قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

كشاف ضوئي:

عبر إضاءة فائقة الاضاءة، نجد أنفسنا أمام دراسة/ منجز (1) يبدو متفردا من حيث تركيبته ومعطياته عن أغلبية الأبحاث الفرجوية التي أثارها العديد من الأنتربولوجيين والإتنولوجيين ومفكرين متميزين، ومتخصصين في عوالم المسرح، وقضاياه المعرفية/ الفرجوية، الذي استعان بهم المنجز، الذي هو في الأصل أطروحة جامعية: نوقشت سنة1992 (ص5) بحيث جزء يسير منها تم نشره في (2) وبعْض منه في الأصل مستند على منجز سابق (آثار التلقي) وهذا بدوره جزء منه تم نشره في (3) فبصرف النظر عن الظروف الذاتية للباحثة " نوال بنبراهيم" التي تحكمت في اختيارها للموضوع في سياق مجريات الخصوصية التاريخية والثقافية والجغرافية والبشرية، المفعمة في البحْث. لأن أي كتابة كيفما كان نوعها أوقيمتها؛ حينما تصدر تصبح مادة استهلاكية خارج ذات المنتج ولاسيما أن "الكتاب " في عموميته بعيد عن عالم التسلية، قريب للجدية . رغم بعض الاضطرابات وتشويش في التركيب والمنهجية، نظرا أن الكتاب: يعد مجالا تطبيقيا لمكونات التركيبية المفرزة في كتاب سابق تحت عنوان" آثر التلقي" لأنه دخل تجربة كشف أثر تلقي المسرح – نصا وعرضا- ليبرز انعكاس جمالية الإنتاج على آثر التلقي (ص121) وبالتالي فهذا الاختراق لفضاءات متعددة لنشر منتجوها " ورقيا " يسمح لنا أن نتساءل؟ فهذا المنجز الذي بين أيدينا، هل هو اختصار لمسافات التفكير، عند القارئ المفترض / المهتم، من خلال ما تفكر فيه أو تستهدف إليه لمحاولة قلب المفاهيم واستنتاج بعض خبايا مسألة [التلقي]؟ أم أن الأمر مرتبط بفكر/ رؤية تحريضية، بغية إشراك (الآخر) في حفريات معرفية تمكن كل الأطراف إثبات دور التلقي كمجال خصب؛ في سياق فرجة طقسية وشعبية ومسرحية؟ لكن " نوال بنبراهيم" أوقفت السؤالين كإضاءة مؤجلة؛ بناء على سؤال تراه محوري بالنسبة لها: متى تكون الدراسة التي قدمناها مجدية بالنسبة للباحث المهتم بمتلقي العرض؟ طبعا لا نعني بهذا السؤال، أن ما أوردناه سلفا يخلو من الفائدة. وإنما نريد أن تبين أثر التلقي هذه الفرجات الشعبية على المتفرج المغربي الذي يشاهد العروض المسرحية (ص29) بداهة أي شيء له تأثيراته وأثره الفاعل سواء / ذهنيا / سلوكيا / فكريا / عقائديا / جسديا / جماليا / وهذا لم تتناوله بالتفصيل؛ بحكم أن اشتغالها اتجه في سياق سيكولوجي/ نفسي؛ لإثبات المشاركة الانفعالية كنشاط يترك بصمات ملموسة على المستوى الفيزيولوجي: لأن رغبة المتفرج هاته ليست ناجمة عن تأثره بتلقي الفرجات الشعبية فحسب، وإنما عن بحثه عن طريق تخلصه من حالات النفسية المضطربة وتطهره من أزماته الماضية، ومثل هذا التخلص لا يحصل إلا بمسرح يعلن إمكانات تحريرية تساعده على رؤية ذاته... وإذا ستحضرنا هذا علمنا أنه ليس في وسع المتفرج المغربي العادي أن يتقبل إلا العروض المسرحية التي توقظ الحواس، وتثابر على جعل الأنا متأثرا(ص31) هنا تجدر الإشارة؛ حينما أشرنا بأن المنجز يبدو متفردا، فالقصد يندرج في صلب الاشتغال على جانب "فرجوي " لم ينتبه إليه أحد ولم تنجز حوله دارسات جادة ومكثفة؛ وبالنسبة لنا يعد الموضوع مغامرة في تناولها مجالا ذو طابع روحي / ديني، له ارتباط بطقوس الزوايا والتي اعتبرته من الفرجات. بالقول الواضح: الواقع أننا نعْتبر هذه الفرجة التعبيرية ظاهرة فنية وجمالية تملك خاصية دينية؛ وفي الوقت نفسه خاصية اجتماعية .تعبر عن الحياة اليومية لذلك يعتبرها المنظمون فرجة مع باقي فرجات عيساوة (ص14) لكن الملاحظ هنا تطرح الفرجة بصيغة (الجمع) مما يحدث ارتباكا في متابعة المنجز؛ ومحاولة القبض على مشروعية المبتغى الذي تهدف إليه، بحكم إغفال اشتغالها الفرجوي المعلن عنه في البداية وذلك في سياق التلقي وآثره؛ وإن سعَت في المنطلق التركيز على [فرجة الأسود واللبؤات] كمجال حيوي يتقاطع فيه المدنس بالمقدس، والحياة بالموت، والدنيوي بالغيبي؛ كتقاطعات مفتوحة، لفهم الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية لمجتمع زمن السلطان مولاي اسماعيل (ق /16) وزاوية " الشيخ الهادي بنعيسى . فمادام الأمر كذلك؛ فلا محيد أن يتم تجسّد تلك (الفرجة) كفعل إنجازي لمحاولة زعزعة بنية النص المنغلق، إثر كل قراءة سواء في "دينامية التلقي" لدى المخرج والممثل أوتلقي المتفرج" للعرض المسرحي. لكي يستقيم التركيب بين العرض المسرحي والفرجة المطروحة للنقاش! والقول الثاني، لقد تم تغيب العقل في سياق أثر التلقي، ليسقط المنجز في سياج/ فخ- أرسطي محض- ربما ليس اختيارها بقدرما يكون اختيار المشرف على أطروحتها؟ مركزا على "الكاتتريس"؛ إلا أن الجديد في بحث الأستاذة " نوال بنبراهيم" تشير: بأن هذه الفرجات تتوفر على نوعين من التطهير. أولهما يخص الممثل... التي تصبو إلى تطهير المريد جسميا ونفسيا ليتخلص من أزماته وأحاسيسه الماضية؛ وليتمكن من معرفة ذاته وثانيهما يتعلق بالجمهور الذي يعد وجوده شرطا اساسيا لإقامة فرجات الحلقة وسيد الكتفي وعبيدات الرما وباقي الفرجات الدينية التي لا تهتم بإلغاء حواجز الجمهور النفسية (ص25/26) إذن نحن أمام الاندماج أو التقمص؛ وهاته التقنية تساهم في تطهير المتفرج؛ لكن كيْف سيتحقق التطهير للممثل، وهو مساهم في عملية تفريغ الاثار المترسبة في أعماق الفرد [المشارك/ المتفرج]؟ ففي سياق الفرجة التي تبنتها الباحثة نقاشا، نستشف أنها جعلت من [الممثل] قرين [المريد] كرهان، باعتبارأن هاته الفرجة أساسا: تنجز من قبل ممثلين محترفين تلقوا تدريبا قاسيا على يد شيخ الفرقة... وتخضع إلى قواعد مقننة يجب أن يستوعبها الفرد قبل أن يصبح "مريدا" وهو الإسم الذي يطلق على ممثل هذه اللعبة (ص17) فهاته اللعبة هل هي أساسا طقوسية شعائرية ترتكز على الإيقاع والجسد. للتعبير عما وراء اللعب؟ أو مجرد لعب في سياق الاحتفاء بموسم بالشيخ " الكامل"؟

الإضاءة المثالية:

الإشكالية التي وقع فِيها ويسقط فيها، كل من يتناول ظاهرة الفرجات الشعبية؛ وإلا وينطلق من مسلمات انوجادها في وجدان الأمة، هكذا. يعد مجازفة نظرية ومنهجية خطيرة جدا تؤثر على تفكيك بنيات تلك الفرجات؛ ومن تمة يتم الإغفال أو التغافل، بأن كل الأشياء المتداولة في فضاء (ما) لها معنى- الاجتماعي/ / السياسي/ ثقافي/ إيديولوجي/ وبالتالي فالإشكالية بالأبستمولوجية (عندنا ) هي أننا لانعرف متى ظهرت تلك (الفرجات)؟ وكيف انوجَدت تلك (الإرهاصات)؟ ولماذا انوجدت تلك (الأشكال)؟ وماهي الأسباب والدوافع؟ وهذا ينطبق كذلك على الأخت" نوال بنبراهيم" في عدم الغوص في حفريات التاريخ المحايث لتك (الفرجة ) في منجزها . بحيث لم تعطينا ولو إشارة تاريخية كنوع من الإستئناس أو محاولة لتفكيك تمظهرات السوسيو – ثقافية لفرجة (فرجة الأسود واللبؤات) ولكن تبرر بتبرير منطقي: لأن ذلك يتطلب بحثا مستقلا وجهدا خاصا، لكننا نحرص على دراسة بعض المشاهد التمثيلية التي تنتمي إلى فرجات عيساوة.... اقترابها الشديد من الفرجة المسرحية؛ حيث تضم جل عناصرها كالأداء والحركة والزمان والمكان والملابس والنص لكنها لم تتطور(ص14) فهاته اللعْبة التي تعتبرها الباحثة من ضمن الأنساق "الفرجوية" هل هي من صلب الحدث الديني/ الصوفي/ الطقوسي أو الاجتماعي/ السياسي المرتبط بمرحلة ظهور وامتداد زاوية الشيخ" الكامل؟ وكيف يتلقاها المتلقي؟ فمثل هاته الأسئلة، تفرض الغوص في تاريخ عوالم "العيساوية" التي تتزامن وحكم السلطان" مولاي اسماعيل العلوي" وما بعْده. بحيث أن تأسيس الزاوية ذات أرضية شاذلية؛على الكتاب والسنة كما أكد الشيخ" بنعيسى" في وصيته وهي معلقة في ضريحه [طريقتنا هذه لا تدخل في قلب قاسي ولا جسم عاصي . .ولا هي خارجة عن الكتاب والسنة بل هي حكمة علية وموهبة .لدنية على السنة و النية و مسقاة على أثر الأنبياء و الأولياء….مع دوام ظاهر صاحبها على الاستقامة، فمن عمل على هذا فهو من حزبنا ومحسوب علينا...] فهاته الوصية شافية كافية، بأن كل ما تجاوز الأذكار والأدعية والتوسلات والتحميد "الرباني " فهو دخيل على الحزب، بمعنى أن هنالك انحرافا وقع في الطريقة الصوفية / الدينية .(ربما) ولكن عبر الصيرورة التاريخية واتساع رقعة المريدين، فمن الطبيعي أن تكون هنالك انزلاقات أو حضور أيادي خفية تضيف ما تضيفه لمصلحتها؛ هذا: فكما أن فكرنا منطقي فالفكر البري منطقي أيضا، إلا أن التشابه بين هذين الفكرين لا يكون تاما إلا حين ينصب فكرنا على معرفة فضاء(أو عالم) (4) وبالتالي فإذا كانت بعض "الطوائف" تمارس الحضرة بإيقاعات موسيقية مختلفة، فهناك من يمارسها على شكل (ألعاب ) تقوم على تشخيص بعض الحيوانات - ك [الذئاب الجمال الأسود] فهذا التداخل نجده في كتاب الأخت " نوال بنبراهيم" بحيث لم تحاول تفكيك الفرجة (اللعب) عن الجذبة / الحضرة، ولاسيما أن للموسيقى "العيساوية" ميزة خاصة تخاطب الروح والجسد، واعتمادها على الإيقاع؛ بشكل رهيب. وبالتالي فالإطار الفني للطريقة العيساوية يشاع بأن أول من أدخل آلات الطرب تلميذه أبو الروائن المحجوب. لأنه هو من خلف شيخه سيدي امحمد بنعيسى على رأس الزاوية العيساوية، لكن بالعَودة ل(دوحة الناشر) لابن عسكر. لاوجود لهذ الإثبات، مما ستكون رواية أحفاد الشيخ قريبة للمنطق بأن:أول من أدخل الغيطة للطريقة العيساوية تلميذ الشيخ الولي المشهور سيدي محمد الشباني...والطبلة اضافها تلميذه الشيخ ع الرحمان التاغي...؛ ف " عيساوة " اسم يحيل عند البعض على أجواء غرائبية يختلط فيها ما بين صوفي بما هو فلكوري؛ حيث يتماوج الذكر مع النغم، ويلتحم ايقاع الجذبة بنغمات الحضرة، فتنفتح "الطائفة "أمام أصناف من المريدين. بين راقص مأخوذ وجاذب مشدود (5) وما يتبين أن هنالك حضرة سميت ب"الشيبانية"، نسبة إلى الشيخ "محمد الشباني" طقوسها صوفية؛ فمن أين اخترق "الزاوية " الانحراف؟ وكيف تهجن الصوفي بما هو فلكوري؟ هنا يثار بأن العيساوية: فقد كان أتباعها من الجاهلين يتخذون من يوم الجمعة صبغة دينية تمتزج فيها دقات الطبول ونغمات الموسيقى، حتى يصلوا إلى حالات هستيرية، فيلتهمون الزجاج والصبار ويبقرون بكيفية وحشية الأكباش المهداة إليهم وهي حية (6) فهاته الحالات الهيستيرية لها سياقها؛ السياسي وليس الطقوسي، رغم أن السلطان مولاي سليمان اعتبرها من البدع وأصدر خطابا مفاده: وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دارهم وأقواتا ! وتصدى له أهل البدع من عيساوة وجلالة وغيرهم من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة... وليس الصراط كثرة الرايات؛ والاجتماع للبيات. وحضور النساء والأحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع.. (7 ) ولكن قبل هاته الخطبة: لجأ المولى سليمان لأول مرة إلى بلورة استراتيجية تهدف إلى اقتلاع الزاوية من جذورها من خلال وضعها خارج الشرع.. كما حاول فك الارتباط بين الزاوية والقبيلة من خلال تنديده ورفضه لممارساتها باعتبارها بدَعا مخالفة للسنة (8) ولهذا فنزول الخطبة نتيجة فشل سياسة المواجهة؛ ولاسيما عبر محطات تاريخية نستشف عدة محاولات لنسف بعض الزوايا إما المعارضة أو المحايدة عن المخزن، وخاصة في فترة السلطان سيدي محمد بن عبد الله والسلطان مولاي اسماعيل. أثرت هذا لمحاولة القبض على تمظهر الفرجة التي أثارها المنجز، بشكل مقتضب والتي كانت تدمج (جمعا ) ضمن الفرجات، بطريقة ميكانيكية، وإذا عدنا الاستبيانات التي اشتغل عليها البحث لاستخراج التلقي سوسيولوجيا وخاصة في (ص96) جدول (رقم 20 الفرجات الشعبية) نجد سوى (الحلقة/ عبيدات الرما ) فأين هي فرجة [الأسود واللبؤات] من الاستنتاج؟

إضاءة خافتة:

فالمنجز قام باستجواب 200 شخص،حَول فرجة [الأسود واللبؤات]؟ فلم يحصل إلا على 20 مستجوبا تمكنوا من رؤية هذه الفرجات؛ وهي نسبة ضعيفة جدا وهنا: لانشك أن البشر عندما تعاملوا مع الخصائص المحسوسة التي تميز ممالك الحيوان والنبات وكأنها عناصر (إشارات) رسالة معينة- أي دلالات- أخطأوا تعيين مراجع الرؤية والاستدلال: أي العنصر الدال لم يكن دائما العنصر الذي ظنوا (9) فحتى أحفاد "الشيخ "كما أشرت سلفا. لم يتطرقوا لفرجة (الأسود والذئب) هل لأنها خارج منظوم الطقوس؟ فالإجابة تأتي من المنجز: إنها شكل فرجوي بدائي يبدو لغزا خفيا يعتريه كثير من الغموض، لأنه يعتمد على حركات لعبية غير مفهومة ورموزا صوتية مبهما ولعل هذا ما يفسر التأويلات العديدة التي قدمتها هذه الفرضيات (ص14) هكذا يبدو، لكن هناك توظيف رمزي" لافت للانتباه، يتداخل فيه الخيال الجمعي بالإرث الثقافي وبالأسطورة، ولاسيما إنّ الانسان البدائي لم يتخلّ أبدا عن الطبيعة والحيوانات عمومًا كمصدر أساسي للدواء . مما يتبين أن موضوع الفرجة الذي طرحته الأستاذة " بنبراهيم "أعمق ويحتاج لدراسات معمقة، بحيث هنالك انفصال وانفصام بين التاريخ والحوليات والاستوغرافيا والاشتغال الفرجوي في المجال المسرحي، وبالتالي: تعتبر الزوايا طرفا فاعلا في الصراع الاجتماعي والسياسي الذي يعرفه المجتمع، ويؤكد حضور البعد السياسي ضمن البنية المرجعية للزوايا سواء اتخذ هذا الحضور شكل مجموعات ضغط على المخزن كما تزعم "Morsy Magali" أو مشروع حركة سياسية تريد الوصول إلى السلطة كما يدعي" Michaux Bullaire" داخل كل زاوية توجد نواة للسلطة"(10) ففي هذا المضمار بالنسبة للزاوية "العيساوية" التي تبدو لنا صوفية و سليلة الشاذلية وجزولية المنهج . مسارها يلفه الغموض وهناك حلقات تاريخية / سياسية فارغة أو ذات بياض، ولاسيما أنها اخترقت المجال البدوي في مغرب ذاك الوقت؛ وخاصة مناطق الغرب التي استوطنتها الزاوية "الدلائية " التي كانت من أشد معارضي المخزن الاسماعيلي. وبالتالي: فالبدائيون هم بدو في لغتنا يضجون في تاريخنا الذي لم يبدأ بتدميرهِم وبترهم عن فطرتهم؛ إن هجراتهم هي أهم أحداث تاريخنا، إنهم الداخل المتقابل في الذاكرة (11) وهَذا لم ننتبه له، بأن البادية هي الخزان الأساس للوجدان وللوعي الشعبي وللهوية، وكل عودة إليها هي عودة لإثبات الذات. وفهم أسباب نزول العديد من الفرجات. مقابل هذا هنالك حكايا كثيرة بين المخزن والعيساويين؛ أبرزها مسألة الطرد من لدن السلطان مولاي إسماعيل. للشيخ "محمد بن عيسى" من مكناس فخرج منها مع مريديه إلى البادية، وكذا صراعها الخفي مع الزاوية " الفاسية" وتحامل بعض العلماء عليها، وقبل كل هذا الحصار الذي فرضه السلطان نظرا: أن قوة الزوايا المركزية كانت تكمن في عملها اللامركزي وفي تغلغلها داخل البوادي، فقد فرض إسماعيل على جميع الزوايا أن يكون مقرها فاس حتى يسهل عليه مراقبتها(12) وبالتالي فمولاي إسماعيل كانت له حديقة الأسود؛ تغذيتها ومعاشها من أجساد الأسرى/ السجناء ومن خلالها هنالك روايتان. بحيث الرواية الأولى فيها نوع من المطابقة وقريبة جدا لما ينوجد في الفرجة مع نوع من الاختلاف طبعا .

(1) قصة السلطان" م اسماعيل" الذي طلب من الأسير "بيرنار بوصي" اعتناق الدين الإسلامي، لكنه تمسك بديانته المسيحية، وفضل أن يكون جسمه طعاما للأسود من أن تصبح روحه فريسة للشياطين،؛ مما سعى السلطان لقذفه في "حديقة الأسود": لكن" بوصي " ألقى بنفسه في وسط أربعة عشر أسدا ضخما. لم تأكل منذ ثلاثة أيام. قامت تلك الوحوش فورا؛ حين رأت الفريسة؛ وجعلت تزأر وتستعد للانقضاض على ذلك الشاب، الذي كان يذكر الله ويتوسل إلى" سيدتنا "حامية الأسرى وإلى "سانت آن". لكن تلك الحيوانات لم تلبت أن جثمت مرة أخرى وكأن قوة سرية أمسكتها...وقد اقترب منه أحد الأسود سبع مرات ليفترسه، لأنه كان جائعا أكثر. وابتعد سبع مرات دون الإقدام على ذلك، فصار أسيرنا كأنه دانيال جديد، يحمد الله وسط تلك الوحوش المفترسة، التي لم تستطع أن تلحق له أي أذي (13) إذن، وبنوع من المقاربة والمطابقة من المنجز نستشف:أن الفرقة تلجأ إلى تنظيمه بتقسيم المكان الشخصي داخل الدائرة إلى ثلاث مستويات. مستوى أول يظهر فيه الأسود التي لا تتحرك إلا بأمر رئيس الفرقة الذي يدعى الشيخ ويبلغ عددها عشرة. ومستوى ثان يشكل محور الدائرة ويستأثر به الشيخ زعيم الأسود الذي يدير اللعبة (ص15) فمن هو رئيس الفرقة؟ ألا يكون [السلطان] المتحكم في اللعبة، والمروض للأسود وإن كان هنالك اختلاف في العدد(10/14) ومن هو الذئب؟ أليس الأسير "بيرنار بوصي" الذي ألقى بنفسه في وسط أربعة عشر أسدا ضخما؛ وهاته صفة (الذئب) ومضرب المثل في الشجاعة والدهاء، ولا يتراجع عن الطريق الذي جاء منه، و قادر على المراوغة و يتحلى بخصلة التفاؤل وهو أصبر الحيوانات على الجوع، ووفي لمبادئه الزوجية، ولكن أشد الحيوانات عداوة للإنسان (14) فهذا بعكس ما نعرفه عن الذئب، ولعلَّ اهتمامَ العرب به؛ نثرًا، وشِعرًا يعود لتأثُّرهم به. وانطلاقا من كل هذا فهو:مفتاح الفرجة الذي ينحصر في شخصية الذئب باعتباره ركيزة أساسية في البناء الداخلي، ولهذا السبب يحظى بالبطولة الفعلية حيث يقود الحكاية ويوجهها من البداية إلى النهاية، والأغرب من هذا أن الأسود رغم كثرة عَددها وحضورها المكثف في مكان الفعل؛ فهي لا تقوم إلا بالبطولة الصورية (ص21) أليس هنالك تطابق والقصة التي رواها الأسير[مويط] بحيث (الذئب) لم يمت، ولم تفترسه الأسود، لكن الذي يذكي مقصديتها أن (المريد) في الفرجة والذي يمثل (الأسد) بدون قناع؟ يتحرك سبع خطوات للأمام، ويتراجع سبع خطوات للوراء ! فهل هذا محض صدفة؟ حينما نعيد قراءة القصة (وقد اقترب منه أحد الأسود سبع مرات ليفترسه، لأنه كان جائعا أكثر. وابتعد سبع مرات دون الإقدام على ذلك) أليست هاته: صورة متحركة تصارع الموت وتفر من الزمن الواقعي والمحدود، لتتعلق بزمن إلاهي غير منته، ولذلك نسمع الممثلين يرددون عبارة الإرتقاء والسمو والغيبوبة والارتفاع ظنا منهم أنهم يعيشون أثناء تقديم المشهد التمثيلي زمنا أزليا . حيث يخرجون من الزمن المغلق ويلجون زمن أخر، لانعرف عنه اي شيء(ص17) وفي هذا الصدد. ألم يكن (بيرنار بوصي) يذكر الله ويتوسل إلى" سيدتنا "حامية الأسرى وإلى "سانت آن"؟ وبالتالي هاتين الأخيرتين، ومن باب المجاز ألا يكونا اللبؤات بحيث تشير " نوال بنبراهيم"... تتحول اللبؤات لأول مرة من شخصيات غير فاعلة إلى فاعلة تصبو إلى حماية الذئب الذي يتظاهر بالموت ليتمكن من الفرار (ص22) مقابل هذا فكان الداعم لصموده الأسرى[الممثلين يرددون عبارة الإرتقاء والسمو والغيبوبة] وجعلنا نصلي ونطلب له الإعانة الربانية. وبما أننا حفرنا بعض الثقوب في السور(المشترك يننا وبين الأسود) لنراه.. كنا نحثه على التشبث بالثبات، وأن يفضل الموت على التخلي عن دينه، الشيء الذي كان يعدنا به بحماس (15) هنا فالموضوع (الفرجة ) يتضمن صيغة [دينية] وتحمل صراعا [عقائديا] بين [الإسلام/ المسيحية] بين [السلطان/ الأسير] بين [الأسود / الذئب] وهذا التقابل: تقوم به الأسود التي تساهم في ترسيخ العدالة، لأنها تملك سلطة جسدية تستطيع بفضلها أن تنتشر في الفضاء وتقهر العدو، لذلك تبادر بطرد مثير الشغب من عشيرتها، كما أنها تملك سلطة فكرية، تمكنها من اتخاذ القرارات في حق العدو، وتنظيم الحياة داخل الجماعة لتحافظ على التضامن والتكافل (ص18) فإن كانت المطابقة نسبية في مطابقتها؛ فكيف هاته القصة اخترقت فضاء الزاوية الهادي بنعيسى"؟ أليس عن طريق الرواية (2) وبعد بضعة أيام، لم يكن للأسود نفس الاحترام لثلاثة فقراء أو فقهاء في الشريعة الإسلامية، تعرضوا للوم الملك على قساوته، فأمر بإلقائهم في نفس الحديقة ومزقت أشلاؤهم على الفور (16) فهؤلاء الفقراء(الدراويش) ربما (هم) من مريدي " الهادي بنعيسى"؟ أومن قبيلة المختار أو اسحايم؟ ولرد اعتبارهم الرمزي، والدفاع عنهم؛ وعن غيرهم. تم توليف قصة (بوصي/ السود/ م أسماعيل) كفرجة تمرر السخط والإدانة للمخزن، واسترسال شفرات عن استبداده وتسلطه وظلمه: إذ تشعر الذات قلقا مزعجا وحزنا عميقا... ليدخل المنخرط بعد ذلك في هيجان وغضب تامين حيث يلجأ إلى تمزيق ثيابه وإصدار صراخ غريب وحركات عشوائية لنكوص الجهاز الإدراكي الذي لم يعد يشتغل بطريقة عادية(ص27) وهاته الحالة الهستيرية، ألا تحيل لوضعية (السجين) الذي يريد أن يتحرر، وإن كنا ندرك بأن "الزوايا "هي كونها تجمعات تحيط نفسها بطقوس خاصة، تنتمي إلى خليط من المعتقدات وتبني قوتها على الغموض والأسطورة، فكما أشار مترجم، تجاه القصة التي ذكرتها من (رحلة الأسير مويط) بأن الجانب الملحمي؛ ظاهر في هذه الأسطورة . هل حقيقة هي أسطورة أم خرافة منمقة أم هي حقيقةْ حقيقةٌ ملموسة ومُعاشة؟؟ لكن الأغرب لماذا فرق الأسود واللبؤات تنتمي إلى قبيلة المختار وإلى اسحايم؟ وهي المتخصصة في هاته اللعبة/ الفرجة؟ فما هو معروف تاريخيا أن الشيخ ينحدر من قبيلة أولاد أبي السباع. والمولد قبيلة سحيم المختار بسهل الغرب، وأخواله من قبيلة الفهديين المختارين، حتى أنه تزوج من السيدة "الطاهرة " من قبيلة المختار. وهي الأكثر اعتناقاً وتشبتا لممارسة الطريقة "العيساوية " التي تحمل بين طياتها غرائبيتها وتمثلاتها وواقعيتها، وبالتالي: صبيحة يوم عيد المولد النبوي، تكون مخصصة في البداية لقبائل » سحيم ومختار « الذين يتجمعون، على شكل موكب صوب الضريح، يمزقون ألبستهم، يضربون صدورهم، وعند الوصول يتدفقون إلى داخل الضريح صارخين بالدارجة العامية المغربي » اخرج البراني « أي » أخرج أيها الغريب «ويستمرون في ترديد، اسم الله، وبعد أن ينال منهم التعب، يرجع» السحايم «الى مواقعهم، في حين يبقى" المختاريون" بجانب القبر(17) وهذا يبين أن أية ممارسة ليست اعتباطية، بل لها أبعادها وأسبابها وضوابطها، مما نستشف بأن الشعائرية تتسم بقابلية التأقلم مع المستجدات التي كانت وقتئذ. بالتالي فانتقال الفرجة من البادية إلى المدينة له مغزى أساس، بأن وحشية الحدث تمت في المدينة/ السجن، باعتباره: فضاء دلاليا معينا يتمتع بجميع مواصفات الموضوع المطلق، ليتقرر أن طريقة البدائيين في إدراك عالمهم ليست فقط متماسكة بل الطريقة المفترض اتباعها لمعالجة موضوع تظهر بنيته العنصرية على شكل مركب معقد يقوم على الفصل(18) وفي المنجز للباحثة " نوال بنبراهيم" صيغة شبه تفسيرية لمقولة " شتراوس": تختار فرقة الاسود واللبؤات المدينة كمكان درامي تدور فيه أحداث الفرجة وهذا الاختيار ليس اعتباطيا . وإنما أتى انطلاقا من إدراكها العميق بأن المدينة تشكل مكانا للتجمع والالتزامات والمواسم الكبرى (ص15) كل هذا التأويل مَا علاقته بالتلقي وآثره؟ فالمنجز قفز عن "الفرجة" من حيث التلقي وآثره؛ بحيث ليس هنالك جدولا خاصا بها ما دمت ضمن توليف المنجز، وهذا يتبين أن عموم الناس لا يعرفون هاته (الفرجة ) علما أنها تصرح في خاتمة الكتاب: ولقد ذهبنا الى تحليل مشهد تمثيلي ينتمي الى فرجات عيساوة في الفصل الاول اذ حاولنا استنطاق تجلياته الظاهرة والباطنة لنثبت انها ظاهرة فنية جمالية لها خصائصها تعَبر عن الحياة الاجتماعية والدينية بالتعبير الجسدي الذي يعتمد على لغة الحركة (ص 121) فهاته الفرجة هل هي ظاهرة فنية جمالية؟ إن التشكل الجدلي للمعنى ضمن التجربة الجمالية، يرتهن بتحقق تواصل في مستويي الشكل والمعنى، أي أنه يقتضي أن تكون للموضوع الجمالي في أن واحد، خاصية شكل فني (19) لنسلم أنها تحمل شكلا فنيا، ولكن المعنى في هاته الفرجة، تحيلنا لمعنى المعنى وبالتالي فالدلالة تشير حتما إلى سياقات ممكنة. ويمكن أن أضعها في سياق إيديولوجي أكثر مما هو طقوسي، لأنها تخفي وترسل رمزيا وحشية الوضع الذي أحاط بالزاوية (العيساوية) وحصارها واتهامها من لدن علماء الوقت وخاصة لحسن اليوسي وغيره. لأن هاته الفرجة/ اللعبة، لم تأت من فراغ: وإنما تفضح التناقض الذي يعتري المجتمع، وبقدر ما تخنق حرية التعبير عن الراي والتحرك بقدرما تتعرقل مسيرة تطور هذه الفرجات التي تقدم لنا نظرة عن العقيدة والعادات والأخلاق والقوانين السياسية والأوضاع الاجتماعية (ص25) وهنا فكتاب" نوال بنبراهيم" يفصح بشكل غير مباشر على رمزية الفعل في اللعبة: إن الميم لغة ضرورية في هذه الفرجة تعبر عن تلاشي المريد في الدور وإدراكه له. ويتكون من عناصر تركيبية تفرز الغضب والحزن، الفرح والنشوة. وهو شيء يدل على أن الميم يجمع بين التعبير الجسدي والنفسي، لذلك يمكن أن نعده نقطة تمفصل حركات الجسد وحركات الجهاز النفسي(ص20) لكن لماذا لم تخترق الفضاء الركحي، وتهجن في سياق بعض السرديات؟ بكل بساطة، فهاته الفرجة غير معروفة عند أغلب المبدعين والباحثين؛ ولاسيما أن زمن فعلها ينحصر فقط في موسم عيد المولد النبوي، وهي أساسا متمفصلة عن الرقص الطقوسي والغناء والإنشاد الرباني، الذي تمارسه الطوائف العيساوية، وتلك العَوائد القربانية وأكل لحومها التي هي بمثابة: طقس اتحاد وتشارك، ونوعًا من التمازج والتماهي بين الإنسان والإله، فليس القربان هنا حيوانًا يصير مقدّسًا بتقديمه قربانًا للإله، وإنّما يصبح القربان رمزًا للإله نفسه"[20] مما تكون "الفرجة" محصورة في لغتها الميمية ومحادثة صامتة كوسيلة تعبيرية، فإذا رجعنا للاستمارات التي أفرغتها الباحتة" بنبراهيم" من الكم الى النوع. نقبض على خلاصة مفادها: أن جميع الفئات المستجوبة ترى التجربة الجمالية الركحية بمنظار واقعي. فهي تريد عروضا مسرحية تعرض علامات تستمد مرجعيتها من الواقع وتستجيب إلى آفاق كل متفرج ...إن الاشكال الفنية التي تعرض المألوف وتستجيب للذوق الأخلاقي والديني والاجتماعي والنفسي، تكون مستحبة لدى المتفرجين (ص 90)

***

نجيب طلال

....................

الإستئناس:

1) تلقي المسرح- المغرب نموذجا- لنوال بنبراهيم – بدون تاريخ – مطبعة شمس برينت سلا

2) الأشكال المسرحية –- نوال بنبراهيم - مجلة المناهل ع 56 / ديسمبر 1997

3) دينامية التلقي- نوال بنبراهيم- عالم الفكر عدد1/ يوليو1996

4) الفكر البري: لكلود ليفي شتراوس- ت / نظير الجاهل (ص320) ط/ 3 -2007 مجد المؤسسة الجامعية - بيروت

5) الشيخ الهادي بنعيسى - صحيفة المعهد الفاطمي المحمدي(تحقيق) في 25/11/2019

6) الطرقية في المغرب:انحرافات فكرية سياسية اقتصادية لمحمد أفزاز ص80 مجلة كان التاريخية- س3/ع 8- يونيو 2010

7) خطبة السلطان المولى سليمان: في الانتصار للسنة ومحاربة بدع الطوائف الضالة ص11/13مكتبة ومطبعة الساحل- الرباط

8) الزوايا والطرق الصوفية في المغرب لقاسم الحادك ص64 مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية- جامعة الوادي العدد الأول- سبتنبر2013

9) الفكر البري- ص 321

10) الزوايا والطرق الصوفية في المغرب- ص61/62

11) الفكر البري - ص6

12) سجن قارا لتامر صحصاح - ص 62 بدون تاريخ .

13) رحلة الأسير مويط – ت/ محمد حجي- محمد الأخضر – ص52- مركز الدراسات والبحوث العلوية الريصاني

14) لننظر لكتابي (الحيوان) للجاحظ و(حياة الحيوان الكبرى): لكمال الدين بن موسى الدميري المتوفي1406م

15) رحلة الأسير مويط – ص52

16) نفسه – ص53

17) من وحي تاريخ التصوف بالمغرب: طقوس صوفية شعبية تأبى النسيان (التصوف العيساوي) أنموذجا: لعبد العزيز عموري مجلة الثقافة الشعبية ص 79- ع 55 / س 14- خريف 2021

18) الفكر البري- ص 320

19) جمالية التلقي لهانس روبرت ياوس ت رشيد بنحدو ص124 المجلس الأعلى للثقافة 2004

20) حياة التراجيديا في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته: لعبد الواحد بن ياسر ص 31-32/ ط1- 2006مطبعة الوراقة الوطنية

في كتابه المثير للجدل "بسط التجربة النبوية" خصص عبد الكريم سروش فصلا موسعا لتفصيل رؤيته حول ما يصفه بالذاتي والعرضي في الاديان. والحق ان معظم مقولات سروش تتجاوز الحدود المتعارفة للنقاش في قضايا الدين. فهي تطرح تحديات عسيرة لمعظم ما ألفناه من مسلمات، نقرأها دائما أو نسمعها، ثم نعيد قولها دون ان نتوقف لحظة للتأمل في حقيقتها أو مراميها النهائية، أو قابليتها للصمود في وجه المساجلة العقلية المتحررة من الشوق للقبول او الرغبة في التبرير.

يرجع مفهوم "الذاتي والعرضي" في الأشياء والافكار، الى نقاشات الفلسفة اليونانية القديمة حول الجوهر والعرض. فالجوهر عند ارسطو مثلا هو حقيقة الشيء وعماد وجوده، القابل للتحديد والتعريف بمفرده، الذي لا يحتاج في وجوده إلى عامل خارجي يعرفه او يحدده. أما الاعراض فهي ما يلتحق بالذات او الجوهر، ليلعب دورا اضافيا مثل التحسين او الايضاح او الربط. وهي أدوار لا تؤثر في وجود الذات او الجوهر، لكنها تنظم علاقته بالذوات والاعراض الأخرى في محيطه.

اراد سروش من وراء هذه المساجلة ايضاح الفارق بين الدين والتراث الديني، اي مجموع المعارف التي نشأت حول الدين، من تفاسير وآراء واجتهادات وتجارب وتاريخ وثقافة شعبية وفولكلور، وغير ذلك من المكونات المادية والنظرية والذهنية التي تدور في فلك الدين، لكن لا وظيفة لها من دونه، ولم تحصل على وصفها الخاص او قيمتها قبل ارتباطها به.

أظن ان كثيرا من الناس يوافقون سروش في هذه الرؤية، من حيث العموم على الاقل. لكنها مع ذلك واجهت معارضة شديدة. فهي، في نهاية المطاف، تقول ان المعارف المرتبطة بالدين، ليست جزء منه، ولا تملك صفة الاطلاق والعمومية الخاصة به.هذا يعني ببساطة ان ما أنتجه السابقون وما ينتجه المعاصرون، أي مجموع المعارف التي اعتدنا فهم الدين من خلالها، ليست سوى معارف عادية، يمكن للمسلم ان يستفيد منها، دون ان يلتزم بمقولاتها، كما يمكن له ان يضعها على الرف فلا يسأل عنها.

بديهي ان الأغلبية الساحقة من المشتغلين بالعلم الديني، لن ينظروا لهذه الأقوال بعين الرضا. فهم اعتادوا على فهم الدين، نصا وفكرا، بالرجوع الى أفهام السابقين وتفسيراتهم. وهم لا ينكرون نسبية هذه الأفهام، لكنهم يرونها أبوابا للدين يستحيل عليهم الوصول الى جوهر الدين دون عبورها. بل يمكن القول ان كلا منهم مضطر الى هذه الأبواب، لأنه لا يعرف غيرها ولم يعتد على سواها. وهذه حال كل واحد منا. نحن نفهم الاشياء لاننا ننظر اليها من زوايا محددة، تصف لنا ما نراه وتبرره، ولو نظرنا اليها من زوايا مختلفة، فلربما لم نعرف ما ننظر اليه.

لكن سروش لا يتوقف عند هذه النقطة. فهو يأخذ القاريء الى غور بعيد، يتعلق بالنص ذاته، حين يضع أمامه السؤال المحير: هل النص بذاته هو ذات الدين او جزء من ذات الدين، أم هو من أعراضه؟. بعبارة أخرى: هل جرى اختيار لغة النص والقصة والمثال ونظام الجملة التي استعملت في النص، باعتبارها جميعا جزء من ذات الدين وجوهره، أم ان دورها وظيفي بحت، مثل الظرف الذي تقدم فيه الرسالة، أو الطبق الذي يقدم فيه الطعام؟.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

هذا بعض ما قاله صادق جلال العظم عن الحب والحب العذري:

* يعتبر كتاب "في الحب والحب العذري"، للدكتور صادق جلال العظم، في رأيي، واحدًا من الكتب الثورية، التي أرادت للإنسان العربي أن يعيش ذاته، بعيدًا عن العقلية التقليدية الغيبية السلفية، خاصة تلك التي تكبّل حريته، وتحدّد وجوده بقيم ومُثل تقليدية متوارثة، وبعيدة عن المنطق الواقعي للوجود الانساني في عصر يضج بالحركة والتحوّلات المتسارعة.

الدكتور صادق جلال العظم من مواليد دمشق عام 1934، رحل عن عالمنا عام 2016، وكتابه هذا يندمج في مشروعه الثقافي الفكري ابتداءً بكتابه التوعوي "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، المقصود هزيمة 1967، مرورًا بكتابه الذي لا يقلّ أهمية عن "ذهنية التحريم"، انتهاء بكتابه موضوع حديثنا " في الحب والحب العذري"، وهو كتاب صغير الحيّز، حوالي المائة صفحة، كبير الفائدة، لمن يهمه عقله ووجوده في هذا العصر، عصرنا المختلف. قرأت هذا الكتاب قبل أكثر من ثلاثين عامًا. بعد أن أعاد طباعته في بلادنا الصديق المرحوم فؤاد دانيال. الناشر العربي الاول بعد قيام اسرائيل، وأعدت قراءته بعدها بعشرة أعوام، ثمّ أعدت قراءته قبل فترة.. نسخة كتاب في جريدة، المشروع الذي رعته مؤسسة اليونيسكو الثقافية العالمية، وصدر مرفقًا بالعديد من الصُحف الهامة التي تصدر في العالم العربي المحيط بنا. هذه النسخة صدرت مرفقة بصحيفة "القاهرة" المصرية عام 2004.

يفتتح العظم كتابه بتمهيد يقول فيه ما مفاده إنه يفترض أن يقدم تعريفًا للحب، غير أن مثل هذا التعريف غير ممكن، ويضيف إن الاقوال كثرت في الحب حتى أنه بات لكلّ من المفكرين، وحتى الناس العاديين، رأيه واجتهاده الخاص به، وهو ما يُعقّد الامر قليلًا مع القراء، فيدنيه (المقصود المؤلف العظم)، من الوقوع في ورطة. مهما يكن الامر مؤلّف الكتاب، يقدّم رؤيته الواعية للحب، رائيًا فيه ظاهرة مركبةً جدًا تقف الشهوة الجنسية في صلبها، إلا أنها لا تعبّر عنه تمام التعبير.

