبة برغبة قوية في المعرفة، كما يتضح من المشروع المعروف باسم الاستكشاف العلمي للجزائر، الذي حشد كلا من العلماء والجنود من عام 1839م فصاعدا وأنتج كتلة كبيرة من البيانات، من الجغرافيا الطبيعية إلى الأنثروبولوجيا. أظهرت العديد من الدراسات مشاركة معظم الإداريين الاستعماريين في إنتاج المعرفة، عند تقاطع إدارة السكان المسيّطر عليهم والمعرفة الإثنولوجية الكاملة. على الرغم من أن فرنسا تظهر فقط في العنوان الفرعي، إلا أن هذا البلد على المحك، وليس التفكير الاجتماعي الحديث ككل. حيث سيكون من المثير للاهتمام أن نسأل ما إذا كانت الحالة الفرنسية نموذجية، أو ما إذا كان تفردها يكمن في خصوصية العملية الاستعمارية وارتباطها ببناء الجمهورية الثالثة.

يريد جورج شتاينميتز أن يذهب إلى أبعد من الخطاب الذي يعرف الآن بأنه "إنهاء الاستعمار": إنها مسألة تحديد آثار هذه المعرفة على الإنتاج العادي للمعرفة في علم الاجتماع، والذي يعتبر تخصصا مركزيا في الكتاب. الاستعمار وجانبه الآخر، إنهاء الاستعمار، هما بالفعل في قلب علم الاجتماع. لقد عرفنا هذا بالفعل، لكن المؤلف لا يقتصر على إدانة العلاقة بين اللحظة التأسيسية للاختصاص والمشروع الاستعماري، وهو أمر عديم الجدوى دائما طالما أنه لا يأخذ في الاعتبار العواقب المعرفية للحالة الخاصة للمعارف المعنية.

إنهاء الاستعمار (هم/أنماط تفكيرنا)

لتنفيذ مشروعه، انقاد شتاينميتز إلى تشديد التركيز تدريجيا: بدأ بمقدمة مخصصة لما أسماه بناء الموضوع. والمنهج هو في الواقع انعكاسي: يدرك المؤلف تماما أن مشروعه يقع في الأعقاب: بعد زمن المستعمرات يمكننا وصف نظام المعرفة الذي تم تأسيسه هناك وفاض على الحاضرة. وبالتالي فإن شروط إمكانية العودة الانعكاسية مرتبطة بنهاية الإمبراطورية، التي لم يتبق منها سوى عدد قليل من الجزر التابعة، ولكن العديد من الممارسات التي تعتبر أمرا مفروغا منه، بما في ذلك الجزء النظري، أكثر أو أقل وعيا وموضوعية، كما نرى في الوقت الحالي إذا لاحظنا العلاقة المعاصرة بين فرنسا ومستعمراتها الأفريقية السابقة.

مثل الأنماط المعرفية التي ولدت من الفترة الاستعمارية قد ترسبت الآن في ممارساتنا المعرفية، فإننا لم نعد على دراية بها، ويسود فقدان الذاكرة. إن إعادة هذه الأنماط إلى الذاكرة يعني إنتاج سوابق من المفترض أن تحرر المستعمرين السابقين، الذين يواصلون استخدام أطر الفكر التي تم إنتاجها إلى حد كبير ضدهم، والمستعمرين السابقين، الذين، كما كتب بورديو(Bourdieu)[4] مستوحى من هيجل (Hegel )[5]، "تهيمن عليهم هيمنتهم الخاصة"، وإلى حد ما، مقيدون بالعادات القديمة. الفكرة هنا هي أن للكل مصلحة في إنهاء استعمار الفكر، وهو أمر من الواضح أنه موضع نزاع من قبل أكثر أنصار إنهاء الاستعمار استبعادا، الذين يعتزمون الاحتفاظ بفائدة العملية لأنفسهم.

تكمن ميزة شتاينميتز في أخذه مفهوم التاريخ الدقيق حرفيا. عمله كمؤرخ يجعل من الممكن فهم أهمية علم الاجتماع الاستعماري في البناء الوعر والبطيء إلى حد ما للاختصاص في فرنسا. في حين أن علم الاجتماع ككلمة ظهر فقط في جامعة السوربون في عام 1913 خلال محاضرة دوركايم (Durkheim )[6] حول البراغماتية، ولم يتم إنشاء شهادة في علم الاجتماع حتى عام 1958، عقد المؤتمر الدولي الأول لعلم الاجتماع الاستعماري في عام 1900. إن التردد العميق للفلاسفة تجاه إضفاء الطابع المؤسسي على العلوم الاجتماعية له نتيجة متناقضة تتمثل في أن المصطلح يتم تخصيصه في المقام الأول من قبل غير الأكاديميين، الذين لا يخفون المهنة التطبيقية لهذا النوع من المعرفة: تطوير المعرفة حول السكان التي يجب أن تدار بهدف الغزو.

وهنا يطرح السؤال الأول: ما هو القاسم المشترك بين هذا الاجتماع الاستعماري المزدهر، الذي يهتم قليلا بالشهادة الجامعية ومشروع دوركايم وتلاميذه، أو حتى مشروع تارد(Tarde)[7]؟ لا يرقى الاستخدام الشائع للمصطلح إلى إنشاء مجال تأديبي موحد: فقد أمضى مؤلف قواعد المنهج الاجتماعي حياته في انتقاد الاستخدامات غير المشروعة للمصطلح من قبل الهواة أو الصحفيين عديمي الضمير. لا يمكن إنكار نجاح المصطلح في الفضاء الاستعماري، لكن هذا لا يكفي لوضع جميع علماء الاجتماع في نفس الفئة.

من أجل عدم ارتكاب خطأ، من الضروري احترام مبدأ الاستقلال النسبي للحقول: لا يزال دوركايم عضوا بارزا في المجال الفلسفي في عصره، وكان راندال كولينسا (Randall Collins)[8] محقا في توبيخ راوين كونيل (Raewyn Connell)[9]، أحد أفضل ممثلي تيار ما بعد الاستعمار، لجعله بضعة أسطر على البربر في (حول تقسيم العمل الاجتماعي) (1893) دليلا على استعمار دوركايم. من المحتمل جدا أن يكون عالم الاجتماع قد علم عن هذا الشعب من خلال حساب المستعمر، ولكن بما أنه قارنهم بالعبرانيين القدماء، فمن الصعب أن نرى ما هي الأهمية الاستعمارية لمثاله.

انتشار مؤسسات المعرفة وتمكينها التدريجي

الأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو اللحظة الثانية من تحليل شتاينميتز، عندما يركز العدسة على العديد من مؤسسات المعرفة التي أدت إليها اللحظة الاستعمارية. ترتبط هذه المؤسسات بشكل أساسي بالمصالح العملية النابعة مباشرة من ضرورة مشروع السيطرة على السكان وإدارتهم، وغالبا ما كانت مرتبطة بمنطقة جغرافية، أو بالمغرب العربي، أو بأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو بما كان يعرف آنذاك بالهند الصينية. لذلك يتم تطوير المعرفة المتخصصة على أساس شبكة مشتركة (التخلف الثقافي، ونقص التاريخ، وأشكال الزواج، ومنطق التنمية، وما إلى ذلك). لقد تم إعطاؤهم الكثير من الوسائل المادية: المركبات (من سيارات الجيب إلى الطائرات)، التقنية (التصوير الفوتوغرافي ثم السينما) والبشر (شكل المستعمَرُون مجموعة رائعة من المخبرين والمساعدين). تحليل شتاينميتز في أفضل حالاته هنا: المعرفة في خدمة السلطة تحتاج إلى وسائل استثنائية.

يبين عالم الاجتماع جيدا كيف تساهم هذه المؤسسات في تطوير الاستشراق العلمي الذي يكون، في ظل ظروف معينة، أقرب إلى المجال الأكاديمي، خاصة لأنها غالبا ما تكون بمثابة سرير اختبار للباحثين الشباب الذين يجدون وظيفتهم الأولى هناك. يمكن إضافة نقطتين إلى التحليل: الأولى هي التجربة الغريبة، التي لا يتم فرضها على الفضاء الاستعماري المناسب والتي غالبا ما تأخذ شكل تجربة استعمارية، سواء كان الأكاديميون الفرنسيون الذين تم تأسيسهم في البرازيل (جورج دوماس(Georges Dumas)[10] وكلود ليفي شتراوس(Claude Lévi-Strauss)[11] وروجيه باستيد (Roger Bastide )[12] هم الأكثر شهرة)، في جبال الأنديز (Andes)[13] (فرانسوا بوريكو) (François Bourricaud)[14] أو علماء الآثار من المدرسة الفرنسية في أثينا، الذين أصبحت حفرياتهم ممكنة بسبب وجود موظفين رخيصين ومطيعين. وبعيدا عن المستعمرة نفسها، فإن طبيعة هذه العلاقة البدائية مع الآخر، القائمة على عدم المساواة في المعرفة والموارد، هي التي ينبغي التشكيك فيها.

في وقت مبكر جدا، كان العلماء المشاركون يميلون إلى التأثير على برنامج مؤسسات المعرفة هذه من خلال زيادة استقلاليتها. في هذه اللحظة تقريبا تقع نقطة التقاطع بين الحقل الاجتماعي الناشئ ومجال علم الاجتماع الاستعماري، الذي لا يهتم كثيرا بنظرية عامة للاجتماع. وصف شتاينميتز البحث عن الحكم الذاتي بشكل جيد و خاص، خاصة فيما يتعلق بجاك بيرك (Jacques Berque )[15] بين الحربين العالميتين: انتقل بيرك من منصب إداري مدني مسؤول عن السيطرة على القبائل المغربية إلى كرسي في كوليج دو فرانس بعنوان "التاريخ الاجتماعي لتاريخ الإسلام المعاصر". ولتحقيق ذلك، ضاعف أبحاثه المستقلة بناء على خبرته البيروقراطية وأصبح أحد أصوات مناهضة الاستعمار بعد الحرب. نحن مدينون له بالاستخدام الأول لمصطلح إنهاء الاستعمار، ما يذكرنا به شتاينميتز بشكل مفيد للغاية.حيث تعد تحليلات التمكين التدريجي لمؤسسات المعرفة الاستعمارية إحدى نقاط القوة في كتاب شتاينميتز: غالبا ما يستخدم هذا المفهوم بشكل غامض وغير صالح نهائيا. هذا هو الحال بشكل خاص في ORSTOM (مكتب البحوث العلمية والتقنية في الخارج)، حيث يتم تحويل الموارد الكبيرة الممنوحة، في منطق يسعى إلى الرغبة الإمبريالية في إنتاج المعارف بمساعدة الأجهزة التقنية المتطورة، بطريقة ما، من قبل العلماء الذين ينتجون تحليلات أصلية وغالبا ما تكون نقدية، والذين ليس بالضرورة عرضها بشكل واضح، يفعلون شيئا آخر غير ما طلب منهم.

تجربة افتتاحية

أكثر من وجود علم اجتماع استعماري موحد نسبيا، وهو أمر غير محتمل علاوة على ذلك نظرا لتنوع المسارات والتشكلات والموارد، فإن قوة العلاقة مع العالم الاستعماري داخل رواد حقل العلوم الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي التي يؤسسها تحقيق شتاينميتز الدقيق: إن تعيين منصب في الفضاء الاستعماري في بداية حياته المهنية هو ظاهرة هائلة: إن حالات فرناند بروديل (Fernand Braudel)[16]، المعين في قسنطينة بعد نجاحه في درجة الأستاذية، والحالة الأحدث لبيير نورا (Pierre Nora)[17]، المعين في وهران عشية الاستقلال، معروفة جيدا، ولكن هناك العديد من الآخرين الذين يكتشفون، بعد صرامة مسابقات التوظيف، جمال الفضاء الاستعماري، ونادرا ما يكتشفون، باستثناء العقد الأخير، بؤسه العميق.

حتى نهاية خمسينيات القرن العشرين، كان لمدينة الجزائر مظهر عاصمة حقيقية، بعيدة بما فيه الكفاية عن باريس حتى لا تكون مدينة إقليمية وغريبة بما يكفي لإثارة الدوافع الاستشراقية. كانت هيئة التدريس في الجزائر العاصمة أيضا نقطة انطلاق رائعة لمهن رائعة: كان بروديل أستاذا مساعدا هناك، وبورديو مساعدا. البعض، مثل عالم الأنثروبولوجيا العظيم في اليونان القديمة، لويس جيرنيه (Louis Gernet)[18]، الذي وقع على بيان 121، وهو إعلان عن الحق في العصيان في الحرب الجزائرية، قضى معظم حياته المهنية هناك، بلا شك على حساب سمعته الأكاديمية.

بشكل عام، تعد التجربة الاستعمارية للبحث والتدريس سمة مشتركة للعديد من أساتذة العلوم الاجتماعية والباحثين المعروفين من ستينيات القرن العشرين فصاعدا. بالإضافة إلى الأسماء المذكورة أعلاه، يمكننا إضافة جان كويزينييه (Jean Cuisenier)[19]، الذي، قبل أن يصبح المعلم العظيم للإثنولوجيا الفرنسية، تم إرساله إلى تونس، جان ويليام لابيير (Jean-William Lapierre)[20]، مساعد لمدة أربع سنوات في أنتناناريفو Tananarive [21]، إريك دي دامبيير (Éric de Dampierre)[22]، الذي يرسم له شتاينميتز صورة مفصلة للغاية، في تناقض حاد مع صورة بورديو (Bourdieu)، الذي يشترك معه في الإمتداد الفيبيري، لويس فنسنت توماس( Louis-Vincent Thomas)[23]، الذي، مثل بيير فوجيرولاس ( Pierre Fougeyrollas)[24]، درس في داكار، وأخيرا أولئك الذين يمكن تعريفهم بشكل أكثر دقة على أنهم علماء أنثروبولوجيا الفضاء الاستعماري، بول مرسييه (Paul Mercier)[25]، بول باسكون (Paul Pascon)[26]، جان هنري سيرفييه (Jean-Henri Servier)[27]، جان دوفينيو (Jean Duvignaud )[28] وبول سيباج (Paul Sebag)[29]. من الواضح أن مسارات هؤلاء الأفراد متنوعة للغاية، ولا يستحق جميعهم أن يطلق عليهم علماء اجتماع استعماريون، لكن تعداد شتاينميتز يرسم بلا شك مساحة مرجعية مشتركة. لم يكن لهذا المجتمع من التجارب والأحاسيس والعلاقات مع الآخر عواقب لا لبس فيها على المواقف السياسية التي اتخذها العملاء: كان جيرنيه (Gernet Louis) ملتزما بمناهضة الاستعمار في سن مبكرة، بينما التزم جان هنري سيرفييه (Jean-Henri Servier) بالجزائر الفرنسية.