في فصل هامّ جدًا في كتابه هذا. عنوانه "مفارقة الحب"، يرى المؤلف أن الحبّ مثله مثل أي عاطفة إنسانية أخرى يتصف ببعدين رئيسيين. الامتداد في الزمان أي دوام الحالة العاطفية واستمراها عبر فترة معينة من الزمان. والاشتداد، وهو يدُل على عنف الحالة العاطفية وحدّتها في لحظة ما من الزمان. في هذا الفصل يوجّه العظم نقدًا شديدًا للنظرة التقليدية السلفية للحب. تلك التي تحدده بإطار الزواج فقط، ويؤكد، أكثر من مرّة، أن اشتداد الحب هو المطلب الانساني الحقيقي. يقول. إن الانسان. وهو هنا يعني الذكر والانثى على حد سواء. الذي لم يعرف طعم التجربة العاطفية الكبرى، يقصد الاشتداد، ولو مرّة واحدة في حياته، لا يستحق إلا الشفقة لأنه لا يعرف ما فاته في الحياة. ويضيف إن الحلّ المثاليّ لمفارقة الحب، بلا شك، هو إبقاؤه إلى الابد في أقصى درجة من الاشتداد والحِدّة فلا يطرأ عليه وهن أو انحلال أو ملال.

يصول العظم في هذا الفصل ويجول في كتب التراث العربي، والحديثة، والاجنبية أيضًا، ليصلَ إلى نتيجة هامة جدًا هي أن عاطفة الامتداد في الزمان ممثلةً بالزواج التقليدي وحتى الزواج بمطلقه، عادة ما تترك فراغًا لدى كل من طرفيه، يحلم بلحظات اشتداد العاطفة.

يتحدث العظم في كتابه هذا مطولًا عن ثلاثة انواع من العشاق. أتوقف عند كل منهم بكلمات سريعة. العاشق الدون جوان. وهو ذاك الذي يبحث عن اشتداد الحب، متوسلًا بكلّ الاساليب بما فيها الكذب والخداع والتضليل، لجعل عاطفة الحب متقدة ملتهبة. والعاشق العُذري. نسبة لبني عذرة الذين اشتهروا بهذا النوع من الحب، وهذا العاشق يحاول، عن قصد أو غير قصد، أن يُبقي شُعلةَ الحب متقدةً بمحافظته على مسافة البُعد عن الحبيب، وعدم الارتباط به. يختلف هذا العاشق عن الدون جوان في أنه يركّز على حبيبة واحدة. ويقدّم العظم نموذجًا لهذا العاشق بجميل بن مَعمر. فقد كان بإمكانه الزواج من بثيناه/بثينة. إلا أنه لم يفعل، وهو بهذا يرى أن هذا النوع شهواني.. يتستر بالعفة، الامر الذي دفع بنزار قباني للتعقيب على ما ذهب إليه العظم قائلًا: "قبل هذا الكتاب كان العشاق العذريون في تصورنا أنقياء كالملائكة، معصومين كالقديسين. ويأتي صادق جلال العظم في هذا الكتاب ليُمزّق القناع عن وجوه العشاق العذريين، وليكشف بالمنطق الفكري الفلسفي العميق، أنهم كانوا في حقيقتهم نرجسيين شهوانيين".

بعدها يتحدّث عن العاشق الدون كيشوت، وهو ذلك العاشق الحاضر دائمًا وأبدًا للوقوع في الحب، لا يهم مع من، وهو يرى أن هذا النوع من العشّاق تغلب عليه الرغبة الجنسية المكبوتة، وأن مَن يعرب لها عن محبته، عادة ما تتمنّع عليه وترفضه لأنها تعرف أنه يريد منها شيئًا واحدًا هو الجنس. ويتجاهل ما تتّصف به من خصال أخرى تفاخر بها. العظم يتحدّث عن نوع آخر من العُشّاق، أمثال الخليفة المُتوكّل الذي ارتبط بالآلاف من الجواري والنساء، ويرى أن صفة المجون هي ما تنطبق عليه، لهذا لا يعتبر عاشقًا وإنما ماجنًا.

يؤكد العظم في كتابه هذا أهمية عاطفة الحب الحقيقي، عاطفة الاشتداد المنشودة، لدي كل إنسان عاقل ويحترم إنسانيته ووجوده، ويضع في نهاية كتابه خطاطة أو شبه خطاطة، يقترحها لمجتمع أكثر عصريةً وواقعيةً وعقلانية. تضمُ عددًا من البنود. منها. خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة تؤدي إلى تحرير العواطف والانفعالات والرغبات المكبوتة في الفرد مِن أغلالها التقليدية. إضافة إلى تحرير جسم الانسان، خاصةً مِنَ الناحية الجنسية، مِنْ النظرة التقليدية التي كانت تربطه دومًا بالخطيئة والزلة والتهلكة والشهوة الحيوانية وتحرير نظرتنا إليه مِن مفاهيم العيب والعار والحرام وإبدالها بنظرة موضوعية علمانية تعتبر الجسد شيئًا من الاشياء الموجودة في الكون، له مُميّزاتُه من جمال وقبح ومن كمال ونقص، من رغبات جنسية مِن جهة وفكرية وفنية رفيعة مِن جهة ثانية. ويُضيف العظيم إلى هذا قولَه ليس في النظر إلى الجسم الانساني وأعضائه ووظائفه ما يُعيب أو يشين على الاطلاق، حتى نعمل جاهدين على دفنه وستره وإخفائه متخطين بذلك حدودَ ما تطلبه السلامةُ والوقاية والعافية وكأننا أمام فضيحة كبرى نريد سترها وعدم انتشارها. ويُشدّد على أهمية تحرير الرابطة الزوجية من قُيودِها التقليدية وارتباطاتها الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية؟ والاتجاه بها مِن مؤسسة خاضعة في كلِّ تفاصيلِها للعُرف الاجتماعي وشريعة الامتداد، إلى علاقة لا تقوم إلا على أساس الاختيار الحر والمُتكافئ بين الطرفين المعنيين في الشروع بالعلاقة أو الاستمرار بها أو إنهائها، وتفترض هذه الخطوةُ تحريرَ المرأة من الاستعباد التقليدي.

خُلاصة الرأي ان كتاب "في الحب والحب العذري"، لصادق جلال العظم، كتابٌ صغير ُ الحجمِ كبيرُ الفائدة.. وانه كتاب يؤثّر في قارئه.. بحيث يُضحي بعد قراءته إنسانًا آخر. أفضل وأكمل وأكثر عقلانيةً، إنسانيةً وعصرية.

كتاب هام جدًا.. يستحق القراءة.. أقترح عليكم قراءته.

***

كتب: ناجي ظاهر

إن الحديث عن السياسة وقضايا الثقافة السياسية هو أمر ضروري لا مناص منه؛ فقد حظي مفهوم الثقافة السياسية بعناية فائقة من لدن العديد من الباحثين في العالم العربي والغربي؛ فهو اهتمام يرجع -كما عبر ألموند- إلى تلك المرحلة التي بدأ فيها الإنسان الحديث الكتابة عن السياسة، حيث انطلق العديد من الدارسين في تدبيج الأسطار التي تتصل بالمتغيّرات الثقافية، ومع تطور علم الاجتماع خلال القرن التاسع عشر بدأ الاعتراف بالمتغيّرات الذاتية في تفسير الظاهرة السياسية والاجتماعية؛ وتدريجيا برز مفهوم الثقافة السياسية واكتسح ميدان علم السياسة،وبشّر بإمكانات هائلة؛ إذ بدا واعداً بتجاوز كثير من المشكلات المثارة في علم السياسة، ولاسيما ما يتصل بالمعضلات المتعلقة بكيفية تأثير الناس في النظام السياسي، وطبيعة تفاعلهم معه على المستويين الكلي والجزئي(1)، ولا جدال في كون الفكر السياسي الحديث يضطلع بدور أساس في انتقال المعارف، وتشكُّل حقولٍ معرفيّة جديدة، وهناك عدة أسئلة رئيسة يهتم بها الفكر السياسي، ويجتهد المهتمون في الإجابة عنها، واقتراح أفضل نموذج للنظام السياسي، والمجتمع المثالي، ومن بين هذه الأسئلة: من له حق السلطة في الدولة أو النظام السياسي؟ وما هو دور السلطة المدنية في المجتمع البشري ؟ وما هو أحسن نظام للسلطة الحكومية،وأين يجب أن تتمركز السلطة؟ وما هو أفضل نموذج للحكومة؟ وما هي طبيعة الإنسان فطرياً وكيف يجب أن تكون معاملاته مع أخيه الإنسان في المجتمع المتمدن(2)؟

ومما لا يخامره أدنى شك أن الظاهرة الانقلابية في إفريقيا تحتاج إلى المساءلة، والمدارسة، والتفسير، ومن بين الكُتب المتميّزة، والدراسات الجادة التي سعت إلى تفسير الظاهرة العسكرية في إفريقيا بعُمق؛ كتاب: «الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء»لمولود حمروش؛ الذي لم يحظ بعناية فائقة من لدن العديد من الباحثين والدارسين، على الرغم من أنه يُمثل مساهمة بحثية عميقة في تحليل إشكاليات عديدة تتصل بقضايا شائكة ذات صلة وشيجة بالظاهرة العسكرية في إفريقيا، وانطلاقاً من الوصف الذي قدمه المؤلف لدراسته؛ فهي تأخذ بالبحث والتنقيب عن الأسباب والظروف التي عملت على صعود العسكريين الأفارقة إلى الحلبة السياسية، وجعلتهم يتربعون على كرسي الحكم، كما أنها في الآن ذاته محاولة لإلقاء الضوء على العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي جعلت من الأنظمة السياسية الإفريقية أنظمة ضعيفة ومعرضة للإطاحة بها من طرف العسكريين، ويُحدد مولود حمروش الهدف من دراسته في«إبراز الخفايا السياسية والاجتماعية للظاهرة العسكرية التي برزت بدول إفريقيا السوداء، وبصفة خاصة في الدول الحديثة العهد بالاستقلال، وقد وقع الاختيار على الدول الإفريقيّة الواقعة جنوب الصحراء؛ وذلك بسبب الظروف الاجتماعية المُتشابهة والأحداث السياسية المتكررة التي وقعت بها»(3).

قدم مولود حمروش في الفصل الأول من الكتاب لمحة تاريخية عن المؤسسة العسكرية الإفريقية، وقد خرج بنتيجة واضحة؛ وهي أن الجيوش الإفريقية بصفة عامة تعتبر وحدات عسكرية موروثة قلباً وقالباً عن الاستعمار، ما عدا جيوش الجزائر والموزنبيق وغينيا-بيساو وأنغولا؛ التي بها جيوش وطنية مهدت لبروزها الثورات الوطنية المُسلحة بهذه البلدان الأربعة، وقد كانت في جوهرها نواة للانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال الأجنبي المُسلط عليها، كما تحدث مولود حمروش في هذا الفصل عن تجنيد الأفارقة لخدمة النظام الاستعماري، ومن أبرز القضايا التي توقف معها في الفصل الثاني من الكتاب؛ دوافع تكوين الجيوش الوطنية الإفريقية، حيث يذهب إلى أن هناك جملة من الأحداث الحاسمة التي أترث في رؤساء عدد من الدول الإفريقية، ودفعت بهم إلى اتخاذ مجموعة من القرارات المستعجلة بغرض إيجاد جيوش وطنية، وقد كانت هذه الأسباب خارجية أكثر منها داخلية، ومن أبرز تلك الأحداث المهمة؛ أزمة الزائير وتدخل الأمم المتحدة بقوات عسكرية لحفظ الأمن وحماية الوحدة الوطنية من الانهيار؛ وذلك في أعقاب تفكك وحدات قوات الأمن العمومية التي تركها البلجيكيون، وظهور الصراعات الجهوية والعرقية، ويُضاف إلى هذا السبب مشاركة بعض الدول الإفريقية في القوات الأممية بوحدات عسكرية موروثة عن الإدارة الاستعمارية؛ وخاصة أنها كانت تحت قيادة ضباط أجانب في بعض الحالات(نيجيريا وغانا)، وقد خلقت هذه المشاركة حساسيات وترتبت عنها أثار ليس في الداخل فقط، بل وفي الدول المجاورة أيضاً، كما اضطرت الحكومات الإفريقية، وتحت ضغط من الدول الاستعمارية في كثير من الحالات، إلى استيعاب الوحدات العسكرية المتروكة، والمتكوّنة من جحافل الجنود الأفارقة المسرحين من الجيش الاستعماري؛ وذلك بسبب التهديد بقطع المساعدات المالية والعسكرية، ويضاف إلى هذا الأمر وجود تخوف منهم، وقد كان لظهور معضلات ومشاكل وأزمات الحدود الإقليمية للدول الإفريقية الحديثة العهد بالاستقلال أهمية في تشكيل الجيوش الوطنية الإفريقية، كما أثرت الانشقاقات العرقية والجهوية التي هددت وحدة هذه الدول، وأفقدت الحكومات والأنظمة السياسية القائمة السيطرة على الوضع بالبلاد في تكوين جيوش وطنية إفريقية؛ حيث إن الحكومات الإفريقية اضطرت إلى استخدام وحدات عسكرية لحماية الأرواح والأموال والقضاء على التمردات وحفظ الوحدة الوطنية؛ وبذلك فقد تبدت مزايا إنشاء جيوش وطنية فاعلة في الميدان.

وقد حلل مولود حمروش بعمق ودقة وإسهاب أسباب صعود الجيوش الإفريقية إلى الحلبة السياسية؛ إذ يعتقد أن ضعف البنيات الاجتماعية والسياسية بإفريقيا قد جعل من التدخل العسكري وانغماس مجموعة الضباط في الحياة السياسية ليس فقط شيئاً مُمكناً ومقبولاً، ولكن محبذاً أيضاً من طرف المجتمعات الإفريقية نفسها؛ ومن هنا يكون ظهور الجيش على المسرح السياسي استجابة للصعوبات التي واجهت وما زالت تُواجه هذه المجتمعات وقياداتها في طريق تحقيق الوحدة الاجتماعية والوطنية والدفاع عن المشروع الوطني، وقد ربط بين انهيار البنية الاجتماعية والسياسية وبروز الظاهرة العسكرية؛ حيث يقول عن هذا الأمر: «ليست هناك ظاهرة عسكرية فريدة ومستقلة عن الظواهر الاجتماعية الأخرى حتى يُمكن دراستها وتحليلها بعيداً عن باقي المشكلات والتناقضات الاجتماعية الأخرى وتأثيرها؛ فظواهر المجتمعات الإفريقية الاقتصادية والثقافية، وكذلك مجموع بنياتها مبنية كلها أساساً على التناقض الصارخ والحاد، ويتضح هذا التناقض من خلال الفجوة العريضة التي تفصل بين الفئة المتعلمة والفئة الجاهلة، وفي الفوارق الكبيرة بين سكان المدن وسكان الأرياف، وفي التعارض الحاد القائم بين التطوريين والتقليديين، وأخيراً في انقطاع حلقات الاتصال بين الحاكمين والمحكومين لتوصيل الطلبات واستيعاب القرارات السياسية»(4).

ولم يُغفل مولود حمروش الحديث عن العنف الاجتماعي المسلح الذي يدفع بالجيش إلى تصدر الأحداث؛ وقد رأى أن العجز عن استحداث أنماط جديدة من الروابط والعلاقات الاجتماعية وتأسيس تنظيمات متطورة، قد أدى إلى منع حدوث أي تغيير أو تطور على المستوى السياسي، وذلك على الرغم من أن التغيرات التي وقعت في المجالين الاجتماعي والاقتصادي؛ قد حطمت أو زعزعت على الأقل، العلاقات والارتباطات التي كانت تشد الأفراد إلى المنظمات الاجتماعية القديمة، وأوجدت بذلك الظروف الموضوعية المواتية لإعادة قولبة المجتمع على أسس عصرية.

***

د.محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب، جامعة عنابة، الجزائر

.....................

الهوامش:

(1) عبد السلام علي نوير: الاتجاهات المُعاصرة في دراسة الثقافة السياسية، مجلة عالم الفكر؛ مجلة دورية مُحكَّمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، العدد:01، المجلد:40، يوليو-سبتمبر2011م،ص:7-8.

(2) فايز صالح أبو جابر: الفِكرُ السّياسيّ الحديث، منشورات دار الجيل،بيروت،لبنان، ومكتب المحتسب،عمّان،الأردن،1405هـ/1985م،ص:14.

(3) مولود حمروش: الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،الجزائر، 1981م،ص:01.

(4) مولود حمروش: الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء، ص:67.

لكل كتاب قصة وراء تأليفه، وقصة هذا الكتاب «دين العقل وفقه الواقع - مناظرات مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي» تتضح من رسالتين موجودتين آخر الكتاب بين الفقيه البغدادي والدكتور عبدالحسين شعبان يبوح فيهما الأول بفرحه وإعجابه بما قرأه من مقالات نشرها د. عبدالحسين في صحيفة الزمان عن جده محمد الحسني البغدادي تحت عنوان «الإمام محمد الحسني البغدادي - مقاربات في سوسيولوجيا الدين والتدين»، والتي تحولت إلى كتاب نشر بالعنوان نفسه في 2018.

وفي هذا الخطاب يقول البغدادي الحفيد عن شعبان «إن ما قدمه شعبان من مؤلفات معرفية ناضجة، وما قرأت له من كتب وأبحاث ودراسات، وما سمعت له من محاضرات، وجدته يتدفق كالسيل ليشبع ساحة الفكر بحثاً وتدقيقاً». وكان المؤلف الدكتور شعبان قد اقترب أكثر من الحفيد أحمد الحسني البغدادي لمساعدته في تأليف الكتاب عن جده محمد الحسني البغدادي، حيث يذكر المؤلف أنه في كتابه «الإمام الحسني البغدادي - مقاربات في سوسيولوجيا الدين والتدين» كان الحفيد أحمد «المنطلق والمحفز والمرجع في تدقيق الكثير مما كتبه عن جده، سواء في المعطيات أو الاستنتاجات، وفي الاختلافات والاتفاقات».

ولكن لماذا يؤلف الدكتور شعبان كتاباً عن الجد، وآخر عن الحفيد، خلال خمس سنين؟ وبرأيي أن ذلك لأنه يبحث عن شخصيات دينية شيعية لها جذور وطنية عراقية عروبية، يتمكن من الحوار معها حول أصول الدين والفقه في خضم هذا المد الطائفي الذي اجتاح العراق منذ 2003. فيقول شعبان «أعرف العائلة حق المعرفة، وسبق لي أن زرت منزلهم في النجف لأكثر من مرة منذ أواخر الخمسينيات، وأعرف حياتهم البسيطة والمتواضعة والأبية الكريمة.

أقدر تماماً إعراض جده وهو من بعده عن الكثير من المغريات التي وضعت أمامه وحاولت استدراجه، لكنه أدار لها ظهره، والبغدادي الحفيد هو الآخر غير مستعد للتنازل قيد أنملة عن خطه الوطني والعروبي والإنساني». ويضيف الدكتور شعبان عن الحفيد أحمد «أستطيع القول إن السيد البغدادي متصالح مع نفسه - أخطأ أو أصاب - لأنه مقتنع بما يقوم به، حتى وإن كان عكس التيار السائد».

ويبدو أن الدكتور شعبان وهو المتخصص في القانون من جامعتي بغداد وبراغ اختار رجل دين ينسجم معه، ومن خلال حوار الاثنين تتضح فكرة كتابه «دين العقل وفقه الواقع». فضرورات الواقع السياسي العراقي وبروز الأحزاب الطائفية والشيعية خاصة وهيمنتها على المجال السياسي العراقي وإحباطات المؤلف من عدم بروز تيار علماني معتدل في العراق جعلته يبحث عميقاً في الدين، مسترشداً بقول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز «إن أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني». فالكتاب عبارة عن محاولة لإصلاح المجال السياسي عن طريق إصلاح المجال الديني بإضفاء صفة العقل والعقلانية عليه. فالدكتور شعبان قلق من «أن الخطاب الديني يؤثر في القلب قبل العقل أحياناً... وقد يذهب إلى النقيض عندما يعتقد أن التعاليم الدينية تمتلك الحقيقة كاملة، فيتجه إلى التطرف والعنف».

وبالنسبة للدكتور شعبان، فإن أي أيدولوجية دينية أو علمانية تحتاج إلى إعادة تقييم وإعادة فهم عبر الزمن، فالحاضر كفيل بأن يكشف ما لا يستطيع الماضي أن يكشفه. وقد كان الدكتور شعبان الماركسي قد بدأ بنقده للفكر الماركسي قبل انتقاده للفكر الديني. فقد نشر كتابه «تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف» عام 2009، والذي ذكر فيه: «يمكن اعتباري في تناقض شديد مع الماركسية، إذا أخذتها بمعناها إرثاً، إذ ستكون الماركسية بحسب وجهة النظر هذه مجموعة تعاليم أقرب إلى الأدعية والتعاويذ، لا يمكن الاقتراب منها إلا بالتسبيح والتبجيل. وبالتالي، فإن نقدها أو إعادة النظر في بعض جوانبها بما تجاوزته الحياة يعتبر من وجهة نظر البعض ارتداداً أو تخلياً أو انحرافاً».

فهناك ضرورة للتكيف الفكري ومواكبة المستجدات، والفقيه المدرك لهذه الحقيقة سيكون أكثر تمكناً للعب دور مجتمعي إصلاحي، كما أن الماركسي الأكثر جرأة على نقد التجربة السوفيتية أكثر استعداداً للتصالح مع نفسه، وأكثر قدرة على الاستفادة من التجربة الأوروبية الغربية التي تمكنت من دمج عناصر الرأسمالية المحفزة على الإنتاج مع ضرورات توفير التعليم والعناية الصحية لجميع أفراد الشعب. ويوضح شعبان أن ماركس نفسه لم يكن يثق بالحقيقة، وإنما كان يثق بالتوصل إليها، فالحقيقة التي لا طريق لها لن تكون سوى نوع من الوهم المتاح لكل من لا يعرف طريقه.

والكتاب الذي أمامنا «دين العقل وفقه الواقع» يتكون من قسمين رئيسيين، الأول هو الإطار المنهجي والمفهومي الذي يسبق القسم الثاني المكرس لمحاور المناظرات بين الدكتور شعبان والسيد أحمد الحسني البغدادي. ويتكون القسم الأول من نقاش مستفيض حول:

(1) الحداثة والتقليد.

(2) الوعي بالتاريخ والاجتهاد بالإسلام.

(3) الإسلام والحداثة.

(4) الإصلاح والتجديد.

ففي «الحداثة والتقليد» يميز الكاتب بين الإيمان الذي يعني بأسبقية الوعي على الوجود والعلم الذي يعتمد تاريخ الوجود لفهم الوعي. ويؤكد أن هدف الدين هو إسعاد البشرية، لكن عندما ازدادت مظاهر التدين في العقود الخمسة الأخيرة، هل ازدادت السعادة؟ ولماذا ازداد الفقر بعد أن امتلأت المساجد؟ فهناك ثورة عاطفية تبذل جهوداً فيها لتمييز الصادق من المنافق، وهناك غياب في فهم حركة التاريخ. ويرى شعبان «أن الدين مقدس وعلوي وإلهي. لكن التدين منتج بشري لا قداسة له، والمشكلة ليست مع الدين وإنما مع التدين». ولا بد من الاعتراف بأن نقاش الفكر الديني أو أي فكر لا يهم إلا قلة من الناس، لكن هذه القلة هي القادرة على إحداث التغيير. وهذا لا يخص العرب أو المسلمين فقط، وإنما ظاهرة إنسانية يشترك بها كل البشر. فالفيلسوف إيمانويل كانت قال «إن معظم الناس يعيشون حياتهم برتابة عادية، وليس لهم أدنى حاجة إلى الفكر». هذا كان في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وبعد معاناة مع حروب دينية دامت أكثر من مئة عام. وإن كانت أوروبا انطلقت انطلاقة نهضوية بعد معاناة مع الصراع الديني، فهل سيحدث ذلك عندنا؟ ويتساءل المؤلف: هل يمكن التواؤم بين الديني كمنظومة وبين السياسي كمحرك قابل للائتلاف والاختلاف، وعلى أي قاعدة يمكن البناء؟ وما عوامل التلاقي والاختلاف؟ وماذا عن النص الديني المشكل لعقول وعواطف المسلمين؟ فهل يتجدد فهمه؟ وهل المسافة الزمنية بين نزول النص الديني والزمن الحالي تفرض إعادة فهم لهذا النص؟

فالتجربة العراقية توضح أن أغلبية رجال الدين مجاملون، ولا يريدون التخلي عن امتيازاتهم بسبب التصريح عن آرائهم المبطلة لبعض الممارسات الدينية، مثل تلك التي يلجأ إليها البعض ضمن طقوس عاشوراء. وبالتأكيد، فإنه لا الجد السيد محمد الحسني البغدادي، ولا الحفيد أحمد، هما من رجال الدين المجاملين على حساب الحقيقة.

تضمّن كتاب «دين العقل وفقه الواقع» ثماني عشرة مناظرة بين الدكتور عبدالحسين شعبان والسيد أحمد الحسني البغدادي – ومع أهميتها – فإنه لن يكون هناك مجال للاطلاع على تفاصيلها، لذا سأكون انتقائياً، وأبدأ بالمناظرة التي كان موضوعها «مصادر التشريع والإجماع والشهرة».

فالتشريع الإسلامي – وربما أي تشريع – يعتمد على مجموعة قواعد مستقاة من نص شرعي أو اجتهاد فقهي. والاجتهاد يعتمد على خبرة المرجع الدينية واللغوية. لكن وفي معظم الأحيان يقوم الفقه التقليدي بتجميد الوقت. فالتفسيري الماضوي أكثر ثقة ومحبب لدى المدارس التقليدية، لكن السيد أحمد الحسني البغدادي ليس تقليدياً في هذا المجال، ويرى «أن الشريعة ليست مغلقة أمام الفعل الإنساني، ولا بد من استيعاب معمق لمقاصدها... فهي ليست طقوساً جوفاء أو ممارسات بلا روح، بل إن لها أهدافاً صائبة يفترض بها أن تنسجم مع مقاصد الشريعة». وفي هذا المجال، فإن للحسني البغدادي كتاباً بعنوان «التفسير المقاصدي: تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد». والمعروف أن أبو إسحق الشاطبي، المتوفى 790 هـ، هو الذي كان رائداً في تقديم علم المقاصد. وما قدمه في مجال التفسير المقاصدي اعتمد عليه محمد عابد الجابري كثيراً في تمييزه للمدرسة المغربية في كتابه «بنية العقل العربي».

ويشرح شعبان في مناظرته مع الحسني عن مصادر التشريع: «يرتبط فقه المقاصد بعملية استنباط الأحكام الشرعية عبر الواقع، وبالتالي فإنه فقه الواقع لأنه يستجيب لمتطلبات، آخذاً في الحسبان حياة البشر وغاياتهم ومثلهم العليا وقيمهم الإنسانية عبر تدبير شؤونهم بما ينسجم مع ذلك باستخدام العقل».

وأرى أن الفكر المقاصدي لا يمكن أن يأخذ حقه في المساحة الذهنية لدى طلاب الشريعة من دون اطلاع هؤلاء الطلاب على مجالات علمية أخرى. فطالب الشريعة سيتسع أفقه ويتنور تفكيره عندما تتسع دراساته إلى العلوم الاجتماعية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ. ففقه المقاصد يتطلب قاعدة علمية أوسع.

وفي هذا المجال، أود أن أشير إلى كتاب، نشره أخيراً الدكتور ساري حنفي ـ أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في بيروت - بدعم مادي من مركز نهوض في الكويت، بعنوان «علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة». فاجتهادات طلاب الشريعة الذين درسوا العلوم الاجتماعية ستكون مختلفة عن اجتهادات من اقتصرت دراستهم على علوم القرآن والحديث الشريف. فالدين وفقاً للسيد أحمد البغدادي «جاء بثورة رسالية انبعاثية تغييرية شاملة في مواكبة مسيرة الحراك المجتمعي الرافض لكل جمود ورجعية». ويضيف شعبان مقتبساً من كتاب البغدادي «التفسير المقاصدي» أن هناك جهوداً للمحافظة على فتاوى تقليدية خوفاً من اضطراب الثابت في علم الفقه.

وفي المناظرة عن «الدين بين المقدس والمدنس»، كان النقاش حول مدى تأثير الدين في المجتمع، وسأل شعبان الحسني عن رأيه في التقديس، الذي يحاول بعض المعممين اقتصاره على أنفسهم. وتساءل: ما الجهة المنظمة أو المؤسسة التي تمنح هذه الألقاب، ووفقاً لأي معيار؟ وشبه شعبان تهافت كثير من رجال الدين على هذه الألقاب بتهافت الكثيرين على الشهادات العلمية الجامعية بعد احتلال العراق. ويرى شعبان أن منح لقب «آية الله»، الذي يطمح إليه الكثير، هو من صنع رجال الدين أنفسهم. لكنه يؤكد عراقة مدرسة النجف في تأكيدها على حرية التفكير والبحث العلمي والاستقلالية، مقتبساً من محمد فاضل الجمالي، الذي درس في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة بعد أن درس في النجف، قوله: «انه لم يجد ما يضاهي مدرسة النجف من حرية واستقلالية، وفي ترسيخ المادة العلمية في ذهن الطالب، وتكوين شخصيته، وترك الأثر العميق في حياته».

وفي المناظرة حول «نقد مبدأ التقليد»، يشرح شعبان أن البعض يعدها من الثوابت، لكنه لم يجد لها أصلاً، لا في القرآن ولا في السنة النبوية. ويتساءل: ماذا سيكون موقف المقلد عندما تختلف المرجعية الدينية مع المرجعية السياسية؟ مشيراً إلى انقسام الآراء حول التقليد بين المقلدين للخوئي ومحمد باقر الصدر. هذا مع أن أغلبية فقهاء الشيعة يميلون إلى التقليد، وأهم من عارض التقليد منهم كانوا: علي شريعتي والمفكر العراقي عادل رؤوف والسيد أحمد الحسني البغدادي وآية الله محمد مهدي شمس الدين.

ولعل من أهم المناظرات بين شعبان والحسني كانت حول الطائفية والتمذهب، خصوصاً في العراق. ويفرق الاثنان بين الطائفة والطائفية. فالطائفة تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وفهم معين للدين. أما الطائفية، فتوجه سياسي يسعى إلى الحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة. ويستنكر الحسني البغدادي العودة للتاريخ لزرع عواطف الكراهية، وفي هذا المجال يصرح: «لا نريد العودة إلى اجتماع سقيفة بني ساعدة، ولكن لا بد من استلهام العبر وفتح الحوار على مصراعيه، وصولاً إلى التوافق في إطار سعي جاد وبحث مسؤول في المشتركات الإنسانية، وحيث لا يمكن الاتفاق على الماضي، فلندع ذلك للتاريخ والباحثين المتخصصين، ودعنا نتفق على الحاضر».

وينتقل النقاش إلى الوضع السياسي الراهن في العراق، وبالذات إلى تشكل الأحزاب الشيعية الطائفية، وهيمنتها على مفاصل الحكم في العراق بعد 2003. وإن كان هناك عقل باطن لهذه الأحزاب، فإنه كاد يصرح بأن العراق لا بد أن يحكم من الشيعة، ومن الشيعة فقط.

وفي هذا المجال، يرى الدكتور شعبان «أن مشكلة الحركة الدينية الشيعية في العراق أنها ترى أن مشكلة العراق الأساسية هي الطائفية.. إنما نرى أن المشكلة هي سوء الحكم وفساد الإدارة وانعدام سيادة القانون وضعف المواطنة». ومن خلال هذه المناظرة، يتفق الاثنان - شعبان والحسني - على أن مظاهر العزاء الشيعي، التي ظهرت بكثافة في السنوات الأخيرة، ليست لها علاقة بالتشيع.

فيرجع مرتضى المطهري، في كتابه «الجذب والدفع في شخصية الإمام علي»، مظاهر مثل التطبير والطبل إلى أنها عادات أتت من مسيحيي القوقاز، ويرجع علي شريعتي، في كتابه «التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، هذه المظاهر إلى أن إسماعيل الصفوي (1501–1524) استحدث وزارة خاصة بالشعائر الدينية، وأرسل وزيرها إلى القوقاز للاطلاع على الشعائر الدينية المسيحية، فوجد فرقاً مسيحية تقوم بالتطبير إحياء لعذابات المسيح، فنقلها تجسيداً لمصيبة الحسين وآل بيته في عاشوراء.

وفي النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن السيد أحمد الحسني البغدادي كان من رجال الدين، الذين رفضوا التعاون مع سلطات الاحتلال. وكان رافضاً لتقسيم العراق الطائفي، الذي قرر له في واشنطن ولندن، فكان يرى نفسه عربياً عراقياً مسلماً ينتمي إلى المذهب الشيعي. واستنكف منذ البداية التوزيع الطائفي للغنائم. وكان يرى - كما يرى هوبز - أن كل إصلاح مفتاحه الفكر الديني.

لكن غنى هذا الكتاب «دين العقل وفقه الواقع: مناظرات مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي» لا يدرك إلا بقراءته.

***

د. حامد الحمود

عصبة مكافحة الصهيونية ونقض الرواية الإسرائيلية

أضاف الباحث والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان كتابه الجديد إلى المكتبة العربية والموسوم عصبة مكافحة الصهيونية ونقض الرواية الإسرائيلية، وهو جهد متميز وتاريخي لدحض الصهيونية بتمثل اليهود في العالم، وذلك عبر إضاءة فصل مهم ومنسي او مهمل من تاريخ الكفاح الوطني العراقي الذي ساهم فيه يهود تقدميون معادون للصهيونية، بل شكلوا عصبة لمكافحتها بتوجيه من فهد امين عام الحزب الشيوعي الذي أعدم في العلم 1949 ، وشعبان كما معروف مفكر جزل العطاء، حيث أنجز العديد من العناوين المهمة في مجالات متعددة في القانون والسياسة والفلسفة والتاريخ والإقتصاد والمجتمع المدني والفكر الدينية وغيره من المجالات الحيوية، وقدم اجتهادات جريئة وأراء نقدية.

كتاب شعبان مهم أيضا لناحية علاقته بالمقاومة تاريخيا،و القضية الفلسطينية بالنسبة له مثلما هي للعديد من التقدميين بوصلة كل العرب والمسلمين، خصوصا وان النضال الفلسطيني ضد الاستيطان الاسرائيلي يتصاعد ويتسع على الرغم من ممارسات إسرائيل العنصرية.

سأقدم للقارئ تعريفات بالكتاب الذي يعكس موقف الحركة الشيوعية بقيادة يوسف سلمان يوسف (فهد ) من القضية الفلسطينية والملابسات التي قادت إلى تغيرها لاحقا.

وكان برنامجها الأول يقوم على: أ- أن الحركة الصهيونية حركة عنصرية دينية رجعية. ب- أن الهجرة اليهودية، لاتحل مشكلات اليهود المقتلعين من اوربا، بل هي غزو منظم تديره الوكالة اليهودية.

ج - أن تقسيم فلسطين عبارة عن مشروع امبريالي قديم.. يستند إلى استحالة مفترضة للتفاهم بين اليهود والعرب. د- أن شكل حكومة فلسطين لا يمكنه أن يتحدد إلا من قبل الشعب الفلسطيني الذي يعيش في فلسطين فعلآ، وليس من قبل الأمم المتحدة أو اية منظمة أو دولة أو مجموعة دول أخرى.

دولة يهودية: ه - أن التقسيم سيؤدي إلى خضوع الأكثرية العربية للاقلية الصهيونية في الدولة اليهودية المقترحة. و- أن التقسيم وخلق دولة يهودية سيزيد من الخصومات العرقية الدينية وسيؤثر جديا على آمال السلام في الشرق الأوسط.

ولك هذه الأسباب فأن الحزب الشيوعي يرفض بشكل قاطع خطة التقسيم (نص التوجيه الداخلي للحزب). وبعد أن قدمت مجموعة من اليهود بتوجيه من الحزب مذكرة إلى وزير الداخلية للحصول على ترخيص قانوني في 12 أيلول/ سبتمبر عام 1946 اقدمت الحكومة التي تشكلت في 23 شباط /فبراير 1946 ووزير داخليتها الشخصية الوطنية المعروفة سعد صالح جريو، منح الإجازة القانونية لعصبة مكافحة الصهيونية، وكانت المذكرة مقدمةمن ثماني شخصيات يهودية وهم كل من سليم منشي، نسيم حسقيل يهودا، مسرور صالح قطان، وإبراهيم ناجي، ويعقوب مير مصري، مير يعقوب كوهين، يعقوب إسحاق، وموشي يعقوب. واصدرت العصبة جريدة لها بأسم (الأساس).

شمل الكتاب على خمسة عشر عنوانا وملخصا بالغة الانكليزية. وكتب المؤلف أن البحث يتألف من شقين أساسيين: اولهما: يبحث في تفاصيل تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية وحيثيتها.و ثانيهما: يتناول مسألة نقض الرواية (الإسرائيلية) التي تزعم تمثيلها ليهود العالم بمن فيهم يهود العالم العربي. ويسلط البحث الضوء على ما تعرض له اليهود المعادون للصهيونية من حرب مزدوجة ومركبة؟ الأولى من من الحركة الصهيونية، بزعم إثارة يهود العالم ضدها والتشكيك بنواياها وأهدفها، والثانية من الحكومات الرجعية والقوى المتعصبة والمتطرفة حيث تعرضوا لحملة قمعية شرسة، باعتبارهم طابور خامسا متواطئا مع الصهيونية عدوتهم الأساسية. وفي الاستهلال يتناول الكتاب حيثيات وجوهر فكرة مناهظة الصهيونية، حيث يقتبس فقرة من مذكرة العصبة جاء فيها؛ [هذه هي الصهيونية سافرة عارية، ولكن الصهيونية ككل حركة استعمارية رجعية تشعر ببشاعة شكلها وقبح معالمها فتقنع نفسها باقنعة جذابة وأثواب جميلة فضفاضة تخفي وراءها بشاعتها وقبحها ولذلك فنحن بوصفنا يهودا وطنيين واعين نتقدم بطلبنا هذا لغاية السماح لنا بتمزيق القناع عن وجه الصهيونية الحقيقي أمام الجماهير اليهودية وغير اليهودية].

يذكر الباحث أنه استعاد كتاب الصديق د. عبد اللطيف الراوي الموسوم (عصبة مكافحة الصهيونية في العراق) والذي تناول فيه دوراليهود اليسارين العراقيين في الكفاح ضد الصهيونية، وعلى ذكر د. عبد اللطيف الراوي فاتذكر علاقتنا به، حيث كان أستاذا في كلية الآداب بجامعة البعث في حمص السورية، ورحل عن دنينا في عام 1991 ونظمت له أمسية استذكارية وألقيت فيها انا كاتب السطور كلمة أصدقاء الفقيد. ونعود إلى ماكتبه شعبان في كتابه عن أهداف العصبة وأساسها القانوني: حددت المادة الثانية من عصبة مكافحة الصهيونية أهدافها: مكافحة الصهيونية وفضح أعمالها ونواياها بين جماهير الشعب العراقي ولاسيما اليهود. الوقوف ضد الصهيونية ودعايتها، القضاء على النعرات الطائفية التي تمزق الشعب العراقي. خلق جو من التفاهم بين مواطني الشعب العراقي.و من الأساس القانوني، يكتب شعبان عن مؤسيسيها والحركة الشيوعية التي تقف خلفها، انهم اختاروا نقطة مفصلية في تاريخ العراق، خصوصا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتشار الأفكار الديمقراطية وابداء الأمير عبد الإله الوصي على العرش استعداد المملكة العراقية للانفتاح وذلك في خطابه يوم 27 كانون الأول/ ديسمبر 1945 الذي أعلن فيه موافقته على تأسيس الأحزاب (التي لايصح بقاء البلاد خالية منها) فقدموا طلبا ينسجم مع الدستور والقوانين والأنظمة المرعية بتشكيل الجمعيات ليحصلوا على الاجازة القانونية. ولعبت صحيفة العصبة دورا مهما في بث الوعي بين اليهود بشكل خاص وفي الشارع العراقي بشكل عام في فضح التوجيهات الصهيونية في قضية الهجرة الى فلسطين، ولم يدخر الباحث جهدا لتنوير المتلقي عن تاريخ الصهيونية ونشأتها الأولى في روسيا وبولندا وصولا إلى تأسيس الاتحاد السوفيتي عقب ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917 كان عدد اليهود فيه كبيرا، واحتلوا مواقع مهمة في الحزب الشيوعي والمواقع الرسمية في الدولة تفوق كثيرا نسبتهم العددية وقد حاول العديد منهم الاندماج في العشرينيات والثلاثينيات لكن أحوال عمليات التطهير النازية أيقظت مشاعرهم، علما بأن العديد منهم لم يسجل في هويته الشخصية كونه يهوديا.