بروسوبوغرافيا متناقضة

يتناقض الجزء الأخير من الكتاب مع كل ما سبق. أربع شخصيات هي موضوع فصول موثقة بشكل مثير للإعجاب. الأول مخصص لريمون آرون (Raymond Aron) [30]. قد يفاجأ القارئ. أرفق شتاينميتز بتحقيقه سلسلة من الرسوم التوضيحية ذات الصلة التي تعرض جميع أدوات الباحث الاستعماري. ومع ذلك، من الصعب تخيل جمجمة ريموند آرون الحادة وهي ترتدي خوذة استعمارية. ماذا يفعل في معرض الصور هذا، حيث يفرك كتفيه مع جاك بيرك وجورج بالاندييه (Georges Balandier ) [31] وبيير بورديو، الذين جعلوا الفضاء الاستعماري وسيلة للتحقيق النقدي في عملية الاستعمار؟ بالتأكيد، كان آرون يعارض بشدة، ولكن بالإجراء الذي يميزه، للحرب الجزائرية: لا تزال "المأساة الجزائرية/ La tragédie algérienne" [32](1957)، التي أيد فيها آرون استقلال الجزائر، قراءة لا غنى عنها، والتي أكسبت مؤلفها عداء لا يمكن إصلاحه من اليمين الفرنسي، وعلى وجه الخصوص، من عالم آخر، هو نفسه استعماري حقا، جاك سوستيل (Jacques Soustelle)[33].

إن معارضة آرون للاستعمار هي أولا وقبل كل شيء أخلاقية: وضع المستعمر هو إهانة للضمير في جميع الظروف. ويضيف نوعا آخر من الحجج، لا علاقة له بالحجة السابقة، والتي تستند إلى ملاحظة Real Politik ( واقعية سياسية) : فرنسا إمبراطورية لاهثة، والتي نتساءل عما إذا كانت لا تزال واحدة لأنها لم تعد تملك الوسائل لتحقيق طموحاتها. إن اختيار آرون، على الرغم من أنه لا يبرره وضعه الخاص في الفضاء الاستعماري، هو تأثير الاعتبار الذي يعطيه شتاينميتز لنظرية الإمبريالية التي طورها في اتصال مع الفلسفة وعلم الاجتماع الألماني، والتي تتعارض تماما مع النظريات الماركسية لنفس الموضوع، سواء كان ذلك. نهج لينين التبسيطي إلى حد ما، أو نهج روزا لوكسمبورغ (Rosa Luxemburg)[34] الأكثر تفصيلا.

بالنسبة لآرون، الذي قرأ فيبر (Weber)[35] وكارل شميت(Carl Schmitt) [36] بعناية، فإن الأساس الاقتصادي للمغامرة الإمبراطورية ليس أبدا تصميمها النهائي. لقد رأينا هذا في وقت غزو الجزائر، عندما كانت الأوساط الاقتصادية تعارض ما اعتبرته شأنا مكلفا مع عدم وجود أي احتمال للربح في المستقبل، في حين أن أعضاء حزب المستعمرين لم يكونوا أبدا جزءا من الطبقات المالكة. يلاحظ شتاينميتز كل هذا بشكل جيد للغاية، والذي يمكن تلخيصه على أنه أولوية الأيديولوجية على العوامل المادية، والتي تتناقض مع فولجاتا[37] ما بعد الاستعمار.

جعل آرون، كما ينزع المؤلف، رائدًا لنظرية إنهاء الاستعمار يبدو جريئًا للغاية: إدانته للعنصرية أو العنف الإمبريالي هي إدانة ليبرالي مفترض بدون أوهام، يغذيه ماكس فيبر وكلاوزفيتز (Clausewitz)[38] وتوكفيل (Tocqueville)[39]. شتاينميتز محق تماما في إخراج مؤلف كتاب الجمهورية الإمبراطورية (la République impériale)[40] (1973) من الموقف الكاريكاتوري الذي حبسه فيه اليساريون في كثير من الأحيان (بما في ذلك تلاميذ بورديو الأكثر حماسة). ومع ذلك، فمن المبالغة تحريفها كثيرا على جانب إنهاء الاستعمار. علاوة على ذلك، فإن حقيقة دمج اللحظة الاستعمارية في نظرية عامة للإمبراطورية، والتي تبدو أنها مشروع آرون العظيم، لا تخلو من الصعوبة بالنسبة لمؤيدي تفرد الاستعمار الغربي، والذي سيصنفه النهج العالمي بدلا من ذلك على أنه شكل معين من أشكال الهيمنة التي يمكن توطينها تاريخيا وجغرافيا: وهكذا يتم إبطال الكثير من القوة الإيديولوجية لإنهاء الاستعمار (إلقاء اللوم على المركزية الأوروبية الاستبدادية المرتبطة، عن صواب أو خطأ، بروح التنوير).

سيكون من المفهوم أن هذا الكتاب كتاب رائع، وسوف يغفر للمؤلف بسهولة بعض الأخطاء أو المقاربات. يبقى سؤال واحد بعد قراءة كتاب من المقرر أن يصبح مرجعا لجميع الأبحاث حول علم الاجتماع الفرنسي. يتعلق الأمر بموقف المؤلف عن بعد: إذا صدقناه، فلن يتمكن عالم اجتماع فرنسي من إجراء هذا البحث طالما أن هذا التاريخ هو موضوع فقدان الذاكرة. ربما يكون على حق، بقدر ما لم يكن لدى أي شخص فكرة إجراء مثل هذا البحث المكثف حول ما نميل إلى اعتباره قطاعا مهيمنا عليه في العلوم الاجتماعية والذي هو في الواقع حاسم لتاريخ الإختصاص في فرنسا في أشكاله الأكثر شرعية. يمكننا أن نرى مفارقة لطيفة في هذا: إنه عضو في الجمهورية الإمبراطورية يرفع مرآة لزملائه الفرنسيين لإيقاظهم من فقدان الذاكرة. صحيح أنه من الأسهل التحدث عن إمبراطورية ميتة من الحديث عن إمبراطورية حية. لكن ألا يمكننا أن نختتم بالقول: "de te fabula narratur"[41] ؟ هذه القصة، جورج، هي قصتك أيضا.

***

ترجمة : أ.مراد غريبي

الرابط: https://laviedesidees.fr/Histoire-de-la-sociologie-coloniale

..............................

[1] (من مواليد 13 نوفمبر 1957) هو أستاذ تشارلز تيلي الجامعي لعلم الاجتماع واللغات والآداب الجرمانية في جامعة ميشيغان. قام بالتدريس في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، وجامعة شيكاغو، وكلية الدراسات المتقدمة في العلوم الاجتماعية (مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية / EHESS). وهو عالم اجتماع تاريخي للإمبراطوريات والدول والمدن، مع التركيز على ألمانيا الحديثة وفرنسا وبريطانيا ومستعمراتها. مجالات بحثه الرئيسية الأخرى هي النظرية الاجتماعية وتاريخ وفلسفة العلوم الاجتماعية.

[2] جورج شتاينميتز، الأصول الاستعمارية للفكر الاجتماعي الحديث. علم الاجتماع الفرنسي وإمبراطورية ما وراء البحار، برينستون، مطبعة جامعة برينستون، 2023، 554 ص.

[3] أستاذ علم الاجتماع في جامعة أوروبا الوسطى ومدير الدراسات المتقاعد بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الإجتماعية. يكرس عمله لعلم الاجتماع التاريخي لتكوينات المعرفة. زميلا في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون خلال العام الدراسي 2017-2018. نشر بيير بورديو. بنيوية بطولية في Le Seuil في عام 2016 وقد أكمل للتو كتابة علم اجتماع كورسيكا لمجموعة (Repéres) La Découverte)-).

[4] عالم إجتماع فرنسي يعتبر أحد أهم علماء الاجتماع في النصف الثاني من القرن العشرين. تم تصنيف كتابه "التميز" La Distinction من بين أهم عشرة أعمال في علم الاجتماع في القرن من قبل الرابطة الدولية لعلم الاجتماع

[5] فيلسوف ألماني، لاحق لإيمانويل كانط، ينتمي إلى المثالية الألمانية وكان له تأثير حاسم على الفلسفة المعاصرة بأكملها.

[6] هو عالم اجتماع فرنسي يعتبر أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث.

[7] جان غابرييل تارد هو عالم اجتماع فرنسي وعالم نفس اجتماعي، أحد أوائل المفكرين في علم الإجرام الحديث.

[8] هو عالم اجتماع أمريكي. وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة بنسلفانيا ورئيس دوروثي سوين توماس. بعد حصوله على درجة الماجستير في علم النفس من جامعة ستانفورد، حصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كاليفورنيا، بيركلي في عام 1969. قبل أن يبدأ مسيرته الأكاديمية، كان كولينز كاتبا أيضا. إحدى رواياته، قضية خاتم الفيلسوف، ظهرت في شيرلوك هولمز

[9] هي عالمة اجتماع أسترالية معروفة بعملها في موضوعات العلاقات الطبقية والجنس والتعليم والعلاقات بين الشمال والجنوب في البحث الأكاديمي.

[10] هو طبيب وطبيب نفساني فرنسي.

[11] هو عالم أنثروبولوجيا وإثنولوجي فرنسي كان له تأثير كبير على النطاق الدولي في العلوم الإنسانية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين. على وجه الخصوص، أصبح أحد الشخصيات المؤسسة للبنيوية من خمسينيات القرن العشرين فصاعدا من خلال تطوير منهجيته الخاصة، الأنثروبولوجيا البنيوية.

[12] عالم اجتماع وأنثروبولوجيا فرنسي، متخصص في علم الاجتماع والأدب البرازيلي.

[13] جبال الأنديز هي سلسلة جبلية واسعة ممتدة على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية يقارب طولها 7100 كيلومتر، وعرضها 500 كيلومتر، ومعدل ارتفاعها 4000 متر. تمتد السلسلة في سبع دول هي الأرجنتين والإكوادور وبوليفيا وبيرو وتشيلي وكولومبيا وفنزويلا.

[14] عالم إجتماع فرنسي متخصص في فرنسا وتالكوت بارسونز وأمريكا اللاتينية. كان ينتقد بشدة أعمال بيير بورديو.

[15] هو عالم اجتماع وعالم أنثروبولوجيا فرنسي. حائز على كرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر في كوليج دو فرانس من عام 1956 إلى عام 1981، وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة منذ عام 1989. وهو مؤلف للعديد من الترجمات، التي تم تقديرها بشكل خاص لجودة أسلوبها، بما في ذلك ترجمته القرآن الكريم.

[16] مؤرخ فرنسي

[17] مؤرخ فرنسي

[18] عالم لغوي ومحامي و مؤرخ فرنسي، متخصص في اليونان القديمة.

[19] أستاذ الفلسفة، عالم الأعراق فرنسي، متخصص في الإثنولوجيا الفرنسية، الإثنولوجيا الأوروبية خاصة في رومانيا، الفنون والتقاليد الشعبية، وبشكل خاص العمارة الريفية.

[20] هو عالم اجتماع فرنسي، مفكر في السلطة والسياسة.

[21] العاصمة الإقتصادية و السياسية لمدغشقر

[22] عالم إثنولوجي وأكاديمي فرنسي.

[23] أكاديمي فرنسي، أنثروبولوجي متخصص في القبائل الإفريقية

[24] فيلسوف فرنسي وعالم اجتماع وعالم أنثروبولوجيا

[25] عالم أنثروبولوجيا فرنسي متخصص في شعوب افريقيا

[26] عالم اجتماع مغربي

[27] عالم إثنولوجي ومؤرخ فرنسي

[28] كاتب فرنسي وناقد مسرحي وعالم اجتماع وفيلسوف وكاتب مسرحي وكاتب مقالات وكاتب سيناريو وعالم أنثروبولوجيا.

[29] عالم اجتماع ومؤرخ فرنسي تونسي

[30] هو فيلسوف وعالم اجتماع وعالم سياسي ومؤرخ وصحفي فرنسي.

[31] هو عالم إثنولوجي وعالم اجتماع فرنسي.

[32] كتاب للمفكر الفرنسي ريمون آرون نشر في يونيو 1957 من قبل إصدارات بلون (Plon)

[33] عالم إثنولوجي وسياسي وأكاديمي فرنسي.

[34] ناشطة اشتراكية وشيوعية في الحزب الاشتراكي الألماني بدايات القرن العشرين، ومنظرة ماركسية

[35] هو اقتصادي وعالم اجتماع ألماني تكوينه الأساسي في القانون. يعتبر أحد مؤسسي علم الاجتماع، ويتساءل عن التغييرات التي حدثت في المجتمع مع دخول الحداثة. وتنسب إليه كذلك التحليلات المعقدة للرأسمالية الصناعية والبيروقراطية وعملية الترشيد في الغرب.

[36] هو محام و فيلسوف ألماني

[37] النسخة اللاتينية للإنجيل

[38] ضابط عام بروسي ومنظر عسكري في أواخر القرن التاسع عشر.

[39] هو قاضي فرنسي، وكاتب، ومؤرخ، وأكاديمي، ورحالة، وفيلسوف، وعالم سياسي، ورائد في علم الاجتماع وسياسي.

[40] هو كتاب لعالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون، نشرته إصدارات كالمان ليفي (éditions Calmann-Lévy ) عام 1973 وحصل على جائزة النقد في نفس السنة

[41] مثل لاتيني: أنت الشخص الذي تم تصويره في هذه القصة.

كتاب عبارة عن دراسة ميدانية من تأليف الباحث السوسيولوجي المغربي عبد الغني منديب (أفريقيا الشرق، 2006)، إذ تتغيا فهم وتحليل وتفسير التمثلات الدينية السائدة لدى المغاربة، بحسبانها مجموع التصورات والمعتقدات التي يدعوها فيبر ب "النظرة إلى الكون"، هذا بالإضافة إلى الممارسات والطقوس الدينية المقترنة حكمًا بها، ومن ثم العمل على استخلاص دلالاتها ووظائفها الرمزية. أما بخصوص تقنيات البحث التي تَوَسلها الدارس، فهي تطاول كلا من الملاحظة والمقابلة الميدانية المعمقة للمبحوثين، والتي طبقها على مجتمع الدراسة المنصرف إلى خمسة دواوير من الوسط القروي بدكالة، بحيث في الوسع تعميم نتائجها على شتى المناطق الجغرافية بالمغرب:

التمثلات والمعتقدات الدينية للمغاربة

يُعد تصور الله ك "قوة مشاركة لا مفارقة" من أهم العناصر المشكلة للنظرة إلى الكون بالنسبة للمغاربة في نظر المؤلف، ومؤدى ذلك التمثل هو الاعتقاد في أن كل ما يجري من وقائع وأحداث دنيوية هو قطعا من صنع الإرادة والقدرة الإلهية، وهو ما يُعبر عنه في التعبير الدارج ب "المكتوب". بيد أن ما سلف ذكره لا يجمل أن يتأدى بنا – في تقدير الباحث –  إلى القول بالمطابَقة بين تصور المغاربة ل "المكتوب" (= المقدر) والنظرة الجبرية التي تبنتها بعض المذاهب الفقهية الإسلامية، ذلك أن مفهوم "المكتوب" لا يسعنا فصله، بحسب الكاتب، عن مفهوم آخر ملازم له ألا وهو "السبوب"، الذي يفيد الأخذ بالأسباب والسعي في تحسين الأحوال. ولهذا فإن "المكتوب" أو القدر الإلهي لا نملك معرفته إلا بعد العمل بمقتضيات "السبوب"، الشيء الذي يحول دون الركون إلى الأمر الواقع والرضوخ له، مما يفسر – على سبيل المثال لا الحصر – أن المصابين بالعقم لا يألون جهدا للأخذ بالأسباب للتغلب عليه، رغم يقينهم بأن الإنجابَ نعمةٌ ربانيةٌ ومرتهنٌ بالمشيئة الإلهية.

كما يدخل مفهوم "الدنيا" في عداد العناصر المكونة للتمثلات الدينية عند المغاربة، إذ يُنظَر إليها (=الدنيا) من حيث هي مجال للتفاوت الاجتماعي متولد من المشيئة الإلهية التي اقتضت تباين حظوظ الناس من الرزق والثروة، الأمر الذي يسبغ المشروعية على التفاوت في توزيع المكانة الاجتماعية بين الأفراد، دون أن يلغي ذلك، في تَمَثل المغاربة، إمكانية التحول في المكانة الاجتماعية والوضعية الاقتصادية للأفراد تبعا للقدرة الإلهية، مما يفسر بالتبعة سعي الفئات الدنيا الدائب لتحسين مكانتهم الاجتماعية، واكتساب الوجاهة والحظوة في أعين الناس.

وعليه فإن العلاقات الاجتماعية التي ينتظم في إطارها المغاربة، مثلما يلحظ المؤلف، ليست مفصولة عن تلك الاعتبارات النفعية وثقافة المحسوبية ("الدنيا بالمعارف")، وفي مقدمتها علاقة الزواج التي تلبس – في كثير من الأحيان – لبوس صفقة تجارية بمنأى عن أي اعتبارات عاطفية (مشاعر الحب... إلخ)، بيد أن ذلك لا يعني البتة أن تلك العلاقات منفلتة عن ضوابط وقيود أخلاقية يحرص المجتمع على التقيد بها (نبذ "المال الحرام" الذي مصدره السرقة والغش والتدليس... إلخ).

هذا إلى جانب "الصلاح" بما هو أحد المفاهيم التي تتنزل في صلب تمثلات مجتمع الدراسة، والذي لا ينحصر معناه في التقيد بمبادئ العبادة والأخلاق الدينية، في منظور الكاتب، بحيث تنصرف دلالته إلى حسن التدبير والقدرة على إحراز النجاح لجهة تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي (يدخل في هذا المضمار سلوكيات من قبيل ترشيد النفقات، تفادي الإسراف والتبذير... إلخ).

الطقوس الدينية في المغرب ودلالاتها

يمكن تعريف الطقس بما هو "كل سلوك فردي أو جماعي يتسم بخاصية التكرار، وهو تجسيد ملموس لتصورات وتمثلات ذات وظائف محددة، بحيث لا تقتصر الأخيرة على تأكيد وإشهار الهوية الإسلامية بالنسبة للمبحوثين، بمقدار ما تنطوي على وظائف حيوية أخرى، كما تتوزع تلك الطقوس والممارسات بين اليومي والموسمي والظرفي:

أولا: الممارسات اليومية

يشمل هذا الصنف الأول مجموعة من الطقوس، وفي طليعتها البسملة التي تؤدي وظيفتين أساسيتين، أولاهما استعطافية تيمنية تبغي نشدان العون الإلهي في الأعمال الدنيوية، وثانيتهما وقائية ترمي لاتقاء شر "الجن" و"الأرواح الشريرة"، ناهيك بالحمدلة التي يُتلفظ بها في السراء والضراء، بما يفيد الإعراب عن الشكر والامتنان للخالق، وعدم الاعتراض على المشيئة الإلهية في أحوال الضيق والشدة. وعطفا على ما سبق، يُعتبر الاستغفار والتعوذ من أبرز الطقوس اليومية، ولا سيما حين يوشك المرء أن يقع، أو يقع فعلا في إتيان ذنب ما، إذ تصدر هذه الممارسة من قناعة مؤداها أن الشيطان يتربص دوما بالناس ليوقعهم في حبائل المعاصي والآثام، مما قد يقتادهم، في هذه الحالة، إلى التنصل من المسؤولية الشخصية عن الأخطاء المرتكَبة.

كما يُعد الدعاء من أبرز وسائل التماس المعونة الإلهية داخل مجتمع قروي يتسم بقدر من الخصوصية، حيث القلق والهواجس الدائمة بفعل تَقَلب الظروف المناخية (عدم انتظام تساقط الأمطار). وصولا إلى الصلاة، التي بالرغم من أهميتها بالنسبة لمجتمع الدراسة بحيث يبعث الإحجام عن أدائها أو الانقطاع عنها على نوع من العتاب، فإن عدم إتيانها ليس مسوغا كافيا، كما يلحظ المؤلف، لتجريد الشخص المعني من الهوية الإسلامية، نظرًا لانشغال معظم الأفراد بشؤون المعيشة. وبهذا الصدد لم يذهل المؤلف عن تناول صلاة الجماعة بمجتمع الدراسة، التي وإنْ كان يُفترض أن تشكل فضاء يتساوى فيه المصلون على اختلاف مراتبهم الاجتماعية، فإن الأعيان والوجهاء يَشْغَلون فعليًا أماكن خاصة بهم في المسجد، ولعل هذا المعطى يفسر، وفقا للباحث، قلة عدد المداومين على الصلاة الجماعية، حيث يود المبحوثون تلافي المواقف التي تضعهم في منزلة دونية إزاء كبراء وسادة المجتمع.

ثانيا: الممارسات الموسمية

تطرق الباحث لجملة من الطقوس والممارسات الموسمية، ونذكر من جملتها شعيرة الحج التي يُقبل عليها في الغالب أعيان وكبراء القوم بمجتمع الدراسة، مما يجعلها عنوانا للوجاهة الاجتماعية، أما بالنسبة لباقي الفئات المعوزة، فإن ضيق ذات اليد يحول دون تَمَكنها من أداء هذه الشعيرة، الشيء الذي يتأدى بها إلى الاكتفاء بزيارة الأضرحة، منظورا إليها من حيث هي "حج مصغر". كما عرضت الدراسة، أيضًا، للتمثلات والممارسات المقترنة بعيد الأضحى أو "العيد الكبير"، ولئن كانت الأخيرة تفيض بدلالات دينية – إسلامية صارخة، فإنها لا تشذ عن القواعد الناظمة لطقوس التضحية والوظائف المنوطة بها بمختلف الثقافات تبعا للمنظور الأنثروبولوجي، إذ يذهب روني جرار إلى أن تلك الطقوس تؤدي إلى التحام وتآزر الجماعة، وتفريغ العنف المتبادل الذي يتهدد وحدتها واستمرار وجودها بواسطة تلك الطقوس.

ثالثا: الممارسات الظرفية

تحيل الطقوس الظرفية إلى الممارسات التي يرتبط إتيانها بظروف ومواقف معينة، والجامع بينها، مثلما يفيد الكاتب، هو نهوضها بوظيفة احتواء القلق الذي يعتري المقبلين عليها، ولعل أظهرها الطقوس المتصلة بزيارة الاضرحة، بما هي ممارسة ممتدة الجذور بالمجتمع المغربي رغم الخطاب الفقهي المعارض لها، وقوامها الاعتقاد في قدرة الصلحاء على التوسط لقضاء حاجات ومآرب السائلين (إبراء الأمراض، عقد المواثيق، الاستخارة وطلب المشورة... إلخ)، بفضل ما لديهم من "بركات" و"كرامات" تُعزى إلى تقربهم من الحضرة الإلهية بحسب التمثل السائد. ومن ضمن تلك الممارسات نذكر أيضا طقس الختان، الذي يُجمع باحثون كثر على أنه "طقس جنسي يهدف إلى تحسيس الختين بمسؤوليته المستقبلية كعضو من جماعة الذكور"، وباعتباره "إعدادًا لفض البكارة وتحسيسا مبكرا بأهمية النشاط الإنجابي".

رابعا: الممارسات السحرية

يذهب المؤلف إلى أن استمرار الاعتقاد في وجود ومفعول القوى اللامرئية (الجن، العين الشريرة...) يشي بهشاشة الحدود الفاصلة بين الديني والسحري، وتتوزع تلك الممارسات بين "الوقائيات" الهادفة للوقاية من تلك القوى (كحمل التمائم والتعاويذ، إحراق الأبخرة... إلخ)، و"الغيبيات" التي تشير إلى القدرة المزعومة لبعض الأشخاص على التنبؤ بالمستقبل واستطلاع الغيب، والعراف في مجتمع الدراسة كما يورد الباحث، لا يرى نفسه ساحرا بل صاحب هبة ربانية، ناهيك ب "الممارسات السحرية" التي يُراد منها التأثير على الآخرين (الحصول على إعجاب رجل ما... إلخ).

وفي الختام، يشدد المؤلف على أن قدرة التمثلات والممارسات الدينية على الفعل والاستمرار في الوجود متوقفةٌ على مدى توافقها مع الحس المشترك والتنظيم الاجتماعي السائدين، وآية ذلك أن بعض التصورات والممارسات الدينية الموصومة بالتزمت لا تلقى قبولا لدى مجتمع الدراسة، على شاكلة حملات الوعظ والإرشاد التي تنظمها جماعات دينية منظمة، والتي تروج لأفكار تتعارض وقواعد التنظيم الاجتماعي السائدة، من قبيل مناداتها بترك ما تراه "بدعًا" و"خرافات" (زيارة الأضرحة، القراءة الجماعية للقرآن... إلخ)، ولعل ذلك ما يفسر، نسبيا، فشل مشروع بعض الحركات المحسوبة على الإسلام السياسي لا في المغرب فحسب، وإنما بمجموعة من الدول العربية، باعتبار أن الممارسات موضوع الاستهجان من لدنها قد بلغت درجة كبيرة من التجذر بالنسبة لقواعد المجتمع. كما أن قدرة بعض الممارسات الدينية على الصمود رغم تطاول الزمن (كزيارة الأضرحة) تفسر كذلك، بهذه الدرجة أو تلك، بدور السلطات المركزية في المحافظة عليها وإسنادها، بحسب الكاتب، لما تؤديه من وظائف حيوية لجهة تأمين استقرار النسق.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

يعتبر الدكتور وجدي كامل من جيل المخرجين السينمائين السودانيين الذين تتعدى همومهم الفعل اليومي وتنفذ الى ما هو مستقر لتعمل على زحزحته ومسائلته يبدو ذلك ظاهراً في مقالاته السياسية ولوحاته التشكيلية ؛ ويُرى ذلك في الافلام التي أخرجها مثل " بروق الحنين" و" وباتريس لوممبا"، و"جراح الحرية"، و"الخرطوم كان ياما كان"، و"فراق الدم"، ومؤلف هذا الكتاب نال بكلاريوس وماجستير الاخراج السينمائي والتلفزيوني من معهد الدولة للسينما والتلفزيون السوفيتي والدكتوراة في نظرية ونقد الفليم في العام 1993 من معهد الدولة الروسي للسينما والتلفزيون. ومؤلف لعدد من الكتب من ضمنها هذا الكتات الصادر بالانجليزية" السينما الافريقية- ظاهرة جمالية" ترجمة الاستاذ عادل محمد عثمان عن دار العين الطبعة الثانية 2019(159ص) وكانت طبعته الاولى عن المجمع الثقافي في ابوظبي وكتاب " سامبين روائيا ومخرجا سينمائيا أفريقيا" بالاضافة لمؤلف " السينما والفوتغرافيا في النظام الثقافي المعاصر"و " السينما هرم الدولة المقلوب".يضاف لذلك اعماله الفنية في الشعر والفن التشكيلي.

(1)

يقسّم المؤلف كتابه الى قسمين رئيسيين؛ أو فصلين أساسيين بالاضافة الى المقدمة والخاتمة وملحق الصور ودليل المخرجين والافلام الافريقية المعاصرة .