فارق جوهري؛ ومنذ وقت مبكر أضاء لينين الفوارق الجوهرية بين الماركسية والصهيونية واعتبر الأولى نقيضا للثانية التي لا تجتمع معها، فالثانية حركة عنصرية، مؤكدا على تعارض الاممية مع تلك النزعات الضيقة وقد تبنى البلاشفة موقف لينين وأصبح بمثابة سياسة رسمية للإتحاد السوفيتي والاممية الثالثة أساسها لينين العام 1919،، ولا يمكن للباحثين في القضية الفلسطينية إلا الرجوع له كوثيقة مهمة ومصدر علمي لا غنى عنه. وخصوصا وهناك محاولات صهيونية لتزيف التاريخ الفلسطينية وتزويره والقيام بحفريات في القدس وغيرها من المناطق الفلسطينية، لإثبات دونها مناطق يهودية تاريخية هو ما نقظته اليونسكو، كما أن الكتاب مهم أيضا لجهة اشتداد الهجمة الصهيونية على الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة من قصف همجي للمدن واطلاق يد المسنوطنين في استخدام السلاح ضد السكان الامنين كذلك تهديم منازل عوائل الشهداء الابطال الام الذي يعكس حقيقة أن الصهيونية والنازية هما وجهان لعملة واحدة وكلهما يسمدان ايدلوجيتهما من الفكر العنصري الاستعلائي.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

اول ما دفعني لطلب الكتاب من صديقي الجميل صالح البلوشي -قبل وصول الكتاب للسلطنة- هو أني أعرفه واعرف زوجته فائزة محمد جيدا، وحين تكتب فائزة عن "ايران" فحتماً ولابداً ولا شكاً وقطعاً ويقيناً  -وكل ألفاظ الجزم واليقين وادواتهما- ستتحدث عن رحلة جميلة رائعة جمعتنا نحن الثلاثة، ومعنا فريق جميل من "الشيّاب/الشباب" العمانيين والذين كانت رفقتهم بلسما من كل كدر وبؤس.

فائزة اتذكرها في تلك الرحلة -يشاركها زوجها صالح في هذا الطبع- فضولية من الطراز الرفيع، تحب ان تعرف، تتعرف، تشارك، تتحدث، تسمع، تناقش، طبعا يزيد عليها صالح ب"قفشاته" الاستفزازية التي تريد ان تستخرج من الطرف الاخر ما لا يقال في المجالس العامة، في حين فائزة انثى رقتها لا تسمح لها الا بالمراعاة والمجاملة.4931 فايزه محمد

وصلني الكتاب بعد اسبوعين من طلبي، لان دور النشر انتظرت معرض مسقط الدولي للكتاب، لتحضره للمشاركة به في المعرض.

لا ابالغ ان قلت أني ما إن بدأت به حتى التهمته في قضمة واحدة، لانه كتب بلغة السهل الممتنع، فالكتاب حكاية/ رحلة جميلة كتبت بانسيابية وسلاسة عالية، لا تكلف فيها ولا مبالغات، الإنشاء فيها قليل، في حين ان لغته البسيطة تجعل القاريء يواصل القراءة دون توقف مستمتعا به.

الجميل في الكتاب ان الكاتبة ترمي من خلال اسطره ملاحظاتها دون ان تطيل فيها، ودون ان تجرح، ودون تعالٍ، توصل رسالتها في تلك الملاحظة بتوازن شديد، كالتي ذكرتها حين الحديث عن طهران شمالها وجنوبها، والفجوة بين الطبقتين (الثراء والفقر)، ثم اكدت ان هذه مشكلة لا تختص بطهران وحدها، بل هي في كل العالم، شمال غني وجنوب فقير.

وفي طيات هذه الحكاية/ القصة لم يفت الكاتبة أن تفيد القاريء، وتضيف لقراءته قيمة مضافة -وليس ضريبة مضافة- فتطرقت وبسرعة لمعلومات جغرافية وعلمية وتاريخية دون ان يشعر القاريء انه حشو زائد، او ان متعة قصته تم انتقاصها او قطعها.

ما زاد في استمتاعي بقراءة الكتاب ان نصف الكتاب او اكثر كان حديثا عن رحلتنا المشتركة، فكان خيالي يسترجع تلك الذكريات الجميلة في رحلة مليئة بالعلم والثقافة والطرفة والنكتة والمواقف الرائعة من كل الاحبة العمانيين الذين تشاركنا الرحلة معهم، وكلهم قامات دينية علمية أدبية ثقافية فخمة.

استطاعت فايزة محمد ان تصف بشكل جميل كل الاماكن التي زرناها، واعطتها حقها دون سرد ممل، ودون اطناب، فاقتطعت كثيرا من التفاصيل التي لا تهم القاريء، وربما تجعله يمل ويتعب.

من المقارقات التي لاحظتها على الكاتبة من خلال الكتاب انتقادها للسياسة في عدة مواضع منه، واسميها مفارقة عندها لانها تعيش مع زوج -صديق عزيز احبه كثيرا- يعشق السياسة ويتنفسها، وعلاقته بها كعلاقة السمكة بالبحر، واظن ان هذه المفارقة زادتهما ارتباطا ببعض.

في حديثها عن زيارتها لمشهد، ادمعت عيني باسلوبها الانيق والذي خطّت فيه بمشاعرها وهي تزور قبر الامام علي بن موسى الرضا(ع) الامام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) لدى المسلمين الشيعة.

كانت تتحدث عن هذه الزيارة وكأنها شيعية، ومعرفتي بها -وبزوجها ايضا- تدفعني للقول انها تمتلك تلك الروح الصوفية الشفافة والتي تجعلها تتعاطى بسلاسة وحب مع كل ماهو روحي جميل يقرب من الله، ويبعد عن الصراعات والاختلافات، بل من يقرأ كتابها سيقر انها تنشد الصعود والسمو الروحي، لذا لا عقدة لديها في زيارة من يحقق لها هذا.

وكم كان رائعا ذلك العنوان الذي اعطته للفصل الذي تحدثت فيه عن قم، تلك المدينة العلمية العظيمة والتي خرجت على مدى تاريخها مئات الالوف من العلماء، وفيهم الافذاذ والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والادب واللغة العربية، بل والخطباء والدعاة.

سمت الفصل"عاصمة القابضين على الجمر" في عنوان رائع فاق الكتاب كله بما يحويه من "دهشة" وما يضمه من اسقاطات وملازمات وتاريخ وتحديات.

وخلال هذا الفصل اعطت فكرة موجزة/ وافية عن طريقة الدرس الحوزوي ومراحله وبعض الكتب التي تدرس فيه. وايضا عن المسميات الحوزوية المتعارفة هناك فيما يخص المراحل ورجال الدين.

وأحب ان اضيف لها معلومة -ربما فاتها ذكرها- ان حوزة قم ومن خلال جامعة المصطفى العالمية تعطي شهادات اكاديمية معترف بها في وزارة التعليم العالي بايران، وهناك امتحانات ورسائل وبحوث يقدمها الطلبة وعلى اساسها تعطى الدرجة العلمية المعادلة للدرجة الحوزوية.

من الملاحظات المهمة جدا والتي ذكرتها الكاتبة كانت عن ترجمة كتب التراث والفكر والادب وغيرها من العربية للفارسية والعكس، حركة الترجمة هذه فعلا مهمة للتعرف على بعضنا بعضا، وستخفف كثيرا من التوتر الحاصل بسبب السياسة، وتضيق كثيرا من الفجوات، كما انها ستقضي على سوء الفهم الحاصل بسبب الاعلام المنحاز.

الكتاب كما اسمته كاتبته "طواف" قبل ان يكون قصة وحكاية، وهي رحلة من الذات، لأنها انطلقت بكل موضوعية، وبدون انحيازات، او افكار مسبقة، بل كانت مجردة الا من الحب للتعرف على حضارة غارقة في القدم، وبلد كان مهدا للتصوف والعرفان والارتقاء الروحي، وانجب للتاريخ الاسلامي في هذا المجال رجالا يشار لهم بالبنان، ودولة مدنية حضارية استطاعت ان تتبوأ مراكز متقدمة في كثير من المجالات العلمية والتقنية والطبية رغم ما تعانيه من حصار ومحاربة ومقاطعة طوال اكثر من ٤٠ عاما.

صالح البلوشي وهو يخبرني عن الكتاب قال لي ممازحا: اسمك -يقصدني- ذُكر في الكتاب ٣ مرات في حين اسمي ذُكر فقط مرتين.

وها انا اقول له: انا تعمدت ذكرك هنا عدة مرات لاعوضك ما حرمتك منه زوجتك، شكرا فائزة، كانت رحلة من الذات، وهي فعلا دخلت ذواتنا، وخرجت للعالم لتعلن ولادة مؤلفة عمانية بارعة فارهة، -بعد ان ابدعت كصحفية- ننتظر منها المزيد لتضيفه في "ادب الرحلات".

***

أ. مصطفى محسن اللواتي

 

وصلتني البارحة نسخة من كتاب "القراءة الفلسفية للقرآن الكريم .. إبن رشد  أنموذجاً" وهي أطروحة دكتوراه نال عنها الطالب العراقي المثابر رواد محمد محمود شهادة الدكتوراه من كلية الإلهيات بجامعة اسطنبول تحت إشراف الأستاذ الدكتور شوكت كوتان .

الأطروحة صدرت مؤخراً بكتاب أنيق في عَمان عن دار أمواج للنشر والتوزيع. وكان من دواعي سروري أن كتبت له هذه المقدمة الموجزة :

يُشعرك من يتصدى للكتابة عن إبن رشد، بروح التحدي والمثابرة، ذلك أن هذا الفيلسوف "المُفترى عليه " بحسب وصف المفكر العربي الدكتور محمود قاسم، قد نال من اهتمام الباحثين والمؤرخين وأساتذة الفلسفة وطلابها عرباً وأجانب من المسلمين وغير المسلمين، ما يسد الطريق أمام الباحثين الجدد، ويدعوهم في الوقت نفسه للبحث عن جوانب لم تشبع بعد بحثاً ودراسة وعناية تتعلق بالفكر الرشدي الذي ترك أثره على مجمل الفكر الفلسفي العربي والأوروبي في العصرين الوسيط والحديث، ليس لكون ابن رشد هو الشارح الأكبر للمعلم الأول أرسطو فحسب، إنما أيضاً بما أضافه في شروحاته وكتبه وآرائه الفقهية والفلسفية من آراء وتصويبات وشروحات أغنت الفلسفة الإسلامية في المشرق والمغرب، وشذبتها مما علق بها من اتجاهات غير عقلانية، وجعلت برهانها العقلي موافقاً لبيان الوحي لا متعارضاً معه، ومنسجماً مع الحجج البيانية لإثبات القضايا الكبرى في العقيدة الإسلامية، غير أن ابن رشد قد تعرض إلى سوء فهم وهجمات قاسية من اللاهوتيين الأوروبيين وفي مقدمتهم توما الأكويني، وهذه هو محور أحدث ما صدر من كتب في أوروبا عن هذا الفيلسوف الأندلسي، ونقصد به كتاب " ابنُ رُشدٍ المُقلق" للفيلسوف الفرنسي المعاصر جان باتيست برونيه – مواليد 1972 - وهو أستاذ في جامعة السوربون متخصص في الفلسفتين العربية واللاتينية ولاسيما ابن رشد وإرثه اللاتيني، وقد صدر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الفرنسية في عام 2015 وترجمه لاحقاً إلى العربية جورج زيناتي مع مقدمة بقلم الحسين سحبان تحت عنوان " الغربُ وشَبَح ابن رشدٍ المُقلق" أشار فيها إلى السؤال المزدوج الذي يوجّهُ تفكير برونيه في كتابه هذا : " لماذا لم تمت الرشدية على الرغم من كل ما قوبلت به أطروحة ابن رشد من عداءٍ ومحاربةٍ لا هوادة فيها، بل ظلت صامدة تعاود الظهور حيناً بعد حينٍ في تاريخ الفكر الغربي منذ العصر الوسيط ؟ ولماذا يمتزج في تاريخها داخل هذا الفكر الانبهارُ بالرفض ؟ ". يتحدث كتاب برونيه كما يقول مؤلفه عن ابن رشد الذي اصبح بفعل ترجمة كتبه وتوزيعها واستعمالها: "من أهم ينابيع الثقافتين اليهودية واللاتينية في القرون الوسطى. غير أن السكولائية جعلت عمله فضيحة. فما حدث ودام عدة قرون في أوروبا هو أن ابن رشد أصبح الأب المعتوه لنظرية منحطَّ ومعادية للدين تتعلق بالإنسان "، وقد لجأ برونيه في كتابه هذا إلى  المفهوم النفسي الفرويدي " الغرابة المُقلِقة " ليتحدث عن الأمر الذي دفع توما الأكويني واللاهوتيين الأوربيين إلى اتخاذ هذا الموقف المعادي لفيلسوف قرطبة. وهذا ما يعود بنا إلى الكاتب العربي الكبير عباس محمود العقاد الذي أصدر قبل سبعين عاماً كتاباً عن ابن رشد اعتبر فيه أن من " أعجوبة الأعاجيب في نشأة ابن رشد أنه نشأ في دولة الموحدين وأنه تلقى التشجيع من أحد خلفائهم على الاشتغال بشرح أرسطو وتفسير موضوعات الفلسفة على العموم، وكان موضع العجب أن يأتي هذا التشجيع من أناس اشتهروا بالتزمت والمحافظة الشديدة على العلوم السلفية ".

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى جهود الباحث رواد محمد محمود في كتابه "القراءة الفلسفية في تفسير القرآن عند إبن رشد" - وهو في الأصل أطروحة دكتوراه في التفسير قُدمت إلى كلية الإلهيات في جامعة إسطنبول- حاول فيها أن يدلو بدلوه في علم بعيد نسبياً عن اهتمام الباحثين الذين بحثوا عادة في ميادين متعددة من فلسفة وفقه وطب قاضي قرطبة من دون أن يتنبهوا كثيراً إليه، وأعني تفسير القرآن عند إبن رشد، وقراءة هذا التفسير قراءة فلسفية، لإثبات حقيقة أن لا تعارض بين الحقائق الايمانية والبيانية والعقائدية، وبين البراهين والأقيسة والحجج الفلسفية والأدلة العقلية، مثلما أراد إبن رشد ذلك، وعمل عليه في مصنفاته الفلسفية التي وضعها من أجل تبيان هذه الحقيقة، مخالفاً قراءات الفقهاء والمتكلمين من قبله ومنهم أبو حامد الغزالي، وكذلك الفلاسفة من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا في جهودهم ومحاولاتهم للتوفيق بين النقل والعقل، وبين الدين والفلسفة، والشريعة والحكمة، مما عرضه لحملة من الفقهاء والمتكلمين أدت إلى الإفتراء عليه والتسبب في نكبته المعروفة. وقد تمكن الباحث من بلورة أفكار جديدة في موضوع تفسير القرآن عند إبن رشد، قدمته مفسراً إلى جانب كونه فيلسوفاً وفقيهاً، من خلال فحص دقيق لكتابيه " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" و" الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" من الناحية النظرية في الكتاب الأول، والتطبيقية في الكتاب الثاني، وبذلك فإنه يقدم المنظومة المعرفية للتفسير عند أبي الوليد مع بقية مؤلفاته، وفي المقدمة منها "تهافت التهافت" في وحدة منهجية متكاملة، ويغني المكتبة الرشدية ببحث جديد وأصيل في مادته وموضوعه، يذكرنا بكتب الحوارات بين الفلاسفة والمتكلمين وفي مقدمتها كتاب استاذنا الراحل حسام محيي الدين الآلوسي الشهير "حوار بين الفلاسفة والمتكلمين" الذي حظي باهتمام واسع من القراء والباحثين منذ صدوره قبل أكثر من نصف قرن، وبقي إلى يومنا هذا من المصادر الأساسية في المكتبات الأكاديمية العربية في موضوع تخصصه التي يشار اليها بين الدارسين اختصاراً باسم حوار الآلوسي، غير أن جهود الباحث قد تركزت على المنظومة المعرفية الرشدية المترابطة بين التهافت وفصل المقال ومناهج الأدلة .

ويقودنا هذا الكتاب وهو يمهد لبلورة موضوعه الأساس، في رحلة معرفية متسلسلة ومتشعبة وشائقة، تبدأ من المراحل الأولى لنشأة التفسير الفلسفي وعلم الكلام، ومفاهيم الفلسفة وفروعها، وطبيعة البحث في الموضوعات الإلهية بين الفلسفة وعلم الكلام، وظهور بوادر فلسفة التفسير على يد الماتريدي باستخدامه آلية التأويل العقلي متأثراً بالبيئة العقلية التي نمت نمواً عظيماً خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، ثم ينتقل إلى الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي الذين يمثلون نتاج انفتاح المسلمين على الفلسفة، مستعرضاً جهودهم الأولى في التفسير الفلسفي للقرآن الكريم، وفهمهم لمصطلحات فلسفية من قبيل قدم العالم وحدوثه، وأصل نظرية قدم العالم، وخصائص تفسير الفارابي وابن سينا على وجه التحديد وجدل العلماء حول قبول التفسير الفلسفي أو رفضه. بعد ذلك ينتقل البحث إلى حركة التفسير والفلسفة في الأندلس منذ الفتح وحتى عصر ابن رشد، من ابن مسرة وابن حزم وابن باجة وابن طفيل وصولاً إلى ابن رشد الذي دفعته إشكاليات توافق العقل والنقل، والتفرق والتكفير، والمنهج، إلى محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة. ثم يستعرض مفهوم الفلسفة وعلم الكلام والغرض من وحدتهما، ومشروعية الفلسفة عند ابن رشد من حيث الاستدلال بالقرآن وبعلم الأنبياء والمنطق. أما منهجه في تأويل القرآن فإن الكتاب يعرض الخطوات المدخلية لهذا المنهج من خلال قراءة في فصل المقال، وتأسيس السلطة الدينية، وضوابط المعرفة البرهانية، واستحالة الإجماع في النظريات، ووجوب النظر في كتب القدماء، والخطاب والتأويل، لينتقل بعدها إلى آليات ذلك المنهج متمثلة في أصول التأويل، والتأويل والمجاز، وقانون التأويل، ومبادئ التأويل وشروطه، والقول الديني والتأويل، والظاهر والباطن. ثم يستعرض منهج ابن رشد النقدي وخصائصه وقواعده في مواجهة المتكلمين، وموقفه من أهل الظاهر، والأشاعرة، والصوفية. وبعد هذه الرحلة المعرفية التأسيسية يصل الكتاب إلى مبتغاه في تأويلات إبن رشد الفلسفية بعرض منهجه البرهاني في إثبات وجود الله تعالى بدليلي العناية والإختراع، ومنهجه في القول بقدم العالم وحدوثه وفي التوحيد والصفات، وموقفه النقدي في مواجهة إبن سينا والغزالي، وصولاً إلى تطبيق التأويل الفلسفي على القرآن بتنزيه الله عن صفات المخلوقين كالمماثلة والتجسيم والجهة، وبأنه نور بحسب الآية الكريمة "اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، ثم يعرض قضية الله والإنسان من خلال بعث الرسل، والقضاء والقدر، والعدل والجور، والمعاد. ويختتم الكتاب غايته بالنظر في منهج تأويلات إبن رشد من منظور علم التفسير، وقيمة هذا المنهج وحدوده، وميوله إبن رشد الاعتقادية في الـتأويل الفلسفي للقرآن الكريم.

إن أهمية هذا الكتاب تكمن في الربط بين فعلي التفلسف والتفسير، واثبات صحة أركان العقائد الإسلامية بالأدلة العقلية المستمدة من النصوص القرآنية التي هي في جوهرها لا تتعارض مع المنطق والعقل السليم، ولعل غاية إبن رشد قد تعدت ذلك، فهو لا يرمي مثل الذين سبقوه إلى محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة على ما في هذه المحاولة من هنات كثيرة، إنما غايته اثبات أن لا تعارض بين النص القرآني والبرهان العقلي، وان التفسير الفلسفي للقرآن هو من جنس التفسير العقلي الذي يستمد قوته من عقلانية النص نفسه لا من خارجه، ذلك أن المنهج الأعلى في علم التفسير هو تأويل القرآن بالقرآن ، وقد طبق إبن رشد هذا المنهج في تفسيره للآيات القرآنية للدلالة على أن القراءة الفلسفية في التفسير تراعي أصول وضوابط علم التفسير في تأويل النصوص القرآنية " فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له " مثلما يقول إبن رشد في كتابه فصل المقال .

أخيراً، فإن هذا الكتاب الذي بين أياديكم يمثل إضافة معرفية ممتازة ليس لمكتبة إبن رشد وحدها، إنما لعموم المكتبة العربية في الفلسفة الإسلامية وفي التفسير الفلسفي للقرآن الكريم، وهو جدير بأن يحتل مكانة مهمة في كتب المجادلات الفكرية والكلامية والفقهية والفلسفية التي تمثل خلاصة آراء الأولين الذين غامروا في سبر غور آفاق معرفية عقلية شاسعة أتاحها لهم التفكير الفلسفي في القضايا الكلامية الإسلامية الكبرى التي أثارها علم التوحيد وأصول الدين، أو ما يسمى بالفقه الأكبر الذي لم ينشأ كترفٍ فكري أو مغالطات جدلية، إنما لحاجة عقائدية مهمتها الأولى تعزيز التفكير العقلي عند المسلمين وهم يتفكرون في خالق هذ الكون وصفاته وقدرته وآيات خلقه، والرد على خصوم الإسلام ممن يتوهمون أنهم بالحجج العقلية البرهانية يدحضون عقائده، قبل أن تتوضح لهم أن آيات القرآن الكريم، لا تتناقض مع العقل والبرهان والتفكير الفلسفي، وما كان ذلك ليكون لولا جهود فلاسفة الإسلام، وفي مقدمتهم أبو الوليد بن رشد ، المُفترى عليه قديماً وحديثاً ! .

***

ا. د. طه جزاع

 

لماذا اختار أمين الزاوي عنوان الخلاّن بدلا من الإخوان في روايته؟

الروائي أمين الزاوي قلم حُرٌّ به يجدد الحرف ويحاول كسر كل ما هو طابو عكس الأقلام التي تخشى البوح في الوقت الذي تطعن في رفاق الإبداع وتكاد أن تنعتهم بالصغار والمراهقين، فالروائي أمين الزاوي اختار نهجا خاصا به في الكتابة وسرد الواقع وعلاجه بطريقة نقدية لاذعة لكنها ضمن الحقائق التي يرفض البعض الكشف عنها فهل يمكن أن نصف أدب الزاوي بأدب الاختلاف فهو بكل بساطة لا يؤمن بالمجاملات والمدح المبالغ فيه عكس الذين ساروا على نهج من سبقوهم من أدباء البلاط الذي يجعلون من قلمهم وسيلة للاسترزاق، ما جعله موضع انتقادات وتوجيه له اصابع الاتهام لأنه جعل من المذهب التنويري سبيلا لتحرير العقل البشري.

 انطلاقا من فكرة أن الكراهية هي نتاج غياب ثقافة المواطنة، فرواية الخلان لأمين الزاوي تجدد الحديث عن العلاقة بين الأنا والآخر وهل بإمكان إحداث التعايش بينهما، بعيدا عن كل ما يسبب القطيعة بين الفكر والفكر المخالف، فلكل كاتب اسلوبه في الكتابة وهو حُرٌّ في اختيار الزاوية التي يتناول منها فكرته ويحللها، شريطة أن يلتزم بأدب الكتابة والأمانة الأدبية، فكل ما يقوله كاتب ما التاريخ يحسبه عليه، مهما كانت إيديولوجية الكتاب والمؤرخين وعقيدتهم الذي ضم الزاوي اسماءهم في روايته، "الخلان" فالزاوي كناقد معروف عنه بتحرره الفكري وهذه حالة النقاد الحياديين الذين ينتقدون الفكرة لا الأشخاص، ويتوجهون إلى من ينتقدون أفكارهم بعقلانية، ولذا نجده يبتعد عن كل ما له علاقة بالنرجسية وهو ما يلمسه القارئ في كتاباته عكس الذين يلهثون وراء الأضواء اللامعة وعدسات الكاميرا، الباحثين عن الزعامة وتجاهلوا ان الزعامة اعتبار وقدوة وليست امتيازا، أولئك الذين يبحثون عمّن يمدحهم ويثني عليهم ويكتب عنهم بالبنط العريض في الصحف، إن الذين أفنوا حياتهم في الدفاع عن قضية الشعوب والإنسانية كانت الكتابة عندهم رسالة والرسالة أمانة يجب تبليغها قبل أن تتلفها العواصف وتغيّبها، فأمين الزاوي يؤمن بحرية التعبير والتعدد الفكري والثقافي.

إن مفهوم "الخلاّن" el-khillan يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتفكيك بحرية فهي تدعو إلى ارتباط الأنا بالآخر ونبذ الانقسامية، هي دعوة لجمع الشتات العربي / الجزائري، وهي كما قال دعوة للتعايش والتسامح في وطن يسع الجميع ويتسع للجميع بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم، وهو الجزائر، الرواية حسبه تستعرض أحداث وقعت قبل الثورة التحريرية والتفاف رجال أحرار حول القضية الجزائرية، رجال تصدوا للاستعمار من أجل تحرير الشعوب ورفع الظلم ومحاربة الرق والعبودية والإقطاع من هؤلاء الأب دوفال وهو شخصية دينية لكنه ينتمي إلى الاتجاه التنويري المناهض للاستغلال والظلم ولعل أمين الزاوي كان متأثرا بالمستشرقين التنويريين، في نفس الوقت أظهر عدائيته لكل ما هو فاشي ( نازي) مقدما في ذلك شخصية غابرييل لامبير، المسيحي المتطرف، أراد أمين الزاوي أن يبني ازدواجية الرؤية المسيحية داخل المجتمع الجزائري، ومقارنتها بأسماء يهودية مثل أفولاي رشدي مسلم، فلا شك أن الثلاثة هم ابطال الرواية انطلاقا من لقائهم في ثكنة عسكرية بوهران، وعاشوا كالخلان أو الإخوة.

و الخلان كمفهوم يقودنا إلى الحديث عن إخوان الصفاء وخلان الوفاء، الفرق بين الخلان الذي تحدث عنهم أمين الزاوي هو أنهم يختلفون في فلسفتهم ورؤيتهم وحتى في "يوتوبياهم " لواقع الشعوب وللحياة، حتى لو كان يجمعهم قاسم مشترك وهو مناهضتهم للاستعمار، إلا أن إخوان الصفاء يجتمعون على فلسفة واحدة ومنهج واحد وعقيدة واحدة، وهنا نتساءل إن كانت فلسفة أمين الزاوي مبنية على فلسفة إخوان الصفاء وهل هو متأثر بهم، ما جعله يختار "الخلان" عنوان لروايته، هل هو اعتراف ضمني بالإخوان الخلان؟ لا أحد له الحق طبعا في أن يشك في عقيدة الزاوي، فهو مسلم لكنه ذا منهج تنويري يفكك المسائل من زاوية عقلانية وموضوعية منية على الواقع، يحاول تجديد الفكر وتطهيره إن صح القول، وليس كل تنويري مجدد ملحدٌ بالضرورة، إذا قلنا أن لقاء الثلاثة في وهران كما قال الزاوي جمعتهم سلطة دينية، ولذا أطلق عليهم الزاوي اسم الخلان.

 الملاحظ أن أمين الزاوي آثر اسم "الخلان" على اسم "الإخوان"، الأول ( الخلان) هو مفهوم عقائدي والثاني (الإخوان) مفهوم سياسي ابتكرته الجماعات الإسلامية في مصر قبل أن تستورده الجماعات الإسلامية في الجزائر بقيادة الشيخ محفوظ نحناح، لاسيما وأن الجماعات الإسلامية تبنت ذات يوم الخطاب المسلح سواء في مصر أو السودان أو تونس وحتى الجزائر، ثم أن الزاوي من خلال كتاباته يبدوا أن أحاديُّ اللون، فهو يفضل لونا واحدا في التعبير عن آرائه، ولذا هو ينبذ ما يعرف بـ: "الوسطية " في الفكر والمواقف، لدرجة أنه يرى في الوسطية على أنها توأم التلفيقية، وهي أخت الانتهازية الناعمة، بل ذر الرماد في عيون العامة البسيطة، وهي في نظره ايضا التوجس الكبير من قول الحقيقة وهي اغتيال للقناعة الفكرية وهي آلة جهنمية لإنتاج ثقافة الخنوع الذي يلبس لبوس الاحترام الزائف والمنافق حيال السياسي والفقيه والمثقف، بل هي عبارة عن حرب باردة ضد النقاش الجاد وضد صراع الأفكار المثمر.و ليست حربا على التطرف، هكذا يتلاعب أمين الزاوي بالمفاهيم والمصطلحات ويوظفها توظيفا يتناسب مع كل ظرف وفي المكان والزمان

في كل الأحوال ففكر أمين الزاوي حسب النقاد هو رد فعل على العماء الفكري الذي طبع المجتمع العربي سياسيا واجتماعيا وثقافيا، أمام انهزام الأنظمة العربية أمام الفكر الاستعماري الأوروبي، والملاحظ ايضا أن أمين الزاوي يستمد فكره من كتب التاريخ والاجتماع و بخاصة الكتب التي رسمت المشهد الجزائري منذ الحرب العالمية الثانية الى عشية الثورة الجزائرية وبعد الإستقلال وبداية الصراع بين النظام والتيار الإسلامي، كان المجتمع الجزائري خليطا من الديانات والقوميات واللغات والثقافات وكذلك الطائفية وبالأخص في منطقة وهران وهو الذي ركز على هذه المدينة في روايته، لما تتميز به من خصوصيات، فهي التي احتلها الإسبان لمدة 300 سنة (1492- 1792)، تأثر بها الجميع حتى الشعراء، لأن القضية كانت قضية قومية إسلامية، فكانت مرآة للرأي العام على حد قول المؤرخ توفيق المدني الذي أرخ لحرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا.

يرفض أمين الزاوي توظيف الدّين في كل عمل،سواء كان روائيا أو تاريخيا، كما يرفض توظيف الدين في السياسة ونجده في رده على محاوريه يدعو الشباب إلى قراءة التاريخ عن طريق الرواية في مشهده الحقيقي، المشهد المتنوع والمُعَقد من تاريخ الثورة الجزائرية، كما يفرق أمين الزاوي بين التدين والدين، ويرى الدين مسألة فردية أي أن الإنسان يظل إنسانا مهما اعتنق ديانة ما وفضلها على ديانة أخرى أو حتى إن كان لا دينيا، ولذا هو يدعو إلى أنسنة الدّين وأنسنة الإنسان وأنسنة الحياة، طالما الإنسان تربطه مع المحيط كما يقول هو، مع الفضاء الذي يعيش فيه، قيمة المواطنة التي يعرفها، ويضيف أن ما يشغله أكثر هو فلسفة المواطنة وهو مطالب بأن يدافع عنها، وهو ما دفعه إلى الاعتراف بأن الوطن قبل الدين، المواطنة قبل العبادة، ويطرح الزاوي سؤال لماذا؟ وكان جوابه أن الوطن هو الذي يجمع الديانات كلها، ويجمع المعتقدات واللا معتقدات كلها، هكذا يقول الزاوي، طبعا لا يمكن الوقوف معه أو ضده، فلكل قناعته الشخصية، نحن مطالبون باحترامها طالما نسعى إلى تحقيق التعايش مع الآخر حتى لو كمان مخالفا، لكن نتفق مع الأغلبية بأن حبّ الوطن من الإيمان، ولذا لا يمكن لأيّ كان، أكان كاتبا أو ناقدا أو سياسيا أو رجل دين أن يطعن في قناعات الآخر، أو يكفره ويتهمه بالإلحاد أو بالزندقة طالما الأمر يتعلق بحرية الرأي والمعتقد والموقف كذلك.

أمين الزاوي على خطى خلدون النقيب في مسألة المواطنة

يقول أمين الزاوي : "حينما تكون لنا ثقافة المواطنة فإننا نحمي ديننا ونحمي دين الآخر، حينما لا تكون لدينا ثقافة المواطنة فإننا ننتج ثقافة الكراهية، أنا لي ديني وأنت لك دينك، فنبدأ بالتنابذ والخصام"، الرواية حسب صاحبها إذن تدافع عن قضية أساسية وهي قضية الوطن قبل كل شيء، الوطن هو فضاء للجميع، وهو الذي يحمينا جميعاً على اختلاف الألوان العقائدية واللغوية إلى غير ذلك، ولعلنا هنا نقف مع آراء كبار علماء السياسة والاجتماع واتفاقهم على أن تنظيم العدالة الاجتماعية داخل نطاق دولة وطنية متوقف على ضمان ثلاثة حقوق وهي: الحقوق المدنية والحقوق الاجتماعية والحقوق السياسية، إلا أنهم أهملوا عاملا مهما جدا والذي يعتبر الركيزة في الحياة، ألا وهو " الدين"، باعتباره مصدر إزعاج بالنسبة لهم، هذه الحقوق حددها جون راولس john rawls وهو من أبرز المفكرين السياسيين في أمريكا في كتابه "نظرية العدالة"، يقول راولس أن هذه الحقوق تعني الحريات المُكَرَّسَة في البلدان الديمقراطية مثل حرية التعبير وحرية الانتماء للجمعيات، أي حرية الشخص وحمايته من الضغوطات النفسية ومن الاعتداءات الجسدية والجنسية، وحق حمايته من التوقيف والاعتقال التعسفي، وحمايته أيضا من عنف النظام السياسي للدولة وتعسفها، وبهذه الحقوق يصبح هدف العدالة ضمان الحرية في أفق نظام حقوقي بنظم توافقية جامعة لكل الحريات الفردية، وهذا يعني تحقيق العدالة السياسية، التي تعطي للفرد حق المشاركة.

لقد أطلق جون راولس على حقوق المشاركة اسم حقوق المواطنة les droits de la citoyenneté، وحق المواطنة كما يرى هو لا تقتصر عند الحصول على حماية اجتماعية أو مدنية بالمعنى الشامل للكلمة، بل تتمثل في ضرورة حق اكتساب حق المشاركة الفعلية والفعالة في صياغة القرارات التي تهدف إلى تنظيم الحياة الاجتماعية، اي ممارسة الحرية في المجال السياسي، لقد خاض كثير من المفكرين في الحديث عن إشكالية المواطنة ومنهم جان مارك فيري في كتابه "فلسفة التواصل"، دعا فيه إلى إعادة النظر في الخطاب السياسي وإضفاء عليه الشفافية، ما يمكن ملاحظته هنا هو أن الفرق بين راولس والزاوي هو أن هذا الأخير يرفض كما سبق ذكره مبدأ الوسطية التي اعتمدها راولس في دراساته الملاحظة الأخرى هي أن المفكر أمين الزاوي يسير على نهج مفكرين آخرين من بينهم خلدون النقيب الذي يعتبر من أبرز المفكرين الذين بحثوا في مسألة المواطنة وذلك في كتاب له بعنوان: " آراء في فقه التخلف"، حاول فيه إيجاد حل لمسالة الاندماج الوطني، يتحدث خلدون النقيب عن أطروحات حول المواطنة وأزمة الدولة القطرية في الوطن العربي ويدعو إلى تحديد مفهوم المواطن أولا، ثم معرفة خصوصية المواطنة في الحضارة الإسلامية مع نقد النموذج التراثي للمواطنة، بقي هنا الإشارة إلى ان فكر أمين الزاوي على غرا ر من بسير على نهجه يلقى دوما العديد من الانتقادات من طرف ما يسمونهم بالمنفعيين إلى حد أنهم يتهمونه بالتطرف الفكري أو بالإلحاد.

***

علجية عيش بتصرف

نجح ناجح المعموري، كاتبا اديبا وناقدا وباحثا في الاسطورة، والتراث القديم، منفردا في اختياره ومتجاوزا في مدخله عالما اسطوريا في الادب والتاريخ، واضعا بصمته في "تقشير" النص الادبي، والتراث الثقافي العربي، في الاسطورة وعالمها.. واصاب فاضل ثامر، الناقد الادبي المعروف، في قراءته لمؤلف المعموري: (الاسطورة في السرد العربي الحديث)،  وتقديمه له. ومقدمته شهادة اعتراف ثقافي وتميّز متبادل بين قدرتين نقديتين، قامتين بارزتين في المشهد الثقافي العراقي والعربي. فيكون الكتاب بمجمله نموذجا متفردا في قراءاته وتعبيره، بين نصه ونقده، بين مقدمته ومحتواه.

كتب فاضل ثامر: "ناجح المعموري، مجتهد شجاع، يمد اصابعه ومجساته النقدية داخل كثبان الماضي والمندثر ليستخرج لنا اللآليء الثاوية في القاع، وليعيد صياغة رؤية جديدة، ونصا كتابيا مغايرا" (ص6). واضاف:"كتاب الناقد ناجح المعموري "الاسطورة في السرد العربي الحديث" هذا، يندرج ضمن مساهمات نقدية جادة وعميقة في ميدان النقد الادبي الاسطوري، بدأها الناقد بمحاولة اكتشاف الانساق المغيبة والوصول الى الجذور الاسطورية الثاوية داخل النصوص الادبية والثقافية والدينية. وصرف الناقد جهدا كبيرا لتعرية وفضح ما تروج له وسائل الاعلام الايديولوجية الصهيونية عن توظيف النص التوراتي، كاشفا بشكل خاص عن الاصول السومرية والبابلية لهذا الفكر الاسطوري، والتي سرقها الكهنة اليهود اثناء اسرهم في بابل وادرجوها ضمن كتبهم واسفارهم اللاهوتية بوصفها اصيلة. ويمكن ان نشير هنا الى ما قدمه الناقد في هذا المجال من خلال مؤلفات مثل: "تأويل النص التوراتي" و"التوراة السياسي" و"ملحمة كلكامش والتوراة" و"اقنعة التوراة" و"الاصول الاسطورية في قصة يوسف التوراتي" وغيرها.."(ص6-7).

قدم الناقد فاضل ثامر في تقديمه للكتاب بحثا في ابداع الناقد ناجح المعموري، موضحا قدراته في قراءة الاسطورة وتقشير النص الابداعي، التراثي والمعاصر، مؤكدا على نجاحه في بحثه وقراءاته وتشريحه النقدي في عتبات كل كتاب يكتب فيه او عنه. فاكد: " ان الناقد ناجح المعموري لم يكن بعيدا ايضا عن ادراك حقيقة العلاقة بين الفكر البدائي والفكر الاسطوري وان الاسطورة  في المنظور ما بعد الكولونيالي هي شكل من اشكال مقاومة الهيمنة الكولونيالية بوصفها تمثل تاريخا للمنظور الاستشرافي" (ص9). "وانه ينطلق من فهم شامل لوظيفة الاسطورة، حيث يرى ان من خصائص الاسطورة تنوعها وتحقق استبدالات مهمة او ثانوية فيها، لانها نص متحرك في حركة الزمان والمكان، ولا تكرس الثبات (...) كما اكتشف الناقد اهمية الربط بين الاسطورة والتاويل والاستعمال الخارجي، (..) وان الاسطورة هي الحقل المعرفي المهم والخطير الذي سيظل منفتحا على التاويل لان الاساطير دائما ارض غنية وخص،بة، متعددة المستويات والطبقات" (ص10).

واصل الناقد فاضل ثامر في قراءته او بحثه ليستخلص ما انتجه المؤلف وما عمل عليه، "ومن هناك نخلص الى ان الناقد ناجح المعموري قد اعتمد في كتابه هذا، وفي الكثير من مؤلفاته السابقة مجموعة من الاليات  لاستنطاق النصوص الميثولوجية، منها ما اسماه بمفهوم "تقشير الاسطورة" والذي تبلور لديه، بشكل خاص اثناء قراءته لملحمة كلكامش". وختم المقدمة بتقييم نقدي للمؤلف مستندا على قراءته لمسيرته النقدية ومؤلفاته العديدة: "الناقد ناجح المعموري مجتهد كبير وشجاع خاض غمار حقول معرفية صعبة ومعقدة وشق له طريقا خاصا في التحليل والنظر والتاويل محاولا تحقيق هذا التوازن القلق دائما بين مقاربات النقد الادبي ومقاربات النقد الاسطوري، واغراءات الاستنارة باضاءات الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا والسيمياء والتاويل واللسانيات والايديولوجيا وغيرها، فكان بحق الناقد الذي كان" (ص13).

بحث التقديم تفاصيل الابداع النقدي في الاسطورة والتراث واساليب الربط والدراسة في تاثيراتها وتحليلها عبر دلالاتها وانعكاساتها في السرد العربي وتطورات النص الابداعي. واشار الى مصادر ثقافية لمبدعين اجانب في توصيف وشرح هذا النوع والاسلوب في اطار الاسطورة واغنائها للنص الجديد.

تناول الناقد ناجح المعموري في كتابه هذا قراءة نقدية معمقة لثماني روايات عربية، لخمسة روائيين، استخدموا روح الاسطورة او استدلوا باسلوبها ومقاصدها ودلالاتها. هي؛ رواية، ترمي بشرر للروائي عبدة خال، وثلاث روايات، للروائي احمد علي الزين، خربة النواح، والطيون، وحافة النسيان، ومقالان عن رواية عزازيل للروائي يوسف زيدان، ورواية جسر بنات يعقوب للروائي حسن حميد، ورواية صخرة طانيوس للروائي امين معلوف، في 202 صفحة من القطع المتوسط وبحرف صغير متعب للقراءة ومضغوط الاسطر، من منشورات دار المدى العراقية، صادر عام 2022.