في هذه القراءة النقدية أقدّم ملخصا سريعا لفصول الكتاب والافكار التي يناقشها والمضامين. جاء الفصل الاول تحت عنوان من التعبير الدعائي الى التعبير الفني وفيه يناقش الكاتب ويؤرخ لميلاد وقضايا السينما الافريقية وحالات الجدال والتعقيدات بين مسألة الهوية الوطنية والفنية عند استخدامنا للتحليل السنيمائي، وفي وقت كانت افريقيا مجرد فضاء غرائبي لمنتجي الافلام الغربيين وذلك للصور التي تذخر بها الطبيعة الإفريقية من الادغال والحيوانات والمناظر الخلابة؛ مع استبعاد وعدم تقييم الثقافة الافريقية. اذ اعتبرت موطناً للهمجية والقسوة والبربرية وكان السحر والشعوذة والرقص مادة أساسية لمعظم الافلام الغربية. والافلام التي عالجت قضايا افريقيا كانت أسيرة العقل الاوربي والتصورات والتمثلات التي وضعها العقل الاوربي في نمط محدد.

انتعشت صناعة السينما بُعيد العام 1957 حين نالت حوالي 13 دولة افريقية استقلالها وتكونت مجموعات صغيرة من السينمائيين في كل بلد ومعظم هؤلاء تلقوا دراساتهم في السينما بموسكو وباريس ولندن وروما ؛ يشير المؤلف الا ان الافلام الاولى التي انتجها الافارقة عالجت مسائل متعلقة بوجود الافريقي في اوروبا والثقافة الاوربية وهي معضلة الاغتراب والاستلاب في آن. وفي هذا الاطار أورد الكتاب العديد من الافلام التي تناولت ظاهرة الاغتراب مثل افلام الموريتاني (ميد هيندو) والذي اخرج فيلم " العرب والزنوج هم جيران" ويشار اختصاراً بـ" جيراني" وفي السياق انتجت مجموعة من الافلام لمخرجين افارقة تحمّل أوروبا المسؤلية تجاه ماضي افريقيا وتحث على النضال من أجل الاستقلال وهي خاصية رئيسية في افلام السينما الافريقية في الستينيات والسبعينيات. وهي الفترة التي تخلصت فيه أفريقيا من كونها موضوعاً لتتجه الى رؤية ذاتها وسردياتها الخاصة بها من خلال الافلام.

ولم يكن المخرجين الاجانب في موقع يؤهلهم لمقاربة الواقع الافريقي او القدرة على تقديم الثقافة الافريقية الموغلة في القدم وطبيعتها المعقدة المتعددة الاثنيات؛ إذ ان الأفارقة وحدهم لديهم القدرة لمعالجة هذه الاشكالات ومقارباتها.

يمكن أن يؤرخ لجماعة السينما الافريقية في مرحلتين وكل مرحلة سادت فيها نزعة محددة ؛ كانت النزعة الاولى للافلام الافريقية متمركزة حول قضايا الاغتراب والافارقة في اوربا بينما سادت رؤية وتقديم الذات في النزعة الثانية ويرى المؤلف ان الفصل بين المرحلتين خطأ؛ وقد أحدث كثيراً من التناقض والخلافات ، لذلك اقترح نهجاً مسايراً وهو تعيين وتعريف الاتجاهات الرئيسية التي حكمت تطور السينما الافريقية وفي هذا المنحنى تناول بعضاً من الاعمال السينمائية مثل أعمال رائد فن السينما الافريقية السنغالي بوليين فييرا والتي يحكي فيها تجربة الاغتراب وقضايا الهوية وفقدان الثقافة وينتمي بولين لقبيلة اليوربا وهي تمتاز بغنى ثقافاتها التقليدية وعراقتها ولديه عدة أعمالfor years ago و Africa on the seine وفيلمه الوثائقي " ميلاد أمة" وكان عن الخطوات الاولى للسنغال المستقلة . ومن المخرجين الذين اهتموا بالتقاليد الشعبية " مصطفى ألسان" الذي ولد في النيجر ويعد من رواد افلام الرسوم المتحركة ومن ضمن أفلامه" المراكبي" وطاحنة الذرة" و " خاتم الملك كودا" . قدم مصطفى ألسان فيلماً يحكي عن التناقضات بين أخلاقيات المجتمع الافريقي واخلاقيات الغزو الاوربي واسماه " عودة المغامر"، وفي هذا الفلم يعود بطل القصة الى افريقيا من أمريكا ويحمل معه ملابس الكاوبوي هدية لاصدقائه؛ يلبس الشباب الملابس ويحملون البنادق ثم يغيرون على القرى المجاورة وهي محاكاة لافلام الويسترن وبصعوبة بالغة يستعيد حكماء القرية الامن ويحذرون الشباب من تكرار تلك الافعال.

أفرد المؤلف مساحة للمخرج السنغالي "عثمان سامبيين" وهو من الشخصيات الاكثر اسهاماً والاشد بريقاً في تاريخ سينما افريقيا جنوب الصحراء وهو روائي واول رواية له " عامل الميناء الاسود" وهي عن العمّال الافارقة الذين هاجروا للعمل بميناء مارسيليا؛ وروايته الثانية " وطني – شعبي الجميل" وهي عن اشكاليات الانتجلنسيا الافريقية التي تلقت تعليماً غربياً وعند العودى لبلدانها تفشل في الانسجام والتجانس مع واقعها الاصلي اذ انها مصابة بالاغتراب الثقافي وقد أصدر الكاتب كتاباً بعنوان " سامبين روائياً ومخرجاً سنمائياً افريقياً " وأفلام سامبين تناقش نقديا قضايا بنية السلطة والمجتمع السياسي الافريقي الذي خلفه الاستعمار وكذلك الانظمة الاخلاقية للمجتمعهات ويعالج ايضا في افلامه سياسات الافقار من قبل السلطات والرشوة والفساد .

(2)

افرد المؤلف القسم الاخير من كتابه بعنوان " المخرجون الجدد في مهمة تأسيس الظاهرة الجمالية" وهي مخصصة لدراسة التكوين الثقافي للمخرجين وانعكاسه في تشكيل اللغة السينمائية الخاصة بهم وكذلك التعبير عن خصوصية كل منهم ومحصلة الظاهرة الجمالية التي حققوها ويحققونها مجتمعين حتى الآن لسينما أفريقية في الشاشة السينمائية العالمية.

ويناقش المؤلف اهتمام المخرجين الجدد بالتكنيك الفني للسينما والابداع وآلية صناعة الفيلم نجد هذه الافكار في افلام " أولا بلاغون" الذي تلقى تعليمه بداكار وعمل في السفارة النيجيرية بباريس وكان يتحدث الانجليزية والفرنسية ( ساعدته في توسيع آفاقه ورؤيته) وجانب كبير من أفلامه تناولت المشاكل الثقافية وكان مهتماً بتطوير ثقافة اليوربا من خلال الافلام السينمائية. أما تناول السينما كظاهرة جمالية فقد مثلها المخرج سليمان سيسي من مالي وترك تأثيراً كبيراً على مجريات السينما في افريقيا الاستوائية واول افلامه الروائية كانت بعنوان " الفتاة الشابة" ويسعى الفيلم لالتماس الحياة اليومية ويحكي عن تزمت المجتمع واخلاقيات القبيلة وتعارضها مع مفاهيم الحياة الحديثة واهتم سيسي بالتعبير الابداعي واستبعاد الخيال ليقدم بعمق أحوال الطبقة العاملة التي كانت هي في طورها الجنيني في القارة الافريقية النامية. ظهر ذلك في فيلم " بالا ديارا" وهو شاب نزح من القرية للعمل في المدينة ويجر عربة لحمل اغراض الناس فيشاهد رجلا يطرد زوجته الحامل واطفاله من بيته فيرق قلب " بالا: ويحمل امتعة المرأة بدون مقابل .ثم يعمل مع أمرأة تاجرة ويتعرض للغش ثم يعمل في مصنع للنسيج وتحدث عدد من المشاكل المتعلقة باستغلال العمال . في هذا الفيلم تم تصوير صراع البروليتاريا الناشئة والمستغلة والمضطهدة مع البورجوازية الوطنية . اشتغل سيسي أيضاً على الاسطورة والحكاية الشعبية بجانب السحر والخرافة وكان مهتماً بالرؤى الاخراجية من قبيل التصميم الديكوري لعناصر التشكيل الفني .

مثّلت قضية الاحياء أو اليقظة الثقافية القاسم المشترك بين المخرجين الافارقة وكما نعلم فقد خلف الاستعمار تركة ثقيلة على بنية الثقافة الافريقية وكانت وسيلة لتطوير الوعي السياسي للجماهير . وكان ثمت اعتقاد بان مهمة السينما يجب أن تكون وبالدرجة الاولى ايقاظ الوعي الجمعي في سبيل تحقيق الاستقلال الثقافي..انصب الاهتمام على اعطاء الاهمية للتقنية باعتبارها مصدراً أساسياً لصناعة الفيلم .

(3)

كانت الاسئلة الرئيسية لهذا الكتاب تتلخص في" محاولة لاستجلاء حقيقة السينما الأفريقية من الزاوية الاصطلاحية توجه الكاتب بالسؤال لعدد من الوجوه والمسهمين في تطور الأفلام الأفريقية: هل توجد بالفعل سينما أفريقية؟ وهل يملك هذا المصطلح الحق في الحياة؟.وبالنظر لمحصلة الآراء والمواقف التي حصل عليها الكاتب أشارت إلى تعامل حذر أحياناً وناقص أحياناً أخرى نحو مشروعية مصطلح السينما الأفريقية. ومهما يكن من شيء في اختلاف الآراء بين وجود سينما أفريقية، أو وجود أفلام لمخرجين أفريقيين، فلأفريقيا فنها السينمائي.

بطبيعة الحالة تعاني السينما في افريقيا والتي لم تجد حتى الان سمات رئيسية او خصائص يمكّنها من اعطاء " السينما الفريقية " الاطار او الدقة لهذا المصطلح ؛ تعاني من اشكال الصناعة السينمائية ؛ وغياب الدولة عن المشاركة والانتاج في الصناعة السينمائية وخاصة ان السينما مورد يدر دخلاً على الاقتصاد الوطني وايضاً تعمل على ارسال رسائلها السياسية والاجتماعية والثقافية للجمهور بجانب التسلية وتعتبر وسيلة مهمة في نشر الوعي وتشكُّل الوعي الجمعي.بجانب انها آلية من اليات التعلم فهي أيضاً آلية للمقاومة ولنقد الظروف والحراكات اليومية في الدولة. في تقرير اعدته اليونسكو في 5 أكتوبر 2021 عن صناعة السينما في افريقيا تقول أن تعميم التّقنيات الجديدة، والكلفة المعقولة للمعدّات الرّقمية، والظهور القويّ للمنصّات الإلكترونية، مكنت هذه الاليات من بروز جيل جديد من صنّاع الأفلام الأفارقة. وقد عكس تقرير اليونسكو، بعنوان "صناعة الأفلام في إفريقيا: الاتجاهات والتحدّيات، وفرص النمو"، حيويّة السّنيما الأفريقية بفضل التّقنيات الرّقمية.

ولعلّ نولِيوُود Nollywood ـوهي التّسمية التي مُنحت إلى صناعة السّنيما النيجيرية- ترمز لوحدها إلى هذا النّموّ بإنتاجها السّنوي الذي يناهز 2500 فيلم. وهي صناعة محلّية للإنتاج والتّوزيع ظهرت إلى الوجود وأنتجت نموذجاً اقتصادياً خاصّ بها. غير أن الثّورة الرّقمية، التي بدأت منذ ما يقرب من عشرين سنة، وتسارعت وتيرتها بسبب جائحة كوفيد ـ 19، غيّرت من قواعد اللعبة.

ومع ذلك، فإن الإمكانات الاقتصادية لقطاعي السنيما والسّمعي-البصري ما زالت غير مستغلّة إلى حدّ كبير في معظم أنحاء القارة. والواقع أن هذه الصّناعة تعاني بشكل هيكلي من نقص التّمويل وتفتقر إلى التّطوير، فضلاً عن كونها لا تحظى بالمكانة التي تستحقّها كما لا تزال هناك تحدّيات في عديد المجالات من قبيل المساواة بين الجنسين، وحرية التّعبير. ووفقاً لدراسة أجرتها اليونسكو، فإن %87 يشيرون إلى وجود قيود صريحة أو رقابة ذاتية على ما يمكن عرضه أو تناوله على الشاشة.

أشار المؤلف الى صعوبة تسمية " السينما الافريقية " ولكن اذا قاربنا مفهوم الادب الافريقي حسب تنظيرات الشاعر النيجيري إتال تشينوايز في كتابه "نحو تفكيك الكولونيالية في الأدب الأفريقي"، بأنه الأدب الذي تتحقق فيه نقاط أربعة وهي: أن يكون القارئ المستهدف هو القارئ الأفريقي. أن تكون القضية التي يعرضها العمل الأدبي قضيّة أفريقية. أن تكون جنسية الكاتب أفريقية. أن تكون لغة العمل الأصلية أفريقية. فيمكن القول ان " مفهوم السينما الافريقية أو الفيلم الافريقي يجب ان يكون الفيلم الذي يستهدف جمهوراً أفريقياً ويعرض الهموم والأزمات الاجتماعيّة الأفريقية، إضافة إلى أن يكون مخرجها إفريقي المولد أو الجنسية، كما ينبغي الانتباه إلى جوهر تاريخي لا يحتمل الجدل، وهو توظيف اللغات الأفريقية المحليّة كوسيلة للتعبير الفيلمي.

استفاد الجيل الجديد من المخرجين الافارقة من التقنيات الحديثة والتطور الذي صاحب مناهج دراسة السينما في المعاهد والجامعات؛ ولكن بالطبع هناك اشكال يرتبط باالتمويل والرقابة القبلية ومنع عرض الافلام مما يعرض المخرجين لخسارة كبيرة .