اضاء الناقد المعموري في كتابه الاساطير التي تطابقت مع النص السردي عبر ابطال النص وشخصياته الرئيسية، او توازت عمليا مع تراثها الاسطوري وحكايات الدلالات ومعانيها التراثية والمعاصرة. وحلل الرموز التي استفاد منها الروائي او سعى اليها في اثراء نصه وسرديته في معالجة الكتابة الروائية فنيا. وفي الواقع كشف الناقد هنا مخزونه الشخصي واطلاعه العميق في عالم الاساطير والميثولوجيا ودلالاتها ومعانيها ومحمولاتها الثقافية والفنية وارتباطاتها اللغوية والتراثية بالواقع الفني وسرد مؤلفه له. واشار لكل ذلك في دراساته النقدية، ومنها رواية الروائي حسن حميد، ابتداء من العنوان: البلاغة الاسطورية في رواية بنات جسر يعقوب. "وانا في هذه القراءة النقدية لرواية جسر بنات يعقوب للقاص حسن حميد غير معني بما كان عليه الاسم  كاستعارة اصل، بل مهتم بما ينطوي عليه من معلومات ثقافية/ اسطورية/ دينية/ فيها طاقة كبيرة للاختزال، ويظل الاسم كما في هذه الرواية معبأ بشحنات ممنوحة له من الاستعارات الاولى ولابد للقراءة النقدية من الاستجابة لها والخضوع لسياقها البنائي والفني/ والفكري، حتى يجد القيمة الدلالية المتبدية في الاصول" (ص 180). وراى ان الروائي في قراءته لرواية "صخرة طانيوس"  منح للتاريخ صوتا، مثلما اعطى الاسطورة روحا تحتاجه، وتمثل صوت التاريخ بالجد الغائب وبالرجال الذين عاصروا او سمعوا بتفاصيل الحكاية" (ص 195).  ملاحظا ان الروائي في اغلب الروايات التي درسها اعتمد على اسلوب المخطوطة الناريخية والاستناد على يوميات تاريخية او رقوق ونصوص اثارية، تبرز فيها روح الاسطورة ودلالاتها التي فككها الناقد في مقالاته. حيث ركز على دور الاسطورة او رموزها ودلالاتها في السرديات الموضوعة للدراسة. اذ اشار في رواية "ترمي بشرر" الى ان "ما يحصل في الحي والقصر من علاقات جديدة كان للسيد دور بارز فيما هو حاصل من اساطير وغرائبيات في الحياة، اساطير سجلت موت وولادة ثقافية جديدة، لا علاقة لها بالتكونات الاولى للافراد" (ص18). يسردها الروائي خلال حكايات متداخلة محكمة ومغذية للحكاية المركزية، مستخدما الرموز وتعبيراتها، كالمطر والماء والخضرة والمرأة القربان، المضحية دائما، وتفسيراتها كعناصر نظرية الخيال الباشلاري، وتطوراتها او اهتماماتها الرئيسية في الجنسانية او في ثقافات البداوة والمقابر والماء وما يجري فيها من عقائد وطقوس خاصة، تمنح الروائي قدرات في انتاج الحكاية واسطرتها، عبر فضح التناقضات القائمة بين المقدس والمدنس، بين الواقع ومشاهده المتعددة وامتداداتها التاريخية، او البناء عليها في معمار الرواية.

قراءات الناقد للروايات بمنهجه المتميز وتركيزه عليه اغنى السردية العربية، او قدم كشفا لقدرات الروائي في استخدام الرموز الاسطورية وربطها باسلوب الكتابة ودلالات المعنى والتشويق في النص السردي. مشيرا الى ان "الاسطورة حاضرة في خربة النواح، اسطورة اليومي المعروف والاسطورة ذات الاصول القديمة. لا تتضح هوية الشيء الا عبر اسطورة خاصة به مثل الاسطورة التي حازت عليها تلة الغياب" (ص76). حيث ر أى الناقد ان "تحول الغياب الى اسطورة جمعية، استمرت بالتداول فترة طويلة، ولان الجماعة لا تقوى على البقاء بدون تخيلات وتصورات لذا فانها تستمر بانتاج الاساطير كجزء من حيويتها واصرارها على البقاء"(ص77). مواصلا تفكيك توظيف الروائي للاسطورة ومبيّنا استمرارها في النص والتعويل عليها في اتمام مشروع الروائي في سرديته، في اكثر من نص باختلاف المضمون والاسماء والرموز. موضحا مثلا "في رواية (الطيون) ملامح كثيرة جدا لا تتشابه مع غيرها، وهذه اهم ملاحظة حول طريقة الكتابة والتحايل على معلومات السرد وعلى حقائق الذاكرة" (ص126). بينما لاحظ "ان رواية (حافة النسيان) سياسية، هيمنت الايديولوجية على تفاصيل الحكي"(ص132). ولكنه اشاد بنجاح الروائي في توظيف اليوتوبيا واستثمار امكاناتها الغرائبية. كما حصل في دراساته الاخرى ونقده لقدرات كتاب الروايات فيها من خلال العمل الفني ومراجعات التاريخ والتراث الشعبي والتداول الواسع.

سجل الناقد في دراساته المنشورة في الكتاب ملاحظات نقدية، فنية وثقافية، وعرض امكانات الاسطورة في اغناء النص وشخصياته والتحايل عبرها عن المباشرة او المواجهة للوقائع اليومية او للواقع المكشوف الذي قد يتيه القاريء في تحولاته او سرده. وفي القراءة والنقد وتحليل النص قدرة مستمدة من اطلاع واسع على التراث وعالم الاسطورة وتخصص معرفي معمق وطاقة مكتنزة، تسربت في ثنايا الكتاب.

***

كاظم الموسوي

يوجّه الكاتب الجزائري البارز الطاهر وطار (15 أوت 1936 في سوق أهراس - 12 أغسطس 2010)، في كتابه " أراه- الحزب وحيد الخلية..دار الحاج موحند اونيس"، يوجّه انتقادًا شديدًا لآلية عمل جبهة التحرير الوطني التي عمل معها، ويرى أنها عملت بطريقة متعنّتة مُغلقةً باب الاجتهاد والنقاش وما يمكن أن يفضي إليه من ابداع.

الطاهر وطار واحد من الكتاب العرب اليساريين المعروفين في بلادنا، فقد أصدرت منشورات صلاح الدين، في القدس، خلال السبعينيات من القرن الماضي، روايته المشهورة" اللاز" التي أطلق فيها صرخته المشهورة" لا يبقى في الوادي إلا حجارته" وأصدرت في فترة تالية مجموعته القصصية" الشهداء يعودون هذا الاسبوع"، كما أعادت دار "الاسوار" نشر روايته " عُرس بغل"، أما بقية رواياته مثل " الحوات والقصر" و"الشمعة والدهليز" فقد وجدت في المكتبات المحلّية وكان بإمكان القراء الاطلاع عليها.

الكتاب الحالي للطاهر وطار صدر قبل أعوام ضمن منشورات " أخبار اليوم" قطاع الثقافة، في العاصمة المصرية القاهرة، ويتحدث فيه صاحبه عن حياته الحزبية، وحياته الشخصية عامة. يفتتح كتابه بكلمات معبّرة يمكن الاستنارة بها في قراءة كتابه، هذه الكلمات تقول:"ليل طويل يا غربتي، والقلب شايق للديار،/ يا ربي فرج كربتي"، ويشير أنه من " موشح من اداء ابن طوبال عبد المؤمن".

بعد هذه الكلمات يفتتح كتابه قائلًا :" منذ اثنتين وعشرين سنة حاولت هنا الانتحار.."، أما السبب فإننا لا نلبث أن نكتشفه، إنه البيئة المحيطة به، بيئة الحزب وحيد الخلية. يقول وطار "إن التواجد في جبهة التحرير الوطني، كانت تسببه، فقط، المشاركة في الثورة التحريرية، بهذا القدر أو ذاك، وأبعد ما يكون عن انتماء عقائدي أو على الاقل سياسي، ولا يمكن إطلاقًا تحويل تجمع كبير، إلى حزب قائد منضبط تحكمه ميكانزمات نظامية صارمة، ربّما يمكن خلق منابر داخله تكون نوعًا من الممارسة الديمقراطية داخل أسرة كبيرة"، ثم يشير إلى مشروع ثقافي تمثّل في إصدار مجلة " الاشتراكي" التثقيفية، وكيف لاقى هذا المشروع وسواه عدم الاهتمام وللامبالاة.

يقدّم الطاهر وطار في كتابه أمثلة عن قياديي جبهة التحرير الوطني، يقول إن " الواحد منهم، مهما كان موقعه ومهما كان مستوى جهله، مضطر لأن يقاطع محدّثه ولو كان اينشتاين، ليفهمه فيما أراد اينشتاين أن يتحدث عنه قائلًا: الامر ليس كذلك بالضبط يا سي انشطاين، فقد قرأت ذات مرة في كتاب...ونحن في الثورة، وكما علمتنا التجربة... الخ".

ثم يضيف قائلًا إنه صار يتفكّه ببعض هؤلاء فيستدرجهم إلى موضوع من نسج خياله، فينتهره ذلك المستدرج محتجًا، بأن الامر ليس كذلك ولكن الخ..، ويتابع:" كان عمّي إبراهيم كابوريا رحمه الله يحدّثني عن عقلية قومه أولاد دراج الذين منهم سي يحياوي فيقول: هم أكثر من بني عمّك الشاوية غلظة راس، متعنتون متعصبون لرأيهم، إلى درجة أن أحدهم لمّا وجد الوادي حاملًا، وكان يهم بقطعه، استخرج خنجره البوسعادي، وقال: انعدي. فابتلعه الماء".

يشير الطاهر إلى مشاركته في الاعداد لمؤتمرات جبهة التحرير الوطني الاربعة الاولى، حتى جاء المؤتمر الخامس، ويتابع:" في هذا المؤتمر انتهت علاقتي الشكلية بحزب جبهة التحرير الوطني، أحرقت سفني ونحرت إبلي وجعلت العدو أمامي والعدو خلفي والعدو على جنبي ولا بحر حولي أهتم بأمره، وأعتقد أنه كان لا بدّ من فعل ذلك، إذ أن هناك لحظاتٍ يجب فيها، على الواحد منّا، قطع ما يسميه وليام جيمس بالخطوة الحاسمة، والظهور على الحقيقة التي نحن عليها، إذا كان ذلك الوسيلة الوحيدة لدعم ومناصرة صديق ليس له أحد غيرك"، ويشير لإغلاق باب النقاش في هذا المؤتمر، الامر الذي يدفعه للتمرد ولارتقاء منصة المؤتمر لقراءة قصيدة يقول فيها: زيدي يا الثورة زيدي .. فداك روحي فداك وليدي"، لتأتي نهايته في الجبهة وليُحال بالتالي على المعاش.

يبدو الطاهر في كتابه/ الشهادة هذا، جريئًا شجاعًا في قول ما يراه، فهو يميل للعمل يقول، إنه يؤمن بشيوعية غير الشيوعية التي نعرفها، لا خصومة لها مع الله ولا مع المؤمنين به، لا تتعارض، بل تتكامل مع الانبياء ومع الرسل السماوية. شيوعية تؤمن بأن لكلّ جيلٍ من الاجيال رأيًا في مصيره، ومطالب تختلف عن مطالب الاجيال السابقة، شيوعية تؤمن بالدورة التاريخية للمجتمعات، حتى وإن قدّمت لها جنة عدن. شيوعية تؤمن بأن الله كان مجرّد كذبة، فهو الكذبة الاكثر قربًا للتصديق والاكثر تصديقًا في العالمين".

ويخلص الطاهر إلى حكمته الخاصة به في حزبه وحيد الخلية، الذي تأسس وهو في العشرين من عمره، يقول:" هي حكمة الذئب، اللي تلفته اجريه.. فلم اعر المسالة ( التحقيق في انتمائي السياسي)، كبير اهتمام، خاصة انني أعلم أن مسؤول الحزب قايد أحمد المعارض للثورة الزراعية، لن يطول بقاؤه معنا كثيرًا ولعلّ الله يفرّج كرب هذه الأمة، فيلهمها قادة في مستوى تضحياتها وطموحاتها.. كنت كذلك، أنهمك في كتابة رواية اللاز، التي تعالج وضع الشيوعيين الجزائريين أثناء الثورة التحريرية، في حين تتواصل مطاردتهم حتى اليوم، وأنا على ثقة تامة من أن هذه الرواية، ستكون قنبلة، ربّما تنفجر عليّ أنا قبل أي واحد آخر. كان الخوف يعتريني، وكما لو أنني مجرم بصدد ارتكاب جريمة. تأكدت، منذ أيامها من أن الكتابة الابداعية، فعل يتجاوز إرادة المرء، وانها بشكل من الاشكال، حملٌ وولادة قسريان".

يخاطب الطاهر وطار في بعض من مقاطع سيرته الذاتية هذه جده كما فعل نيكوس كازنتزاكي حينما خاطب جده الروحي في سيرته الذاتية" خطاب إلى الجريكو"، ويقدّم استخلاصًا، يقول:" أقدمه للعالمين، اخلاصًا مني للوطن، لا يمكن أن يتقدم شعب ما وهو يخفي الحقائق عن نفسه، ولا يمكن أن يحترم شعب ما وليس فيه مَن يُجاهر بالحقيقة ويستشهد من أجلها."

***

بقلم: ناجي ظاهر

 

منذ بداية الخليقة وحتى اليوم، ما زال الانسان يتفحص طبيعة الالوان وخصوصيتها،. وكثيرا ما يسأل الواحد منا نفسه  : لماذا يفضل هذه الالوان بالذات، ونجد انفسنا نقف امام المرآة لننظر ايهما افضل الالوان لحضور هذه المناسبة.. ليست الالوان مجرد تدرجات تُرى، فهي تأتي مغلفة بشبكة من الارتباطات تتعلق البعض منها بالمزاج، فهي تؤثر على موقفنا تجاه تجاربنا اليومية، وكان الشاعر والمسرحي الالماني يوهان غوته احد الاوائل الذين اهتموا بدراسة نظرية الالوان، حيث اصدر عام 1810 كتابه " نظرية الالوان " – ترجمه الى العربية حيدر عبد الواحد وصدر مؤخرا عن دار الرافدين– ويعد الكتاب واحد من افضل اعماله في مجال الفكر.

ولد جوهان فولفانج غوته في فرانكفورت في الثامن والعشرين من آب عام 1749، والده محام صارم الفكر، أصرّ أن يتعلم ابنه اللاتينية والعبرية والفرنسية والإنكليزية وهو صغير، وطلب منه أن يكتب مقالات وينظم الشعر، ويقرأ كتباً في الفلسفة والفنون، هذه الحياة التي ارتبطت بالكتاب نجده صداها في شخصية فاوست الذي دائما ما يعقد مقارنة بين مغامراته مع الكتب وحكاياته مع النساء، يدرس غوته القانون في كلية ستراسبورج لكنه لايعمل في سلك القضاء مثلما تمنى والده، فقد انصرف للكتابة، ليصبح بعد سنوات واحداً من أهم أدباء المانيا، وليحظى بالتكريم خلال سني حياته التي استمرت أربع وثمانين عاماً، حيث توفى عام 1832

يحاول غوته في كتابه " نظرية الألوان " البناء على علم الضوء الخاص بنيوتن، لكنه بعد ذلك يتابع ليقدم للقراء موسوعة لما تعنيه لنا الالوان، وتفاسير للطريقة التي تثير فيها الالوان الرئيسية مشاعرنا،

يذكر ان غوته بدأ دراساته وتجاربه في علم الالوان عام 1790 وواصل على مدى عقدين من الزمن، حتى ظهر كتاب " نظرية الالوان " وكان عملا انصبت فيه كل الاكتشافات التي تم التوصل اليها في هذا المجال سواء عند القدامى اوفي العصور الوسطى مرورا بالقرون اللاحقة

في القسم الاول من الكتاب يتناول الالوان تبعا لشروط ظروفها على انها الوان فيزيولوجية وفيزيائية وكيميائية، يلي ذلك ثلاث فصول يلخص فيها اهمية الالوان في الطبيعة والحياة الانسانية.

ورغم ان غوته يستند الى افكار نيوتن عن الضوء إلا انه يعيب على نيوتن انه عزل التجارب عن الانسان، فعين الذي يرى اللون لم تدخل في الحسبان، غوته لم يكن ليستطيع ان يتصور عالما كائنا بذاته ومنفصلا عن المشاهد، فعلى سبيل المثال يمتلك الاحمر تاثيرا مهيبا والاصفر يمتلك شخصية هادئة، والازرق يمنحنا انطباعا بالبرودة ويذكرنا بالظل،والارجواني رمز للعظمة، كما ان الاخضر يرمز الى الأمل، وهكذا تحال الالوان لتعبر عن اغراض معينة فالفيروزي والياقوتي جميعا منسوبة الى الاحجار الكريمة والوردي مرتبط بازهار معينة وحتى البرتقالي سمي نسبة الى البرتقال، واذا نظرنا الى الالوان على هذا النحو، نجد ان معظمها استعارات ومن المنطقي ربطها بامزجة مرتبطة واستخدام تاريخي.

غوته يسمي الالوان ظاهرة طبيعية اوليةلحاسة العين تتجلى مثل بقية الظواهر من خلال عملية الفصل والتضاد والمزج والربط، ويؤكد حركية الالوان وتبدلها وسرعة نشوئها واختفائها وارتباطها وانفصالها، وهو يرى ان هناك علاقة فعلية بين اللون والاحساس، فكل لون يؤثر في الوجدان تاثيرا واضحا، والانسان ينشرح صدره للون بصورة عامة، انه يحتاج الى اللون احتياجه الى الضوء، وكل لون يهيء لحالة نفسية خاصة، فالاصفر له دائما تاثير دافئ يحث على العمل، في حين يحدث اللون الازرق شيئا متناقضا يمثل في الاثارة.

كتب غوته في كل شيء في الفلسفة والشعر والرواية والنقد، وخاضت كتاباته كذلك في بعض العلوم. وكتب أيضاً في النقد وفي اللغة، وغاص حتى في روحانيات الشرق وغيبياته وفي التاريخ وأسراره. وابدع في كتابة الرواية العاطفي كما فيروايته الشهيرة "، آلام فرتر" وقدم المسرحيةة الفلسفية في " فاوست "   وهذا ما جعله واحداً من أكبر الأدباءالمفكرين في تاريخ الفكر الأوروبي غير أنه، هو الذي أبدع الكتابة في نظرية الألوان وفي البصريات، كان يعشق الرسم، لكنه فشل في ان يصبح رساما، ولم يجد طوال حياته وسيلة تمكنه من أن يرسم.. ويروى في مذكراته " من حياتي،. الشعر والحقيقة " – ترجمة محمد جديد – أنه كان يعاني  من جراء فشله في ان يصبح موسيقيا او رساما.

في خاتمة كتابه " نظرية الألوان " يكتب غوته :" حين ينظر الى الفن بطابعه الأعلى، قد نتمنى أن لا يُعنى به إلا المحترفون وأن يتدرب العلماء على دراسته بدأب وعناء، وأن يشعر الهواة بالسعادة في التقريب المبجل لحرماته، فمن اجل أن يكون العمل الفني انصهاراللعبقرية، يجب على الفنان أن يستحضر جوهره وشكله من كوامن النفس، وأن يستحدم التاثيرات الخارجية لتحقيق سلطاته وحده ".

في سيرته الذاتية نعرف ان اهتمام غوته  بالفلسفة وعلوم الطبيعة بدأ مبكراً بتعرفه لأول مرة في مكتبة والده على كتاب الجمهورية لافلاطون الذي قال عنه إنه اول كتاب يفتح عيني على العالم، ومنذ ذلك الحين صارت الفلسفة أكثر ما يتحدّث فيه مع رفاقه في المدرسة، يتذكر يوهان جوهان فولفانغ غوته كيف أن مجموعة من الكتب قد اجتذبته أكثر من سواها وسيكتب في سيرة حياته التي أسماها " الشعر والحقيقة " متذكراً المكتبة الكبيرة التي كانت تأخذ حيزاً كبيراً في ذلك المنزل الذي يتألف من مبنيين متجاورين :" هناك عندما كبرت، لم تكن إقامتي في جو يخيم عليه الحزن، بل سادها التوق وخالجها الشوق الى المعرفة "، يتذكر أن عمه رشح له مجموعة من الكتب، كان لمعرفة غوته الطالب الصغير بعالم الفلسفة أبرز الأثر في كتاباته فيما بعد، ففي سن العشرين بدأ يبشر بفلسفة سبينوزا، وآمن إن الشعر بحاجة الى العلم، لكنه اختلف مع أفكار نيوتن فهو يعتقد ان واجب العلم البحث عن تعابير واستعارات في الطبيعة تبرهن على الوحدة المستكنة في كل جزء من أجزائها، توقع غوته من العلم كالدين سواء بسواء تأكيد لمقولته الشهيرة " كل الأشياء تتشابك وتنسجم في كلٍ كامل ".

في عام 1769 كان غوته في العشرين من عمره حين وقع في يده كتاب " مقال في إصلاح العقل " حيث وجد في هذا الكتاب، أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن علاقة الدين بالتفكيرالعقلي والعلمي، وسيصبح إبداع غوته الشعري تفسيراً لفلسفة سبينوزا، فقد وجد غوته في كتابي سبينوزا مفاهيم جديدة عن الحرية وموضوعة الذاتية الفردية، كتب غوته رساله الى شوبرت يخبره فيها إن الفلسفة وحدها ستبلغه سر الوجود، يكتب غوته :" "في البداية قرأت كتب الفلسفة بجد وإخلاص، لكن الفلسفة لم تنورني فقط، بل مارست عملية هدم وعزل، أتلقف تلك العمليات الذهنية التي كنت أؤديها بأقصى قدر من السهولة في شبابي، لكي أرى الاستخدام الصحيح لها"،

يكتب هاينريش هاينه "خرج تعليم سبينوزا من شرنقة الرياضيات، وأخذ يرف من حولنا في صورة غوته".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كثيراً ما نسمع المثل القائل حكم قراقوش الذي يضرب للتدليل على جور الحكم وجبروت القاضي أو الحاكم، ولهذا يحتج الشخص الذي يحس بأنه قد ظلم في أمر ما، بتشبيه مصيره بـ "حكم قراقوش". كما يقال لكل شخص صاحب جاه وسلطة، يمارس غروره على الآخرين والبغي، على أنه شبيه " قراقوش ".

وقد صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور هيثم الحاج علي، كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" للأسعد بن مماتي المتوفى في 606 هجرية 1209 ميلادية، وما جمعه جلال الدين السيوطي المتوفى في 911 هجرية 1505 ميلادية، تحقيق ودراسة الدكتور عمرو عبد العزيز منير.

والكتاب يقع في 208 صفحات من القطع المتوسط، صمم غلافه الفنان أحمد الجنايني ويحمل لوحة للفنان الإيطالي جياكومو سيروتي. تقول سلوى بكر، "مؤلف الكتاب شخصية تاريخية ملتبسة لا تقل التباسا عن شخصية قراقوش ذاته، فكلاهما عاش العصر الأيوبي منذ مبتدئه وخدم في دولة صلاح الدين الأيوبي، وقد نسبت للأول ابن مماتي جملة من الكتب المهمة، منها كتاب "قوانين الدواوين"، أما الثاني قراقوش فقد أشرف على أعمال إنشائية عظيمة مازالت موجودة حتى الآن، منها قلعة صلاح الدين وسور مجرى العيون الممتد والذي كان يرفع مياه النيل إلى القلعة، وقد صمم هذا السور وعمل على بنائه مهندسان قبطيان هما أبو مشكور وأبو منصور".

وتستطرد سلوي بكر في تقديمها للكتاب:ولأبي مماتي جملة من الكتب منها (قرقرة الدجاج في لغة ابن الحجاج) و (سيرة صلاح الدين) شعرا، ونظم كتاب (كليلة ودمنة)، مثلما يشير ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان).

أما الدكتور عمرو عبد العزيز منير، فيتناول كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" من منظور علم الدراسات الشعبية، منقبا عن دوافع الجماعة الشعبية في رسم شخصية قراقوش عبر المخيلة الجماعية، وحضورها الدائم على هذا النحو، سواء في الأدب الشفاهي أو المكتوب، ويتناول بالبحث تلك الحكايات التي جمعها جلال الدين السيوطي بناء على رغبة العوام، عندما سألوه في زمانه عن حقيقة وتاريخية شخصية قراقوش. والكلام لبكر مختتمة "ربما لا تجد سلسلة التراث الحضاري ما هو أفضل تعللا لإعادة نشر كتاب (الفاشوش) وتلك الدراسة القيمة للدكتور عمرو عبد العزيز منير".

وتشير كلمة "فاشوش" إلى الأحكام الفاشلة أو الوهمية، وقد ورد في لسان العرب "فاشوش: ضعيف الرأي والعزم"، ويقال في الدارجة "فشوش" للشيء والكلام والفعل الفارغ الذي لا مضمون له، وقد عمل ابن مماتي في مؤلفه هذا على نسج حكايات بسيطة ومضحكة منسوبة لقراقوش، ما سهل تداولها على الناس عبر الأجيال، وبعض هذه القصص ليس واقعيًا من خيال ابن مماتي المحض، ويقال إن الصراع بين ابن مماتي وقراقوش وراء هذا الكتاب، وحيث الأول كان يمثل سلطة القلم، في حين أن الثاني كان يعكس تسلط السيف، وقد تنافس الاثنان في عصر الأيوبيين على أن يكون لكل منهما نفوذه الأكبر.

والفاشوش في حكم قراقوش، واحد من مؤلف ات الوزير الأيوبي أسعد بن مماتي، وهو كتـاب يـدور موضوعه- في الظاهر - حول الأمير بهاء الدين قراقوش أحد أمراء الحرب البارزين في الدول ة الأيوبيـة، إذ وصفه بالظالم الجائر وعديم الكفاءة والدراية في الأمور الإدارية، وافتقاره للذكاء الميداني فـي مواجهـة الأزمات، فضلا عن نعته بالخلق السيئ، وهو وصف جاء بأسلوب فك ه ساخر ممزوج بالنادرة، بدا خلالـه قراقوش شخصية قلقة أحمق التفكير، مغفل الطباع، متناقض ا لأقوال، ومضحكا في أفعاله.

وتشير المصادر التراثية إلى أن قراقوش شخصية حقيقية، وقد كان أحد وزراء صلاح – الدين - الأيوبي في مصر، بل إنه ركن من أركان توطيد حكمه، واسمه بهاء الدين قراقوش، وفي البدء كان هذا الشخص غلامًا مملوكيًا، يقال إنه من أصل تركي دون تحديد واضح لهويته، وقد تدرج بجده واجتهاده إلى أن صار قائدًا عسكريًا في بلاد الشام ومن ثم في مصر التي وصلها مع بزوغ فجر الأيوبيين وحكم صلاح الدين.

وقد اعتمد عليه صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اثنين آخرين هما الفقيه عيسى الهكاري والقاضي الفاضل، وعمل ثلاثتهم على تثبيت دعائم الدولة وإنهاء الفوضى التي عمّت مصر بعد وفاة الخليفة العاضد، حيث حاول بعد رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين بأمل أن تبقى مصر تحت راية الفاطميين، وينسب إلى قراقوش أنه قام بدور تاريخي في إنهاء سطوة أسرة العاضد حيث سجنهم وعزل نساءهم عن رجالهم، وفرّق عنهم مواليهم، وسيطر على ثروة القصر الفاطمي التي كانت كبيرة جدًا.

كما تذهب بعض الروايات إلى أن قراقوش، ومعناها النسر الأسود، بالتركية، كان قد خدم صلاح الدين في البداية إلى أن وثق فيه الرجل، ومرات يقال إنه خدم عم صلاح الدين، وفي كل الأحوال فهو قد استطاع أن يصل إلى مكانة مرموقة في عصره.

وينسب له أنه بنى السور المحيط بالقاهرة وقلعة الجبل، وقناطر الجيزة، وقد كان نائبًا لصلاح الدين في شؤون الحكم بالديار المصرية وفي تدبير الأحوال، ويقال إنه كان حسن المقاصد إلا أنه شديد الحكم ويأتي حكمه بطريقة غير تقليدية.

وقضى قراقوش قرابة ثلاثين سنة يخدم صلاح الدين وابنيه، لترتبط صورته لدى العامة بالأحكام الغريبة والمدهشة، التي تصوره تارة ذكيًا ومرة غبيًا، وقد تم تناقل الكثير من تراثه في القضاء والحكم إلى اليوم لما فيه من نوادر وطرائف، فهو لحدٍّ ما تم إعادة تصويره وإنتاجه كما حصل مع جحا وأشعب وغيرهما من الشخصيات التراثية، التي بدأت بسيطة ثم تعقدت صورتها، عبر المتناقل بواسطة الناس خلال الحقب والعصور، ولم يعف من الحكم والدولة إلا مع عهد الملك العادل شقيق صلاح الدين، وحيث لزم بعدها بيته إلى أن توفي عام 1201م

وقد فاز قراقوش على ابن مماتي، ولكن فيما بعد كان المؤلف قد خلّد صورة بهاء الدين قراقوش بالطريقة التي أرادها، وذلك وفق النماذج التي رغب فيها بالضبط من تصويره على أنه أحمق وجائر، ولذلك نجد في مقدمة الكتاب يقول المؤلف «لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدى بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق، لا يهتدى لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته، أن يرد على كلمته ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان. صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين".

هذه هي مقدمة كتاب "الفاشوش فى حكم قراقوش"، الذى ألفه الأسعد ابن مماتي نقدا لحكم بهاء الدين قراقوش أحد قادة صلاح الدين الأيوبي. عاش في القرن السادس الهجري وقضى ما يزيد على الثلاثين عاما في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي وابنيه. ضمن ابن مماتى الكتاب حكايات تصور قراقوش فى صورة الحاكم الباطش الغبي الذى لا يعى ما يفعل. وهى الصورة التي شاعت، بين العامة الذين كانوا ومازالوا يطلقون على كل حكم ظالم اسم «حكم قراقوش». الحاكم والقاضي الذى يجمع بين البطش والغباء.

ومن الأحكام العجيبة التي ينقلها ابن مماتى عن قراقوش أنه سابق رجلاً بفرس له، فسبقه الرجل بفرسه، فحلف أنه لا يُعلفه ثلاثة أيام. فقال له السابق: "يا مولاى يموت". رد قراقوش: "اعلفه ولا تعلمه أننى دريت بذلك".

وتأتي أهمية الفاشوش أيضا من الأسلوب الجذاب واللغة العامية التي كُتب بها، مما كان لـه اثـر في إقبال العامة من القراء عليه، فضلا عن نجاح ابن مماتي في جعل شخصية قراقوش شخصية خياليـة لكل حاكم مهوس فيه بله وغفلة، ومن هنا، فقد حظي كتاب الفاشوش كما يقول الأستاذ رياض عبد الحسين راضي بالعناية من قبل المهتمين بتاريخ الحقبة الأيوبية وأدبهـا، إذ درسوا الكتاب وموضوعه باهتمام، كالدراسة التي قدمها المستشرق كاز نوفـا ضـمن تحقيقـه لحكايـات الفاشوش، ونشرها تحت عنوان (الطراز المنقوش في حكم السلطان قراقوش)، وقد عـالج الـدافع مـن وراء كتابه الفاشوش، وكذلك دراسة الدكتور عبد اللطيف حمزة في كتابه (الفاشوش في حكم قراقـوش (وما تقدم به فاروق سعد في كتابه (قراقوش ونوادره) فضلا عن المقال الذي كتبه الدكتور شوقي ضيف بعنوان (الفاشوش)، والمقال المقدم من قبل محسن خضر بعنوان (قراقوش عبقرية ظلمها التاريخ).

ويمكن للدارس كما يري ابن مماتى أن يتتبع هذه القصص والحكايات ليخرج منها بالكثير.. عن صورة العصر الذي عاش فيه قراقوش وعهد صلاح الدين بالذات، وسـنذكر عـدداً من حكايات الفاشوش تجنباً للإطالة وذلك علي النحو التالي:

1-شكا رجل إلى قراقوش تاجرًا أكل عليه أمواله، فاستدعى قراقوش التاجر وسأله عن السبب فقال التاجر: "ماذا أفعل له أيها الأمير؟ كلما وفرت له الأموال لأسدد له دينه بحثت عنه فلم أجده". وفكّر قراقوش كعادته ثم حكم بأن يسجن الرجل صاحب الدين حتى يعرف المدين مكانه، حين يريد تسديد الدين له، فهرب الرجل قائلا: "أجري على الله".

2- قالوا لقراقوش إن طائر "الباز" المفضل لديه قد هرب من القفص وطار، فأمر قراقوش بغلق كل أبواب القاهرة حتى لا يستطيع الفرار.

3- جاء فلاح يشكو جنديًا إلى الأمير قراقوش، كان الفلاح يركب سفينة ومعه زوجته الحامل في سبعة أشهر، فوكزها الجندي فأجهضها. وقد فكّر قراقوش – كعادته - ثم نطق بالحكم، حيث حكم بأن يأخذ الجندي زوجة الفلاح عنده لينفق عليها ويوفر لها البيت والمأكل طيلة سبعة أشهر، وهو ما أسعد الفلاح قبل أن ينطق قراقوش بباقي الحكم بأن على الجندي كذلك أن يعيد الزوجة وهي حبلى في السابع، وهنا هرب الفلاح بزوجته الصورة المتعددة.

لم يكتف ابن مماتي بذلك بل رأيناه يبين أنه قد ترددت وتنوعت الحكايات عن حكم قراقوش، وكثيراً ما جاءت بصيغ متنوعة وعبارات مختلفة. ولكن أكثر الحكايات تصويراً وتجسيماً لهذا المثل ما ورد بصدد إعدام اللص. وأتذكر أنها كانت أول مسرحية رأيتها في حياتي قدمناها ونحن أولاد صغار في المدرسة. والحكاية تجسم سقم الحكم بشكل مربك متداخل يزداد حماقة وتعسفاً وسخرية بتراكم حلقاته؛ حيث تقول الحكاية إن لصاً هم بسرقة بيت، فتسلق جداره، فسقط به الجدار وقتله. اشتكى أهل اللص إلى الحاكم، وهو طبعاً قراقوش، في أن صاحب الدار ترك جداره بهذه الحالة المتداعية بما أدى لسقوطه وموت ابنهم. فبعث قراقوش شرطته ليأتوه بصاحب الدار. وحكم عليه فوراً بالإعدام. ولكن صاحب الدار دافع عن نفسه بالقول بأن الذنب ليس ذنبه، وإنما هو ذنب البناء الذي لم يحسن بناء الجدار فسقط.

ويستطرد فيقول: بعثوا الشرطة ليأتوا بالبناء فحكم عليه بالإعدام. ولكن البناء انبرى فدافع عن نفسه بالقول بأن الذنب ليس ذنبه، وإنما هو ذنب تلك الغادة الحسناء التي مرت في الطريق فسلبت عقله بجمالها، فلم يستطع أن يركز على عمله في بناء الدار.

فقال قراقوش: هذا حق. هاتوا تلك المرأة. فبحثوا عنها حتى عثروا عليها وجاءوا بها. فحكم عليها بالإعدام. ولكن المرأة دافعت هي الأخرى عن نفسها قائلة إن الموضوع ليس موضوع جمالها، وإنما ذنب الإزار الجميل الذي التفت به، وسحر بجماله ذلك البناء. قال قراقوش: هذا حق. هاتوا بالبزاز الذي باعها ذلك الإزار. إنه من دون شك هو المسؤول. فجاءوه بالبزاز فحكم عليه بالإعدام. ولكن البزاز دافع عن نفسه قائلاً إنه ليس بالمسؤول عن جمال الإزار. المسؤول هو الصباغ الذي صبغه، وأعطاه ذلك اللون الفتان. فقال قراقوش: هاتوا بالصباغ الذي صبغ الإزار. فجاءوا به فحكم عليه بالإعدام. ولكن الصباغ كان أهبل بشكل لا يقل عن بعض المفاوضين. فلم يعرف كيف يدافع عن نفسه فساقوه للمشنقة. ولكنه كان طويل القامة فلم يمكن شنقه، ففتشوا عن صباغ أقصر وشنقوه!

وفي النهاية نقول إن كتاب " الفاشوس في حكم قراقوش " لابن مماتي سياحة فكرية يستشهد به الناس في منطقة الشرق الأوسط، للإشارة إلى الحكم الظالم والمتعسف والهزيل. ويرى الجمهور أنه مثال للديكتاتورية والاستهتار والجهالة.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

.......................

المراجع

1- ابن مماتي: الفاشوش في حكم قراقوش،، تحقيق ودراسة الدكتور عمرو عبد العزيز منير، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.

2- جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحق: جمال الدين الشيال، (القاهرة: دار القلم، د. ت)ج٨٩،٣.المقريزي، السلوك،ج١،ق١،ص ١٤٦.

3- بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية المعروف بسيرة صلاح الدين، تحق: جمال الدين الشيال، ط١)،القاهرة:الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر،١٩٦٤ (ص٢٣٩.

4- حسان سعداوي،التاريخ الحربي المصري في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ١٩٥٧ (ص١٣٤.

5-  رياض عبد الحسين راضي: الفاشوش في حكم قراقوش الدوافع والأغراض، جامعة واسط /كلية التربية.

6- خالد القشطيني: حكم قراقوش، الشرق الأوسط، الثلاثاء - 23 شهر رمضان 1440 هـ - 28 مايو 2019 مـ رقم العدد [14791].

 

قراءة في كتاب "صورة عطيل "للدكتور محمد أنقار" 

يشكل كتاب "صورة عطيل" (1) ثمرة من ثمار الجهود التي بذلها الباحث والمبدع الراحل محمد أنقار لتعميق البحث في إشكال الصورة في الإبداع النثري و اختبار أساليب التصوير الفني في المسرح، انطلاقا من مساءلة الأسس النظرية والإنجازات النقدية المتصلة بمفهوم الصورة الأدبية.

ورغم أهمية الكتاب وجدة موضوعه ومتانة صلته بمشروع أنقار النقدي، فإنه لم يحظ بالعناية التي حظيت بها باقي اعماله النقدية مثل كتاب " بناء الصورة في الرواية الاستعمارية" وكتاب "بلاغة النص المسرحي". لقد حاول الباحث، من خلال هذا الكتاب، بلورة رؤية أسلوبية خاصة بالمبنى الإنشائي للنص المسرحي، وخصائص صوره الفنية، بغية إبراز أبعادها الجمالية والإنسانية .

وترتكز هذه الرؤية على اعتبار الصورة تعبيرا كليا منسجما لاينبغي تسييجه بمظاهر بلاغية جزئية، ولاحصره في قوالب معيارية يمكن أن تخدش ملامحه الجمالية، أو تنمط وظائفه الإنسانية . كما ترتكز على وعي عميق بالفروق القائمة بين الأجناس الأدبية، لذلك نجد الباحث يشير إلى أن النقد الأدبي المعاصر أصبح يعالج الألوان البلاغية المختلفة بمعيار الصورة الشعرية " بل إن النقد انطلق في خطوة تالية أضحى بمقتضاها ينظر إلى العديد من مظاهر الإبداع غير الشعري بمنظور الصورة الشعرية " (2)

ففي الوقت الذي سيطر فيه مفهوم "الصورة الشعرية " على النقد الأدبي المعاصر بمنازعه المتعددة، ظلت مباحث التصوير الفني في السرد والمسرح مؤجلة أو بالأحرى مغيبة عن انشغالات نقادنا. ولعل الإنتباه إلى هذا التغييب هو ما جعل د. محمد أنقار يتوجه بجهوده النقدية نحو الاهتمام بالصورة في النثر السردي وصيغ التصوير الفني في النص المسرحي.

ويلاحظ الباحث أن  إشكال حدود " الصورة الشعرية " شبه غائب في مجالي النقد الأدبي والبلاغة، وأن هذا المفهوم انحصر لدى أغلب النقاد في الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز المرسل، كما انحصر في الطباق والجناس والمقابلة والتورية وغيرها من المقابلات البلاغية المتميزة بثنائية ذات حدين، وبذلك أمسى الانزياح بين طرفي الثنائية معيارا ثابتا في تقييم الصورة الأدبية .

ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى و.هـ. كليمن w.h.clemen (3) في كتابه "تطور الصورة الشعرية عتد شكسبير" الذي حاول رصد تطور التجربة الفنية عند شكسبير من خلال دراسة صورالتشبيه والاستعارة . كما يمكن أن نشير إلى تصور " كرولين سبورجن" C.SPURGOEN في كتاب(4) " صور شكسبير وما تخبرنا به" حيث تعاملت الباحثة مع الصورة باعتبارها أداة تساعد على الكشف عن بعض المناطق المعتمة في حياة شكسبير وأفكاره . وقد حددت  الصورة في التشبيه بشقيه الصريح والضمني، وتعني بذلك مختلف أنواع الاستعارة مثل :"الخناجر التي تختفي تحت ابتسامات الرجال " (مسرحية ماكبث). كما تعني التشبيه البسيط المأخوذ من الحياة اليومية مثل :"سوف يصدقون ما نقول كما تلعق القطة اللبن "(مسرحية العاصفة )، والتشبيه الدقيق الذي يعبر عن رهافة خيال خالقه مثل :" يستطيع العاشق أن يسير على خيوط العنكبوت التي تهزها نسائم الصيف اللعوب ولا يسقط " (مسرحية روميو وجولييت). وتخلص "سبورجن "من خلال الدراسة الإحصائية للصور في مسرحيات شكسبير إلى أن هذا الأخير كان يستعمل الصورة في "شكل التشبيه أو الاستعارة بأوسع معانيها بقصد التشبيه أيضا في النهاية"

غير أن د. محمد أنقار يختلف مع هذين التصورين، ويقر بأن مفهوم الصورة يتجاوز الحدود الممكنة أو المحتملة لأنه يتسع لكل مبادرات التصوير الجمالي التي تلغي الحدود بين عوالم التجربة الجمالية وتنفتح على الألوان التصويرية المتعددة التي يمكن أن تحدث تأثيرا في المتلقي.