الكتاب يفتح النقاش على مصراعيه خاصة في قضية التكوين الثقافي للمخرجين وأثره على السينما وصناعة الافلام فلقد كانت السينما ولا تزال سلاح الدعاية الاكبر وقد استفاد منها واستغلها هتلر بشكل كبير في مواضيع الحرب وبروباغندا تفوق الجنس الآري؛ ويمكن رؤية ذلك أيضاً بوضوح في سينما الولايات المتحدة ( هوليوود).ومابين الاصالة والحداثة تعاني السينما في افريقيا اليوم من عدة معضلات على سبيل المثال اللغة؛ فقد كانت معظم انتاجات افريقيا السوداء الفيلمية باللغة الفرنسية والانجليزية ولم تكن الصورة وحدها كافية للفهم الدقيق لسرديات الافلام للجمهور الافريقي؛ وفي قضية اللغة اثيرت نقاشات اكاديمية وقد نجحت في لفت الأنظار إلى هذه القضيّة فبدأ صنّاع الأفلام الأفارقة بتصوير أفلامهم باللغات الأصليّة وإدراج ترجمات بلغات أوروبية، وهي حركة هامة في تحديد هوية الفيلم أثارت جدلاً أكاديمياً حول هوية الأدب الأفريقي في الوسط المعرفي، بعد أن اعتبر أكاديميون أوروبيون أن الأدب الأفريقي المكتوب بلغة أوروبية هو أدب أوروبي، فلا يمكن استبعاد نتيجة مختلفة في حال تحدثنا عن هوية الفيلم الأفريقي بمعزل عن لغته الأصلية.معضلة أخرى تتمثل في عدم اهتمام السلطة بالسينما بما انها وسيلة تعليمية وثقافية في آن ومع ذلك فقد وقفت الدول ضد صناعة السنما سواء عن طريق تضييق الخناق على الموارد او منع العروض السينمائية والتضيق على حرية التعبير ...الخ وهو ما يلفت الانظار الى بنى السلطة في بلداننا التي تعاني وعلى الدوام من اضطرابات سياسية ومشاكل في ادارة تنوعها وهويّاتها.

يمكن القول ان السينما الافريقية لديها مدرستين؛ مدرسة المخرج ميد هيندو والمخرج عثمان سامبين. يسود اعتقاد لدى رواد مدرسة هيندو بأن الدعاية التي تظهر في هوليود ليست في موضوع الفيلم بل هي ممتدة سواء في سرد الاحداث والانساق الشكلية؛ وبناء عليه فان سينما افريقيا ينبغي لها ان تتبنى نهجاً فيلمياً يحمل عداءه الصريح للامبريالية من اجل مواجهة بروباغندا هوليوود. لكن رواد مدرسة المخرج سامبين يقولون بأن جمهور ما بعد الاستعمار يختلف عن غيره وينبغي للافلام ان تناسب توجهاته واذواقه ويحاججون بان هذا الجمهور متأثر بـ " سينما الالهاء" وهي سينما تعتمد على البنى الكلاسيكية في السرد وتطور الاحداث وعلى المخرج الأفريقي العودة إلى هذه الطريقة في صنع الأفلام المفهومة دون الوقوع في كليشيهات سينما هوليوود. هذا الاختلاف يعيدنا الى قضية التكوين الثقافي للمخرجين وتأثيرات ذلك على صناعة الفيلم وما ينبغي أن تقدمه السينما لتثقيف المجتمع أو تسليته اذ يحاجج بعض المشتغلين بالفن حول مهمة الفنون هل هي من اجل الحياة او الفن من أجل الفن.

***

أحمد يعقوب

صحيح أن "دفاتر فلسطينية" للشاعر والكاتب الغَّزاوي معين بسيسو تدور حول الحزب الشيوعي وتنظيماته في فلسطين ومصر والعراق ولبنان، وتحكي عذابات المعتقلين في سجون الأنظمة العربية بمختلف توجهاتهم الحزبية وميولهم السياسية، لكنها تبدو من جانب آخر أشبه بيوميات لمدينة غزة منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وبالأخص خلال الاحداث التي رافقت واعقبت يوم الأول من آذار عام 1955 الذي شهد انتفاضة قادها  بسيسو بصفته الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني وقتذاك، ضد مشروع توطين اللاجئين في شبه جزيرة سيناء المصرية فيما سمي بمشروع سيناء، فكان جواب المتظاهرين الشهير: لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان. وكانت غزة يومها تحت الإدارة المصرية.

ولد الشاعر معين بسيسو في بيت جده بحي الشجاعية في غزة يوم العاشر من تشرين الأول، أكتوبر عام 1926، ويسميه بسيسو في دفاتره الفلسطينية بحي السجاعية، بالسين لا بالشين، وكلاهما صحيح، فهو حي السجاعية مثلما نطقه جماعة من المصريين القادمين من مدينة المحلة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية في مصر واختاروه للسكن، وهو حي الشجاعية نسبة لشجاع الدين بن عثمان الكردي الذي استشهد على ثرى غزة أثناء موقعة من مواقع الحروب الصليبية. ومن بداية الدفتر الأول حتى الدفتر الحادي عشر من دفاتر معن الفلسطينية تحضر غزة في الصورة، أو في ظلال الصورة، في صميم الذكريات، أو على خلفية اليوميات، تحضر بتاريخها وأحيائها ونضالها ورجالها، وكلمتها الحاسمة في رفض التهجير، ومقاومة مشاريع إقامة الوطن البديل للفلسطينيين، منذ حسني بلال أول شهيد في قطاع غزة يسقط رمياً بالرصاص في تظاهرات الأول من آذار، وحتى آخر شهيد يسقط في القصف الوحشي الصهيوني الذي تتعرض له منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع من دون توقف، وبدعم ومباركة من الغرب المتحضر الذي ينظر بعين واحدة لما يحدث في هذه الحرب المجنونة التي تجاوزت كل المحرمات الإنسانية والأخلاقية، وانتهكت أبسط الأعراف والمواثيق الدولية المتعلقة بحماية السكان المدنيين أثناء الحروب، فتوالت المجازر تلو المجازر بحق الأطفال والنساء والمسنين والمرضى تحت أنظار دعاة المدنية والتحضر وحقوق الإنسان، بل بتشجيعم ودعمهم الذي فاق كل التصورات.

ثمانٍ وستون عاماً تفصل ما بين زمن حسني بلال الذي سقط وهو يحتضن شعار: " كتبوا مشروع سينا بالحبر.. وسنمحو مشروع سينا بالدم" وما بين آخر طفل فلسطيني يسقط في غزة ليمحو بالدم مشاريع الإبادة والترحيل والتهجير نحو وطن بديل يرفضه كل الفلسطينيين والعرب والمسلمين، ويرفضه أولاً وأخيراً أهل غزة الذين سُفكت دمائهم، وتقطعت أوصالهم تحت أقدام الهمجية.

***

د. طه جزاع

وددتُ لوْ يكون هذا الكتابُ جزءً أوَّلَ من سلسلةٍ تتعقَّبُ سيرةَ الكاتب الغنيَّة أحداثاً وعبراً. تتكوَّن عتبتُه من دالتيْن متساويتيْن صوتاً، متقابلتيْن دلالةً، موحيتيْن: "مسَّرات القراءة"، و"مخاض الكتابة"، وردتا مصدرين ميمييْن، يقول النحوُ: المصدر الميمي أقوى دلالةً على الحدث من المصدر الأصلي، فلفظةُ "مسرَّات" حدثٌ أوَّلٌ، ورد جمعاً، و"مخاضٌ" حدث ثانٍ، ورد مفرداً، والحدثُ الأولُ يحْكي عن تعاظم سرورٍ مصدرُه القراءة التي تبهج أكثر القراء، والثاني هلعٌ ووجعٌ مصدره الكتابة، كما يمارسها ويشعر بها الرفاعي، وكأنه لا يريد أن يتحدث عن شعور غيره، ممن لا يكابدون وجع الكتابة.

سعادةُ الكاتب تبدأ من ساعة إبحاره في عالم القراءة، شقاوتُه تبدأ من ساعة التفكير في الكتابة. القراءة عند الكاتب انعتاق وانطلاق، والكتابة معاناة وعسرٌ كعسر الولادة.

اختار الكاتبُ هذه الثنائية، يلج منها إلى أدب السِّيرة الذاتية، وهي طريقةٌ جديدةٌ، وطرحٌ غيرُ مسبوق، ولم يعتمد في إيراد سيرته على السرد الكرونولوجي لمراحل حياته، ولا احتذى بطريقة من طرق سابقيه، بل ربط سيرته بما هما توأما سيرته. القراءةُ والكتابةُ شريكتا حياته... حتَّى إنَّ المقدِّمة التي عادةً ما تكون توطئةً لموضوع الكتاب، ومدخلاً إليه، خصَّصها الكاتب لفن القراءة، فن إدارة القراءة.

يتحدث عن القراءة في طول كتابه كعاشق يعرف عن معشوقه أكثر ممَّا يعرف معشوقه عن نفسه، فهو شغوفٌ بها، لمْ يتوقَّفْ عن مغازلتها، والتودُّد إليها مدَّة حياته كلّها، فلمْ يستأنسْ، ولمْ ينفردْ إلاَّ بها، كانتْ تتعبُه ويستريحُ بها... الرفاعي ظمآنٌ قراءةً ظمأً مزمناً، ريُّهُ عينُ ظمئه، فهو غير قابلٍ للارتواء من القراءة إلا بالقراءة... عرفها من جميع نواحيها وزواياها، عرف فضاءها الحيوي قديماً في الكتاب، في لبوسه الورقي، ولمَّا ارتحل الكتاب إلى العالم الافتراضي، لمْ يشأ الكاتبُ إلاّ أنْ يرتحل معه، وهو مستعدٌّ لأنْ يصحبهُ إلى أيِّ فضاءٍ اختار... عرفه في المكتبات ومعارض الكتب، ودوَّن تواريخ شرائه وقيمة أثمانه، ولوحات أغلفته ونكهة أوراقه... (ص44)، عرض محاسن القراءة وثمراتها، ومنحنياتها وتطوراتها، ومزالقها وأعطابها، وهو واعٍ، ولم يُخفِ ذلك، بأن بعض القراءات تسبَّبت في نكْساتٍ وكوارث خطيرةٍ. هناك رواياتٌ قاتلةٌ قتلاً حقيقياً لا مجازياً (رواية يوهان غوته الألماني "آلام الشاب فارتر" أودتْ بحياة كثيرٍ من الشباب)، أمَّا القتلُ المجازي، والإعاقاتُ الذِّهنيَّة والنَّفسيَّة، فيذكر منها كتب التَّنميَّة البشريَّة مثلاً لذلك...

تضطرُّ الكاتبَ ظروفٌ خاصة، فيفرُّ من بلده العراق على وجه السُّرعة إلى البلد المجاور الكويت، يدخل البلد خائفاً مترقِّباً متوجِّساً، لكنَّه أَّول ما يفكر فيه اقتناء كتبٍ، لا تسوية وضعيةٍ (ص50)، ويقتني ذلك... وتمضي حياتُه كلُّها قراءةً، وإمعاناً في القراءة... لكنَّ القراءةَ تطوَّرتْ عنده، فلم تعُد حبيسةَ مساحة كتابٍ، ولا حبيسةَ حجمه، بالرَّغم من علاقته التَّاريخية الحميميَّة به، فقدْ أصبح بحكم التطوُّر للقراءة آفاقٌ وفضاءاتٌ، لم يصمَّ دونها أذنه، ولم يزورَّ عنها، بل جاراها، وترافَقَ في مسيرته معها.

الأفلامُ والمسرحيات واللوحات الزَّيتية، والمنحوتات قراءاتٌ، والتَّجوال والأسفار، والمهنُ والحرف، وأنواع التجارب والخبرات الإنسانية، ودهاليز النفوس البشرية الفاتحة والقاتمة، البسيطة والمعقَّدة قراءاتٌ، حتَّى السجن يصلح لأنْ يكون موضوع قراءةٍ، ولعلَّ كتاب فَرَاشَة Papillon، للكاتب الفرنسي هنري شاريار Henri Charrière، خيرُ مثالٍ، فقد صدر عام 1969، بيع منه 13 مليون نسخة في العالم، يتحدث فيه الكاتب عن تجربته القاسية في سجن جزيرة غويانا الفرنسية الرهيب، هذا السِّجنُ الذي أعِدَّ خصِّيصاً لعتاة المجرمين، وقد حُوِّلت هذه السيرة الذَّاتية إلى إنتاجٍ سينمائي ناجحٍ...

القراءة عند الرفاعي هي هذا الواقعُ كلُّه بما حمل "الواقع معلِّمٌ عظيمٌ" (59)، وقد تقاطع في ذلك مع ميخائيل نعيمة المفكر والناقد اللبناني الألمعي... لكنَّ القراءة مع أهميَّتها، وضرورتها عند الرفاعي، ليستْ هدفاً في حدِّ ذاتها، وليستْ تزجيةً للوقتِ، وهي ليستْ سيفَ مبارزةٍ في صالونات المناقشة والكلام، القراءةُ عندهُ "منتجةٌ للمعنى" (ص57).

يبدأ الكاتبُ حكايته ومغامراته في عالم الكتابة من الصفحة 62، تناول فيها محاولاته الأولى، قبل وبعد انتسابه إلى حوزة النجف الأشرف (ص64)، هي بداياتٌ أوليَّة مترنِّحة ككلِّ البدايات، ثم بدأ يتدحرج بها تدحرج كرة الثَّلج صاعداً بها إلى قمَّة الجبل، لكنْ تبيَّن له مع الأيام أنَّها مصدر آلامٍ ومعاناةٍ، ليس له بدٌّ منْ أن يحْتملها، فإذا كانتِ القراءة تمنحُه لذَّةً، فإنَّ الكتابة تمنحُه وجعاً مستديماً، "ربما هربتُ إلى حيلٍ نفسية، تنقذني من هلع الكتابة" (ص68)، كان إزاءها مشلولاً: "كنتُ أحسبُ أني مصابٌ بشلل الإرادة" (ص68)، والكتابة تعذبه "الكتابة تعذبني وتستنزفني" (ص69)، لها عنده فعلُ الإدمان، فهي قلقُه وهدوؤه "قبل الكتابة أقلق، حين أفرغُ منها أهدأ" (ص70)، ومصدرُ الآلام آتٍ من كونه يتمثَّلُ كتاباته، يعيشُها، ويتماهى معها، يكتبُ نصه، ويهذبه، ويضيفُ إليه، ويرجع إليه مرة بعد أخرى، ويعيشُ في جوِّهِ، وهو ربما يكون قد فارقه لموضوعٍ أوْ نصٍّ آخر... فنصوصه مسودَّاتٌ أبداً، حتى ولو كانتْ بيد قارئه، ويأملُ أنْ يجد بعض العزاء لدى قارئه، بل مستعدٌّ أن يدفع ضريبة أخرى، هي ضريبة الصدق والإخلاص يقدِّمُها راضياً بين يديِ قارئه.