لكن هذا الإقرار لم يمنعه من خوض تجربة تلمس بعض الحدود الممكنة للصورة المسرحية مستفيدا في ذلك من خبرته في معالجة الصورة الروائية بمرتكزاتها المتمثلة في السياق النصي وأصول الجنس الأدبي والطاقة اللغوية والبلاغية وسياق التلقي. والجدير بالملاحظة أن الباحث يؤكد على اعتبار مجهود القارئ عنصرا قويا وأساسيا في تحديد الصورة وتشكيلها من خلال تساؤلاته حول الروابط القائمة بين أجزائها وتأويلاته لأفكارها ودلالاتها، كما يؤكد –أكثر من مرة – على ضرورة تجنب إخضاع الصورة المسرحية للمعيار الشعري السائد، لأنها تتشكل في سياق الجنس المسرحي وتلتحم التحاما عضويا بنسيج النص، ومن ثم فهي تشكيل متميز له مقوماته الجمالية الخاصة.

ومن خلال تحليله لإحدى صور مسرحية "عطيل " يتوصل إلى خلاصة مفادها أن سياقي النوع والنص بالإضافة إلى إيقاع البناء ورؤية الكاتب ومجهود القارئ الذي ينشط مخيلته لابتداع الصور، كل هذه المنافذ يمكن أن تمنح للصورة المسرحية قوة بلاغية حتى وإن افتقرت إلى ركيزة المجاز التي تعتمد عليها الصورة الشعرية عادة، بل إن افتقارها إلى التعابير المجازية واعتمادها على التعبير المباشر هو ما يدفع المتلقي إلى تشغيل مخيلته أكثر من الارتكاز على خيال المؤلف، لأن"الصورة المسرحية الشعرية غير المجازية تستثير لدى القارئ إمكانيات تعبيرية شتى من أجل أن تعوض ما تفتقر إليه من إمكانيات مجازية " (5).

وغير بعيد عن مفهوم تحديد الصورة المسرحية يتوقف الباحث ليعمق البحث في العلاقة القائمة بين مكونات النص المسرحي وسماته، فيخلص إلى أن هذه العلاقة لاتقوم على الإسناد وإنما على التساند، إذ أن الكاتب المسرحي يستخدم اللغة استخداما فنيا أثناء تصويره لعمله الفني، بحيث لايسند السمة إلى المكون إسنادا عشوائيا، وإنما يرتب العلاقة بين الكلمات ترتيبا فنيا قائما على التساند المنسجم والشامل، مفترضا أن المتلقي يستطيع تمثل ذلك تمثلا ذهنيا. ثم يبرز الباحث كيف يمثل هذا التساند اللغوي المظهر العملي الجمالي للصورة المسرحية.

ولتوضيح الطبيعة الجمالية لهذا التساند، قام بتحليل هذه الصورة من مسرحية عطيل:

" إيميليا : يفرحني أنني وجدت هذا المنديل .

لقد كان أول هدية لها من المغربي.

مئة مرة حثني زوجي العنيد

على اختلاسه، غير أنها تحب هذا المنديل

الذي استحلفها على الاحتفاظ به إلى الأبد،

فراحت تبقيه معها دائما وأبدا،

تقبله وتحدثه، سأفسخ تطريزه

وأعطيه لياغو، أما ما الذي سيفعله به،

فعلمه عند ربي،

وإنما أنا أرضي نزوته " (6)

ويسلك الباحث ثلاث خطوات منهجية لإبراز خصائص التساند بين مكونات هذه الصورة وسماتها؛ في الخطوة الأولى يستخلص المكونات النوعية للعمل المسرحي، من حوار وشخصيات وموضوع وحدث وزمن ومكان. وفي الخطوة الثانية يعمل على رصد السمات التي أسندها الكاتب المسرحي للمكونات المسرحية، فشخصية "ياغو" – مثلا – أسندت إليها أفعال الحث والاختلاس والنزوة وصفات الزوج العنيد. وينطبق الأمر نفسه عل شخصات "إميليا " و"عطيل " و"ديزدمونة ". التي أسندت إليها أفعال وصفات خاصة بها، كما ينطبق الأمر نفسه على باقي المكونات المسرحية.

أما الخطوة الثالثة فيخصصها الباحث لتوضيح الخطوتين السابقتين، مذكرا بالفروق القائمة بين الحدث الدرامي وبين الأفعال الصغرى، ويستنتج بأن الحدث يتسم بالتجريد والامتداد والتشابك، في حين تتسم الأفعال الصغرى بالطابع الجزئي والمادي، غير أن وظائف هذه الأفعال ليست أقل شأنا من وظيفة الحدث الدرامي المسرحي.

وفيما يتعلق بالتصوير المسرحي يلاحظ أنقار أن هذه العملية الإبداعية لاتخرج عن إطار"التساند"، فالكاتب المسرحي يعتمد بالأساس على المادة اللغوية التي يشكل بواسطتها صور نصه المسرحي، بحيث أنه ينتقي الصفات والأفعال المناسبة ليسندها إلى المكونات بهدف تجسيد المواقف الدرامية، وتشخيصها وفق قواعد الجنس المسرحي بانسجام مع مجرى الأحداث وطبائع الشخصيات، وبذلك يكون " التصوير المسرحي تجسيدا أو تشخيصا أو تشكيلا لغويا للأحاسيس والأفكار والعواطف والمواقف، وتكون الصورة المسرحية نتاجا لغويا لكل تلك الوظائف التجسيدية وقد استمدت نسغها من سياق الجنس المسرحي " (7)

بيد أن التساند لايكون دائما منسجما، بل يمكن أن يكون متنافرا أو سلبيا، ويستدل الباحث على ذلك ببعض الصور التي أوردها "شكسبير " على لسان "ياغو" وهي صور تقوم على التساند المتنافر بين السمات المشينة وشخصية "عطيل".

ويمضي الباحث في تشريح صورة عطيل من منظورات متعددة (منظور "ياغو" ومنظور "كاسيو" ومنظور "دزديمونة ") بقصد الوصول إلى وضع اليد على البعد الإنساني لصورة هذه الشخصية. وقد استنتج أن " شكسبير " تمكن من إبداع صورة لـ"عطيل "تتميز بالنضج الفني والإنساني، بحيث تهتم بالجوانب العاطفية وتقلبات الأحوال النفسية، وتبتعد عن النظر إلى التمايزات العرقية بين الأفراد والشعوب.

ويرى الباحث أن شكسبير-وإن كان يدعم تصويره المسرحي ببعض المعطيات الموضوعية والتاريخية – فإنه لايحتفي بإركام هذه المعطيات بقدر احتفائه بالأبعاد الدرامية للشخصيات، وبطريقة تعبيرها عن أفكارها ومواقفها.

وفي ضوء ذلك ينتقد أنقار الدراسات النقدية التي كرست جهودها للخوض في المقارابات الخارجية لشخصيات المسرح الشكسبيري، فاقتحمت حدود التحقيق التاريخي، وتداخلت مع الدراسات الثقافية والاجتماعية والنفسية، وبذلك سخرت إمكانياتها المنهجية لخدمة مجالات أخرى غير المجال الأدبي. والواقع أن الباحث يرى أن الناقد بإمكانه الاستفادة من مختلف حقول المعرفة لمواكبة العمل الإبداعي، غير أنه لاينبغي له التحليق بعيدا عن الحقل الأدبي.

وفي نفس السياق يرفض د.محمد أنقار الانصياع إلى بريق "العلمية " المؤدية إلى " الوثوقية " فيسعى إلى تجاوز "التخمة المنهجية " الناتجة عن وفرة القواعد والمعلومات والسبل النقدية التي لم تفلح في تأسيس تصورات نقدية أصيلة يمكن الاطمئنان إليها. وأمام هذا الوضع يقول محمد أنقار :" لايسع الباحث إلا أن يحلم بالعودة إلى إمعان النظر في الإواليات الجمالية والمظاهر الإبداعية البسيطة والتجليات الفنية الصغيرة لعلها تسعف في محو الغشاوة وإعادة ترتيب البيت النقدي"(8).

إن الباحث يراهن على الإصغاء إلى النص الإبداعي بالأساس، وتأمل عوالمه بالاعتماد على مقولات استثمرها في أطروحته " بناء الصورة في الرواية الاستعمارية "(9) وعمقها في كتابه "بلاغة النص المسرحي "، الدي حاول الانفكاك من أسر البلاغة المعيارية للمساهمة في إرساء بلاغة نوعية للنص المسرحي،  فأصبحت هذه المقولات تشكل جهازا مفاهيميا ينتظم في سياق فكري مضبوط، ويؤشر على صياغة مشروع نقدي خاص، يراهن على سلك النهج الجمالي في قراءة النص الإبداعي واستخلاص أساليبه التصويرية، في استقلال عن ثقل وجاذبية المقولات النقدية المتشكلة في إطار النظرية الشعرية .

 ***

د. محمد الصبان

..................

(1) محمد أنقار، صورة عطيل،منشورات نادي الكتاب كلية الآداب، تطوان،الطبعة 1/1999

(2) نفسه، ص:9

(3) The development of shakespear’s imagery

 د. محمد عناني، دراسات في المسرح والشعر، مكتبة غريب القاهرة، ب .ت،ص:159

(4) shakespeare's imagery and what it tells us

نفسه، ص:149

(5) صورة عطيل، ص: 20

(6) نفسه، ص:32

(7) نفسه، ص:37

(8) نفسه، ص:6

(9) مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان، ط1/1994  

(معالجة تحليليّة لِخَمْسِ القصائدِ التي قُدِّمت في نهائيّ الموسم السادس لأمير الشعراء)

مقدمة: احتلّ الفكر الشعري في الثقافة العربيّة مكانة مرموقة، وحظي بعناية فائقة؛ إذ أسهم في تراكم المعرفة، وكما وًف من لدن القدماء؛ فهو علم العرب الذي ليس لهم علم غيره، والحقّ أن الشعر يتميز من مجموع الفنون الراقية، والجميلة بضرورة انطلاقه من مضامين فكرية ظاهرة في صريح العبارة، وإنه«ليتهيأ للمنشئ أن يؤلف من مواد اللُّغة كلاماً هادفاً خالياً من كل نفحة شعرية، ولكن لا يتهيأ له بحال أن يؤلف كلاماً شعرياً من دون مضمون فكري إلى حدّ ما معقول على عكس ما يتهيأ للفنان في الموسيقى أو التمثيل؛ فقد يوضع الحن الموسيقي على (كلمات) منظومة، كما قد تبنى التمثيلية على قصة محكية، ولكنّ الأصل في الموسيقى أن تؤسس على الأصوات وحدها، وفي التمثيل أن يؤسس على الحركة التشخيصية؛ فالموسيقى تنطلق من أصوات مجردة قد يكتفى بها لإنتاج لوحات فنيّة طريفة، والتمثيل ينطلق من حركات تشخيصية مجردة قد يكتفي بها لإعداد مشاهد فنيّة رائعة، أما الشعر فلا انطلاق له إلا من مضمون فكري، ولكنه لا يسمو إلى درجة الفنّ المتميّز إلا بما يتجاوز به المضمون الفكري من إمكانيات الأداء ». (محمد الهادي الطرابلسي، 1981م، ص:10) . ولعل من أبرز المفاهيم التي انشغل بها النقاد العرب، وانكب على تحليلها الفكر النقدي العربي طويلاً، ومازالت إلى أيامنا هذه تشكِّل هاجساً مؤرقاً بالنسبة إلى كثير من الدارسين، مفهوم (الشعر)، أو مفاهيمه المتعددة، والمتنوعة، والتي تخص الشعر كدلالة، ومنطوق فني، وأبرز الرؤى التي قدمت عنه انقسمت إلى شقين رئيسين:

أ- قسم يخص نقاداً تحصنوا برؤى فلسفية، وانكبوا على دراسة الفلسفة، فأتى مفهومهم للشعر على درجة كبيرة من العمق، والوعي، والفهم الدقيق كما هو الشأن في بعض الرؤى، والأفكار التي قدمها السجلماسي.

ب- في حين أن أصحاب القسم الثاني يبدو أنهم ائتزروا بمئزر المحافظة الخجولة، وانغلقوا على أنفسهم، فاستهلكوا التراث، ولم يتجاوزوا ذلك . (مسلك ميمون، 2001م، ص:129) .

في كتاب :« التحليل الجديد للشعر (معالجة تحليليّة لِخَمْسِ القصائدِ التي قُدِّمت في نهائيّ الموسم السادس لأمير الشعراء) »، للناقد المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض، والصادر عن أكاديمية الشعر، في هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة والتراث، بدولة الإمارات العربية المُتحدة؛ نلفي دراسة علميّة مُتميّزة، ناقش فيها الباحث عدة قضايا تحتل منزلة فائقة في الشعرية العربية.

أولاً: الشعريات والشعر: محاولة لتحديد المفاهيم:

عرفت الشعريات تطورات ملحوظة على مستوى الحركة العلمية، والدراسات النقدية الحداثية، حيث إنها شهدت ارتقاء في البحث، والمُساءلة العلمية الجادة، و حظيت في السنوات الأخيرة بعناية فائقة من قبل الباحثين، والدارسين، فأفردت لها دراسات، ورسائل جامعية ضمن دراسات الأدب القديم والحديث، ومفهوم«الشعرية أو الشعريات الذي لقي اهتماماً كبيراً في الفترة المتأخرة، سواء في النقد العربي أم النقد الأجنبي له جذور تراثية قديمة وآفاق غربية معاصرة، وهذا الاستخدام بوصفه مصدراً صناعياً لا على صيغة النسب هو ما يعطيه طرافته وطزاجته النقدية، وإلا فالكلمة مبتذلة وشائعة، ومنذ أرسطو كان يتحدث عن جوهر الشعر الحقيقي وما يلتبس به من المحاكاة والتخييل، واستخدمه بهذا المعنى عدد من نقاد العرب بنفس الصيغة مثل حازم القرطاجني (ت 684هـ)، وشراح أرسطو من فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا وابن رشد.وظهر مصطلح ( poetics) في النقد الغربي الحديث كوريث شرعي للبنيوية والأسلوبية ليردها إلى الوظيفة الشعرية في الخطاب اللغوي بعد أن تعاظم الاهتمام في المناهج السابقة (بالشفرة) اللغوية وكيف انبثقت إلى الوجود؟أي باللغة نفسها بوصفها دالاً، لا لما تحمله من مدلولات، وهناك عدد من المصطلحات العربية التي ترجم إليها المصطلح مثل (الإنشائية) و(الأدبية) وغيرها...، وتبحث الشعرية عن قوانين الخطاب الأدبي، وعن الخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي، أي بصورة أخرى ما الذي يجعل من الرسالة اللغوية عملاً أدبياً (شعرياً) ثم أخذت معنى أوسع لتعني ذلك الإحساس الجمالي الخاص الناتج عن القصيدة أو عن نص أدبي، أي بعبارة أخرى قدرة العمل على إيقاظ المشاعر الجمالية، وإثارة الدهشة وخلق الحسن بالمفارقة، والانزياح عن المألوف... » (إبراهيم عبد المنعم إبراهيم، 2008م، ص:02) .

ولقد ركز النقد العربي في رصده لمختلف القضايا الشعرية، على بعض المفاهيم الجمالية التي يجب أن تتوفر في النص الأدبي، حيث إن الجمال بمفهومه العام، والسطحي عبارة عن عملية تأثرية ناتجة عن رؤية، وتبصر في الأشياء الجميلة، ومنذ العصور التليدة اهتم فكر الإنسان بقضية الجمال، وما يزال مشغوفاً بها إلى أيامنا هذه، ويبدو أنه سيظل كذلك إلى النهاية، وللجمال جملة من الأبعاد المعرفية الخاصة، التي تقتضيها طبيعة الثقافات الاجتماعية، وهو «ينعكس على مختلف مجالات الحياة الإنسانية، وخاصة في أنواع الفنون لديها، ولكل حضارة مفهوم للجمال ينسجم مع نظرية المعرفة فيها، ويعكس ثقافتها، وقد كان للعرب المسلمين فهمهم الخاص للجمال الذي انطلقوا فيه من الأسس المعرفية للثقافة العربية الإسلامية، وقد اهتموا اهتماماً واضحاً بتحليل الجمال، وتنظيره، ولا ننكر أنهم كانوا مدفوعين إلى ذلك بتأثير المنطلقات الجمالية المتأصلة في العقيدة الإسلامية، وغنى الثقافة الإسلامية من جانب، وبتأثير الازدهار الحضاري المادي من جانب آخر، لذلك فقد قدموا أسساً جمالية متميزة، ومستمدة من خصائص الثقافة العربية الإسلامية»». (راوية جاموس، 2013م، ص:216)، وهناك مجموعة من النقاد العرب المعاصرين الذين تناولـوا »الشعرية« بالدراسة والبحث، فلم يعرفوها تعريفا واضحا كما لم يفرقوا بينها وبين الشعر، ولكنهم أداروا حولها بحوثا تتلخصُ في البحث عن قواعد الشعر العربي، وقوانينه التي تتحكم في الإبداع الشعري، كما هو الحال عند رشيد يحياوي، ونور الدين السد، وحسن ناظم، وأدونيس، أمّا الذين حاولوا تحديد مفهوم » الشعرية « من النقاد العرب المعاصرين فإنّهم لم يعطوها تحديدًا واحدًا فقد كان مفهومها عندهم مختلفًا عّما تعنيه » الشعرية« في النقد الغربي، إذ » ليس للشعر أو (الشعرية) مفهوم مطلق، وإنَّ هذا المفهوم عرفٌ يكتسب دلالته من المرحلة التاريخية والحضارية التي يعيش فيها الشاعر والباحث . ويذهب أدونيس إلى أنّ » سرّ الشعرية هو أنْ تظل دائما كلامًا ضد الكلام، لكي تقدر أن تسمّي العالم وأشياءه أسماء جديدة – أي تراها في ضوء جديد – والشّعر هو حيثُ الكلمة تتجاوز نفسها مُفْلِتَةً من حدود حروفها، وحيثُ الشيءُ يأخذُ صـورةً جديدةً، ومعنى آخر، ». (أدونيس، 1971م، ص:78) ويرى أدونيس أن قصيدة نثرية يمكن أن لا تكون«شعراً ولكن مهما تخلص الشعر من القيود الشكلية والأوزان، ومهما حفل النثر بخصائص شعرية، تبقى هناك فروق أساسية بين الشعر والنثر.أول هذه الفروق، هو أن النثر اطراد وتتابع لأفكار ما، في حين أن هذا الاطراد ليس ضرورياً في الشعر.وثانيها، هو أن النثر ينقل فكرة محدودة، ولذلك يطمح أن يكون واضحاً.أما الشعر فينقل حالة شعورية، أو تجربة، ولذلك فإن أسلوبه غامض بطبيعته.والشعور هنا موقف، إلا أنه لا يكون منفصلاً عن الأسلوب كما في النثر، بل متحد به.ثالث الفروق هو أن النثر وصفي تقريري، ذو غاية خارجية معينة ومحدودة.بينما غاية الشعر هي في نفسه، فمعناه يتجدد دائماً بحسب السحر الذي فيه، وبحسب قارئه. هذا يعني، بتعبير آخر، أن طريقة استخدام اللغة مقياس أساسي مباشر في التمييز بين الشعر والنثر». (أدونيس، 1971م، ص:112)، وينطلق أدونيس من وصف التعبير الشعري الجديد بأنه تعبير بمعاني الكلمات وخصائصها الصوتية والموسيقية، والقافية هي جزء من هذه الخصائص لا كلها، وهذا ما يجعله يخلص إلى أنها ليست من خصائص الشعر بالضرورة، أي أن الشكل الشعري الجديد هو، بمعنى ما، عودة إلى الكلمة العربية، إلى سحرها الأصلي، وإيقاعها، وغناها الموسيقي والصوتي. كما يشير كذلك إلى أن في قصيدة النثر موسيقى «لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة.بل هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة، وهو إيقاع يتجدد كل لحظة. تتضمن القصيدة الجديدة، نثراً أو وزناً مبدأ مزدوجاً: الهدم، لأنها وليدة التمرد، والبناء لأن كل تمرد على القوانين القائمة، مجبر ببداهة، إذا أراد أن يبدع أثراً يبقى، أن يعوض عن تلك القوانين بقوانين أخرى، كي لا يصل إلى اللاعضوية واللاشكل.فمن خصائص الشعر أن يعرض ذاته في شكل ما، أن ينظم العالم، فيما يعبر عنه. إن الشعر بطبيعته، يرفض القيود الخارجية، يرفض القوالب الجاهزة والإيقاعات المفروضة من الخارج، وهو يتيح طواعية شكلية إلى أقصى حدود التنوع، بحيث إن القصيدة تخلق شكلها الذي تريده، كالنهر الذي يخلق مجراه. التغير لا الثبات، الاحتمال لا الحتمية ذلك ما يسود عصرنا، والشاعر الذي يعبر تعبيراً حقيقياً عن هذا العصر هو شاعر الانقطاع عما هو سائد ومقبول ومعمم، هو شاعر المفاجأة والرفض، الشاعر الذي يهدم كل حد، بل الذي يلغي معنى الحد، بحيث لا يبقى أمامه غير حركة الإبداع وتفجرها في جميع الاتجاهات.هكذا تتجه القصيدة العربية لكي تصبح ما أسميه (القصيدة الكلية)، القصيدة التي تبطل أن تكون لحظة انفعالية، لكي تصبح لحظة كونية تتداخل فيها مختلف الأنواع التعبيرية، نثراً ووزناً بثاً وحواراً غناء وملحمة وقصة». (أدونيس، 1971م، ص:116) .

أمّا كمال أبو ديب فيحدد تعريفه لمفهوم الشعرية بقوله : » لا يمكن أنْ توصف الشعرية إلا حيثُ يمكن أنْ تتكون أو تتبلور، أي في بنية كلية، فالشعرية إذن خصيصة علائقية، أي أنَها تجسد في النّص لشبكة من العلاقات التي تنمو بين مكونّات أولية سِمَتُها الأساسية أنّ كُلا منها يمكن أنْ يقع في سياق آخر دون أنْ يكون شعريا، لكنّه في السياق الذي تنشأ فيه هذه العلاقات، وفي حركته المتواجشة مع مكوّنات أخرى لها السّمةَ الأساسية ذاتُها يتحول إلى فاعلية خلق للشعرية، ومؤشر على وجودها«» (كمال أبو ديب، 1987م، ص:92) .

ويبدو أنَّ كمال أبوديب قد تخلى عن المفهوم القديم للشعرية العربية، واقترب من مفهوم الغرب لمصطلح الشعرية، الذي ركز بعض نقاده (الغرب)، على الجوانب الجمالية، كما ألفينا هذا التركيز، والاهتمام في الرؤى، والأفكار التي قدمها فاليري، حينما أشار إلى أن اسم شعرية يتفق مع كل ماله صلة بإبداع الكتب، وتأليف الأسفار، حيث تغدو اللغة هي الجوهر، والوسيلة، لا بالرجوع إلى المعاني التي يراها ضيقة، والشعرية تُفهم كذلك على أنها جملة من القواعد، أو المبادئ الجمالية التي لها صلات وطيدة بالإبداع الشعري، فالجانب الجمالي كثيراً ما يحضر مع دلالات الشعرية. (سعد بوفلاقة، 2007م، ص:22) .

ومن المفيد أن نشير إلى أن من بين الذين ناقشوا إشكالية الكتابة الأدبيّة والشعرية بين اللّغة واللّسان، الناقد عبد الملك مرتاض الذي أكد في مناقشته لهذه القضية الشائكة على أن كلّ أدب محكوم عليه بأن ينضويَ تحت لواء لغة ما. فاللّغة (من حيث هي نظامٌ صوتيّ ذو إشارات وعلامات مصطلَحٌ عليها فيما بين مجموعة من النّاس في زمان معيّن، وحيز معين) هي التي، وذلك بحكم طبيعتها الأداتيّة التّبليغيّة، تحتوي على ما يمكن أن نصطلح عليه في اللّغة العربيّة مقابلاً للمفهوم الغربيّ (Langage littéraire) «اللّغة الأدبيّة». ويؤكد الدكتور عبد الملك مرتاض على أنه لابد من الاِستظهار بالتّاريخ الذي «يمكن أن يحدّد لنا، بدقّة ما، العَلاقاتِ القائمةَ بين اللّغة الأدبيّة، ولغة أدب ما (Langue d’une littéra¬ture) ؛ أو، إن شئت، بتعبير لسانيّاتيّ تقنيّ، بين اللّغة واللّسان. واللّغة واللّسان مفهومان مختلفان منذ قريب من قرنين من الزّمان. فاللّغة الأدبيّة كأنّها المعجم الفنّيّ الذي يصطنعه كاتب من الكتّاب، أو يردّده في كتاباته كلغة الحريريّ في مقاماته فيعرف بها، وتعرف به. ومثل هذه اللّغة هي التي تحدّد طبيعة التّفرّد الذي يتفرّد بها كلّ أديب عملاق. وأمّا اللّسان فهو مجموعة القواعد النّحويّة والصّرفيّة، والألفاظ المعجميّةِ الأوّليّةِ الدّلالةِ، أو ذات الدّلالة العامّة التي يغترف منها جميع الأدباء والكتّاب. فاللّغة الأدبيّة هي الخصوصيّة التي يتفرّد بها الأديب؛ في حين أنّ اللّسان يمثّل الرّصيد، أو المخزون العامّ لكلّ الذين يستعملون لغة ذلك اللّسان. ويكون اللّسان، في مألوف العادة، أداةً للتّعبير مشتركةً ضمن محيط جغرافيّ. وقد يتميز هذا اللّسان، أثناء ذلك، بأنّه كائن اجتماعيّ يتطوّر إذا تطوّر متحدّثوه، وينحطّ إذا انحطوا هم أيضاً: اجتماعيّاً وحضاريّاً وتكنولوجيّاً. و اللّغة الأدبيّة (Le lan¬gage) يتّسم نظامها، على عكس اللّسان، بالنّوعيّة من وجهة، وبقِصَر الأزمنة التي تحكم نظامَها الدّاخليّ من وجهة أخرى. فهذه اللّغة الأدبيّة المتّسمة بالخصوصيّة والتّفرّد هي التي تتيح لشخص ما، أو قل على الأصحّ لأديب ما، أن يعبّر عن هذه الخصوصيّة اللّغويّة مستعملاً طائفة من الألفاظ والتّراكيب التي تنتمي إلى النّظام اللّسانيّ العامّ. إنّ اللّغة الأدبيّة تنبع من طبيعة النّتاج الأدبيّ نفسِه الذي تجود به قريحةُ أديبٍ من الأدباء؛ فكأنّها تجسّد النّظام الذاتيّ الخالصَ الذي يؤسّسه الأديب في كتابته؛ فيتميّز بهذه الذاتيّة، أو الحميميّة التي تمتدّ إلى الدّلالة والأسلوب جميعاً، ويغتدي متميّزاً عن غيره في هذه اللّغة؛ وذلك على الرّغم من أنّه ينهل من معين اللّسان العامّ الذي ينهل منه أدباء آخرون أيضاً» . (عبد الملك مرتاض، 2012م، ص:170) .

والحقّ أن الشعر يتميز من مجموع الفنون الراقية، والجميلة بضرورة انطلاقه من مضامين فكرية ظاهرة في صريح العبارة، وإنه«ليتهيأ للمنشئ أن يؤلف من مواد اللغة كلاماً هادفاً خالياً من كل نفحة شعرية، ولكن لا يتهيأ له بحال أن يؤلف كلاماً شعرياً من دون مضمون فكري إلى حدّ ما معقول على عكس ما يتهيأ للفنان في الموسيقى أو التمثيل.فقد يوضع الحن الموسيقي على (كلمات) منظومة، كما قد تبنى التمثيلية على قصة محكية، ولكنّ الأصل في الموسيقى أن تؤسس على الأصوات وحدها، وفي التمثيل أن يؤسس على الحركة التشخيصية.فالموسيقى تنطلق من أصوات مجردة قد يكتفى بها لإنتاج لوحات فنيّة طريفة، والتمثيل ينطلق من حركات تشخيصية مجردة قد يكتفي بها لإعداد مشاهد فنيّة رائعة، أما الشعر فلا انطلاق له إلا من مضمون فكري، ولكنه لا يسمو إلى درجة الفنّ المتميّز إلا بما يتجاوز به المضمون الفكري من إمكانيات الأداء » (محمد لطفي اليوسفي، 1992م، ص:15) .

وبناء على هذا الأساس فقد أُثر في التراث النقدي، والأدبي العربي عدد من التعريفات، والمفاهيم، والرؤى الكثيرة التي كان هدفها الأساس وضع الفروقات، والاختلافات بين الشعر، والنثر بتمييز الأول عن الثاني، أو إيضاح وظيفة كل منهما مع بعض التحديدات لأجناس أدبية محددة، ولعل أبرز، وأشهر تعريف تم تداوله بكثرة، وكثيراً ما كُرر، وتداوله الدارسون أن الشعر هو (كلام موزون مقفى يدل على معنى، أو له معنى)، بيد أن الإجماع يقع كذلك على أن هذا التعريف يتسم بالقصور، وأنه ليس دقيقاً- رغم شهرته وتداوله-، وليس جامعاً مانعاً فثمة جملة من النقائص التي تشوبه، والملاحظات التي تؤخذ عليه، ولاسيما من حيث إنه لا يُراعي الأبعاد الحقيقية للشعر، ولاسيما الوظيفة الجمالية، حيث إن الوزن، والقافية، والدلالة على المعنى هي معايير ليست رئيسة، وأساسية، وكافية لرصد المميزات الدقيقة للشعر، وتمييزه عن غيره، ولعل السبب الرئيس يعود إلى النقائص التي تتبدى في سببها الأول في الاعتماد على الاتجاه المنطقي الذي ساد عند أصحابها، إذ نظروا إلى الشعر نظرة ساورها الجمود، واستبد بها، فهذه الرؤية اتسمت بأنها منطقية، وجامدة، وجافة، وابتعدت عن الأبعاد الجمالية، والفنية. (عبد الرحيم الرحموني، 2005م، ص:9) .

ثانياً :عرض وتحليل أهم مضامين الكتاب:

بيّن الدكتور عبد الملك مرتاض الأسباب التي دعته إلى النهوض بتأليف هذا السفر الثمين؛ حيث يقول : « الموسم الأوّل لمسابقة «أمير الشعراء»، وقد جرت فعاليّاته في ربيع سنة 2007، اقترح عليّ، المغفور له، الأستاذ محمد أبو خلف المزروعي، وقد كنت جالساً في بيته مع شُهودٍ من شخصيّاتٍ إماراتيّة وعربيّة، أن أنقل التجربة التي أقوم بها تعليقاً مرتجَلاً على القصائد المستابقِ بها صِحابُها: كتابةً؛ وذلك لكيما يُفيدَ منها الناس، وشباب القراء خصوصاً. وقد قبِلت العمل باقتراحه. وبدا لي ساعتئذ أنّه اقتراح قابلٌ للتنفيذ. ثم تكاسلت فتثاقلت. ثمّ تغافلت وتناسيت. ثم كأنّي استصعبت الأمر، من بعد ذلك، ولم أَستسْهِلْه. ثمّ كأنّي لم أرَ فيه نفعاً كبيراً للناس... إلى أن كان الموسم السادس لمسابقة أمير الشعراء التي جرت فعاليّاته بمسرح شاطئ الراحة بعاصمة الإمارات العربيّة المتحدة: أبو ظبي، وقد كان ذلك في ربيع 2015 حيث إنّ الاقتراح الذي كان اقتُرح عليّ أصبح واجب التنفيذ، بعد أن فقدْنا صاحبه، رحمه الله، في أواخر سنة 2014 في حادثة سيرٍ مروِّعة.ولذلك، وبعد أن استشرت الأستاذ سلطان العميمي، مدير أكاديميّة الشعر، بهيئة أبو ظبي للثقافة والسياحة والتراث، أبدى استحساناً لإنجاز هذا العمل، وتحقيق رغبة رجل كان له فضل، بعد فضل سموّ الشيخ محمد بن زايد، (مع حفْظ الألقاب) على مسابقة أمير الشعراء...وهنالك، وبعد كلّ هذه الاستخارات، أزمعت الشروعَ في كتابة هذا الكتاب الذي أعالج من خلال مستوياته الخمسة، القصائد الخمسَ، التي تسابقَ بها خمسة شعراء في الحلقة الختاميّة من مسابقة «أمير الشعراء»: من السعوديّة، ومن مصر، ومن موريتانيا، ومن لبنان، ومن العراق، وهم على التتابُع: حيدر العبد الله، وعصام خليفة، ومحمد ولد إدوم، ومُصعب بيروتيّة، ونذير الصَّمَيدعيّ.ولعلّما القارئُ المتابع لبعض كتاباتي أنّي لأوّل مرّة أتناول خمسةَ شعراءَ مجتمعِين من أقطار عربيّة متباعدة جغرافيّاً (المغرب العربي؛ أرض الكنانة؛ العراق، الحجاز؛ الشام)، وكنّا في أعمالنا التحليليّة السابقة نَقِف أمرَنا على شاعر عربيّ واحد، من قطر واحد.فتِيك، إذن، هي قصّة العوامل التي أفضت إلى صناعة هذا الكتاب» . (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:22) .

وقد تساءل المؤلف: ما الجديد في شعريّات هؤلاء الشعراء الخمسة الشباب؟ ويعتد الباحث عبد الملك مرتاض، لدى إجابته على هذا السؤال أن الجديدَ، كلَّ الجديد، في الفنون والآداب، والمخترعات بعامّةٍ، لا يكون، في الغالب، كاملاً غيرَ مسبوق، وعلى غير احتذاءِ مثالٍ. فعلى الرغم من أنّ القدماء كانوا ينظرون إلى صناعة كتاب، مثلاً، على أنّه عمل يُنشأ «على غيرِ مثالٍ يحتذيه» مؤلِّفُه، إلاّ أنّ ذلك قد يفتقر إلى بعض النظر؛ إذ يستحيل على مخترِع أو مُنْشئٍ أو مبدعٍ، أنّه يُنجِز عمله «على غير مثال يحتذيه» حقّاً، فعمله إنّما يتّصف بالإضافة في حدودها الممكنة، لا بالجِدّة المطْلقة.ولذلك، وحين نتحدّث عن الجِدّة في أشعار هؤلاء الخمسة، فذلك إنما هو من باب إضافة شيء ما، على نحو ما، إلى هذه الجِدّة، وليس من باب الجدّةِ الكاملة نفسِها، التي تعرَّف في كتب الأجداد ومعاجمهم: ما كانت «من غيرِ سابقِ مثالٍ». وهؤلاء الخمسةُ الذين كان أوّلُهم أميراً للشعراء للموسم السادس، إنما جَهَدوا جَهْدَهم، وتعلّقوا ببلوغ غايتهم من الشعر، فكان لهم بعضُ ذلك تحقيقاً. وقد تكمُن الجِدّة في أنّهم قرضوا قصائدهم العموديّة على غير «عمود الشعر» التقليديّ، وهي المسألة الفنّيّة التي كان أوّلَ من أثارها، ونظّر لها، في الفكر النقديّ العربيّ، هو أبو عليّ المرزوقي في المقدّمة المنهجيّة الكبيرة لكتابه شرْح أشعار الحماسة لأبي تمّام. والحقّ أنّ هؤلاء قدّموا موضوعاتٍ شعريّةً، شديدةَ الشُّفوف، بالغة اللطف، ضاربة في التعميَة، موغِلةً في التهويم، دون أن يبتعدوا بها عن الحدّ الذي يجعلها مُعتاصةً على الفهم، أو مستحيلة على إدراك المتلقّي، فكانت تقع في منتصف الطريق، بين الفهم واللاّفهم، كما يقول جان كوهين؛ وذلك باستثناء قصيدة ﷴ ولد إدوم التي كانت مباشِرة: مباشَرةً اقتضاها الموضوع الذي آثره بالقرْض، وهو مدح النبيّ ﷺ، وليس خروجاً عن الأصول الفنّيّة لكتابة القصيدة الحديثة. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:45) .

كما بيّن المؤلف المنهج الذي اعتمده في تحليل هذه القصائد، حيث يقول: «ما الجديد في هذه الإجراءات التحليليّة التي زعمناها؟ ولقد يعني ذلك أنّ المسألة المنهجيّة تظلّ إشكاليّة عويصة في البحث في العلوم الإنسانيّة، وليس رفْضاً للمنهج من حيث هو، أصلاً. ولذلك نحن لا نستنيم إلى أيّ منهجٍ على وجه الإطلاق فنتّخذه لنا صنَماً، أو نظلّ له عبداً، نتبنّاه، ولا نبحث عن سواه. ولعلّ ذلك ممّا يبدو واضحاً لدُنْ من يتابع مسيرتنا النقديّة، من حيث تعمّد التنقّل في كتاباتنا من منهج إلى منهجٍ آخرَ. وعلى أنّا كثيراً ما نعمِد لِلمنهج الذي كنّا تبنّيناه سابقاً فنعدّل منه، ونطوّر من شأنه. ولقد نعَى علينا أحد النقّاد البحرانيّين أنّا بذلك نوصَف بالاضطراب، وعدم الاستقرار على ما نتنّاه اليوم، فنغيّر من أمره غداً. والحقّ أنّ ذلك كان منّا شأناً متعمَّداً.ولقد حملَنا عليه أمران اِثنان:أوّلهما: ما رأيناه من بعض النقّاد العرب، ممّن يَتْخَذون المنهج الاجتماعيَّ لهم طريقاً في معالجاتهم التحليليّة، مثلاً، حيث ظلّوا أوفياءَ، حتّى النُّخاعِ، لمنهجهم هذا الاجتماعيّ حتّى ماتوا عليه، وكأنّه قدَرٌ مقْدُورٌ نُزِّلَ عليهم من السماء! بل نجد الآخَرين من أصحاب المناهج الجديدة، هم أيضاً، يأتون ذلك، ويُصِرّون عليه إصراراً، ويتمسّكون به تمسّكاً، ويدافعون عنه دِفاعاً، وكأنّه، في تمثّلاتهم، الحقيقةُ المطلقة! ولو وُفِّقَ، هؤلاء وأولئك جميعاً في أمرهم، لكانوا اجتهدوا في التنقّل مِن منهج إلى منهج آخر، أو لكانوا سعَوْا إلى تغيير منه ما يمكن أن يتلاءم مع تبدّل العصر، ومع تطوّر الفكر، ومع قيمة التجدّد، ومع لَذْوَى التعدُّد؛ ولكنّهم لم يأتوا من ذلك شيئاً، لأنّ أمرهم كان ناشئاً عن الهوى الفكريّ المريض (الإِدْيولوجيا) فلم يستطيعوا عنه، أو عنها، حِوَلاً.والإِدْيولوجيا كالحَمُوقَةِ، إذا سكنتْ عقلاً لا تخرج منه أبداً! وآخِرُهما: ما سبق أن قلناه من تأثّرنا بمقولة أستاذنا أندري ميكائيل، وهي المقولة التي فهِمْنا منها عدمَ رفْض المنهج مطلقاً، ولكن ضرورة الحيْدُودَة عن المتَّخَذِ منه سابقاً ابتغاءَ تطويره وتعصيره، وتجديده وتنضيره. وذلك بعضُ ما دأَبْنا عليه دُءُوباً، فجَهَدْنا جَهْدَنا في أن يكون لنا ذلك سعياً مستمرّاً». (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:53) .

اتبع الباحث والناقد عبد الملك مرتاض، منهجية واضحة عند معالجة بنية اللغة الشعريّة في القصيدة؛ تنهض على:

1. رصْد الحقل المعجميّ (من نصّ القصيدة) ؛

2. تصنيف اللغة الشعريّة بتحويلها من الحالة المعجميّة إلى الحالة الدلاليّة؛

3. المعالجة والتحليل؛

4. شَعْرَرة اللغة

كما نبّه المؤلف إلى أن تتغيّر الإجراءات الدّاخليّة، بالقياس إلى بواقي المستويات، بحيث يكون أساسُ المعالجة المركزيّة، في المستوى الأوّل، قائماً على خمسةِ مفاهيمَ: «الشعررة» (وذلك ضمن البنية الشعريّة في النصّ الشعريّ وتفاعلها) ؛ وفي المستوى الثاني قائماً على مفهوم «الدَّوْلَلة» (وهي عبارة عن تفاعُل التداول بين السمات اللفظيّة وتعاوُرها) ؛ وفي المستوى الثالث قائماً على مفهوم «الحَيْزَزة» (التي تعني، لَدُنّا، تفاعُل الحيْزِ وتمثّلاته، وتخاصبه عبر تبادل العَلاقات بين أشكال الأحياز)، وفي المستوى الرابع قائماً على مفهوم «الأزْمَنَة»، (وتعني، لدُنّا، تجلّيات الزمن الضمنيّ (le temps impli¬cite)، بالإضافة إلى الزمن الصريح (Le temps explicite)، أو التقليديّ، الكامنِ في السمات اللفظيّة. وهو، إن شئت، الزمن السيمَائيّ الكامن في بعض السمات اللفظيّة كالشجرة، والصبيّ، والشيخ...) . ثمّ أخيراً «الأَوْقَعَة»، (وهي عبارة عن تفاعُل الإيقاع وتبدّلاته، وتقابلاته وتجلّياته معاً، عبر الوحدات التشكيليّة ذاتِ الخصائص الإيقاعيّة بتفعيل السمات اللفظيّة ذات الإيقاع المتجانس، أو الصوت المتماثل) . وتمثّل الأَوقعةُ ذروة الجمال الفنّي الماثل في النصّ الشعريّ، والقائم على تفعيل الصوت مع الصوت، والنغم الناشئ عنهما مع نغَمٍ مثلِه، من أجل الرقيّ بالشعريّة إلى ذروة مستواها الإيقاعيّ ابتغاء التأثير الجمالي في المتلقّي. وبذلك حدّدنا، من الوجهة التأسيسيّة إمكان تحليل أيّ نصّ شعريّ من حيث خمسةُ مستويات. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:57) .