عنوان كتاباته الصَّرامةُ والجِدُّ وَالجدَّةُ، قارئه المثالي هو الرِّفاعي نفسه، قبل أن يحيلها إلى قارئه الخارجي، يرى الكتابة تشذيباً متواصلاً، فهي "فنُّ الحذف والاختزال" (ص71)، وله في ذلك نفسُ رؤية أقطاب الفكر الحداثي، كما يرى أنَّ اللغة تُخْفي أكثر ممَّا تصرح، "أكثرُ الكتابات المنشورة تُخفي أكثر ممَّا تُعلن" (ص72)، ويذهبُ إلى أنَّ جوهر الكتابةَ كامنٌ في التناصِّ، فهي عصارة جميع القراءات السَّابقة "كلُّ كتابة حقيقية تختزل سلسلةً طويلةً من قراءة كتبٍ متنوعةٍ" (ص73)، فلا يمكنُ لكاتبٍ أن يُخْرِجَ نصاً محترماً إلاَّ إذا كانتْ حصيلتُه نصوصاً كثيفةً متراكمةً، يصهرها الفكرُ، وتلوِّنها العواطفُ، وتؤطِّرها الخبرة والتجربة، وتجوِّدُها الموهبةُ (ص102)، ويتحدث في عالم الكتابة عن عالم الترجمة، فيرى أنَّ الترجمة الصادقة هي التي تنقلُ روح الكلمات والعبارات، لا شكلها الخارجي، فلكلِّ لغةٍ منطقها الداخلي الخاص بها، الترجمة تجديدٌ للغة المنقولة إليها، تستقبلُ مصطلحات لا عهد لها بها، فتغتني وتتنوَّع وتتجدَّدُ، والترجمةُ حوارٌ بين لغتين.

ولكنَّ للكتابة عند الرفاعي جانباً آخر مهمّاً، هو جانبُ التَّجربة التي لا تتوفَّر في القراءة، فتزوِّده بخبرتها الخاصَّة، "الكاتب الصبور يتعلم من الكتابة أكثر ممَّا يتعلَّم من القراءة" (ص74)، ولأغلب الكتَّاب والشُّعراء طقوسهم الخاصَّة، وأزمنتهم عندما يباشرون الكتابة، لكنَّ الأمر عند الرفاعي يختلف، فهو لا يجدُها، ويعلن ذلك بعفويته "ليستْ لديَّ قواعدُ مُلزمة للكتابة، ولا طقوس..." (ص77)، لكنَّ أرَقَ الكتابة الحقيقية عنده، هي ما تتضمَّنُه، هي محتوى ما يكتبه، هنا مكمنُ صداعه المزمن، فهو يؤمن بأنَّ "الفرادةَ"، و "التَّميُّزَ" خاصيَّةٌ لازمةٌ لكتابةٍ ذات قيمةٍ، ذات مصداقيةٍ، يكونُ الكاتبُ فيها هو ذاته، حرّاً، لا إمَّعَةً مقلِّداً، يكون صدى غيره... لا يكون الكاتبُ عند الرفاعي "قيمةً مضافةً" إلاَّ إذا عاش ممارساً حريته الكاتب الشخصية... "يسعى الكاتبُ أن يعثر على صوته الخاص، ولغته الصَّافيَّة، وطريقه الذي لا يمرُّ عبر طريق غيره" (ص78).

يسعى الرفاعي أن تكون كتاباتُه زبدة مخاضه، لا يقدمها إلاَّ بعد تصفيتها خضَّةً بعد أخرى، فيُزيلُ كافَّة شوائبِها، فلا تكونُ إلاَّ زبدةً خالصةً "ما أكتبهُ...خلاصة تأملات عقلية، وتعبيراً عن خبرةٍ روحية وحياة أخلاقية" (ص78) ... إذَن فهو يشرَئبُّ نحو "الكتابة الإبداعيَّة"، ولا يسعى إلا نحوها.

يصارحُ قارئه بأنَّ قراءاته وكتاباته إنَّما هي حمياتٌ يتناولُها حرصاً على سلامته النفسية، وجلسات علاجية يتداوى بها من أمراض هذا العصر، أمراض الاغتراب النَّفسي، والقلق الناتج عن الحياة المركَّبة المعلَّبة، والشر الأخلاقي.

هذه الكتابة في نظره ترياقٌ لأدواء الروح والنَّفس والفكر... أدواء الطَّريق الطبيعية، التي تتحَّول مع الكتابة إلى سلالم للارتقاء والتكامل... هذه الأدواءُ هي أخطاء المسيرة الحياتية "الخطأ ضرورة لاستمرار الحياة وإثرائها وتجدُّدها" (ص84)، وهو من هذه الأخطاء، بدأ يتلمَّس طريق "الحقيقة"... الحقيقةُ هي جوهرةُ الإنسان المفقودة... لقد أدركها... "وأدركتُ أنَّ للحقيقة وجوهاً وطرقاً متنوعةً" (ص91)،

ويرى أنَّ للكتابة دوراً في ترقية الذات وتطويرها "أعيش الكتابة بوصفها أفقاً أتحقَّق فيه بطورٍ وجودي جديد" (ص76)، فكأنها حركة جوهريةٌ، إذْ يتماهى الكاتب مع قارئه، فهما معاً يتطوران أبداً... "العملية الإبداعية" عند الرفاعي تبدأ من القراءة، وتنتهي عند الكتابة النهائية... تبدأ لذَّة، وترتدُّ وجعاً، وتنتهي نشوة وسعادة.

مجموع الكتاب (23) ثلاث وعشرون مقالاً، يجمعها رباطٌ عامٌّ هو رابطةُ "السيرة الذاتية"، ورباطان خاصَّان، هما: "القراءة" و "الكتابة"، قد يتراءى لك من خلال قراءتك الكتاب، أنَّ الكاتب مهوسٌ بالقراءة، لكنَّ مع دقَّة الملاحظة، ستخرجُ بنتيجةٍ طريفةٍ، هي أنَّ الكاتب مسكونٌ بهوسِ الكتابة أكثر من هوسهِ بالقراءة... المتفحِّصُ لعناوين المقالات الثلاث والعشرين، لا يجد حضوراً للفظة "القراءة" سوى خمس مرات، مرَّةً واحدةً في فعل "يقرأ"، وأربع مرات في مصدر "القراءة"، بينما ترد لفظة "الكتابة" إحدى وعشرين مرةً: ثلاث عشرة مرَّةً مصدراً في كلمة "الكتابة"، ومرَّتين في لفظتي "الكتاب. كتابات"، ومرَّةَ واحدةً لكلِّ من ألفاظ " الكتب. مكتباتنا. مكتب. نكتب".

قد نستنتج حرصَه الدائب على "إبداعه المتميز"، والكلُّ عنده يعملُ من أجل ذلك، ومن اللطيفة أنْ تجد أنَّ ألمه بين لذَّتيْن، لذَّةٍ صغرى، وهي الحاصلة من فعل القراءة الأولى التَّراكميَّة، ثمَّ مرحلة الوجع في عملية الكتابة المخاضيَّة، حتَّى إذا استوى النصُّ بين يديه، وتكامل... دخل مرحلة الهدوء النَّفسي... مرحلة الارتخاء "قبل الكتابة أقلق، حين أفرغُ منها أهدأ" (ص70)، هي مرحلة اللَّذَّة الكبرى. استنتجتُ اللذة الأولى مع القراءات المتتاليات، ثم ممارسة الكتابات المتتاليات، وفيها الألم، ثم الوصول إلى النص النهائي، أي الجديد والإبداع، وهو عين اللذة الكبرى، فهو لا يتعلق إلا بالكاتب.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر كاتب جزائري.

...................

* مراجعة لكتاب: "مسرَّات القراءة ومخاض الكتابة"، تأليف: عبد الجبار الرفاعي، 2023، دار تكوين، الكويت، ودار الرافدين، بيروت.

في الذكرى الرابعة لرحيله

فائز الزبيدي: "كي لا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!"

قد يتصور بعضُهم العنوانَ غريباً، لكنه يذكّرنا بنبش القبور والتمثيل ببقايا رفات الموتى وإعدامهم في الصراع بين الأمويين والعباسيين!

فنحن إذن أمام عمل يحاكي التاريخ ويقدم أليغوريا الصراع بين الخير والشر وسيمفونيا انتقام يعاني منها بالذات المتعصبون حتى وقتنا الحاضر، لا سيما وأنه كُتبَ في زمن سقوط الأيديولوجيا وصعود الانقسامات الطائفية والسجالات الدينية والاتهامات بين الماضويين من ذوي الولاءات المذهبية.

تكمن أهمية كتاب "حادثة إعدام الموتى" للكاتب العراقي الراحل فائز الزبيدي1935-2019 في كونه يحمل وجهة نظر أدبية جديدة حول تناول واقعة الطف من عدة زوايا. ولأن مؤلفه معروف كفنان تشكيلي نظّمَ معرضه الشخصي الأول في الخمسينات، وساهم في تطوير الصحافة العراقية من خلال اتحاد الشعب وطريق الشعب، وحصل على الدكتوراه وأصدر نتاجات في الرواية والقصة والشعر، وهو إضافة إلى كل هذا وذاك، معروف كشخصية اجتماعية بين العراقيين في الخارج.

هذا الكتاب مكرسٌ لأسرار قَتْلِ الإمام الحسين ابن علي ابن أبي طالب سبط الرسول محمد هو وأسرته. ومن المعلوم أنه كُتب عنه العديد من الإبداعات لمبدعين من مختلف الخلفيات الثقافية و"الدينية"، ففي الشعر يكفي أن نذكر قصيدة "آمنتُ بالحسين" للجواهري في العهد الملكي 1947.  مطلعها:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَع

*

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

وقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد التي كتبها ونشرها في زمن الحصار على العراق إبّان حكم صدام حسين 1995. لم تكن مثل هذه الأفكار محرمة رغم خطر انتشار الأحزاب المذهبية والطائفية على الدكتاتوريات "القومية والوطنية".

وقال عنه عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته (في رحاب الحسين)

قَدِمتُ .. وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي

حَسيراً، أسيراً ، كسيراً، ظَمي

*

قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْ

سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ

*

فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين

مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي

ونقتبس هنا بعض النماذج الشعرية عن الحسين من مقال: "الحسين في الأدب العربي" الرائع للأستاذ محمد فايز جاد:

قال الشاعر الراحل أمل دنقل عن الحسين:

كنت في كربلاء

قال لي الشيخ إن الحسين

مات من أجل شربة ماء

وكذلك الراحل نزار قباني، حيث قال في "آخر جندي يخرج من غرناطة":

ظلي معي فلربما يأتي الحسين

وفي عباءته الحمائم والمباخر والطيوب

ووراءه تمشي المآذن والربا

وجميع ثوار الجنوب

وقال السياب في قصيدته "انتصر الحسين" التي يخاطب فيها يزيدًا بن معاوية:

وأسدر بغيك يا يزيد فقد ثوى

عنك الحسين ممزق الأشلاء

ولكنه، مع هذه الظلمة يرى أن الحسين انتصر، فيخاطب يزيدًا:

قم فاسمع اسمك وهو يغدو سبة

وانظر لمجدك وهو محض هباء

*

وانظر إلى الأجيال يأخذ مقبل

عن ذاهب ذكرى أبي الشهداء

*

كالمشعل الوهاج إلا أنها

نور الإله يجل عن إطفاء

وفي العامية المصرية  كرّست قصائد عن الحسين، بالذات بعد ارتداد ثورة يوليو، ففي "إني رأيت اليوم"، من ديوان "المانيفيستو" للشاعر المصري مصطفى إبراهيم، بعد أحداث شارع "محمد محمود"، يقول إبراهيم:

إني رأيت اليوم.. الصورة من برّة

وقلت الحسين لسة.. حيموت كمان مرة

*

إني رأيت اليوم.. فيما يرى الثائر

إن الحسين ملموم.. فوق جثته عساكر1

وصدرت أربعة أعمال مهمة عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب أصبحت من كلاسيكيات الأدب الحديث والمعاصر، مثل: "أبو الشهداء الحسين بن علي" 1945 لعباس محمود العقاد (توفي 1964)، و(ثأر الله): (الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا)، 1969 –1970 لعبدالرحمن الشرقاوي (توفي 1987)، و"أبناء الرسول في كربلاء" لخالد محمد خالد (توفي 1996) أما كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين فيختلف عن الأعمال المذكورة.

انتشرت هذه الكتب في فترة صعود التيارين اليساري والقومي في البلدان العربية، ولم يفكر أحد من جيل الشباب المتنور من غير الأوساط الدينية آنذاك بالولاءات المذهبية والطائفية على عكس الواقع الحالي حيث ظهرت حركات دينية طائفية متشدّدة ومتطرفة وتكفيرية. قد تكون هي السبب في إصدار هذا الكتاب للمؤلف فائز الزبيدي، الذي نحن بصدده في هذا المقال.

عناوين هذه النتاجات تفصح عن موضوعاتها وطريقة تناولها، حيث تعبّر عن قدسية سبط النبي محمد والإقرار بثورته والتعاطف معه ومحبته، لكن دون تكفير الآخر وشتمه. الشرقاوي مثلاً تحدثَ عن حبه الكبير للحسين في إهدائه لكتابه، وذكر الكاتب اللبناني اليساري حسين مروه هذه الميزة. أما خالد محمد خالد فوصفَ واقعة الطف بقدسية يؤمن بها ملايين الناس من كل العالم: اليوم الفريد والمجيد والرهيب عالمياً كما أشار الدكتور زكي الميلاد.

وميّز محمود عباس العقاد بين الحسين الهاشمي المثالي "المبدأي" ويزيد سليل الأمويين الأصلاء العبدشمسيين (من عبد شمس). وعندما أشيرُ إلى هذه النتاجات عن الحسين فأتذكر أن بعض أفراد جيل الشباب من مختلف الانتماءات الفكرية والمذهبية في السبعينات أقبل على قرائتها، وتأثر بها وترسخت صورة الحسين "الثورية" والميثولوجية الشعبية  في القلوب قبل العقول.