استهل الباحث والناقد عبد الملك مرتاض كتابه بمناقشة قضية تكتسي أهمية بالغة، وتتصل بأقدمية الشعر الجاهلي، وعُمره، وذلك تحت عنوان: «مقدِّمة منهجيّة ما قبل الشعر الأوّل: النشأة والتكوّن»، والحقيقة أن عُمر الشعر الجاهلي الذي نتدارسه اليوم مختلف فيه؛ ويذهب الباحث عبد الملك مرتاض إلى أن كثيراً ما تحدّث الناس عن قِدَم الشعر العربيّ دون أن يُقْدموا على الخوض في تحديد عمره على وجه التدقيق، لعدم شيوع ثقافة الكتابة، ولصمت التاريخ، ولِشُحّ التوثيق، في عهود ما قبل الإسلام لدى أوائل العرب. وكلّ ما عثرْنا عليه من النصوص التاريخيّة التي تحدّد عمر هذا الشعر، أنّ ميلاد الشعر العربيّ يعود إلى «دهر طويل»، قبل ظهور الإسلام. والحقّ أنّ عبارة «دهر طويل» التي شاعت في طائفة من كتب التراث، كما سنرى، والتي وُصِفتْ بها أبياتٌ شعريّة عُزِيَتْ إلى الأضبط بن قريع السعديّ، وهو الأضبط بن قُرَيعٍ بن عوف بن سعْد بن زيد بن مناة بن تميم، لا تعني شيئاً كثيراً. ذلك بأنّ هذا الدهر قد يكون قرنين أو ثلاثة، كما قد يكون عشرين قرناً فما فوق ذلك. مثلها مثل عبارة: «وهو قديم»، وذلك وصْفاً للشاعر الأضبط نفسِه، حين ذُكِر قبل إثبات شعره. ولكنْ من حسن الحظّ أنّ عالماً نحويّاً وراوية للشعر، تفرّد، فيما يبدو، بتحديد هذا «الدهر الطويل» بـ«ألفِ عامٍ»، قبل الإسلام. فقد ذكر أبو العلاء المعريّ أنّ أبا عبيدة، معمر بن المثنى، كان يقول عن الأبيات المرويّة للأضبط بن قُريع السعديّ التي سنُثبتها: إنّها «قيلت: من ألف سنة». (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:77) .

ويقرّر الناقد عبد الملك مرتاض في الأخير أنّ العربَ كانت ثانيَةَ اِثنتيْنِ من الأُمم، بعد الإغريق، عُنِيَتْ أعظمَ عنايةٍ بشِعرها، مُقارَضةً ومُرَاوَاةً، ومُذاكرةً ومُدارَسةً، معاً، قبل أن ينبرِيَ النَّقَدة، المتأخّرون عن ذلك العهدِ الضارب بِجِرانه في الزمن، إلى التأسيسات النظريّة التي نهض بها غيرُ واحدٍ: منهم مَن ذكرْنا، ومنهم من لم نذكر، وهم أكثرُ، هنا؛ وذلك بناءً على ما أوردتْه الرواة شِفاهاً، لا كتاباً. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:102) .

تحليل القصائد الخمس

في تحليله للقصائد الخمس، توقف الباحث عبد الملك مرتاض في المستوى الأول مع تعاطِي الشَّعْرَرة في تحليل بنية اللغة الشعريّة؛ حيث انطلق في المبحث الأول من معالجة البِنية الشعريّة في قصيدة حيدر العبد الله، الموسومة ب: «قُبلة على فم القصيدة»، وقد لاحظ أن المادّة، أو الموادّ، اللغويّة (matières langagières)، أو السمات اللفظيّة، أو الوحدات الصغرى (Les unités minimales)، كما يطلق عليها ذلك جلمسليف، التي وقع بها البناء، تمثُل فيما يأتي:       الرضيع؛ الاشتهاء؛ الجوع؛ الثدي؛ المراودة؛ المطاردة؛ الوحي؛ القصيدة؛ ضِيق المسعى؛ البقاء؛ الصحراء؛ الإهداء؛ الرُّوح؛ النبيّ؛ الرّعْي؛ أبو ظبي؛ الرخام؛ النداء؛ الظبي؛ القَلب؛ الصدَى (الظمأ) ؛ الشَّفّ؛ الثوب؛ الوشي؛ التلفُّت؛ ليلَى؛ السؤال؛ الهوى؛ الأمر؛ النهي؛ الرّفْع (التشمير) ؛ بلقيس؛ المشي؛ اللّبِن؛ الأحجار؛ الوعي؛ التقبيل؛ الرمل؛ التوت؛ التبليل؛ الماء؛ الفم؛ الإتعاب؛ الجرْيُ؛ الإكمال؛ التَّرحال؛ الخُلْد؛ الرِّجْلان؛ القصيد؛ السَّلام؛ النأي؛ الناي؛ المشابهة. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:177) .

وأشار المؤلف إلى أن عدد السمات اللفظيّة المرصودة من هذا النصّ بلغ زهاءَ ثلاثٍ وخمسين، فشملت طائفة من الحقول الدّلاليّة سنتعرّفُهَا، ثم نعمِد لِمعالجتها.ولعل من الواضح لدى القارئ أن يعلَم أنّا أسقطنا، من الإحصاء، إدراج الحروف والقيود والظروف والصفات، وذلك بحُكم أنّها لا تستطيع أن تكوّن كلاماً مفيداً وحدَها، وإنّما هي محكوم عليها، في الاستعمال اللغويّ، بأنْ تظلّ مُظاهِرةً لسمات اللغة ليستويَ لها التركيب السليم، والبناء الصحيح، ومِن ثَمّ قيام الدلالة، بفضل استقامة الكلام تركيباً، وإفادتِه مدلولاً. كما أقصَيْنا السماتِ اللفظيّةَ المكرَّرة لأنّها تعني مأدّة واحدةً. ولم نأْتِ إلاّ ذلك مع الصفات التي أقصيناها من الرَّصْد، وإن كانت قليلة جدّاً في هذه القصائد الخمس. وقد حوّلنا الأفعال إلى مصادرَ أو أسماءٍ ليسهُل التعاملُ معها.وبالنسبة إلى تصنيف اللغة الشعريّة إلى حقول دلاليّة؛ يرى الدكتور عبد الملك مرتاض أنه يمكن لِمُعالِجِ النصّ بالقراءة «التحليليّة» أن يصنّف هذه الموادّ اللغويّةَ بِسَلْكِها في مجموعات، مجموعاتٍ، تتشاكل مع بعضها بعضٍ وتتآخَى، وذلك كأنْ تكونَ:

أوّلاً. مجموعة الحبّ والجمال وما في حُكمهما

بِلْقِيسُ؛ الثوب؛ الرَّفْع (التشمير والكشْف) ؛ الوشْي؛ التقبيل؛ ليلَى؛ التّلفُّت؛ الهوى؛ النّاي؛ القَلب؛ السَّلام؛ الإهداء: باثنتيْ عَشِرَةَ مادّةً.

ثانياً. مجموعة المشي والتَّرحال وما في حكمهما:

المشي؛ السّعي؛ الإتعاب؛ الجرْي؛ التَّرحال؛ الرِّجْلان؛ النأي؛ الصحراء؛ المطارَدة: بتِسْعِ موادَّ.

ثالثاً. مجموعة الأكل والشرب وما في حكمهما:

الثدي؛ الرضيع؛ الاِشتهاء؛ الجوع؛ المراودة؛ الماء؛ الصّدَى (الظّمأ، لا رَجْع الصوت) ؛ الفَم؛ الشَّفُّ (هنا واردٌ بمعنى الشُّرب بمَصّ الماء، لا بجَرْعه والعَبّ فيه دَغْرَقةً بلا غَنَثٍ، وليس السِّتر الرقيق، ولا الهمّ الذي يَشُفّ المرءَ شَفّاً) بتِسْعِ مَوادَّ، أيضاً.

رابعاً. مجموعة البناء والعُمْران ما في حكمهما:

اللّبِن؛ الأحجار؛ الرّمْل؛ الرُّخام؛ أبوظبي (المدينة المبنيّة ببعض هذه الموادّ) بخمسِ موادَّ.

خامساً. مجموعة الذوق والإلهام وما في حكمهما:

الوحي؛ النبيّ؛ القصيدة؛ الرُّوح، بأربعِ موادَّ.

سادساً. مجموعة الرّعْي والرَّتْع وما في حكمهما:

الظبي؛ الرَّعْي؛ التُّوت: بثلاثِ موادَّ لغويّةٍ فقدْ.

ونجد مجموعةً من الموادّ اللغويّة الأخرى، في نسج هذا النصّ الشعريّ، لم تتمكّن من القدرةَ على الاِعْتِزاء إلى أيٍّ من هذه المجموعات السّتِّ، فندَّتْ عنها وشرَدتْ منها، وهي مَوادُّ سِتٌّ:

البقاء؛ النداء؛ الوعي؛ الخُلْد؛ السؤال؛ المشابهة.

ولَكأنّ ذلك يعني أنّ كلّ مجموعة تحتوي على مأدّة واحدة اعتاصت على الاعتزاء إليها، فنفرت منها نفوراً. ولقد يعني ذلك أيضاً أنّ نُدُودَ هذه السّمات عن صِنْواتها في المجموعات السّتِّ، واختلافها عنها، إنما كان لتوطيد عَلاقة التبايُن من أجل تعزيز مَواتِّ الدلالة فيما بينها، إذِ التعارض، أو الاختلاف، بين السمات اللفظيّة في تركيب نسْج الكلام هو الذي يحدّد القِيَم الدلاليّة، ويُقِيمُ صِحّة المعاني فيحفظها من العبث والهراء. . (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:204) .

كما قام الدكتور عبد الملك مرتاض بمعالَجة تحليليّة لهذه المجموعات؛ لاحظ فيها أنّ هذه المجموعاتِ السِّتَّ، المكوَّنةَ من السّمات اللفظيّة الإفراديّة، تتشاكل فيما بينها تشاكُلاً داخليّاً وهي في مجموعتها، بحيث تعتزي إلى معانٍ متماثلة، أو متقاربة متآخيَة؛ فتكوّن كُتَلاً، كُتلاً داخل البنية اللغويّة الإفراديّة من خلال سماتها اللفظيّة التي بفضلها يكتمل البناء. بيْد أنّها تتباين خارجيّاً، أي خارج مجموعتها، فتتباعَد تباعُداً؛ فإذا كلُّ مجموعة تتّخذ لها معانِيَ تختلف عن معانِي صِنْوَاتِ المجموعاتِ الأخرى اختلافاً بعيداً، كما لاحظ أيضاً أنّ هذه السّماتِ اللفظيّةَ التي تكوّن المأَدّة الأولى لنصّ هذه القصيدة تَدْرُج، في عامّتها، في معانٍ جماليّة؛ فهي لا تدلّ على القُبح والفقر والمرَض والضنى والمكابدة والعذاب؛ ولا على الجفاف والجدْب والغَلاء والمجاعات؛ ممّا يُفضي إلى شظَف العيش وشُحّ الأرزاق؛ ولا على الضَّلال والتُّوهِ في الْمَفازاتِ والصحارِي؛ ولا على الخوف والفزع في الليالي الدَّآدِي، مثلاً؛ بل تناولتْ معانِيَ دالّةً على الأناقة والزِّينة والسعادة والخِصب والمرْع والحبّ والرّتْع ولَحْن النّاي؛ وعلى جلال الموقف، وبَهاء الْمَرْأى، وجمالِ العُمران...وعلى أنّ الذي قد لا يمكن التدرّج إلى الفقرة الآتية دون الحديث عنه، فهو هذا العنوان الذي تتفاعل فيه الشعريّة الفاهِقة مع نفسِها؛ ذلك بأنّ تقبيل فمِ القصيدة، هو استعارة جميلة نشأت عن عَدِّ المرأة قصيدةً، أو عدّ القصيدة امرأةً ذاتَ ثغْر جميل؛ فإذا كلٌّ منهما تغتدي أهْلةً للرَّفِّ والْمَصْد والتّقبيل. والذي يرى أنّ القصيدة الفخمة، هي ليستِ اِمرأة جميلة، أهْلةٌ للتقبيل، لا نراه يفهم الشعر، ولا يعي معنىً للجمال. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:213) .

وفي المستوى الثاني من التحليل؛ توقف الدكتور عبد الملك مرتاض مع تجلّيات «الدَّوْلَلة» في شعريّة اللغة في القصائدِ الخمس، وأشار إلى أنه قلّ مَن حلّل نصّاً أدبيّاً كاملاً، شعريّاً أو نثريّاً، عربيّاً أو أجنبيّاً، وفيما وقفْنا عليه من قراءاتنا وقْفاً: بالإجراء التداوليّ. ولذلك، ووفاءً لقِيلِنا: «جديدُ التحليل»، ارتأينا أن نسعى إلى النهوض بهذه التجربة التي كنّا نهضْنا بها، في الحقيقة، من قبلُ، في بعض أواخر كتُبنا التحليليّة التي تَخِذَتْ من الشعر العربيّ حقلاً لها، في أحَدِ مستويات هذا التحليل؛ لكِنّا نطمع، اليوم، في أن نضيف شُيَيْئاً إليها في هذا العمل، جديداً. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:292) .

كما سلط الدكتور عبد الملك مرتاض الضوء على نظريّة «اللاّمقول» أو المسكوت عنه في الإجراء التداوليّ، حيث نبّه إلى أن امبرتو إِكو يرى في كتابه «حدود التأويليّة» (Les li¬mites de l'inter¬préta¬tion) أنْ ليس من الضرورة أن تتّفق قصديّةُ القراءةِ المرادُ بها التحليل، مع قصديّة التأليف، ونحن نرى، وركوحاً إلى هذه الفتوى النقديّة التي نعمل بها، أنْ ليس من الضرورة أن تتّفق قصديّة النّص الواصفِ مع قصديّة النصّ الأوّل، اتّفاقاً مطلقاً. ذلك بأنّ النصّ الواصف، في منظورنا لمفهوم «التداوليّة الكبرى»، هو نصّ ثانٍ بامتيازٍ، كُتب عن النصّ الأدبيّ الأوّل (حتّى نُقْصيَ النصَّ غيرَ الأدبيِّ)، في زمن منفصل عنه؛ فهما، إذن، يتكاملان، ولا يتماثلان. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:347) .

وعلى أنّ «المسكوت عنه» (L'illocution) هو الحقل الشاسع لنشاط التداوليّة [Prag¬matique] الأدبيّة وعطائها، وذلك بشِقَّيْها الأصغرِ والأكبرِ جميعاً. وكأنّ المسكوت عنه، في منظورنا لهذه المسألة، هو تمثُّلُ النصِّ الواصفِ لِما كان النصّ [الأدبيّ] الأوّلُ يريد قوله، فلم يَقُلْهُ، فيتكفّل هو بقوله، فيكون إبداعاً من حول إبداع، وخطاباً أدبيّاً على خطاب آخرَ من جنسه. ولذلك لا يكون الفعل التداوليّ في اللغة المعجميّة، بل لا بدّ من أن يكون في الخطاب المبنيّ من اللغة خارج معاجمها التي تُعنى بالمعاني المنفصلة للألفاظ. ويختصّ التداول الأكبر بالنصّ الأدبيّ، في حين ينصرف التداول الأصغر إلى التعابير اليوميّة.بيْد أنّ النصّ الأوّل، إذا كان سطحيّاً، فإنّه يفتضح أمام الإجراء التداوليّ فلا يصنع النّصُّ الواصف (المسكوتُ عنه)، له، شيئاً كثيراً. لأنّ المسكوت عنه مهما يَظْلَلْ بعيداً عن النّصّ الأوّل، فإنّه يبقَى، على ذلك، مرتبطاً به، مضطرباً في فَلَكه اضطراباً قريباً. (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:369) . وقد جاء في نقد الدكتور عبد الملك مرتاض للتداوليّة : «وركوحاً إلى ما سبق، فإنّا لا نرى أنّ هذا الإجراء الخالص لتحليل الخطاب الأدبيّ ممّا يتّفق عليه كلّ الناس؛ أو ممّا يضيف شيئاً كثيراً إلى إجراءات تحليل الخطاب المعروفة، بين المتعاملين، حقّاً. ولذلك ظلّ محدود الاستعمال، فيما يبدو لنا، بين المحلّلين الحداثيّين أنفسِهم. وربما يتقاطع هذا الإجراء مع بعض الإجراءات التقليديّة أو المعروفة لدى الناس، منذ القِدم، كبعض إجراءات التحليل البلاغيّة، القاصرة على كلّ حال؛ و«حتّى»: ذات التخريجات النحويّة، وما ينشأ عن اسـتعمالها من مسكوتٍ عنه في الخطاب (نريد إلى نحو المعاني، ونحو الألفاظ معاً ) . وقد رأينا أنّ كثيراً من محلّلي النصوص الأدبيّة العربيّة الكبيرة كاختيارات أشعار الحماسة لأبي تمام الـتي كلِف بتحليلها خلْق كثير من الناس في القديم، أشهرُهم أبو عليّ المرزوقيّ، والخطيب أبو زكرياء يحيى بن عليّ التبريزيّ: كانوا يعمِدون إلى قراءة النصوص الشعريّة فيحلّلونها بما يماثلها بألفاظ أُخرَ لا تبتعد عن ألفاظ النصّ الشعريّ المحلَّل إلاّ قليلاً. وإن كنّا نلاحظ على وتيرة التحليل لدى أمثال هذين العِملاقين أنّها كانت لا تكاد تَعْطُو إلاّ وجهاً واحداً من الـتحليل، في حينَ أنّ التحليل التداوليّ يتّسم، في الحقيقة، بالانفتاح الواسع على قراءة النصّ بحيث يمكن تأسيس التحليل بتعاوُر ألفاظ كثيرة تعالج مضموناً واحداً في النصّ. ولذلك، فنحن لا نرى أنّ هذا الإجراء التحليليّ الذي يتبجّح به، اليوم، الحداثيّون يُضيف إلى إجراءات التحليل الأدبيّ المعروفة ما يكون ثورةً عارمة في مجاله حقّاً. وقد يكون انعدامُ قدرة هذا الإجراء على متابعة النصّ الأدبيّ الطويل ومُجاراته سبباً مركزيّاً في ذلك القصور.يضاف إلى ذلك تجرُّد هذا الإجراء من القيم الجماليّة والفنّيّة، واجتزاؤُه بالاحتفال على تعاور الألفاظ اللغويّة وتبادل المواقع في معانيها، فقدْ. وأيّ إجراء يعطُو النصَّ الأدبيّ فلا يراعي الجانب الجماليّ فيه، قد يكون غيرَ ذي جدْوَى. ونحن سعَينا، على كلّ حال، في هذا العمل الذي نقدّمه إلى القراء، وفي هذا المستوى من التحليل، إلى الخوض في الجانب الجماليّ، إذ لا نرى أيّ تحليل أدبيّ، مهما تكُ أسسه النظريّة والإجرائيّة، يكتسب شرعيّته الأدبيّة خارج الوظيفة الجماليّة التي هي ركن مركزيّ في التعامل الأدبيّ ماهيّةً وإرسالاً واستقبالاً. كما يضاف إلى كلّ ذلك غيابُ أيِّ قاعدة صارمة تحكم هذا الإجراءَ الذي يظلّ خاضعاً لمقدار براعة المحلِّل وذوقه وقدرته على افتراع اللغة، وعلى أسْلَبة الكَلام، قبل كلّ شيء». (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:391) . وقد قدم المؤلف أنموذجاً من التحليل التداوليّ الفرنسيّ لعبارة «أحبّك» لِألان فينكيلكرو، كما حلّل الناقد عبد الملك مرتاض القصائد الخمس بالإجراء التداولي؛ وفي المستوى الأخير، تحدث الدكتور عبد الملك مرتاض، عن : «سِيمَائيّة الأَوْقَعة في المدوّنة - النغَم، والتنغيم، والتناغُم- »، وهو يعتقد في مستهل هذا القسم أنه قد لا يُصيبُ في رأيه كلُّ مَن يرى أنّ الإيقاع، بالمفهومين الحرَكيِّ والجماليّ مَعاً، في العربيّة، هو جديدُ النشأة، حديث الظهور؛ وأنّه مجرَّدُ موروثٍ دَعِيٍّ عن الثقافة الغربيّة المعاصرة؛ وأنّ الثقافة العربيّة الأصيلة منه بعيدٌ.بل لقد كان ابن منظور عرَض للإيقاع في «لسانه» بوعْيٍ لغويّ كاملٍ. بل إنّا ألفينا الخليل بن أحمد يؤلّف كتاباً كاملاً في القرن الثاني في هذا الفنّ بعنوان: «كتاب الإيقاع». كما ألفَيْنا عدداً كبيراً من كتّاب القرون الأُولى يستعملون هذا المفهوم بالمعنى العامّ الأوّل، وهو ضرْب من أضرُب الموسيقى، كما يتحدّث عن ذلك المثقّفُ الأوّل للأمّة، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، فيصطنع هذا المفهوم بوعي معرفيّ واضح، فيقول: « (...) أو بعض ما في حَنجَرته من الأصوات الملحَّنة، والمخارج الموزونة، والأغاني الداخلة في الإيقاع، الخارجة من سبيل الخطأ...». كما تحدّث محي الدين بن عربيّ عن المعنى الصوفيّ الخاصّ للإيقاع، في أكثرَ من موضع، وذلك في كتابه «الفتوحات المكّيّة».بل إنّا وجدنا إبراهيم الموصليّ يميّز بين اللَّحن والإيقاع، فيعرّف الإيقاع بأنّه: «حركات متساوية الأدوار، لها عودات متوالية»، في حين أنّ «اللحن صوت ينتقل من نغمة إلى نغمةٍ أشدَّ وأحطَّ». وسعَى السيوطيّ إلى تدقيق أكثر في تعريف الإيقاع فذهب إلى «أنّه لا فرْقَ بين صناعة العَروض وصناعة الإيقاع، إلاّ أنّ صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنَّغَم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة». ويبدو أنّ الإيقاع العربيّ بعد أن افترعه علاّمة الأمّة، الخليل ابن أحمد، في كتابه المعروف بهذا الاسم، كلِف به أهل التصوّف فكان الإيقاعُ شأناً من شؤون مجالسهم وحضرتهم، وتجلِّي حالهم، فكانوا يطبّلون بالطَّبْل ليؤدّوا الحضرة الروحيّة الراقصة على صوته، فإن تعذّر وجود طَبْل أو طبّالٍ، كان المسمِّعُ يصطنع قاعدة القدَح الذي يشربون فيه الشاي فيوقّع به على صينيّة من النُّحاس، ليؤدّيَ أهلُ الحضرة حركاتِهمُ الراقصةَ على وقْع ضرْب قاعدة القَدَح على الصينيّة المصوّتة، بانتظام دقيق، وتنغيم مضبوط، يتلاءمان مع هيئة حركة الحضرة المؤدّاة رقصاً بالأجسام القائمة.غير أنّا لم نعثر، فيما قرأنا، على أحدٍ ممّن عرض لاشتقاق «الإيقاع». ونحن نودّ أن نخوض في هذا الأمر، وعلى هذا المستوى من المعالجة التحليليّة لهذه المدوّنة الشعريّة، فنقرّر أنّ الإيقاع قد يكون أَتَا إِيمَا من وقْع قَطْرِ المطرِ على الأرض، وهو شِدّة ضرْبِهِ إيّاها إذا وَبَلَ؛ وإمّا من وقْع ضرْبِ حوافر الدوابّ، حين تسير في الطريق اللَّحْبِ فيكون لها صوتٌ يكاد يكون منتظِماً منغَّماً. ونميل إلى الوجه الآخِر حيث إنّ أيّ شخصٍ يسمع الدوابّ وهي تضرب الطريق اللاّحِبَ بحوافرها، يدرك التشابُه القائم بين ذلك الفعل وضرْب العود، أو الدُّفّ، أو الطَّبل، أو الصينيّة، أو سوى ذلك ممّا يمكن أن يقع الضرْب عليه من الآلات المصوّتة فتسمعه يُحدث صوتاً مُوَقَّعاً.وأمّا مصطلحُنا، نحن، فيعني تفاعلَ الإيقاع، وتبادُلَ جماله، بين عناصر السّمات اللفظيّة ذاتِ الأصوات المتقاربة أو المتشابهة أو المتماثلة، في تجلّياتها الصغرى (داخل البيت الواحد وفي قافيته بالقياس إلى سَوائه من الأصناء)، وفي تمثّلاتها الكبرى (داخل نصّ القصيدة بجذاميره) . ». (عبد الملك مرتاض، 2021م، ص:413) .

خاتمة:

إن هذا الكتاب يمكن أن ندرجه ضمن الدراسات النقدية المتميّزة؛ التي تسعى إلى النهوض بتحليل جديد للشعر العربي، فقد سلط الناقد عبد الملك مرتاض الضوء على قصائد جديدة، وحلّلها بمنهجية دقيقة، كما تطرق إلى كثير من القضايا المهمة التي تتصل بعمر الشعر العربي، والجدير بالذكر أن الدكتور مرتاض يتوسع في التعليق والتحليل والشرح والتفسير، ويذكر المصادر والمراجع عقب كل بحث بدقة وتفصيل، وهو ما جعل الكتاب ذا قيمة علمية وأكاديمية، فهو صالح سواء لعامة القراء، وكذلك للباحثين المتخصصين .

***

الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

................

قائمة المراجع:

أ- المؤلفات:

1- إبراهيم عبد المنعم ( إبراهيم)، 2008م، بـحوث في الشعرية وتطبيقاتها عند المتنبي، مكتبة الآداب، القاهرة، مصر.

2- أدونيس (علي أحمد سعيد)، 1971م، مقدمة للشعر العربي، منشورات دار العودة، بيروت، لبنان.

3- بوفلاقة (سعد)، 2007م، الشعريات العربية: المفاهيم والأنواع والأنماط، عنابة، الـجزائر.

4- أبو ديب (كمال)، 1987م، في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان.

5- الرحموني (عبد الرحيم)، 2005م، في مفهوم الشعر والشاعر، منشورات مطبعة آنفو- برنت، فاس، المغرب الأقصى.

6- الطرابلسي (محمد الهادي)، 1981م، خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية، تونس.

7- مرتاض (عبد الملك)، 2021م، التحليل الجديد للشعر (معالجة تحليليّة لِخَمْسِ القصائدِ التي قُدِّمت في نهائيّ الموسم السادس لأمير الشعراء)، منشورات أكاديمية الشعر، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.

8- اليوسفي (محمد لطفي)، 1992م الشعر والشعرية :الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا عنه، منشورات الدار العربية للكتاب، طرابلس، ليبيا.

ب- المقالات:

1- جاموس (راوية)، 2013 م، مفهوم الجمال لدى ابن سينا وأهميته في الدراسات الجمالية المعاصرة، مـجلة بونة للبحوث والدراسات، مجلة دورية محكمة تعنى بالبحوث والدراسات التراثية والأدبية واللغوية، عنابة- الجزائر، ا لعدد المزدوج (19/20)، ربيع لأول:1434هـ/يناير (جانفي)، صفر1435هـ/كانون الأول (ديسمبر)، ص:216.

2- ميمون (مسلك)، 2001م، التأصيل الإجرائي لمفهوم الشعر عند ابن سلام الجُمحي، مجلة عالم الفكر، مجلة دورية مُحكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، العدد:02، المجلد:30، أكتوبر، ديسمبر، ص:129.

يبدأ كتاب "مقدمة في علم الكلام الجديد" بالحديث عن نشأة علم الكلام، وأسباب النشأة ودوافعها، إن كانت داخلية أو خارجية. علم الكلام لم ينشأ كنوع من الترف الفكري كما يعتقد البعض، بل نشأ تلبية لحاجات فرضها الواقع الاجتماعي والسياسي والديموغرافي والثقافي والعقدي. يوضح د. الرفاعي في هذا الكتاب المخاوف التي أصابت الفقهاء من هذا العلم الذي يحاول عقلنة أصول الدين وإثباتها بطرق عقلية. عارض كل من الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل هذا العلم، وهذا التعاض يعكس البنية السوسيولوجية والمعرفية التي لم تتهيأ في تلك اللحظة التاريخية لاستيعاب التفكير العقلاني الفلسفي بطريقة شبيهة لمن يرفض العقلانية الحديثة. مثّل علم الكلام في تلك اللحظة قمة الفكر العقلاني في الإسلام بجرأته ومقولاته المتنوعة وأسئلته. يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي: ان تراجع علم الكلام بدأ عندما نُقلت الحوارات الكلامية من دور العلم إلى بلاط السلطان وخضعت للسياسة،كان الاعتزال ضحية هذا الانتقال من التفكير خارج حدود عقلانية السلطة. عندما تأدلج علم الكلام وتوقف التفكير العقلاني فيه دخل مرحلة السبات، وصار ضحية الوثيقة القادرية ( ٤٠٨ هـ ) التي فرضت مذهباً رسمياً واحداً لا يحق لأحد الخروج عليه وهو المذهب الحنبلي، وحرّمت التفكير الاعتزالي، فكانت هذه ضربة موجعة للتفكير الكلامي العقلاني، بعد أن تحول لمقررات ومراسيم وأوامر تفرضها السلطة السياسية. لم يستسلم الفكر الكلامي كليا لهذه التحولات، بل نهض علم الكلام مجدداً بعد زمان على أيدي متكملين كبار كنصير الدين الطوسي وفخر الدين الرازي، وغيرهما، وهو ينهض اليوم مجددا في علم الكلام الجديد.

كان لنشأة الفكر الكلامي في عالم الإسلام دور هام بتوليد الأسلئة العقلانية التي تبحث قضايا الاعتقاد لتولد منه تساؤلات ومقولات متنوعة. حضور العقل في التفكير الكلامي وعقلنة العقائد الدينية، وبحث كبرى الأسئلة العقلية كالجبر والاختيار والتوحيد والعدل وغير ذلك، تسبب بمحاربة التفكير الكلامي من تيارات رأته يشكل تهديداً لأصول الشريعة. نضج علم الكلام ليشكل الرؤية الكونية في الإسلام، وليشكل نظرية المعرفة في الفكر الإسلامي كما يرى أستاذنا عبد الجبار الرفاعي.كل ذلك كشفه الرفاعي في علم الكلم القديم، فأدرك سطوته على العقل الإسلامي، بل أدرك أنه المنبع العميق لأصول الفقه والآراء والمواقف الفقهية وتفسير القرآن الكريم وشرح الحديث الشريف.

تحدث الرفاعي عن محاولات التأسيس الحديث لعلم الكلام وتجديده منذ أيام ولي الله الدهلوي مروراً بسيد أحمد خان ومحمد إقبال وفضل الرحمن، وانتقالاً للمدرسة الإيرانية في مشروع القراءة الهيرمونيطيقية عند محمد مجتهد شبستري، إلى القبض والبسط وبسط التجربة النبوية عند عبد الكريم سروش، والعقلانية والمعنوية عند مصطفى ملكيان، ثم المدرسة العربية المتمثلة بالقراءة الألسنية عند نصر حامد ابو زيد، والإسلاميات التطبيقية عند محمد أركون، والتراث والتجديد عند حسن حنفي، وغيرهم. كتابات كثيرة مر عليها أستاذنا الرفاعي واستوعبها استيعاباً نقدياً وناقش أصولوها ومرجعياتها، مما جعلته يضع جهده الأكبر في رسم ملامح علم الكلام الجديد، ووضع مقدمة هذه كي تحاول رسم حدود هذا العلم وموضوعه ومنهجه، محاولاً تمييز الكلام الجديد عن الكلام القديم من جهة، والكشف عن المحاولات الشكلية لتجديد علم الكلام.

يرى الرفاعي ان علم الكلام القديم لبث يفكر في إطار العقلانية القروسطية، وفي ظل منطقها وفلسفتها، وفي ظل نظامها المعرفي، والعلوم الطبيعية السائدة آنذاك. نشأ علم الكلام ليجيب عن أسئلة المسلم في تلك القرون، فمع تطور المنطق والفلسفة ونشوء علوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وتطور العلوم الطبيعية لدرجة القطيعة الابستمولوجية مع الطبيعيات القديمة، وتطور أسئلة المسلم المعاصر، نشأت حاجة يفرضها الواقع، لنشوء علم كلام جديد، يستوعب الطفرات الفلسفية الحديثة والعلوم الإجتماعية والمناهج الإبستمولوجية، ليخلق حواراً فكرياً ينطلق من واقع المسلم. وعلى هذا الساس تسقط بعض الدعوات التي ترى علم الكلام الجديد نوعا من الترف الفكري والإدعاءات، فنظرة سريعة لما نحن فيه ندرك فيها الحاجة الماسة التي فرضها الواقع لإنشاء علم الكلام الجديد. لا يمكن مثلاً بناء حياة متصالحة مع العصر للمسلم في ظل مقولات الولاء والبراء والفرقة الناجية وتكفير المسلم المختلف في عقيدته التي ترسخت في علم الكلام القديم.

معيار علم الكلام الجديد عند الرفاعي

يضع الرفاعي معياراً واضحاً لتمييز الكلام الجديد عن الكلام القديم، والمعيار يتمثل كما يرى في الفهم الجديد للوحي. يرى الدكتور الرفاعي أن كل شيء يحدد فهمه تعريفنا للوحي، إذ يقول: (يبدأ علمُ الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرّر تعريفَه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنِّف مفكرًا بأنه "متكلم جديد"، ويتمثل هذا المعيارُ في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريفُ خارجَ سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيفُ قوله كلامًا جديدًا، لأن طريقةَ فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرّعُ عنه مختلفُ المسائلِ الكلامية، ومن أبرزها مسألةُ "الكلام الإلهي" وغيرُها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًا لعلم الكلام القديم. إن كيفيةَ تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كلُّ شيء في الدين، لا يبدأ تجديدُ فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياتَه الروحية والأخلاقية والجمالية. في حدود تعريف الوحي يتحدّد مفهومُ النبوة، ويتحدّد حضورُ الإلهي في القرآن في حدود فهم النبوة، ويتحدّد معنى الكلام الإلهي).

مسألة فهم الوحي أخذت مسارين في الفكر الإسلامي المعاصر، كما يقول الدكتور الرفاعي:

1- مسار يرى الوحي بتعبير د. نصر حامد ابو زيد (منتَج ومنتِج ثقافي) حيث يكون في فترة التكوين مرآة للثقافة، وما بعد التكوين يتحول لموجِّه للثقافة. يعتمد هذا المسار علوم الإنسان والمجتمع والفلسفة في تفسير تمثلات الوحي وأصله، فيقعون في بعض الأحيان في إنكار البعد الغيبي للوحي، ونرى في بعض الأحيان عبارات لهم يعترفون بها بالأصل الغيبي للوحي، وإن كانوا يرون أن الوحي مرآة انعكس فيها واقع عصر البعثة الشريفة ولغة ذلك العصر. ويرى الرفاعي هذا في كتابات: نصر حامد ابو زيد ومحمد اركون وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي.

2- مسار يتعامل مع الوحي بكونه ظاهرة ميتافيزيقية غيبية، ويبحث في أصل ونشأة الوحي أكثر مما يبحث في تمثلاته في الحياة الإجتماعية، ويعتمد هذا التيار آثار العرفاء والفلاسفة في دراسة أصل الوحي، وعلوم الانسان والمجتمع في تفسير تمثلات الوحي في الواقع، ويرى الرفاعي هذا في كتابات: محمد اقبال وفضل الرحمن ومحمد مجتهد شبستري وعبد الكريم سروش.

فهم الرفاعي للوحي

يقول الرفاعي: (الفهم الذي أتبناه للوحي لا يهدرُ البُعدَ الإلهي الغيبي المتعالي على التاريخ الذي ينطقُ به الوحيُ، على الرغم من توظيف هذا الفهم لشـيء من أدواتِ فلسفة الدين وعلمِ الأديان المقارن وعلومِ الإنسان والمجتمع، للكشف عن البُعد البشـري التاريخي في تمثلات الوحي في الواقع. البُعد الإلهي في الوحي لا يقعُ في إطار صيرورة التَّاريخ وسياقاته، البُعد البشـريّ في الوحي يقع في إطار صيرورة التاريخ وسياقاته. كلُّ ما هو تاريخي بشـري وكلُّ ما هو بشـري تاريخي، كلُّ ما هو إلهي بوصفه إلهيًّا خارج التاريخ، وكلُّ ما هو خارج التاريخ لا يخضع لمعادلات دراسة الواقع وأدوات فهمه وتفسيراته). فهم الدكتور الرفاعي للوحي يشدد على مضمونه الميتافيزيقي الغيبي، ولا يتجاهل البُعد البشري في شخصية النبي "ص". يفهم الرفاعي الوحي بطريقة ديناميكية وهي تختلف عن الطريقة الميكانيكية التي ترى النبي "ص" مجرد وعاء مر من خلاله الوحي من دون أي تفاعل منه. الرفاعي يرى أن النبي متفاعل إيجابي مع الوحي. للوحي جانبان كما يرى الرفاعي: إلهي / بشري، بشري / إلهي، الإلهي يتمثل بعقيدة التوحيد والقيم الكبرى التي نطق بها القرآن الكريم الأبدية التي تنطبق على كل إنسان مهما تغيرت الظروف والأحوال والأزمان، والبشري يتمثل بانعكاس حياة النبي الخاصة "ص" والظروف الخاصة بمجتمعه وواقع عصر البعثة الشريفة على الوحي. وبهذا لا يكون النبي متفاعلا سلبيا مع الوحي، بل يكون متفاعلا إيجابيا تظهر شخصيته وحياته بوضوح في الوحي. في ضوء فهم الرفاعي يتضح أن كل من لا يفهم الوحي فهماً ديناميكياً لا يمكن أن يصنف متكلماً جديداً. ويعلن الدكتور الرفاعي عن فهمه للنبوة وصلة النبي بالغيب، والفرق بين النبي وبين غيره ممن لا صلة له بالغيب، عندما يقول الرفاعي: (النبي ليس شاعرًا، ولا كاهنًا، ولا متنبئًا، ولا متأملًا يقوده تفكيره لمقام النبوة، النبيُّ نبيٌّ وكفى. لا يتمثل الوحيُ بمشاهدة النبي لأحلام في حالة النوم، أو صورٍ ينسجها خيالُ النبي، أو حالة نفسية، أو محصِّلة ارتياض صبور، أو تأمُّلات عقلية. التفسيرات من هذا النوع تهبط بمقام النبي، ولا تتنبه للتكامل الوجودي الذي تسامى إليه النبي وانفرد فيه. الوحيُ حقيقةٌ أصيلة تعكس تكاملًا في وجود مَنْ يتلقاه، وتكشف عن صلة وجودية استثنائية بالله).

يصنف البعض خطأ بعض الكتابات التي تكتب بلغة جديدة وتنحت مصطلحاتها الخاصة على أنها كلام جديد، لكن هذه الكتابات لا يمكن ان تصنف كلاماً جديداً وفق معيار الدكتور عبد الجبار الرفاعي، لهذا يرفض الرفاعي أن يصنف الدكتور طه عبد الرحمن على أنه متكلم جديد ولا يصنف كتاباته كلاماً جديداً، لأن د. طه وفيٌّ للتراث والمدونة الكلامية ومقولات الاشعري والغزالي وابن تيمية تماماً، وإن نحت معجمه اللغوي الاصطلاحي المبتكر. العقل التراثي عقل مقيد بالتراث لا يجرؤ الخروج على مسلماته. د. طه عبد الرحمن حلقة تأخذك لكل مسارات اللغة والفكر ولكنها تعيدك في نهاية المطاف للتراث. المشكلة اننا لا نجرؤ على نقد التراث، ونقد العقل والمناهج والوسائل التي توالد من خلالها. المشكلة في عدم تحررنا من النظام المعرفي والقيمي الحاكم على المنظومة التراثية، لا نعرف سوى أن نقول تجاه العلوم الحديثة أنها نشأت في ظل نظام معرفي وقيمي معين لكي نرفضها، ثم ننسى أن نطبق هذا على علومنا التي نشأت في ظل نظام معرفي وقيمي قائم على العقلانية الأرسطية والرؤى التراثية. نحن نعي جداً أن هذا النظام المعرفي والقيمي كان حاكماً على كل المعارف الإسلامية، لكننا نرفض أن نفكر في ضوء العقلانية الحديثة ولوائح حقوق الإنسان. تربينا على كراهية عصرنا ومنجزاته، هكذا تعيش أجسادنا في العصر الحديث، لكن فكرنا مازال في القرون الهجرية الأولى، تشكله مقولات الشافعي والأشعري والغزالي وابن تيمية وغيرهم.

مناقشة الرؤى الرسولية للدكتور عبد الكريم سروش

يقول د. عبد الكريم سروش في بسط التجربة النبوية (تحدثنا في كتاب القبض والبسط عن بشرية وتاريخية المعرفة الدينية، وفي هذا الكتاب "بسط التجربة النبوية" نتحدث عن بشرية وتاريخية الدين والتجربة الدينية نفسها)، ثم إنتقل عبد الكريم سروش في كتابه الاخير (كلام محمد، رؤى محمد) للحديث عن فهم للوحي بوصفه أحلاما يشاهدها النبي "ص" في المنام.

في سياق نقده للدكتور سروش ينطلق الدكتور الرفاعي من رؤية يؤسس عليها نقده، إذ يقول: (لكلٍّ من العلم والفن والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التعرّفُ على هذه الحقيقة في فضائها الخاص. للغيبِ حقيقتُه ومظاهرُه وفضاؤه، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفن حقيقتُه وفضاؤه). مادام لكل شيء حقيقته الخاصة التي يتم التعرف عليها من خلال فضائه الخاص، ومادام لكل من الفن والعلم والغيب حقيقته، ويتم التعرف على هذه الحقيقة من داخلها، لذلك لا يمكن تفسير البعد الغيبي للوحي بمناهج علم النفس، لأنها مناهج تتعاطى مع ما يدور في النفس الإنسانية بمنطق علم النفس الحديث، ولا صلة لها بما يدور في الغيب وما وراء الطبيعة، فأي دراسة للغيب في الوحي تعتمد مناهج علم النفس سترى أن الوحي حالة سيكولوجية يعيشها النبي "ص" تخطئ الطريق كما يرى الرفاعي، إذ ستبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار. يمكن دراسة كل ما ينتمي لعالم الطبيعة في الوحي من خلال المناهج العلمية لعلوم الانسان والمجتمع أو العلوم الطبيعية، لكن ما يتعلق بالبعد الغيبي في الوحي فهو بحث يقع خارج الإطار البحثي لعولم الإنسان والمجتمع أو العلوم الطبيعية، في ضوء هذه الرؤية يناقش الدكتور عبدالجبار الرفاعي نظرية الدكتور عبد الكريم سروش في الرؤى الرسولية، حيث يرى الدكتور سروش أن الوحي عبارة عن رؤى عرضت في المنام للنبي، وللرؤى لغتها الخاصة حيث لا تخضع لقوانين المجاز والكناية، فلغة الاحلام تحتاج لتفاسير الأحلام، وبهذا ربما نحتاج للجوء لتفسير الوحي سيكولوجياً. في سياق نقده لسروش ورفضه لاعتماد اعتمادُ مناهج البحث في العلوم الطبيعية والانسانية في تفسير البعد الغيبي للوحي يقول الرفاعي: (يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطبيعةِ في القرآن الكريم، ومن العبثِ تطبيقُ هذه المناهج في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقية وما هو خارج الطبيعة، دراسةُ الميتافيزيقا وما بعد الطبيعة أحدُ حقول الفلسفة. الوحي بوصفه حقيقةً غيبية ينتمي إلى ما بعد الطبيعة، لذلك لا يصحّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النفس وغيرِه من العلوم في الكشفِ عن ذات الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظرياتُ علم النفس أن تفسِّر الوحيَ فإن أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي والنظرُ إليه على أنّه حالة سيكولوجية يعيشها النبي. أخفقت محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهات تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار،كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ الله وحقيقتَه وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة. يمكن التعّرفُ على شيءٍ من ملامحِ الغيبيات وصفاتِها ومظاهرِها وتجلياتِها بما تتحدّث به آياتُ القرآن. الآياتُ تتحدّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات، بغيةَ تقريب ما لا صورةَ له بصور المادي وخصائصه وصفاته. الصورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ عبر الحواس، إلا أنه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتَها لأنها لا صورةَ لها، وإن كان يمكن تقريبُها للذهن عبر التمثيل بالأشياء المادية). النبوة عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي مقام وجودي يحتاج الإنسان إلى تكامل وجودي واصطفاء إلهي يؤهله لتلقي الوحي، كما تشير الآية: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)، التأهيل لتلقي هذا القول الثقيل لا يمكن أن يكون من خلال الرؤى، النبوة هي الطور الوجودي الذي يكون أكمل طور وجودي ومقام وجودي يرتقي إليه الإنسان كما يرى الرفاعي.

يؤكد الدكتور عبد الجبار الرفاعي: إن كانت عمليات إعداد قادة العسكر والفكر والسياسة تحتاج لبرامج تعليمية لسنوات طويلة، فكيف يمكن لإنسان يؤهل لمقام تلقي الوحي الذي يصفه القرآن الكريم بـ (القول الثقيل) أن يتحقق من خلال الأحلام. يقول الرفاعي: (إن كان الإنسان لا يبلغ مرتبة النبوة إلا إذا تسامت كينونته الوجودية وتحقق بكمالٍ إستثنائي يؤهله لهذا المقام الإلهي الفريد، فلا يمكن أن تكون الرؤى في المنام وسيلةً لتكامله وبناءِ إستعداده الوجودي لمقامٍ يؤهله لتحمل الوحي وتلقيه. تنتمي النبوةُ لذلك الميتافيزيقي/ الغيبي الذي لا صورةَ له، ولا يمكنُ فهمُه وإدراكُ حقيقتِه بمناهج وأدواتِ العلم، لأن النبوةَ ذاتُ طابعٍ وحياني. الوحيُ حالةٌ وجودية بالمعنى الأنطولوجي وليس بالمعنى المادي للوجود، تتحقّق هذه الحالةُ الأنطولوجية عندما تتكامل كينونةُ الإنسان، الإنسان المؤهل وجوديًا للنبوة هو الوحيد الذي يتلقَّى الوحي. مَنْ يرى النبيَّ كالشاعر والنبوةَ كالشعر ينفي كونَ النبوة مقامًا وجوديًا يبلغه الإنسان، الشاعرُ إنسانٌ موهوب يتميزُ بقدرته على إبداع الشعر، مرتبةُ الشاعر الوجودية هي مرتبةُ غيره من البشر. النبيُّ مثلُ غيره من الناس في حياته ومعاشه وطبيعته البشرية، إلا أن مرتبتَه الوجودية ارتقت، ولذلك اصطفاه اللهُ للنبوة).

تمييز علم الكلام الجديد عن فلسفة الدين

يضع استاذنا الرفاعي معياراً للفصل بين علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، المتكلم الجديد مؤمن بالوحي والنبوة، ويبحث تحت سقفهما، أما فيلسوف الدين فمن الممكن ان يكون مؤمناً أو غير مؤمن ويبحث في كل شيء بحثاً حراً من دون سقف معين. فلسفة الدين فلسفة، الفلسفة حكم العقل لا غير كما يقول الرفاعي: (‏الفلسفة تعني حكم العقل لا غير. الفلسفة مرجعية العقل في كل قضية إثباتًا أو نفيًا). وفي هذا السياق يرفض الرفاعي محاولات "أسلمة الفلسفة" ويراها ضرب من التفلسف ضد الفلسفة، يقول بصراحة: (لا يكون التفكير فلسفيًا إلا أن يقع خارج إطار المعتقدات والأيديولوجيات والهويات المغلقة. كل الأُطر المقيدة للتفكير العقلي تمارس تمويهًا بعناوين مراوغة عبر الأدب والفن، وأخطر أشكال التمويه عندما تتخفى المعتقدات والأيديولوجيات والهويات وتفرض أحكامها وراء قناع الفلسفة والعلم والمعرفة. محاولات "أسلمة الفلسفة" ضرب من التفلسف ضد الفلسفة. كتبت عن ذلك أكثر من مرة في مقالاتي ومؤلفاتي). وهذا تمييز واضح يرفع الالتباس الذي وجد مع الشيخ مصطفى عبد الرازق حيث عد علم الكلام هو الفلسفة في الاسلام، الفلسفة يفترض أن تكون بحثاً عقلياً محايداً، وعلم الكلام ينحاز لجملة من المسلمات الاعتقادية. أي فكرة ترى في الفلسفة خصوصية ستنتهي بأدلجة الفلسفة. العلم ربما ينحاز، لكن لا يمكن للفلسفة أن تنحاز.

استعادة المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الكلام الجديد

غاب الإنسان عن المدونة الكلامية القديمة، وتخصصت هذه المدونة في ذات الله عز وجل وصفاته وما يتفرع عنها، ونست الإنسان الذي كُلف بأعظم مهمة في الوجود وهي الاستخلاف. علم الكلام الجديد يستعيد للإنسان مركزيته في الوجود التي اكتسبها من كونه خليفة الله في الأرض. يرى الرفاعي انه لا تعارض بين مركزية الإنسان في الكلام الجديد مع مركزية الله عز وجل وهو رب الإنسان كما حصل في بعض الفلسفات المعاصرة، بل يكتسب الإنسان هذه المركزية نتيجة ما وهبه الله: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة). لا يدرس الدكتور عبد الجبار الإنسان وحاجاته بمعزل عن الله كما حصل في رؤية حسن حنفي التي وصلت إلى ما أسماه الرفاعي (نسيان الله في تفسير حنفي للقرآن) فنسيان الله ينتهي إلى نسيان الإنسان (نسوا الله فأنساهم أنفسهم).

يرى الرفاعي ان اخراج الدين من حدوده الأنطولوجية وترحيله لحدود أيديولوجية انتهى إلى نزع المضمون الروحي والأخلاقي والجمالي للدين، وتحويله من وسيلة لإنتاج المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي إلى أداة أيديولوجية يصبح فيها وسيلة للوصول إلى السلطة والثروة. هذا الترحيل من الفضاء الأنطولوجي للفضاء الأيديولوجي رصده علم الكلام الجديد، لذلك يبحث عن سبيل لإستعادة الدين إلى فضائه الأنطولوجي ليكون حسب تعريف د. الرفاعي: "الدين حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجةُ الإنسان لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". ويشتق الرفاعي "من ‏هذا التعريف كل شيء يكتبه ويقوله عن الدين". في كتابات الدكتور الرفاعي إنقلاب مضمر مستتر على تيارات فكرية معاصرة، أخرجت الدين من دائرة الأنطولوجي إلى دائرة الأيديولوجي، فأخضعت النصوص القرآنية لمقولاتها الخاصة، وأصبح النص ينطق عندهم بما تتضمنه مقولات مثل "الحاكمية" ، "بناء فوقي وبناء تحتي" ، "ديالكتيك صاعد هابط" والخ، من مقولات إسلامية مختلطة بماركسية أُلبسب على النص، لذلك أخذ الكلام الجديد عنده مهمة إعادة الدين لفضائه الأنطولوجي ليكون منبعا للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في الحياة. يشدد الرفاعي على أن "أي معرفة لا يعرف فيها الدين حدوده فهي معرفة غير منتجة".

وأخيراً هذه جهود مهمة، سيكون لها نتائجها في يوم ما، وعلينا ألا نظلمها ونحملها فوق طاقتها، فما زال الفكر الكلامي الجديد لم يتجاوز المئة وخمسين عاما، ويحتاج إلى وقت للتبلور والنضوج مثله مثل أي علم آخر. شكراً لاستاذنا الدكتور عبد الجبار الرفاعي على هذه الرحلة الممتعة في هذا الكتاب الرائع.

***

براء ريّان - كاتب عراقي

 

نجدة فتحي صفوة: هو كاتب ودبلوماسي عراقي، وُلِدَ في عام 1933 وتوفي في عام 2013، تخرّج من كلية الحقوق في بغداد، ثم واصل دراسته في جامعة لندن، عُيّنَ في السلك الدبلوماسي العراقي في عام 1945، وقضى 23 عاماً تقريباً عمل خلالها في لندن وعمّان والقاهرة وجَدّة وباريس وأنقرة وواشنطن وموسكو على التوالي، وكان مديراً عاماً للدائرة السياسية في وزارة الخارجية، ثُم عُيّن سفيراً للصين، بعدها إستقال من الوظيفة وتَفَرّغ للكتابة في الشؤون الدبلوماسية.

له عددٌ من الكتب ما بين تأليف وتحقيق منها: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 7 مجلدات ـ محمد حديد: مذكراتي "تحقيق" ـ العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب ـ حكايات دبلوماسية .. الخ (1)

لم ألتقِ بالأستاذ صفوة كثيراً، فهذا هو اللقاء الثاني لي معه، وكان لقائي الأول في كتابه المهم "العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب". وصفوة باحث "ثَبَت"، وما يُميزه هو الإعتماد على الوثائق الأجنبية المنشورة حديثاً، أي التي تم رفع الحجب عنها بعد إنتهاء المدة المقررة، وكتابه الحالي حافلٌ بالوثائق البريطانية الطازجة، وهي نقطة تُحسَبُ له بكل تأكيد.

ما الدافع للكتابة عن صالح جبر؟ كيف وُلِدت هذه الفكرة عند صاحبنا؟

وُلِدَت هذه الفكرة من خلال إتصال الباحث بنجل صالح جبر، أي سعد صالح جبر، وهو صديق له، وقد شَجّعه سعد صالح على هذه الفكرة ووعده بتزويده بما لديه من معلومات وذكريات عن والده الراحل، ووعده بإحترام رأيه وعدم طلب إضافة شيء لا يرغب الباحث بإضافته، أو حذف ما قد يجده في غير مصلحة والده. وكان صادقاً في وعده كُل الصدق (2)

إضافة الى أن جبر لم ينل ما يستحقه من تكريم لذكراه، وخدماته الكثيرة التي قَدّمها لبلده، بل إنه قد تَعَرّضَ في بعض الحالات لهجمات ظالمة وخصوصاً في "معاهدة بورتسموث" التي كان مهندسها والمفاوض فيها والموقّع عليها، دون أن يظهر من يدرس تلك المعاهدة وملابساتها وظروف عقدها دراسة موضوعية منصفة، بل كان معظم من كتبوا عنها متأثرين بالدعوات الغوغائية التي صحبتها دون إطلاع أو دراسة متأنية لبنودها (3)

سيُمسك القارىء بأول الخيط من هذا التصدير، فالباحث سيكون "مُدافعاً" عن صالح جبر ـ ولا إشكال في ذلك ـ، لكن الإتهام الذي ذكره وَوَجّهه ل"معظم" من كتبوا عن المعاهدة يجعلنا نشكُ في "موضوعية الدفاع"؟ ف"الدعوات الغوغائية" فيها إتهام للمعارضين وللشعب بصورة عامة!

الكتاب كبير بحجمه 700 صفحة، كبير بالحقائق التي يعرضها، بالمصادر التي يعتمد عليها. فكانت مصادره العربية كثيرة جداً: عبد الرزاق الحسني ـ كامل الجادرجي ـ حسين جميل ـ أحمد مختار بابان ـ محمد مهدي كبة ـ علي الوردي ـ جعفر عباس حميدي ـ عبد الكريم الأزري ـ محمد حديد ـ كمال مظهر أحمد .. الخ، أما المصادر الأجنبية فقد كان حضورها كبيراً كما أسلفنا. إضافة للصُحف والمجلات.

سنُقَسّمُ قراءتنا النقدية لمحطاتٍ طلباً للتسهيل والوضوح:

المحطة الأولى:

خطأٌ تأريخي فادح وقع فيه الباحث، ففي الفصل الثامن عشر والموسوم ب"معاهدة بورتسموث"، خصّصَ الباحث حَيّزَاً للمعاهدات السابقة عليها، وهي أربع معاهدات، ففي حديثه عن المعاهدة الأولى قال:

(وتجمهر الناس حول بناية المجلس التأسيسي طالبين رفض المعاهدة، وإصطدموا بقوات الشرطة، وبعد عشرة أيام تَفَرّقَ أعضاء المجلس من دون إتخاذ أي قرار إيجابي. وأخيراً هَدّدَ المعتمد السامي البريطاني الملك فيصل بأنه إذا لم يجتمع المجلس ويوافق على المعاهدة في منتصف ليلة 10 / 11 حزيران "يونيو" 1922، فإن الحكومة البريطانية ستعتبر ذلك رفضاً للمعاهدة، وتكون في حِلٍّ من جميع تعهداتها السابقة. وكان رئيس الوزراء ياسين الهاشمي يعتقد أن رفض المعاهدة وإفساح المجال لإعتبارها مرفوضة سَيُعَرّضُ البلاد الى أضرار جسيمة) (4)

الحقيقة هنا أن رئيس الوزراء العراقي في عام 1922 لم يكن السيد ياسين الهاشمي، بل كان السيد عبد الرحمن النقيب في وزارته الثانية التي تشَكّلت في 12 أيلول 1921 الى 19 آب 1922 (5) أما الهاشمي فقد شَكّلَ وزارته الأولى في 2 آب 1924 (6) وأعتقد بأن الأمر قد إختلط على الباحث هنا، فتهديد المعتمد السامي البريطاني المذكور وهو هنري دوبس للملك قد حدث في عهد وزارة السيد جعفر العسكري الأولى التي تشكّلت في 22 تشرين الثاني 1923 وإستمرت الى 2 آب 1924 (7) فهدّد المندوبين وأنذر الملك فيصل (8)

السؤال الآن:

كيف وقع الأستاذ صفوة ـ وهو الباحث الثَبَت ـ في خطأٍ تأريخيٍ من هذا النوع؟

المحطة الثانية:

يقول الباحث عن عودة غروبا الألماني ما نصه: (وقد رافقت عودة الدكتور غروبا الى العراق ظروف خاصة تُعد نادرة في تاريخ التعامل الدبلوماسي. فهو لم يحمل معه أوراق إعتماد، ولكنه مع ذلك كان يُعامَلُ معاملة الدبلوماسيين المعتمَدين. وأغرب من ذلك أنه نزل في دار رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء، وهي سابقة سياسية تاريخية، إذ لم يُعرَف في التاريخ الدبلوماسي ـ فيما نعلم ـ أن إتخذ سفير دولة أجنبية مقر إقامته في دار رئيس وزراء البلد الذي إعتمد فيه. ففي ذلك ملابسات عديدة تتعلق بالقانون الدولي وأعراف التعامل الدبلوماسي وحقوقه، ومنها إعتبار محل إقامة رئيس البعثة الدبلوماسية جزءاً من إقليم بلاده، وتمتعه بالحصانة الدبلوماسية. ومنها حقه ـ وأحياناً واجبه ـ في رفع علم بلاده على محل إقامته، ووضع شعار دولته على باب مقره. فهل كان لعلم ألمانية أن يرتفع فوق دار رئيس وزراء العراق؟) (9)

صراحة، لقد بذل الباحث وتَحَمّلَ جُهداً كبيراً في سبيل الوصول لتفسير مقبول لهذه الحالة "الشاذة" في التاريخ الدبلوماسي! لكن لو دَقّقَ قليلاً لما كَلّفَ نفسه هذا العناء! فهل كانت الظروف آنذاك طبيعية؟ أي في وقت حكومة رشيد علي الكيلاني "حكومة الدفاع الوطني"؟ بالتأكيد لم تكن طبيعية، ظروف الحرب العالمية الثانية وتَرَقّب حكومة الكيلاني المساعدة المقدّمة من دول المحور لصَدّ التهديدات البريطانية.

ثم لماذا نذهب بعيداً، فليست حالة الكيلاني شاذة في تاريخ السياسة العراقية! ولم يُكَلّفنا صفوة كثيراً ـ وهذا هو دأبه بذكر الحقائق في كتابه الحالي ـ في تَتَبّع الأحداث. فعندما نشب النزاع في وزارة نوري السعيد السابعة في 1942 بين وزير المواصلات السيد عبد المهدي، ووزير المعارف تحسين علي. زار رئيس الوزراء نوري السعيد القائم بأعمال السفارة البريطانية في العراق "جفري طومسون" بغياب السفير عن العراق (ولعله زاره لبحث هذا الموضوع خصيصاً، وأخبره أن النزاع بين الوزيرين بلغ مرحلة خطيرة وأنه كان يخشى أن يؤدي الأمر الى إقحام صالح جبر في الموضوع أيضاً) ليقول في موضع آخر:

(أن الساسة العراقيين كانوا في بعض الحالات ـ ومنها هذه الحالة ـ هُم الذين يدعون السفارة البريطانية ويُشَجّعونها على مثل هذا التدخل. إضافة الى ذلك، فليس من المألوف في التعامل الدبلوماسي أن يزور رئيس وزراء دولة مستقلة، ولا وزير خارجيتها، سفارة دولة أجنبية إلا في مناسبة خاصة كحفلة إستقبال أو دعوة غداء أو عشاء ... أمّا أن يزور "رئيس الوزراء" ممثل دولة أجنبية ـ وخصوصاً أنه قائم بالأعمال وليس سفيراً ـ ليستعين به في التوفيق بين إثنين من وزرائه، فذلك خروج على تقاليد التعامل الدبلوماسي المتبعة بين جميع الدول، وتفريط في الكرامة الوطنية) (10)

فلماذا يستكثر الباحث على الكيلاني عمله وهو في ظروف لا يُحسَدُ عليها آنذاك؟ (11)

المحطة الثالثة:

ألّفَ صالح جبر وزارته في 29 آذار 1947 (وكان أول شيعي يتولّى رئاسة الوزراء في العراق) (12) وقد أورد الباحث تعليقاتٍ عن هذه المسألة لعددٍ من الشخصيات، وأرجعها لدوافع: شخصية، طائفية، سياسية. منها تعليق للزعيم الوطني كامل الجادرجي، ثم رَدّ عبد الكريم الأزري عليه (13) وتعليق المؤرخ الكبير حَنّا بطاطو، وهو المقصود من جانبنا في هذه المحطة.

نقل الباحث تعليق بطاطو من كتابه القَيّم "العراق"، وبدورنا سنرجع الى كتاب بطاطو ونُثبت النص المنقول:

(ولكن الإرتقاء بشيعي الى منصب رئيس الوزراء أثبت كونه غير ذي فائدة. ولم يكن هذا يعني شيئاً بالنسبة الى العمال المفتقرين الى الخبز، ولا بالنسبة الى المحامين الذين ليست لديهم قضايا، ولا بالنسبة الى صغار الموظفين المنسيين، ولا الطلاب الذين تحتويهم الدعاية السرية، أو الأحزاب التي تُقاد بالرَسَن. ولم يكن الأمر الآن بحاجة الى أكثر من أحداثٍ قليلة لكي يتدهور الغليان طويل الأمد والمُمَوّه بستار شفاف الذي كانت تعيشه كل هذه العناصر) (14)

يتساءل بعدها الباحث: (والسؤال الذي يُثيره هذا الرأي هو: هل كانت هذه المشاكل سَتُحَل لو كان رئيس الوزراء غير شيعي؟) ثم يُعَقّب: (لا شكّ أن حَنّا بطاطو، على الرغم من تَجَشّمه عناء البحث الطويل وغزارة المصادر التي تَمَكّنَ من الوصول إليها في إعداد دراسته الضخمة عن العراق، كان يكتب من منطلق ماركسي لا يستطيع فِكَاكاً عنه، وهو لم يتحرر من القوالب الجامدة التي لا يفتأ الماركسيون يلوكونها، وكأن المشاكل التي عَدّدها يمكن أن يقضي عليها رئيس وزراء شيعي أو سني بالعصا السحرية، بين ليلة وضحاها. كما أنه لم يُبيّن ما هي علاقة الطائفة الدينية التي ينتمي إليها السياسي بحل المشاكل التي عَدّدها) (15)

صراحة، لقد شَرّقَ الباحث وغَرّبَ في رده على بطاطو، وبعيداً عن إتهامه للماركسيين و"قوالبهم الجامدة" (16) فإن كان التركيز على الكادحين يُعَدُ من القوالب الماركسية التي "تُلاك" دائماً، فهذا ما سيُشَرّف بطاطو وغيره. ثم ما علاقة الطائفة بحَلّ مشاكل البلد! كل ما في الأمر أن بطاطو قد رَكّزَ على حالة "شاذة" في تاريخ العراق آنذاك. وقد ذكر الباحث نفسه بأن بطاطو قد إعترف بقدرات صالح جبر غير العادية! (17)

ويشير الباحث لنقطة في غاية الأهمية: (ويُلاحَظ أن التقارير البريطانية كانت تُعير كون صالح جبر شيعياً إهتماماً خاصاً، في حين أن العراقيين أنفسهم لم يُعيروا تلك الناحية الإهتمام نفسه ... والواقع أن معظم العراقيين تَلَقّوا إختيار سياسي شيعي لرئاسة الوزارة كأمر طبيعي، وهو أمر طبيعي بلا شك) (18) وهذا يدل على النضوج السياسي ويؤكّد كلام بطاطو السالف، فما يهم العراقي ما ستقدمه هذه الحكومة فقط بعيداً عن الإنتماءات.

المحطة الرابعة:

تألفت حكومة صالح جبر من عدد من الشخصيات التي سبق لها أن إستوزرت في السابق، بإستثناء الدكتور ضياء جعفر وزير المواصلات والأشغال. ومنهم الدكتور فاضل الجمالي وزيراً للخارجية، ويوسف غنيمة وزيراً للمالية، وعبد الإله حافظ وزيراً للتموين، وجميل عبد الوهاب وزيراً للشؤون الإجتماعية، وشاكر الوادي وزيراً للدفاع. وقد أعطى الباحث نبذة مختصرة لكل واحد منهم (19)

لكن وتحت عنوان "تقييم بريطاني لأعضاء وزارة صالح جبر" نقل الباحث وترجم تقريراً بريطانياً في غاية الأهمية، وهذا ما سيُلقي الضوء على المعارضة الواسعة والعنيفة لهذه الحكومة ولإجراءاتها اللاحقة بشأن معاهدة بورتسموث. كتب التقرير "دوغلاس بسك" مستشار السفارة البريطانية في بغداد، وهو تقرير طويل وخلاصته أن بسك يرى في أعضاء حكومة صالح جبر (أتفه ما يمكن تصوره من الوزراء) وقد إستغرب الباحث من هذا التقرير ثم نشره مبكراً (20)

المحطة الخامسة:

يُرجِعُ الباحث أي معارضة لصالح وجبر وحكومته ل"الأسباب الذاتية" تقريباً، فمثلاً يغمز الباحث من طرف خفي في موقف المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني، يقول: (ومما يُلاحَظ أن الحسني كان عبر أجزاء كتابه المذكور ـ وهو الكتاب الذي لا غِنَىً عنه لأي باحث في تاريخ العراق الحديث ـ يتخذ موقفاً سلبياً من صالح جبر ويحاول أن يغمز قناته أحياناً إذا وجد مناسبة لذلك. والسبب معروف، وهو أن الأستاذ الحسني ـ رحمه الله ـ كان أحد الذين أُرسلوا الى المعتقل بعد حركة رشيد عالي الكيلاني بأمر من صالح جبر الذي كان وزيراً للداخلية، بسبب إندفاعه في تأييد الحركة، وقد بقي معتقلاً حتى نهاية الحرب، ولم يغفرها لصالح جبر) (21)

طبعاً نحن لا ندفع "السبب الذاتي" عن الأستاذ الحسني مطلقاً، ولا يمكن دفعه عن الحسني وغيره من البشر بطبيعة الحال. لكن لماذا "نحصر" هذا الموقف السلبي في هذا المجال! ولماذا لا نقول بأن الحسني كان معارضاً لصالح جبر من باب آخر، باب عدم التأييد الشعبي له، والمعارضة الكاسحة التي واجهها!!

أما عن موقف الشيوعيين فَحَدّث ولا حرج! إذ لم يتوانَ الباحث في إتهامهم وتسقيطهم، فقد ربط الشيوعية بالصهيونية في مواضع متفرقة، وهذا ما يتماشى مع الموقف الحكومي بكل تأكيد (22) وأرجع "عداءهم" لحكومة صالح جبر بسبب إجراءات الأخيرة ضد قادتهم، أي الثلاثي: يوسف سلمان "فهد" وحسين الشبيبي وزكي بسيم. فقد صدرت بحقهم أحكام الإعدام ثم أُبدلت بالسجن المؤبد (23) ولم يفهم الباحث ـ أو بالأحرى لا يريد أن يفهم ـ موقف الحزب الشيوعي آنذاك، فهو ينسب إليهم أعمال الشغب والمؤامرات، ولكن لماذا مارس الشيوعيون هذه الأعمال؟ ألم يعرف الباحث أن هذا الحزب كان محظوراً من العمل العلني؟! حكومة تقمع جهة معينة وتخنق عليها أنفاسها! فماذا سنتوقع منها، كيف سَتَرُد!!

ويتوسع الباحث في الحديث عن "المنهاج الوزاري" لحكومة جبر، فهو (أوسع وأطول منهاج أصدرته أية وزارة عراقية) (24) وينقل ما ذكره المؤرخ الحسني (في كتابه العتيد) عن كتاب "سحابة بورتسموث" لصدر الدين شرف الدين، وهو أن منهاج الوزارة قد (وُضعت صيغته بالإشتراك مع أقطاب السفارة البريطانية، وأُحكِمَت آياته بوحي من الخطة المرسومة في دوائر وزارة الخارجية في لندن) ثم يذكر تعليق الدكتور فاضل الجمالي الذي بعثه له (من المضحك والمخجل أن ينقل الأستاذ عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"..) أي ينقل ما ذُكِر في أعلاه.

لكن الباحث لم يتركنا في حيرة من أمرنا، ولم يبخل علينا بعرض الحقائق: (ومع ذلك يتضح من الوثائق البريطانية التي فُتِحَت في سنة 1978، أن صالح جبر وفاضل الجمالي تشاورا ـ كُل على حِدَه ـ مع السفير البريطاني بشأن صياغة الفقرة الخاصة بتعديل المعاهدة العراقية ـ البريطانية) (25) وعليه فقد تَدَخّلَت السفارة في منهاج الوزارة ولو جزئياً!

المحطة السادسة:

يحاول الباحث ـ في سياق محاولاته المتعددة ـ الدفاع عن "عصرية" صالح جبر وتفكيره المنفتح بطريقة غريبة، يقول: (أرسلت الحكومة البريطانية طائرة خاصة الى الحبانية لنقل صالح جبر وأعضاء الوفد العراقي الى لندن، فغادر الوفد بغداد في 6 كانون الثاني "يناير" 1948، وقد إستصحب صالح جبر معه زوجته ومرافقة لها، ولعله كان أول سياسي عراقي يستصحب زوجته في سفرة يقوم بها لأداء مهمة رسمية، على غرار ما يفعل معظم الساسة في الغرب. وكان ذلك دليلاً على تَفَتّح ذهن صالح جبر وتفكيره العصري) (26)

صراحة، أحتار في التعليق على هذا النص، فهل إستصحاب زوجة السياسي دليل على التفكير العصري؟! ثم كيف يصدر هذا التعليل من باحثٍ بحجم صفوة!!

المحطة السابعة:

كان الوصي عبد الإله يميل الى مصارحة الشعب بكل شيء بشأن المعاهدة الجديدة، أما رئيس الوزراء صالح جبر، فقد كان متمسكاً بضرورة الحفاظ على سرية بنود المعاهدة التي يجري التفاوض بشأنها (27) فكان هذا التكتم الزائد من أسباب النقمة على جبر وحكومته وسقوط المعاهدة كما أشار الباحث نفسه (28)

لم يكف الباحث في إنتقاد الأحزاب المعارضة، أي الأحزاب العلنية الثلاثة القائمة آنذاك، وهي: الإستقلال ـ الوطني الديمقراطي ـ الأحرار. فقد عارضت هذه الأحزاب المفاوضات قبل إنعقادها (29) والسبب معروف يا أستاذ! فالوجوه "الكالحة" (30) نفسها! الوصي عبد الإله ونوري السعيد وصالح جبر الذي كان من جماعة نوري آنذاك (31) وقد إقترح القائم بالأعمال البريطاني في العراق "دوغلاس بسك" بعدم إشراك نوري السعيد في الوفد المفاوض، والسبب أن الدول العربية تنظر الى نوري بكثير من عدم الثقة بسبب ميوله البريطانية، وسمعته في تدبير الدسائس (32) لكن الوصي لم يأخذ بهذا الإقتراح وأصرّ على إشراك نوري في الوفد. فماذا سينتظر الشعب من وفدٍ كهذا؟!

وقد تحدث وزير خارجية صالح جبر الدكتور فاضل الجمالي لإذاعة وكالة الإنباء العربية بتصريح سَبّبَ مشكلة خطيرة جداً، ففي سياق حديثه عن معاهدة 1930 تَعَرّضَ للإنتقادات المُوَجّهة إليها (وكان أكثر الإنتقادات التي وُجّهت إليها راجعاً بالطبع الى السياسة الحزبية في البلاد، ولا تَمتُ الى الحق بصلة) (33) وقد أحدث هذا التصريح ردة فعل قوية في العراق، إضطر رئيس الوزراء صالح جبر أن يقول (لا بُدّ أن يكون هذا التصريح مكذوباً) أما الجمالي (فقد إدعى أن التصريح الذي نُسبَ إليه كان مُحَرّفَاً) وقد عَلّل الباحث هذا الموقف أن الجمالي كان في لحظة إندفاع لا يتوقع ما سيُحدثه تقريره. وأن الجمالي كان معروفاً بميله الى الإكثار من التصريحات الصحافية التي توقعه في سقطات محرجة أحياناً (34)

وعندما تم التوقيع على المعاهدة، أرسل صالح جبر مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وقام جمال بابان بنشر المعاهدة بترجمة مؤقتة. يقول الباحث: (وعلى الرغم من أن جمال بابان كان من رجال القانون ومن كبار المحامين، وكان في ذلك الوقت يشغل منصب "وزير العدلية"، فقد فاته أن حرفية النصوص لها أهميتها البالغة في أبسط العقود. أما تفسير المعاهدات بين الدول فهي ـ بطبيعة الحال ـ أشد خطورة) (35) فوقع المحذور ـ بحسب الباحث ـ وهبّت الأحزاب تستنكر المعاهدة وتشجبها.

وعن الحوادث الدامية التي وقعت بين الجماهير والقوات الحكومية، يقف الباحث موقفاً غريباً والله. إذ يذهب ـ مع أحمد مختار بابان في مذكراته ـ الى أن بعض الجنائز المحمولة كانت كاذبة! بل يروي حادثة "فضيحة مضحكة"، وهي "حادثة شخنوب" الذي تَسَلّمَ من الشيوعيين خمسة دنانير، ليرقد في تابوت يطوفون به في الشوارع كأحد الموتى، فلما طال رقود شخنوب في التابوت إستولى عليه الخوف فرفس غطاء التابوت وخرج هارباً بين دهشة الجمهور وضحكاته (36)

لكن صفوة "الباحث الثَبَت" وقع في خطأٍ لا يُحسَدُ عليه هنا! فلم يذكر المصدر الذي إستقى منه هذه الحادثة!! ويروي ـ في موضع آخر ـ عن بابان جرأة بعض المتظاهرين وضرب أنفسهم بالنار، ولعلهم أصيبوا بالجنون (37) ثم ينقل ما أثبته الحسني عن حالة بغداد آنذاك، مشيراً الى شيء من المبالغة في الوصف! (38)

وبعد أن قَدّمَ بعض وزراء صالح جبر إستقالاتهم، يتهمهم صفوة بالتخلي عن رئيسهم في ساعة الشدة (39) ولا أعرف لماذا لا نُعَلّلُ إستقالاتهم بحراجة وقوفهم أمام شعبهم في هذه الساعات الحالكة كما أراد رئيسهم؟! والأخير كان حازماً ومُصَمّمَاً على موقفه كما ذهب الباحث (40) أي مُصَمِّمَاً على مواجهة شعبه في رفض المعاهدة!!

المحطة الثامنة:

يزعم الباحث بأنه سيقوم بدراسة هادئة لنصوص المعاهدة من خلال مقارنتها بمعاهدة 1930، وينتقد حنّا بطاطو على قوله (كانت الوثبة أروع عصيان جماهيري مُسَلّحٍ عرفه تاريخ العهد الملكي) (41) إذ يُعَقِّب: (ولكنه لم يذكر ماذا كان وجه الروعة في تلك الحركة التي ذهب ضحيتها عدد كبير من الشُبان الأبرياء المُغَرّر بهم!) (42) لكن بطاطو قد ذكر وجه الروعة فيها مباشرةً! يقول بطاطو:

(كانت هي التربة التحتية الإجتماعية لبغداد الثائرة ضد الجوع والأعباء غير المتكافئة. وكانت هي الطلاب وعمال السكلجية الذين قاتلوا بشجاعة على جسر المأمون وماتوا في سبيل أفكارهم، أو كما يقول المتشائمون: من أجل أوهامٍ عقيمة) (43)

فلماذا أحجم صفوة عن ذكر "وجه الروعة" بحسب بطاطو؟!

أما الدكتور كمال مظهر أحمد، فقد كانت للباحث وقفة "نقدية" شديدة معه، وأعتقد بأن أيَ مناقشة هنا يجب أن تنطلق من المنهجية المُتَبَناة قبل أن تنتقل الى الجزئيات. فالمنهج الماركسي لا قيمة له عند صفوة، فيقول عن دراسة كمال مظهر أحمد:

(لقد كُتِبَت هذه الدراسة عموماً بمنهج أيديولوجي عقائدي ماركسي، يُفَسّر التاريخ وأحداثه، بل جميع الظواهر السياسية والإجتماعية والإقتصادية، تفسيراً طبقياً مادياً) (44)

ليتحسّس صفوة من المنهج الماركسي، يرفضه، هذا شأنه. لكن رغم ذلك سنناقش الباحث.

ينقل ما ذكره مظهر أحمد، وسنرجع لكتاب الأخير ونُثبتَ النص المنقول:

(منحت المعاهدة الجديدة البريطانيين كل ما كانوا يريدونه من العراق. ففي الوقت الذي كان يحق لهم بموجب معاهدة 1930 جلب قواتهم الى العراق فقط في حالة نشوب الحرب، أعطتهم بنود "معاهدة بورتسموث" هذا الحق في حالة التهديد بالحرب، أي عملياً في أي وقت يرتأيه البريطانيون. وفي الواقع حولت بنود بورتسموث وملحقاتها العراق الى مستعمرة بريطانية في ثوب جديد) (45)

يستشكل الباحث عليه فيقول:

(ولم يُشر المؤلف في بحثه الى أية مواد من المعاهدة، ولم يستشهد بأية نصوص، وإنما كان ما ذكره أشبه بالشعارات الحماسية التي تُطلق في المظاهرات) (46)

صراحة، إتهامٌ كبير لباحث كبير بحجم الدكتور كمال مظهر أحمد! ثم لماذا نذهب بعيداً! فالخطاب الذي يتبناه صفوة فيه من الشعارات الحماسية ما لا يقل عن ذلك، يقول: (وإذا كان البعض من كبار رجال الدولة "كرئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الأعيان" إتخذوا موقف المعارض منها ـ يقصد المعاهدة ـ من دون قراءتها، فما بالك برجل الشارع، أو الشاب المتحمس اليافع. إذ لا شك أنهم كانوا متأثرين بدعايات المعارضين من شيوعيين، وأنصاف شيوعيين، وصهيونيين، وغيرهم) (47) أليس في ذلك من الشعارات الحماسية والإتهامات المجانية التي لا تتوافق مع أبسط أصول البحث العلمي!

لقد غفل صفوة عن حقيقة مهمة صَدّر بها مظهر أحمد كتابه، يقول: (والبحوث التي أُقَدّمها بين دفتي هذا الكتاب هي مجرد محاولة لطرق بعض الأبواب الجديدة بأسلوب يأخذ، قدر المستطاع، التحليل والإستنتاج بنظر الإعتبار. وفي كل الأحوال ليست محاولتي هذه سوى إجتهاد متواضع دافعه البحث عن الحقيقة ـ نبراس المؤرخ ـ ومقياس موضوعيته) (48)

وعليه فهي "محاولة مختصرة"، ولكن رغم ذلك، لم يترك مظهر أحمد القارىء، بل أشار عليه بما يلي: (راجع نص المعاهدة والوثائق الأخرى المتعلقة بها في الجزء السابع من "تاريخ الوزارات العراقية" الطبعة الثالثة ص201 ـ 216) (49)

صراحة، لن أتوسع في مناقشة الباحث للدكتور مظهر أحمد أكثر، فمناقشته كانت أقرب الى السجال منها الى البحث الموضوعي.

والأمر المثير في تلك الفترة أن العراق كان يمرّ ب"أزمة الخبز" (كانت سنة 1946 / 1947 أسوأ سنة عرفها العراق في تاريخه الزراعي الحديث. فقد قَلّ المطر، وكثُر الجراد .. وتضاعفت الرغبة في تصدير الحنطة والشعير، إمعاناً في الإثراء السريع، دون أن يُلتَفت الى حاجة البلاد وإستهلاكها المحلي، ما دام المرموقون قد أمّنوا وذووهم حاجاتهم من الحبوب المعاشية، فلم يدخل شهرا أيلول وتشرين الأول 1947م، إلا والبلاد تشكو من أزمة حادة في الخبز، وعاد ذلك المنظر المؤلم الذي ألفه الناس أيام الحرب العجاف، يوم كان الرجال والنساء والأطفال يتجمهرون على المخابز والأفران، ويتدافعون بالمناكب والسكاكين ليحصلوا على القليل من الخبز) (50)

والغريب في الأمر أن رئيس الوزراء صالح جبر قد رفض مناقشة "أزمة الخبز" في المجلس النيابي قبل مغادرته الى لندن! (51)

فماذا سينتظر الأستاذ صفوة من شعبٍ لا يجد الخبز، ومن رئيس وزراء لا يقبل مناقشة هذه الأزمة قبل سفره الى لندن!! وعليه فإستغراب صفوة من "جنون" الجماهير لا مبرر له إطلاقاً، وإلا فمن لا يجد الخبز في داره ويشاهد الطبقة السياسية وهي تَستمتع بما لَذّ وطاب، فهل سيبقى عنده عقل!

الخلاصة:

فشلت جهود حكومة صالح جبر في المعاهدة، وهذا ما أدى لسقوط الحكومة نفسها لعدّة أسباب نُجملها في الآتي:

1 ـ نفس الوجوه التي كرهها الشعب كرهاً شديداً هي التي تنوي عقد هذه المعاهدة الجديدة.

2 ـ التكتم الزائد الذي مارسه صالح جبر حول المعاهدة حتى عن وزراء حكومته (52) والسرعة التي تم بها كل شيء، فقد عُقِدَت المعاهدة في خمسة أيام فقط كما ذكر الجنرال رنتن رئيس البعثة العسكرية البريطانية في العراق (53)

3 ـ أزمة الخبز التي عصفت بالبلد أنذاك، وهي أزمة تجعل الإنسان بلا عقل بكل تأكيد، فكيف بالبسيط وهو يشاهد عدم إكتراث حكومته بحالته البائسة!