ويشير الباحث السعودي زكي الميلاد (ولد عام 1965) الحائز على جائزة الثقافة والإعلام للكِتابْ السعودية عام 2017 إلى انبهاره بمسرحيتي: "الحسين ثائراً" و"الحسين شهيداً" لمؤلفهما عبدالرحمن الشرقاوي صاحب رواية "الأرض" الواقعية المشهورة حيث يقول: "هذا هو الشرقاوي الذي حفر في وجدانه حبًّا عميقًا للحسين، فحفر في وجدان الآخرين حبًّا له"2.

ويكرر الأستاذ زكي الميلاد نفس الإعجاب  في مقاله الآخر: العقّاد وأبو الشهداء3.

أضحى الحسين شخصيةً "ثوريةً شعبيةً" يجسد استمرارَ التقاليد الشعبية الاسطورية والميثولوجيه كما يتضح في إحياء ذكرى مقتله بطريقة "التشابيه" الحية في الشوارع والساحات العراقية منذ الستينات، التي لا تختلف عن مسرح الطقوس.

ولهذا ليس من الغريب أن يكرس الفنان التشكيلي الكبير كاظم حيدر1932-1985 عدة لوحات لتمثلات الطف مثل "ملحمة الحسين" و"مصرع إنسان" التي غيّر اسمها إلى:"ثورة الحسين" وهي موجودة في قاعة الفن الحديث والتي حلّلها د. فائز الزبيدي في مقدمته لكتابه الحالي الذي نحن بصدده، ولوحته الثانية: "ملحمة الحسين. وكرّس أغلب الفنانين التشكيليين العراقيين الكبار لوحاتِهم لواقعة الطف.

ومن المفيد القول هنا إن عدداً من كتّاب القصة العراقيين تناولوا في قصصهم هذه الموضوعة في بداية التسعينات، وقد أشار أيضاً بعضهم إليها في حوارات لي معهم عن أعمالهم والمسرح كطقس.

فكريًّا انحاز العقّاد إلى موقفَ الحسين واعتبره شجاعاً، بينما يزيد مناقض له ولايقارنهما بينما لم يقحم فائز الزبيدي نفسه بهذه المهمة ظاهريا مفضلاً تناولها في العمق ومابين السطور.

والاختلاف الجوهري بين تلك الأعمال أنها تناولت شخصية الحسين بقدسية لكن ليس بعيداً عن الأدبية والتاريخانية ايضاً على عكس كتاب فائز الزبيدي، إذ إنه يحمل وجهة نظر أخرى مختلفة بعيدة عن التقديس.

وهو ليس بغريب على كاتب مثل فائز الزبيدي، حيث يمكن بحسب رأيي الشخصي أن يُقال عنه، إنه لا يريد أن يكرر الآخرين، وإنما يمحّص كل ظاهرة قبل أن يكتب عنها، وبالذات إذا ما انتشرت وأثّرت على الحياة العامة.

بالنسبة لكتابه "حادثة إعدام الموتى"، فإن فائز الزبيدي لا يريد أن يكتب عنها بالأسود والأبيض ولا يصنف أبطالها بهذه الطريقة، ولا يأبلس الملائكة ولا يجعل من الشياطين ملائكة، بل أراد الغوص في أعماق شخصيتَي "الأمير" الشاعر الإنسان ثم الخليفة يزيد بن معاوية، ويسبر عالمه الداخلي ويقدّم سرديتَه من عدة جوانب.

ولا يعني ذلك أن فائز الزبيدي يبرر جريمة القتل، لكنه يريد أن يقف عند حيثياتها وأسبابها ويميز بين مغزاها التاريخي واللاتاريخي الميثيولوجي والديني والشعبي، وهذا طرح جديد جريء في تناول موضوعة الحسين، له دور كبير في الفكر العربي المعاصر.

وفائز الزبيدي لا يحب المسلمات، أو لا يقبل الأمورَ على عواهنها، ولهذا اخذ هذه الموضوعات بجدية ودراستها عن كثب، لا سيما وأنها سُيّستْ واستهلَكتْ المجتمع العربي في الوقت الحاضر، وهو كاتب اجتماعي يؤمن بدور  المسرح التوعوي فاختار نصاً مسرحياً لهذه الموضوعة، لكن ليس بدون عناصر الأنواع الأدبية الأخرى.

وأنا شخصيا أعتبرها مساهمةً كبيرةً ليتبين بأن المسلمين عموماً في الوقت الحاضر ليسوا معادين لأهل البيت كما يحاول بعضهم تصوير ذلك "للتجييش" السياسي.

‏الأمر الآخر الذي أودُّ أن اتوقف عنده وبالذات بسبب معرفتي بأسلوب الكاتب الراحل فائز الزبيدي هو اللغة فإنه أولى أهمية خاصة لفنيّتها. وأنا أتذكر أحاديثَنا الشخصية حولها منذ التقينا أول مرة في السبعينات حيث كنت في مقتبل العمر حيث ميّزنا اللغة المباشرة والتقليدية والأدبية، وكان يؤكد اهتمامَه بمستواها. لكني طبعاً لا أقصد هنا ضرورة أن تصل اللغة إلى مستويات تدخلها في متاهات قد تؤدي أحياناً إلى التعقيد والغموض كما هو الحال عند فوكنر وجويس.

قدم الشاعر الدكتور صلاح نيازي لمسرحية "حادثة إعدام الموتى" بمقدمة رائعة جداً، وهو الذي عرف فائز الزبيدي في عنفوان شبابة حيث كان يدرس معه في دار المعلمين، وحددَ نوع هذه المسرحية.

لكني أريد أن أشير أيضا إلى مقدمة يمام فائز الزبيدي الرائعة جداً المختصرة المكثفة ذات الدلالات العديدة كونها  حقّاً تصوّرُ حالةَ المؤلف الحساس والده في فترة التسعينات حتى يوم رحيله، وكان يمارس لعبة التعليق بالصمت.

وأنا أعرف فائز الزبيدي معرفة جيدة، وأدركُ ماذا يعني الصمت بالنسبة له فكان يلوذ ويجيب به على الأسئلة، إنها معاناة المثقف الملتزم الثائر الحائر.

يشرح يمام الزبيدي خلفية هذه النصوص، فهي تعود إلى أعوام 92 93 97 98 حتى 2000، وفهمتُ ان فائز الزبيدي أيضا كان مشغولاً أو يفكر في البحث عن القالب الأدبي المناسب لعمله: "حادثة إعدام الموتى"، هو يقول: ما بين النثر والشعر والمسرح والفصحى والعامية4.

هذا العمل  بالنسبة لي، خلطة هجينه جميلة من التخيّل التاريخي والسرد المسرحي والقصصي والتخيل التاريخي، تتميز بحوار بالمحكية أحيانا والفصحى، فضلاً عن الشعر الحر والعامي الشعبي والزهيريات، التي أعرف شخصيا شغفه بها، فهي تعبر عن حالة الكاتب وسارده وأبطاله وموضوعته.

وأشير إلى أنه نفسه قدم كتابه بمقدمة قد تكون في بعض المقاطع عصيّة الفهم على القارىء، لكنها أيضا قد تعبر عن حالة الكاتب في عدم وضوح بعض المواقف أو وجهات النظر ومنطلقاته لتفسير الحادثة.

‏ومن الأمور المهمة التي أشار إليها يمام الزبيدي انه يشرح او يصور حالة والده الكاتب أو عزلته عن العالم فيقول: "رحل أبي بعد مرضه روحياً وجسدياً" ...  إن ما في الملفات هذه النصوص قد يكون يحصل بها اختلافات"، وقال إن والده "كان ما بعد الحرب الثانية كأنه يستعد لها بالتمارين المستمرة على لعبة التعليق بالصمت، ابتعدَ عن الناس وامتنع عن الرد على الهاتف عن البشر".

‏أود أن أشير إلى تخطيطات (وجوه) فائز الزبيدي، إنه يعشقها، وأنا اتذكر جيداً من لقاءاتنا الأولى كان مولعاً بها يمارسها حتى اثناء جلساتنا، وأتذكر أني أعجبتُ جداً بها، وتألمَ في ذلك الوقت لأني لم أكن أعرف اسمَه كفنان.

طبعاً هو فنان تشكيلي أقامَ معرضه الشخصي في الخمسينات، لكنه مع ذلك لم يستمر في هذا المجال لظروفه الخاصة. فأصبح الفن التشكيلي بالنسبة له هوايةً وانشغَلَ في الدراسة والحياة وانكساراتها ومطبّاتها والبحث والنقاش الفكريين والكتابة، وانصرف عن عرض تخطيطاته، أو احتفظَ بها لنفسه بعيداً عن المعارِض.

لا يحب فائز الزبيدي التكرار أو الكتابة عن موضوعة بطرقٍ تقليدية:

اكد الكاتب الفاضل الصديق د. صلاح نيازي على أنه وطيلة الفترة الأولى التي تعرّف فيها إلى فائز الزبيدي لم يطلع على مذهبه، وأنا احترم جداً انطباعَه، أغلب العراقيين لم يكونوا مذهبيين (طائفيين) بالذات جيل الشباب الجامعي في الستينات والسبعينات، لكن مع ذلك أقول هنا إني عندما تعرفت إلى فائز الزبيدي، وهو كان بالنسبة لنا مثل المدرس ونحن في العشرينات من العمر بينما هو في الاربعينات كنا نستمع له، وكنا نتطرق إلى التاريخ بخاصة عن العلاقة بين الإمام علي والسيدة عائشة، وكان يقف إلى جانب الإمام علي بحماس، وينتقد السيدة عائشة وعمر بن العاص ومعاوية والخ، وكان "متحزباً" للإمام علي ، ليس بالمفهوم الديني طبعًا بل التاريخي و(الشعبي الميثولوجي بشيء من الرومانسية فيما يخص التشابيه الحسينية كطقوس).

ومقدمة الراحل فائز الزبيدي لكتابه "حادثة إعدام الموتى" مهمةٌ، للغاية، ينبغي على القارئ أن يقرأها إذا كان يهتم بفنيّة تناول الحدث ويحب أن يجد قالباً خاصاً لهذا النتاج، لكني فضلت قراءة النص قبل الاطلاع عليها، لأستمتع به وأرى طريقة تناوله لهذه الموضوعة.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌ ممتع، ولا بدّ لي هنا من الإشارة إلى بعض أفكار مقدمة الكاتب مثل فكرة التماهى مع الحسين، كما يؤكد عليها الكاتب ليست لدى الشيعة فحسب، بل السنّة أيضاً. ص 26

وأنا أرى تعلق الناس بالحسين أكثر "طقوسية" وشعبية وتراثية بالذات في مصر مثلاً، لكنه أقلّ حدة وخالية من الكاثارسيس (جلد الذات) مما هو لدى بعض أوساط الشيعة، من الذين ورثوها كتقاليد وطقوس منذ طفولتهم.

الأمر الآخر هو الدعاء والبكاء كطقوس مثلاً، فهذه كلها بعد مقتل الحسين اختلطت بالتاريخي واللاتاريخي وأصبحت اليوم من الميثولوجيا وهو سماء التعليق الجماعي على الموقف بالبكاء الطقسي فالزبيدي يعود بجذور المقاطع الحسينية إلى الذاكرة الشعبية من سهوب سومر القديمة. وهذه طبعاً تحتاج إلى إيضاح وتوثيق ودراسةٍ خاصةٍ. ص 19

يُعد المقتل الحسيني جزءًا من طقوسٍ مسرحيةٍ وأشار إلى ذلك  د. سليمان قطايه، كما يذكر فائز الزبيدي.

كذلك طغيان الخيال يجعل الراوي أقرب للشاعر الملحمي الشفاهي الجوال. ص 20

يقارن فائز الزبيدي المقتل بالميثولوجيا الدينية  البطولية في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد. ص 22

وأودُّ أن أذكر أن كاثارسيس تعنى التطهير والتنقية والتنفيس و"جلد الذات" هي كلمة يونانية، وكانت تُمارس كطقوس إلى وقت متأخر في بعض مناطق أوروبا. وهذا أمرٌ يحتاج إلى دراسة عن كثب وتدقيق ومقارنة.

ويحلل فائز الزبيدي عمل الفنان الكبير كاظم حيدر لوحته "مصرع إنسان" بطريقة ناقد تشكيلي، ويشيد دكتور صلاح نيازي به، ثم تحدث بالتفصيل عن عمله الثاني (لوحته): "ملحمة الحسين" الموجودة في قاعة متحف الفن الحديث. تتميز باللا تاريخية وخلودها. ص 23-25

لا يصور فائز الزبيدي في مسرحيتة الطقوسَ والميثولوجيا التاريخية بل يكرس النص الى اعادة فلسفة الحدث التاريخي بطريقةٍ أدبيةٍ، وهنا إذا قارنّا بين طرحه وما كُتب عن الإمام الحسين سابقاً، فإننا لا نقول إنه يقف على الضد، بل على الأقل يختلف من حيث تحليل الشخصيات الأدبية بمن فيهم الإمام الحسين المجاهد في حياته والثابت في إيمانه وموقفه كما يصوّره  من خلال حوارات المسرحية.

نجد في هذا النص المسرحي التحليلَ وإعادةَ فلسفةِ الأحداث والغوصَ في أعماق النفس البشرية، بالذات الخليفة والشاعر "الإبيقوري" يزيد، كما يصفه الكاتب لكن بدون إصدار الأحكام الجاهزة عليه، والحسين وعائلته، والحادث كله ليس جريمة اغتيال وإنما يصوره كما لو أنها نتيجة عمل فرقة عسكرية تابعة لسلطة الخليفة قامت به، للقضاء على تمرد أو لنقل: "ثورة أو انقلاب".

الملاحظ أن فائز الزبيدي يتدخل بنفسه اثناء السرد المسرحي وضمن المتن، يُسلّحُ القارىء بتفسيراتِ الأحداث، من ذلك مثلاً يقدم لشخصية يزيد: "دفعت حادثة قتل الحسين بيزيد إلى الطرف الآخر النقيض من منطوقه "السلبي والإيجابي"، ... فاسق ... وبحثَ ناس في جذور هذا الجانب من شخصية يزيد، كما فعل الاستاذ الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه "الإمام الحسين"". ويقول أيضا: "لقد أصبح يزيد شخصية سلبية مغلقة،... لقد بدا لي يزيد في صورته شخصيةً بلا جذور، بلا ما ضٍ، أي كأنه وجد هكذا، جاهزاً: نذلاً بلا دوافع. وهذا ما استوقفني وأنا اكتب السطور الأولى من حادثة إعدام الموتى. فسعيت إلى إعادة النظر في هذه الشخصية. لاحظ هذا مهم جداً في السعي إلى إعادة النظر في هذه الشخصية: ترى من كان حقاً ذلك ال "يزيد" المنزوي في الطرف النقيض للإيجابي في منطوقة الخير والشر؟" ص 58

فإننا، إذن هنا أمام عمل فني مسرحي "أليغوري" عميق أو "منطوقة" كما يسمّيه الكاتب، يصوّر الصراع بين الخير والشر، رمزي  وليس سرديةً تاريخيةً وعظية عن مسلّماتٍ مقدّسةٍ.

ويبرر عاشق المسرح فائز الزبيدي هنا أسلوبَه وعمله وطريقته، فهو لا يأخذ الأمور على عواهنها كما قلت سابقًاً، يقول: "وجدت أنّ الدراما الجادة يجب أن تنظر في شخصية يزيد من حيث هو شأن جيله ...  شديد التعقيد. فتراث العرب كله، الذي ظل مستقراً منذ زمن لا تُعرف بداياته تعرض وجيل الحسين ويزيد في صباه، للزلزال الذي أحدثه الإسلام، فكل شيء هو ذاته وليس هو،... الحديث عن  يزيد: إرثه العبشمي. إنه وريث عبد شمس... الثرية، المتبطرة، التاجرة، حتى في تعاملها الذرائعي البارع مع الحركة الجديدة (الإسلام)، الحسية إذا ما قورنت بهاشم. وهو لم يتغذَّ بإرث عبد شمس المكية، بل في البيت الفريد من بيوت عبد شمس المقبل على سيادة العالم: بيت معاوية بن أبي سفيان. لقد رأى يزيد بعينيه الذرائعيةَ وهي تحقق الانتصار تلو الانتصار على "القيم" الجديدة باعتبارها صوراً ذهنية.

كان يزيد شاعراً أكثر منه خليفة، كان حسيّاً، أبيقورياً دونما فلسفة، لايعبأ بالصور الذهنية عن الوجود، ويستغرب أن يفتدي الناس بأرواحهم قيمة ما مجردة. باختصار كان له موقفه الخاص من العالم، وحين يلجأ الأدب إلى اختصاره الى مجرد رجل تافه، فإنه يختصر المشكلة ذاتها: قتل رجل بسبب فكرة، ... بهذا السعي إلى فهم الشخصيات التزمتُ معالجة موقف المشتركين الآخرين في حادثة القتل تلك مثل عبيد الله بن زياد والشمر بن الجوشن، أي أنهم هنا شخصيات أدبية وليست تاريخية". أنظر مقدمة المؤلف لكتابه.

لا بدّ من القول إنه من الصعب هنا التمييز بين التاريخي والأدبي في مثل هذه الواقعة التي هزت الإسلام وقسمته، وهنا تكمن الصعوبة بالذات عندما يدور الحديث عن شخصية مهمة ومقدسة لدى أغلب المسلمين.

الكاتب يتحدث هنا بنفسه عن الحدث، يحلل نصه كناقد وليس كشخص من شخصيات السرد، ليس كراوٍ هنا يمكن أن يتحدث عن نفسه ويعلق على الآخرين والأحداث، وممكن أن نجد آراءَ المؤلف في حديث الراوي.

صحيح أن المؤلف ليس شخصيةً هنا في هذا النص، ولاسارداً عليماً أو راوياً لكنه بالتأكيد يقف خلف شخصياته الأخرى. أنظر ص 59- 58

وبشكل عام، يمكن القول إن جوهرَ فكرةِ "حادثة إعدام الموتى" لا يختلف كثيراً عن محمود عباس العقاد وبعض الكتّاب الآخرين في محاولتهم لتصوير الواقعة تاريخياً وأدبياً، ليست مقدسةً دائمًا رغم ميلهم للحسين، بل كأنها "ثأرية" بين أبناء عمومه أو قبيله واحدة، بين الهاشميين "المبدأيين، المثاليين" والعبدشمسيين "الأريحيين"، لإنصاف يزيد فهو في النهاية بنظر المذاهب غير الشيعية ليس كافراً، ويظل خليفةً وشاعراً يختلف عن جنودِه الذين نفّذوا جريمةَ قتلِ الحسين، ويُشهد له بحسب رواياتٍ، غير مُتفق عليها، بأنه (يزيد العبدشمسي) "أحسن" معاملة "أبناء عمومته" أسرة الحسين وأكرمهم. تختلف الروايات هنا حول هذا الموضوع لكن المؤكد أنه سليل العبدشمسيين الذين وصلت حضارتهم الى بلاد الأندلس.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌّ مسرحيٌ يتميز بلغةٍ غنيةٍ تحتاج إلى التأمل والتفكير، يهتم بتحليل الشخصيات نفسياً قبل تصنيفها حسب مواقفها، يتضمن إيحاءات تجسدُّ استمرارَ سمفونيةِ الكراهيةِ والقتلِ وإعدامِ الموتى حتى في الزمن المعاصر، لهذا يستحق القراءة والتمعن في أفكار شخصياته المثيرة للجدل والخلافات المستمره!

إنه نتاج أدبي مهم كتبه مؤلفه الراحل فائز الزبيدي "كيلا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!" على حد تعبيره.

 ***

د. زهيرياسين شليبه

..................

المصادر:

1- أنظر بالتفصيل: محمد فايز جاد. الحسين في الأدب العربي.. رمز الثورة في وجه "يزيد"، جريدة الأهرام

10-10-2016

2- أنظر: زكي الميلاد. الحسين في الأدب المصري الحديث. شبكة النبأ 17 تشرين الأول 2019

3- زكي الميلاد. ملحق المدى. 15/09/20122

4- فائز الزبيدي. حادثة إعدام الموتى. 2022 لندن أنظر في الكتاب مقدمة يمام فائز الزبيدي، والشاعر الدكتور صلاح نيازي ومقال فائز الزبيدي عن أعمال الفنان كاظم حيدر، وشروحه ضمن متن النص المسرحي عن أحداثها.

وأشير هنا إلى أني اكتفيت بكتابة رقم الصفحة بعد كل اقتباس من كتاب "حادثة إعدام الموتى" موضوع مقالنا الحالي.2063 الفنان كاظم حيدر

ملحمة الشهيد للفنان العراقي الكبير كاظم حيدر 1932-19852064 كاظم حيدر

لوحات اخرى للفنان كاظم حيدر المكرسة لتمثلات واقعة الطف

2065 الفنان كاظم حيدر

كتاب من تأليف طه حسين (1889- 1973)، الأديب والناقد المصري الذي يعد من أبرز رموز التيار الفكري الحداثي إبان عصر اليقظة العربية. صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في سنة 1925، لتعيد مؤسسة هنداوي نشره خلال العام 2018 في طبعة جديدة. يجول بنا الكاتب في مؤلفه الشيق هذا لنتعرف أهم المحطات الفارقة في تاريخ العقل الإنساني، انتهاء برصد المآل الذي انتهى إليه الفكر حديثًا، متوسلا في ذلك بأسلوب لغوي سلس وماتع، خال من أي حشو أو إطناب.

 في البدء ينبه صاحب "الأيام" إلى أن اليونان كان لهم قصب السبق في ريادة الفكر الإنساني، ولعل مكمن الشبه بينهم وبين العرب هو أن الحياة اليونانية كانت تقوم في بداوتها وأول عهدها بالحضارة على الشعر، ولا سيما في جنسه القصصي (يروي قصص وملاحم الأبطال)، والذي شكل النواة الأولى لألوان لاحقة من الشعر (الشعر الغنائي، الشعر التمثيلي... الخ). على أن تأثير الشعر اليوناني قد جاوز حدود اليونان ليُمسي إرثا مشتركا للإنسانية تاركًا بذلك بصمته على الشعر الحديث، مثلما يذهب إلى ذلك المؤلف.

إلا أن قيادة الفكر قد انتقلت فيما بعد من الشعر إلى الفلسفة من جراء تطور وتعقد الحياة الاجتماعية والاقتصادية لليونان، ليبزغ نجم طائفة من الفلاسفة الأفذاذ، وفي جملتهم سقراط (399 ق.م – 470 ق.م)، والذي امتاز عن الفلاسفة المعاصرين له بكونه لم يلهث وراء مال أو شهرة، فضلا عن كَلَفه بالحقيقة خلافا للسوفسطائيين الذين أزروا بقيمتها. كما خلب صاحبنا ألباب شباب عصره، واعتمد الحوار منهجا لاستكناه الحقائق.

إن فرادة سقراط تكمن في كونه جعل من الإنسان موضوعا للفلسفة بدل الكون، إذ شدد على أن معرفة النفس البشرية والإحاطة بدواخلها هي أسمى أنواع المعرفة، كما رأى بأن السعادة الفعلية إنما مردها إلى الخير والعدل، ومن هنا الطابع الأخلاقي لفلسفته المناقض للمنزع المادي والنفعي المحض لمعاصريه من السوفسطائيين. على أن الفيلسوف اليوناني قد أثار نقمة وحنق الطبقة الأرستقراطية بطعنه في الأخلاق والعادات المتوارثة، والتي في جملتها الدين الوثني القديم. كما ألب عليه، في الوقت عينه، أنصار الديمقراطية المتطرفة، بحيث لم يُخف بغضه لذلك النظام من حيث هو وسيلة لتثبيت سيطرة الدهماء والجهلة دون اعتبار للكفاءة أو الفضيلة، الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد المحنة القاسية التي انتهى إليها.

مرورا بأفلاطون (347 ق.م – 427 ق.م) الذي عاش في سياق مطبوع بالاضطرابات والحروب الدامية، مما حدا به إلى البحث عن النظام الملائم للحياة الإنسانية بعد التآكل الذي طاول النظم والعقائد الاجتماعية القديمة (الديمقراطية، الأرستقراطية... الخ). كما تعاطى صاحبنا الميتافيزيقا، فاعتبر أن العالَم المحسوس أو الظاهر إنما هو صادر عن عالم الحقائق الخالدة أو الإله من حيث هو العلة الأولى للموجودات كلها، فاتخذ بذلك كلا من الإنسان والكون موضوعا لفلسفته.

أما بالنسبة للنظرية الأخلاقية الأفلاطونية، فهي تنصرف إلى أن السبيل الأقوم إلى الفضيلة والعدل والسعادة هو التوازن بين القوى الثلاث المؤلفة للنفس البشرية: العقل، القوة الغضبية / الشجاعة، ثم اللذة والشهوة. على أن مذهبه الأخلاقي هو أس وقوام فلسفته السياسية، إذ شدد على أن النظام السياسي والاجتماعي الملائم للحياة الإنسانية هو الذي يتحقق فيه ذلك التوازن المومَأ إليه آنفا، بحيث تجسد كل طبقة من الطبقات المشكلة للجمهورية جانبا معينا من جوانب النفس البشرية. فطبقة الفلاسفة الرؤساء التي يؤول إليها الحكم تمتاز بفضيلة العقل، وطبقة الجنود المحاربين تتصف بالشجاعة والبسالة الحربية. وصولا إلى الطبقة الثالثة، طبقة المزارعين والتجار والصناعيين، والتي تُعنى أساسا بسد حاجات الجيش والحكومة. بيد أن أفلاطون نفسه قد عدل عن جوانب كثيرة من نظريته هاته بعدما استبين شططها ولاواقعيتها، وذلك في كتابه الأخير "القوانين les lois".

وصولا إلى أرسطو (322 ق.م – 384 ق.م) الذي اعتمد منهجا مختلفا عن أسلافه ينبني على البحث العلمي والدقة اللغوية، فقد كان عالما قبل كل شيء، حيث عُني بتنظيم وتقعيد العلم الإنساني وقوانين التفكير والتعبير، إذ استكشف قوانين القياس والاستقراء وغير ذلك من الآثار العلمية. كما كانت نظرته للأخلاق نسبية، فليس ثمة خير مطلق أو شر مطلق، إذ ما أراه أنا خيرًا قد يلوح للآخر شرا، ومن هنا تتغير نظرتنا للأخلاق تبعا لتغير الظروف والأفكار السائدة في المجتمع.

وفي طور لاحق، انتقلت قيادة الفكر إلى السياسة بعد خفوت بريق الفلسفة، مثلما يرى طه حسين، وذلك بفضل شخصية تاريخية استثنائية، نريد بذلك الإسكندر المقدوني، الذي أسهم في نشر حضارة اليونان على نطاق واسع بعد إخضاعه للشرق. فقد كان، بحسب الكاتب، ذا منزع كوسموبوليتي يتشوف إلى تبديد الفوارق بين الشعوب المفتوحة، ومن ثم تحقيق هدف كثيرًا ما سعى إليه الفلاسفة وهو توحيد العقل الإنساني وطرق الحكم والغايات، ناهيك بإسهامه الأكبر لجهة حفز التلاقح الحضاري والثقافي بين الشرق والغرب.

ثم لم تلبث أن انتقلت قيادة الفكر من الفلسفة، فالسياسة إلى الدين طوال حقبة القرون الوسطى (المسيحية في الغرب، الإسلام في الشرق). أما السمة المميزة لعصرنا الحديث، في نظر طه حسين، تكمن في تَوَزع قيادة الفكر بين جميع تلك العناصر (الأدب، الفلسفة، العلم، السياسة، الدين) بفضل ما يعرفه العصر الحديث من ذيوع غير مسبوق لوسائل الطباعة والنشر الحديثة (منذ اختراع المطبعة)، الشيء الذي أفضى بالتبعة إلى تَعَدد الآراء والمذاهب، ومشاطرتها التأثير في نفوس وعقول الناس. كما أن قيادة الفكر كفت عن أن تكون وقفا على أمة أو حضارة بعينها، بقدر ما باتت مشتركة بين الأمم المتحضرة جميعا، فلكل منها فنونها وآدابها ونظمها الخاصة. 

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

الصفحة 1 من 6

في المثقف اليوم