4 ـ الإجراءات العنيفة التي قابل بها صالح جبر ثورة شعبه، وهذا ما جعله مكروهاً.

وعليه فلم يكن الأستاذ صفوة موفقاً في "دفاعه" عن رئيس الوزراء المرحوم صالح جبر.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...................

الحواشي:

1 ـ إعتمدنا على النبذة المختصرة المُثبَتَة في غلاف الكتاب الذي ننوي مناقشته الآن

2 ـ نجدة فتحي صفوة: صالح جبر ـ سيرة سياسية، دار الساقي بيروت 2016 ص9

3 ـ نفس المصدر والصفحة

4 ـ المصدر السابق ص258 و 259

5 ـ عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية ج1، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1988 ص73

6 ـ المصدر السابق ص244

7 ـ المصدر السابق ص191

8 ـ المصدر السابق ص226 و 227

9 ـ صفوة: المصدر السابق ص146 ولا يؤاخذنا القارىء على الإستشهاد بالنصوص رغم طولها، فالموضوعية تُحَتّم على الناقد النقل التام للنصوص

10 ـ المصدر السابق ص174 الى 178

11 ـ يرجع ذلك لموقف صفوة من أحداث مايس 1941، وهو موقف مناوىء لقادتها، ومبثوث في كتابه الحالي ص136 و 146 و 147، بل إن صالح جبر قد صَرّح ـ بحسب برقية السير ريدر بولارد في طهران ـ بإستعداده للذهاب ـ إذا تردد الوصي في تأليف حكومة عراقية ـ ليُدَبّر بالتعاون مع بريطانيا ثورة ضد حكومة الكيلاني بين العشائر التي يتمتع بنفوذ كبير بينها! ص151 وهذا ما سيجعل موقفه الشعبي ضعيفاً جداً بسبب تعاونه مع المحتل

12 ـ المصدر السابق ص216

13 ـ المصدر السابق ص216 و 217

14 ـ حنّا بطاطو: العراق / الكتاب الثاني ـ الحزب الشيوعي، بترجمة عفيف الرزاز، منشورات القبس في الكويت ص205

15 ـ صفوة: المصدر السابق ص217 و 218

16 ـ وهذا ما سيقع به مع الدكتور كمال مظهر أحمد كما سيأتي بيانه لاحقاً

17 ـ المصدر السابق ص218

18 ـ المصدر السابق ص220

19 ـ المصدر السابق ص221 و 222 و 223

20 ـ المصدر السابق ص224 الى 228

21 ـ المصدر السابق ص229

22 ـ المصدر السابق ص252 و 382 و 391 ومواضع أخرى

23 ـ المصدر السابق ص252

24 ـ المصدر السابق ص230 وهل خفي على الباحث أن التنظير شيء والتطبيق شيء آخر!

25 ـ المصدر السابق ص235

26 ـ المصدر السابق ص320

27 ـ المصدر السابق ص307

28 ـ المصدر السابق ص308

29 ـ المصدر السابق ص309

30 ـ ليعذرنا القارىء المحترم على هذه الشدة، فنحنُ في سياقٍ جدالي

31 ـ الوصي الذي هرب في سيارة السفير الأمريكي ثم عاد تحت الحِراب البريطانية في أحداث 1941

32 ـ المصدر السابق ص314 و 315 وقد نقل صفوة برقية بسك لحكومته

33 ـ المصدر السابق ص316 والتصريح مُثبَتٌ بطوله

34 ـ المصدر السابق ص318 و 319

35 ـ المصدر السابق ص347

36 ـ المصدر السابق ص351 و 352

37 ـ المصدر السابق ص376

38 ـ نفس المصدر والصفحة

39 ـ المصدر السابق ص379

40 ـ المصدر السابق ص380

41 ـ بطاطو: المصدر السابق ص203

42 ـ صفوة: المصدر السابق ص385

43 ـ بطاطو: المصدر السابق ص203

44 ـ صفوة: المصدر السابق ص388 و 389

45 ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر "دراسات تحليلية"، مكتبة البدليسي بغدا 1987 ص137 و 138

46 ـ صفوة: المصدر السابق ص386

47 ـ المصدر السابق ص391

48 ـ مظهر أحمد: المصدر السابق ص3

49 ـ المصدر السابق ص137 الحاشية

50 ـ الحسني: المصدر السابق ج7 ص206

51 ـ صفوة: المصدر السابق ص398

52 ـ المصدر السابق ص399

53 ـ المصدر السابق ص394

1- تقديم: هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل الثقافة جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.

من الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب "الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي" للدكتور جمال المرزوقي، والذي يقول في مقدمته:"يشير كثير من كتاب الغرب إلى الحضارة الإغريقية كما لو كانت حدثا فريدا تتضاءل إلى جانبه ما قدمته كل حضارات الشرق القديم، فبينما كانت مدنيات الشرق السابقة على مدنية الإغريق – في رأي هذا البعض من الكتاب – ذات كفاية بالغة في الأمور العملية، فإنها كانت جدباء من الناحية العقلية، لقد مارس ملايين الناس الحياة وخبروها قبل الإغريق فماذا فعلوا بها؟ لقد ماتت خبرة كل جيل بانتهائه.. إن الإغريق هم الذين ابتكروا الأدب وأوصلوه إلى حد الكمال، إن شعر الملاحم والتاريخ والفلسفة بكل فروعها والاقتصاد والرياضيات وكثير من العلوم الطبيعية كلها تبدا بالإغريق . وقد مال أشياع هذا الرأي تدريجيا باتجاه فكرة "المعجزة اليونانية" و"أصالة الفكر اليوناني" و"الشعاع الخاطف"، في بحر من الظلمات، حتى أصبحت النظرية عند بعضهم تعني القول بأن اليونانيين غير مدينين في علومهم وفنونهم وفلسفتهم، بل وأديانهم لشئ شرقي، وإن كان هناك أثر ما في الفنون والفلك، فإن القفزة التي قدمها اليونانيون في هذا المجال تلغي هذا الأثر وتلاشيه، وينتهي أصحاب الصورة المتطرفة لهذا الرأي، إلى جعل علوم وفكر اليونان الطبيعيين نتاج العقل اليوناني الخالص (1).

ونظرا لأهمية موضوع الفكر الشرقي القديم قضاياها، فقد جاء الدكتور جمال المرزوقي بكتابه هذا ليوضح لنا منهجه ونظرته إلي أهمية لأهمية الفكر الشرقي القديم مبينا في دراسته أنه في الوقت الذي كان فيه دعاة المعجزة العلمية اليونانية يصولون ويجولون لإثبات أن نشأة العلم يونانية خالصة، وأن اليونانيين قد توصلوا إلى اكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل، كانت هناك طائفة من المؤرخين والفلاسفة أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة ومع التاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا أن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شئ؛ فالقول بأن اليونانيين قد أبدعوا فجأة ودون سوابق أو مؤثرات خارجية حضارة عبقرية في مختلف الميادين ومنها العلم هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثيرها بعضها ببعض، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة وتتأثر هذه بتلك تأثراً تتعدد أبعاده تارة وتختلف مجالاته وتتفاوت درجاته تارة أخرى .

فمن المستحيل مثلاً تجاهل شهادات اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد أفلاطون بفضل الحضارة المصرية القديمة، وأكد أن اليونانيين إنما هم أطفال بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة، وذلك في الحوار الذى أورده في محاورة " طيماوس" بين سولون وأحد الكهنة المصريين الذى قال للمشرع الأثينى " إن اليونانيين لا زالوا أطفال فى مضمار الحضارة " (2). وهناك روايات تاريخية تحكي عن اتصال فلاسفة اليونانيين وعلمائهم ومنهم " أفلاطون " ذاته بالمصريين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلاً لتلقي العلم (3).

فلم تكن نشأة الفكر الفلسفي في نظر المرزوقي يونانية خالصة ولم يبدأ اليونانيون باكتشاف ميادين العلم من فراغ كامل، بل إن الأرض كانت ممهدة لهم من بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيا إليهم (4).

على أن هذا لا يعني على الإطلاق أن المؤلف ممن ينكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد من للمعرفة، ربما كان عادة أوربية سيئة ينبغي التخلص منها، فإصرارنا على تأكيد الدور أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أننا ممن ينكرون على اليونانيين أصالتهم العلمية، ولا نشك لحظة في أنهم يمثلون مرحلة علمية ناضجة.

ولكن المؤلف لا بوافق على ادعاء أن تلك الأصالة وهذا التمايز، قد أتيا من فراغ؛ فقد كانت عظمة اليونانيين أنهم استطاعوا أن ينقلوا بشغف كل ما وقعت عليه أعينهم وعقولهم من التراث السابق عليهم، وأن يهضموه هضماً يتلاءم مع بيئتهم الخاصة، وأن يحولوا هذه المؤثرات الوافدة إلى شئ شبيه بتراثهم هم، وأن ينتقدوا هذا وذاك شيئاً فشيئاً، حتى استطاعوا في النهاية أن يتجاوزوا المرحلة الشرقية في العلم، وأن يبدأوا مرحلة جديدة متميزة (5).

ولهذا السبب فقد جاء كتاب جمال المرزوقي عنوان " الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي " للدكتور جمال المرزوقي، ويقع الكتاب في  408 صفحة من الحجم الكبير، عن (دار الآفاق العربية)، القاهرة- في طبعته الأولي في عام 2000، ويشتمل على عشرة فصول، ويُختَم الكتاب بـ"بملاحق ومراجع".

وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين،نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن الدكتور "جمال الرزوقي" من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف نقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

علاوة علي أن "جمال المرزوقي" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أساتذة الفلسفة الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ لخدمة تخصصهم الدقيق فهو من كبار أساتذة الفلسفة الإسلامية المصريين في العالم العربي الذين نجحوا في خلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكارهم، ومنعرجات مسائلهم، ومساقات حلولهم بعبارات شفافة رقاقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي ؛ وهو والله بحق من أساتذة الفلسفة الإسلامية الذين نذروا حياتهم للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، وهو إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته، وبين الإنسان والفيلسوف تتجلي المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم، أو معجمي، أو محقق، أو ناقد، أو سياسي، أو أكاديمي، أو أديب .. الخ؛ فهو غزير الإنتاج، موسوعي المعرفة، لديه دأب علي البحث والتنقيب، وشهوة لا تقاوم لتعلم كل ما هو جديد ومبتكر، وهو رجل منضبط في فكره ومفرداته، ويتمتع بروح دعابة، وخفة دم، ونظرة ساخرة للحياة والكون. وهو في كل هذا يستهدي بشرع قيمي منسق، تتدفق في عروقه حيوية الصحة والسلامة السوية، وينطلق من عقل صاف مدرب علي توليد الأفكار الناضجة الناقدة الملتهبة حماسة وفتوة.

2- أهمية الكتاب:

يعد جمال المرزوقي من أهم من كشفوا لنا في كتابه المائل بين يدينا عن قضية إنسانية شائكة للغاية وخلافية إلى أقصى حد، ألا وهى قضية " الفكر الشرقي القديم "، وقد أصبحت مثل هذه الدراسة ضرورية وملحة، بسبب الخلط والفوضى الفكرية والأخلاقية التي تحيط بهذه القضية. فمعظم المؤرخين والعلماء والفلاسفة الغربيين يحاولون تعتيم هذه القضية، من خلال الغرس في الأذهان، أن اليوناني هو مبدع الفكر والعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والرياضيات والفلك والطب والمنطق والفلسفة… وغيرها. وكأن الحضارة اليونانية خلق عبقري أصيل جاء على غير منوال، لم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر القديمة ولا كنعان ولا بابل ولا أشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين… بل هي في زعمهم ـ أوربية النشأة والتطور.

أصحاب هذا الرأي في نظر المرزوقي هم دعاة " المعجزة العلمية اليونانية " الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى أن يمجدوا الحضارة اليونانية - حضارة أجدادهم، فتحدثوا طويلاً عن ذلك الإنجاز الهائل الذى حققه اليونانيون فجأة دون أى مقدمات تذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأى شعب أو حضارة سابقة عليهم.

وهؤلاء هم أكثر الناس إيماناً بأن أقدم الحضارات كانت مزدهرة وناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها، ومن ثم فقد كان من الضروري أن ترتكز في نهضتها على أساس من العلم.

إلا أن هذا العلم فى نظر دعاة المعجزة العلمية اليونانية كما يري المرزوقي كان يعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة؛ وأن تلك الحضارات كانت تكتفى بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح دون سعى إلى حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر، كما أن تلك الحضارات لم تملك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي " النظري" لهذه المعارف، أما الحضارة التي توصلت إلى هذه المعرفة النظرية، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تتيح له كشف المبدأ العام من وراء كل تطبيق عملي فهي الحضارة اليونانية.

فمثلاً قالوا أن المصريين القدماء قد استخدموا الرياضيات في مسح الأرض وشق الترع وغيرها من أغراض عملية، استعانوا بها وبالميكانيكا على إقامة الأهرامات التي مازالت تتحدى الزمن، أقاموها لحفظ الجثث المحنطة، اعتقادا منهم في خلود النفس وحساب اليوم الآخر، وتوسلوا بعلم الكيمياء في تحنيط الجثث واستخراج العطور والألوان، وغير هذا من أغراض دينية. ولكن اليونان هم الذين أنشأوا هذه العلوم في صورتها النظرية الخالصة، وتجاوزوا فى الرياضيات مرحلة الأمثلة الفردية المحسوسة إلى مرحلة التعاريف والبراهين، فتوصلوا إلى القوانين والنظريات التي تستند إلى البرهان العقلي (5).

وكذلك كان الحال في علم الميكانيكا، كان اليونان فيما يقول دعاة المعجزة العلمية اليونانية – أول من عالج دراساته بروح علمية؛ إذ كان لأرسطو الفضل في إنشاء هذا العلم النظري، وإن جانبه التوفيق في صيغة عبارته ؛ وأكمل الاسكندريون من أمثال " أرشميدس" (ت212ق.م) ممن قننوا المعلومات الميكانيكية لأول مرة في تاريخ العلم (6).

وكان البابليون والكلدانيون قد سبقوا إلى مشاهدة الكواكب ورصدها، فأنشأوا بهذا علم الفلك العملي، ولكنهم كانوا مسوقين بأغراض تنجيمية أو عملية (كمعرفة فصول الزراعة ومواسم التجارة ونحوها) (7).

أما اليونانيون فهم الذين أقاموا علم الفلك النظري في رصد الكواكب لمعرفة " القوانين " ووضع " النظريات " التي تفسر سيرها وتعلل ظهورها واختفائها. ويرجع الفضل الأكبر في هذا إلى " بطليموس" الإسكندري (في القرن الثاني) بكتابه" المجسطى" الذى ظل المرجع الرئيسي حتى مطلع العصر الحديث (8).

ومثل هذا يقال في العلوم التي أدت إليها في الشرق بواعث دينية أو أغراض عملية؛ عالجها اليونان بروح علمية، حتى نشأت علوماً نظرية تستند إلى البرهان العقلي وتقوم على" تقنين " المعلومات بغير باعث ديني أو عملي (9).

ولم يكتف دعاة " المعجزة العلمية اليونانية " بذلك؛ بل خرج منهم فريق يرى أن التنقيب في أطلال الماضي للتوصل إلى حضارات مزدهرة قبل اليونان ليس سوى مضيعة للوقت إزاء الطابع الملح للمشاكل القائمة، وهو موقف عفا عليه الزمن، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي المشوش والهمجي واللحاق بالعالم الحديث الذى تندفع تقنياته بسرعة الالكترونات، والعالم في طريقه إلى التوحد. وعلينا أن نكون في طليعة التقدم، وسيحل العلم في القريب العاجل كافة المشاكل الكبرى، بحيث تصبح تلك المشاكل المحلية والثانوية غير ذات موضوع. ولا مجال لأن تكون هناك لغات تعبر عن ثقافة ما سوى غير ثقافة أوربا التي أثبتت أصلاً قدرتها على ذلك، مما يعنى أنها قادرة على نقل الفكر العلمي الحديث، وأنها عالمية فعلاً (10).

وخلاصة القول إنّ هذا الكتاب سدَّ فراغاً ملحوظاً في المكتبة العربية، وهو مرجع أساسي لا تستغني عنه مكتباتنا العامة والجامعية، وذلك لكونه نجح في هذا الكتاب بأن يخلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكاره، ومنعرجات مسائله، ومساقاته حلوله بعبارات شفافة رقاقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي.

نعم لقد استطاع الدكتور المرزوقي في هذا الكتاب الذي بين أيدينا بأن يكتبه بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي ؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق، ولكنها لا تفرط في مقتضيات الصناعة الفلسفية، تخلت كتابته عن الطابع الدعوي، وسلكت مسلك الاستنباط السلس والجدل السيال .

4- أقسام الكتاب:

قبل أن أتطرق للحديث عن أقسام الكتاب، أود أن أسأل الدكتور جمال المرزوقي:  لماذا اختار لكتابه عنوان "" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل "، ولم يختار له اسم "إشكالية الفكر الشرقي القديم "، أو " الفكر الشرقي القديم بين التبعية والأصالة" أو ” الفلسفة الشرقية- مذاهب ونظريات"، أو " الأصول الشرقية للفلسفة اليونانية" ... الخ؟.

وهنا يجيبنا الدكتور المرزوقي فيقول بأنه:" ونتيجة لما تقدم، نستطيع أن نقول: إن فلاسفة اليونان ليسوا أول من بدأ الفلسفة والعلم والتجريد أو التنظير، فإنه ليس هناك وقت ولا مكان يمكن أن يقال إنه فيمها أو معهما بدأ العلم والتفكير والتعميم، فلم يعد مقبولا الرأي القائل بأصالة الفكر اليوناني، وبأن من سبقهم لم يصلوا إلا إلى طور العمل العملي فقط، ويقوي من عدم القبول هذا، ما قدمته حضارات الشرق القديمة من انجازات في مجال العلم والمجالات الأخرى، قبل اليونان بوقت طويل .. إن البحث الموضوعي الهادئ، يؤدي إلى الاعتراف بوجود قفزة أو تبدل كيفي في مسار الحضارة البشرية، حصل مع مجئ الحضارة اليونانية، إلا أنه تبدل حدث من تجمع كيفي هو حصيلة ما كسبته البشرية من تقدم قبل اليونان، وهذا الكتاب "" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي" محاولة نؤكد بها على تلك النتيجة التي انتهينا إليها " (11).

وهذا فالكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث تاريخية عن الفكر الشرقي القديم من خلال الكشف عن بدايات التفلسف، بقدر ما هي مكاشفات نقدية من قبل المؤلف في الجوانب الخفية في الفكر الشرقي القديم، وكذلك يعد الكتاب مراجعة لمئات المصادر والمراجع.

ولهذا كتاب" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي " عصارة  تفكير الدكتور المرزوقي في الفكر الشرقي وبدايات التفلسف، ولذلك لم أهدر الفرصة وحاولت أن أغتنمها لقراءة هذا الكتاب الرائع، وذلك لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه القراءة التي نتناولها في أربعة أقسام: مدار القسم الأول على التقديم المادي للكتاب من خلال ثنائية البنية، والقسمين: الثاني والثالث ينصبان على أهم القضايا التي بسطها الكتاب للدرس والتأمل والحوار من خلال البنية الثنائية التحليلية والبنية الثنائية التركيبية، وفي القسم الرابع، وهو عبارة عن الانتقادات التي وجهتها للمؤلف من خلال رؤيتي الخاصة.

وفي الجانب التأسيسي النظري من هذا الكتاب تناول الكاتب منظومة من الرؤى والتصوّرات الفكرية حول  علم المصطلح، حيث يقول بأن:" من الجهل تماما أن يحذف المرء دور وأثر أية خدمة يقدمها الإنسان مهما كانت، أو بدت ضئيلة، في مجالات العلوم، واستكشاف الطبيعة والحرف، والاختراعات، وشتي المجالات الأخرى، كما أنه من المبالغة وعدم الصواب تفخيم هذا الدور أو ذاك، إلى حد نسيان الأدوار التي مهدت له، أو الذي تلته، كما فعل أنصار المعجزة اليونانية" (12).

وهنا المؤلف أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صفة نظرية، وهو ما لا يعلم المؤلف أن أحدا قام به من قبل، لا في شئ محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحدا حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم كما يقول المؤلف:" إن البحث الموضعي الهادئ يكشف لنا على أن العقل الشرقي لا يقل عمقا، واصالة عن العقل الغربي، وجميع ما يحويه التكفير الإغريقي، يبدو أمامنا على حقيقته إذا عرض تحت ضوء العلاقات بين الشرق والغرب وبالتالي فالذين ينكرون إمكان قيام فكر نظري في الشرق وتأثير اليونان به، يعوذهم التفكير الكافي للحضارات الشرقية القديمة" (13).

ولهذا انطلق المؤلف ليقسم كتابه إلى عشرة فصول: فجاء الفصل الأول من الكتاب ليناقش فكرة " الأصالة الشرقية بين الإنكار والتأييد"، وانتهي المرزوقي إلى أن مدارس الفكر الأوربي العنصرية التي زعمت تفوق الجنس الأري الأبيض، لا تستند غلى حقيقة من التاريخ، وإنما تقيم دعواها على فلسفة عنصرية عدائية دعائية، فالعقل الشرقي في نظر المرزوقي لا يقل عمقا وأصالة عن العقل الغربي، وأن جميع ما يحويه التفكير الإغريقي، يبدو أمامنا على حقيقته، إذا عرض تحت ضوء العلاقات بين الشرق والغرب، ولن يقع في خطر الجهالة إذا ما عمدنا إلى جمع معلومات عن حالة التكفير النظري في أهم الحضارات المحيطة بالأفق الإغريقي وهي حضارات الشرق القديمة (14).

وتأتي الفصول من الثاني إلى العاشر، تفصيلا لـ" حالة التفكير النظري" – هذه في حضارات الشرق القديم، فيعرض الفصل الثاني لـلعقيدة المصرية القديمة، مبينا المؤلف أشكالها، وكيف أنها مظهر مرئي مقدسة مجردة، ومتناولا المؤلف موضوعين على قدر كبير من الأهمية عن حالة التفكير النظري عند المصري القديم، وهما " نشأة العالم "، و " قدر الإنسان ومصيره"، وكان لِكَهنة أون السبقُ في عملية التفسير الكوني، بعد أن عقَدوا الصِّلةَ بين إلههم آتوم، وبين الشمس رع، فأضفَوْا عليه صفةً كونية ليصبح "آتوم رع"، إلا أن ما يجب ملاحظتُه أن الدين الأوني قد مرَّ بتطورات فكرية كثيرة، ولم يُسجِّله المصريون كتابة إلا بعد تأليفه بقرون طويلة،  ومع أن منف التي كان يُعبَد فيها إله آخر هو بتاح، قد سبقت أون إلى التفوق السياسي، فأصبحت عاصمةَ البلاد إبَّان حُكم الأُسَر الأولى في الدولة القديمة، فإن أون تُعَد المدينةَ المقدَّسةَ الأولى، ذاتَ الشهرة الفكرية التي لا تُضارَع، وما من شك أن أصحاب رع كانوا يُبشِّرون بدينهم منذ مطلع التاريخ المصري»، حتى استطاعوا في الأسرة الخامسة "أن يَصِلوا العرش، وأصبح مذهبُهم دينًا رسميًّا للدولة، فُرِض على الشعب فرضًا»؛ لذلك كان أثر أون في الحياة الدينية المصرية أكبرَ من أثر منف، فأصبحَت قلبَ مصر الروحيَّ، وساد إلهُها، واجتذب آلهة منف إلى بوتقته ومداره، "وظل رع يُعتبَر إلهًا يحكم ويَسود كإلهٍ للدولة في مُختلِف العصور، إلا إذا استَثْنَينا فتراتٍ قصيرة (15).

ويتناول الفصل الثالث المؤلف في الفصل الثالث " اخناتون" موضحا كيف أنه يعد أول ثوري في العالم يسعي لصياغة توحيد عالمي، ويكف ثار على التقاليد اللاهوتية منتصرا لعقيدة التوحيد، وصار بذلك أول مغرد في التاريخ يترع التوحيد، وأوّلَ من وضعَ ديناً حديثاً "ديانة التوحيد" وهو أن يُوحّدُ الطقوسَ نحو جهةٍ واحدةٍ فقد أسَّسَ في فترةِ حكمِه عبادةً تعتمد على تقديسِ الإله (آتون)، والذي كانَ يُصوَّرُ على أنّه قرصُ الشمسِ فقد ظهرَت في بعضِ الآثارِ القديمةِ نقوشٌ تُصوّرُ الإله آتون على أنّه قرصُ شمسٍ في السماءِ يمدّ أشعّةً منه نحو الأسفلِ لتصلَ إلى العائلةَ الملكيّةَ، وقد كرّسَ أخناتون جهودَه على العبادةِ الجديدةِ، فبنى العديد من المعابدِ الجديدةِ المُخصَّصةِ لعبادةِ الإلهِ (آتون)، مثل المعابدِ في الكرنك وتلّ العمارنةِ، كما قُدِّمت أعدادٌ كبيرةٌ من طاولاتِ القرابينِ للاحتفال  بالإله آتون، ولم يكتفِ بتقديسِ إلهه الجديدِ، بل وبخ ودنس الآثارِ التي تحملُ صورةَ، أو اسمَ الإلهِ السابقِ (آمون) (16).

ثم يأتي الفصل الرابع بعد ذلك ليكشف لنا المؤلف عن أن المصري القديم صاحب أقدم " تجويد اجتماعي" في العالم، فيبين معالم هذا التجديد، متناولا بعض التجارب الحياتية التي سجلها وتركها لنا حكماء مصر القديمة، والتي تعكس وعيا اجتماعيا وأخلاقيا رائعا، ولهذا  فقد تميز المجتمع المصري على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات، ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة، فالمصري اتسم بكونه ذكياً، متديناً، طيباً، ومتسامحاً، وكان هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية في وعى المصريين ووعى غيرهم. ويعود هذا الثبات النسبي لهذه السمات إلى ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبياً.بيد أن تحولات نوعية حدثت في بعض السمات، فمثلاً استخدم البعض ذكاءه، وفقاً لكتابات عديدة، في "الفهلوة"، وتعددت صور التدين التي كان بعضها أصيلاً وبعضها الآخر غير ذلك، وظهرت بعض الميول العنيفة أو العدوانية (الظاهرة أو الخفية)، وتأثر الجانب الفني في الشخصية تحت ضغط العشوائيات كما زادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة وقاسية (17).

أما الفصل الخامس، فيحلل معالم " الحس السياسي عند المصري القديم "، وكيف أن الصلة بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن يكون أساسها العدل والمساواة بين الجميع، كما يظهرنا المرزوقي في هذا الفصل على ما نشأ في مصر القديمة من وعي اجتماعي بعدم السكوت على الظلم، وضورة أن يعود الحق لأصحابه، وعناية المسؤولين بالنظر في مظالم مرؤوسيهم وأنصافهم، ولهذا فقد حَفَل التاريخ المصري القديم بالعمل السياسي، الذي تنوع بين رسم يسخر من الحُكام أو الأوضاع السياسية، أو تنظيم احتجاجات وثورات مسلحة أسقطت أنظمة حكم وأحدثت اضطرابات كبيرة في البلاد، وامتاز الخط الفني الشعبي المصري منذ القِدم بالحس الساخر، فرسم المصريون ملوكهم على هيئة الحيوانات في صور تحمل رموزًا سياسية ساخرة، من بينها تشبيههم بالفئران وتصوير القضاة كحمير، وفي عصور أخرى، نظم المصريون احتجاجات ضد الحكام في أوضاع اقتصادية صعبة عانوا منها، ووصل الأمر إلى ثورة مسلحة ضد ملك ظالم استمر حكمه قرابة مئة عام، هو بيبي الثاني، الذي دخلت البلاد بعده في فوضى استمرت طويلًا  (18).

ويجمل الفصل السادس " الأفكار الفلسفية " في حضارة مصر القديمة، علميا وفنيا ودينيا وفلسفيا، وقد انتقلت حضارة مصر الفرعونية من خلال اليونان والرومان إلى أوروبا والغرب، ثم تأثرت بحضارة العرب، وهكذا نجد أن ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية الآن، من تقدم ما هو إلا نتيجة تراكم للمعرفة الإنسانية في مراحلها المختلفة، وكان لمصر دورها الكبير في هذا المجال، ولذلك فإن الحضارة الغربية اليوم هي نتيجة لتراكم حضارة مصر والعرب وغيرها من حضارات البشرية، كما أن انتماء مصر إلى دول حوض البحر الأبيض المتوسط لا يقتصر فقط على الحقبة اليونانية الرومانية، حيث التفاعلات مستمرة بحكم الموقع، ولذلك يعترف اليونانيون في عصورهم الراقية بأنهم تلاميذ المصريين في الحضارة، وهناك تشابه في المناخ وأنماط الحياة بين الإسكندرية وبورسعيد في مصر وما يقابلها على الجانب الشمالي من البحر المتوسط مثل؛ أثينا في اليونان ونِيقوسيا في قبرص ونابولي في إيطاليا (19).

ويؤكد الفصل السابع أن بدايات فلسفية في الطبيعة والأخلاق ظهرت في وادي الرافدين، وكان لها دورها المؤثر في تكوين الفكر العالمي، حيث نجد أن  الوثائق السومرية- الآشورية- البابلية، بعامة، تميزت بطابعها الديني. فالنصوص الطبية كانت تنظر للأمراض باعتبارها عقابا إلهيا نتيجة الذنوب التي اقترفها المريض، لذلك فليس هناك دواء لا يتضمن استخدام الصلاة والطقوس الدينية. كذلك فيما يخص النصوص الفلكية بحكم اعتقاد القوم أن النجوم تمارس نفوذاً حقيقياً على الإنسان. وتحمل النصوص التجارية قدراً واضحاً من الصبغة الدينية، فالعقود تبدأ فاتحتها باسم الآلهة وتختم في نهايتها بالقسم باسم الآلهة، كما أن قرارات القضاء ترتبط بالآلهة وتبتهل إليها. ويتضح الطابع الديني أيضاً في الأدب بمجالاته المتنوعة والتي تنسب كل حدث إلى إرادة الآلهة (20).

ويتناول الفصل الثامن " الفلسفة الهندية " موضحا سماتها، وبداياتها، كما تبدو في التأملات المسجلة في نصوص" الفيدا" و" الأوبنيشاد" والتي تحفل بالفكر التأملي والتصوري فيما يتعلق بطبيعة النفس والواقع، ولهذا تزخر الهند بتراث غني ومتنوع من الفكر الفلسفي يمتدُّ لنحو ألفَيْن وخمسمائة عام. وحتى وقت قريب كان الاعتقاد الشائع أن الهندَ «صوفيَّةٌ» والغربَ «عقلانيٌّ»، وما زال كثيرون يتبنَّوْن تلك النظرةَ (21).

ويعالج الفصل التاسع منهج " البوذية" في كيفية تجاوز المعاناة وتحقيق الاستنارة كما يلقي الضوء على " جوتا ماسدهارتا – بوذا " الذي يعد من أوائل المفكرين الذين أعلوا من شأن العقل وأكدوا سلطان الإنسان على أفعاله وأن يبده وحده توجيه مصيره، ولهذا تعدّ البوذية من كبرى الديانات الرئيسية عالميا، إذ تحتل المرتبة الرابعة من حيث عدد الأتباع، وهي تحظى بانتشار متزايد في الغرب لتوافُقها مع العلمانية، لكن قصة نشوئها وأساطيرها محفوفة بالغموض، ومبادئها في اللاعنف لا تصمد كثيرا أمام إغراءات السياسة، وقد نشأت البوذية في شمالي الهند على يد شاب يدعى سِدهارتا غوتاما، والذي ولُد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ولأسرة أرستقراطية هندوسية، فكان والده زعيما لقبيلة شاكيا التي تستوطن سفوح جبال الهيمالايا داخل حدود نيبال اليوم (22).

أما الفصل العاشر فيحلل "بدايات " الفلسفة الصينية بين كونفوشيوس ولاوتسو، مبين كيف أن الكونفوشية فلسفة إنسان اجتماعية، وكيف أن التاوية قد أكدت على الأسس الميتافيزيقية للطبيعة، على أن التاوية الفلسفية تلقَّت زخَمًا جديدًا مدَّ في عمرها إلى يومنا هذا؛ فبعد دخول البوذية إلى الصين في أواسط الألف الأول الميلادي، تشكَّلت تاوية فلسفية جديدة متسربلة برداءٍ بوذي، هي بوذية اﻟ «تشان» التي جمعت بين العناصر التاوية والعناصر البوذية في تركيبٍ واحد (والاسم يُكتب باللغات الأوروبية: Chi’an)، وأبقت على تعاليم لاو تسو حية. وما زالت هذه التاوية منتشرةً في اليابان وبعض أقطار الشرق الأقصى تحت اسم بوذية الزن Zen، التي تلقى اليوم اهتمامًا واسعًا على النطاق العالمي، وتنتشر مدارسها في أوروبا وأميريكا الشمالية (23).

وفي نهاية حديثنا عن قراءة كتاب" الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي "، لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الدكتور جمال المرزوقي، ذلك المفكر الموسوعي الناجح الذي عرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.........................

الهوامش

1- جمال المرزوقي: الفكر الشرقي القديم وبدايات التأمل الفلسفي، دار الآفاق العربية، الفاهرة، 2000، ص 5.

2- أنظر

Plato: Timaios، in The Dialoguse of Plato، Vol.111.،4th ed، Oxford،at The Clarendon Press، London، 1953، 22B،22A.

3-د. فؤاد زكريا: التفكير العلمي،، دار مصر للطباعة، القاهرة،1992 ص 123.

4-- نفس المرجع، ص127.

5- جمال المرزوقي: المصدر السابق، ص 28-29.

6- المصدر السابق، ص 28-29.

7-د. محمود محمد علي: الأصول الشرقية للعلم اليوناني، دار عين، القاهرة، 1997، ص 4.

8-نفس المرجع، ص 5.

9- نفس المرجع، ص 7.

10- نفس المرجع، ص 8.

11- جمال المرزوقي: المصدر السابق، ص 9.

12-  المصدر السابق، ص 8.

13- المصدر السابق، ص 10.

14- المصدر السابق، ص 13-58.

15- المصدر السابق، ص 67-69.

16- المصدر السابق، ص 79-97.

17- المصدر السابق، ص 103-138.

18- المصدر السابق، ص 141-153.

19- المصدر السابق، ص 161-179.

20- المصدر السابق، ص 183-195.

21- المصدر السابق، ص 209-217.

22- المصدر السابق، ص 229-238.

23- المصدر السابق، ص 241-253.

وخيارات الديمقراطية والثيوقراطية والشورى، تأليف: د. علي المؤمن

الكتاب الذي بين يدينا هو أقرب إلى الدراسات المنهجية الفكرية منه إلى دراسات علم الاجتماع السياسي، برغم أن المؤلف حاول في معظم الفصول أن تكون المقاربات المنهجية الفكرية مداخل لقضايا ذات صلة وثيقة بالاجتماع السياسي، عدا عن الفصلين الأول والثاني، اللذين اقتصرا على المقاربات المنهجية التي تعبر عن الاستنتاجات الفكرية التي تبناه الكاتب، وأسقطها على النماذج الاجتماعية السياسية التي عرضها في الفصول الأربعة التالية.

وتأتي أهمية الكتاب والموضوع الذي يطرحه، كونه دراسة علمية تناولت إشكاليات قديمة ـ جديدة في الفكر السياسي الإسلامي، ولكن بخطاب جديد. والأهم من ذلك أنها أخضعت تجربة الإجتماع السياسي الإيراني الحالية للنقد والتقويم، باعتبارها النموذج الذي طرحه الكاتب للمقارنة مع ما يطرحه الفكر السياسي الوضعي، وتحديداً الفكر الديمقراطي والفكر الثيوقراطي والفكر التوتاليتاري.

والحقيقة أن الإشكاليات التي يقدمها الباحث علي المؤمن تمثل ـ بالأصل ـ محاور الخلاف الفكري بين التيارات الإسلامية المتنافسة، وهو الخلاف النظري ذاته الذي ظل قائماً منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن. ولكن هذا الخلاف أخذ طابعاً مختلفاً على الصعيدين النظري والعملي بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على اعتبار أن هذه التجربة هي أول تجربة حكم إسلامي حديث مبني على نظرية فقهية. أي أن هذه التجربة وضعت الإسلاميين على المحك الحقيقي حيال التحديات النظرية والعملية الكبيرة التي فرضها واقع التطبيق. وفي مقدمة هذه التحديات آليات ممارسة السلطة في النظام السياسي الإسلامي وما يترشح عنها من أداء.

ومن هنا حاول البحث الذي نقدمه للقراء تحليل إشكالية التشابه بين جذور الفكر السياسي الإسلامي والفكر الثيوقراطي وأنظمته، وكذلك إشكالية التشابه بين آليات ممارسة السلطة في النظام الإسلامي والأنظمة الديمقراطية التقليدية، والتوقف عن مساحات الإشتراك والإفتراق بين الأنظمة الثلاثة المذكورة، وصولاً إلى  قياس مستوى مشاركة الشعب في القرار السياسي للدولة بمقياس الثيوقراطية والديمقراطية والشورى الإسلامية.

كما حلل علي المؤمن نوعية الواقعية والعملانية التي اضطرت النظام الإسلامي الحديث لاقتباس بعض القواعد والآليات من المذاهب والأنظمة السياسية الوضعية، في إطار ما أسماه بـ «التأصيل» و«الأسلمة»، على صعيد الفقه السياسي والنظام السياسي والقانون الدستوري.

موضوعات البحث

أكد الباحث علي المؤمن في المقدمة أن جهة البحث في المجالات التطبيقية تنحصر في المعالجة العملية لتجربة النظام السياسي في إيران كشفاً وتقويماً ومقارنة، مع عدم التطرق إلى الممارسة السياسية اليومية للنظام، أي التركيز فقط على ما يمكن اعتباره ظواهر سياسية.

وإضافة إلى المقدمة، هناك ستة فصول ونتائج تشكل بمجموعها هيكل البحث. يمثل الفصل الأول مدخلا منهجياً للبحث، حيث يتناول الخصوصيات المنهجية ذات العلاقة بالنظام السياسي الإسلامي الحديث، ومنها ما يرتبط بالفقه السياسي القديم وإشكالية وضعه مرجعية للواقع، وإمكانية التحول في الفقه السياسي في إطار عملية تأصيل جديدة، ليكون التجاذب بين الواقع والتنظير سبباً في ملء الفراغات التنظيمية والقانونية في النظام الإسلامي الحديث كما يقول الباحث. ويطرح الفصل الأول أيضا قضية مهمة ترتبط بالإشكاليات المنهجية التي تواجهها بحوث الاجتماع السياسي الإسلامي، نظير النموذجين اللذين يفرضان التجربة الغربية (التاريخية والمعصارة) في الحكم أو التجربة الإسلامية التاريخية في الحكم كمعايير لتقويم التجربة الإسلامية الجديدة في الحكم، إذ يرفض السيد المؤمن هذه المنهجية المعيارية، لأن التقويم سيكون مفصلاً على مقاسات العقل الغربي أو موروث المسلمين.

ويشكل الفصل الثاني الإطار النظري للبحث، ويعالج موضوعات أساسية في الفكر السياسي الإسلامي، على جانب كبير من الأهمية، كالمعايير الفكرية الإسلامية في التعامل مع التجارب البشرية، وما يمكن أن يترشح عن هذا التعامل من قطيعة أو اقتباس بالمطلق أو تعامل متوازن يتسم بالأصالة والانفتاح الشرعي. ويؤكد الباحث في هذا الفصل على أن أنظمة البلدان الإسلامية هي أنظمة انتقائية، فهي أنظمة إسلامية معلمنة أو علمانية متدينة. ثم يفرد الباحث حيزاً لدراسة جدلية العلاقة بين الفكر والواقع، وخصوصية البيئة الإجتماعية، وما يترشح عنها من مشروع حضاري؛ الأمر الذي يؤكد ـ كما يقول الأستاذ المؤمن ـ أن كل نظام اجتماعي هو ولادة بيئة تنتجه عبر مخاضات تاريخية وتراكم للفكرة وللخبرة.

الفصل الثالث يختص بموضوع النظام الثيوقراطي. وبعد التوقف عند مفهوم الثيوقراطية، يستعرض الباحث محاور تعارض الثيوقراطية مع النظام الإسلامي، كالمبنى النظري وآليات التطبيق وموقع المؤسسة الدينية ورجال الدين، ثم يطرح نقطة اللقاء بين النظامين الإسلامي والثيوقراطي، والتي ترتبط بجذور السيادة والمشروعية، وهي شبهة لقاء أكثر من كونها مساحة اشتراك حقيقية كما يقول الباحث.

ويخصص الباحث فصلين لموضوع تعارض النظامين الإسلامي والديمقراطي وتشابههما، بالنظر لسعة الموضوع وعمقه. ففي الفصل الرابع بحث السيد المؤمن محاور تعارض الديمقراطية مع النظام الإسلامي، كالسيادة والحاكمية، التشريع والتقنين، وهيكل النظام السياسي. فيما ركّز الفصل الخامس على محاور لقاء الديمقراطية بالنظام السياسي الإسلامي، وأهمها: المفهوم العام للجمهورية، الفصل بين السلطات، سيادة القانون، الحقوق والحريات العامة، الحقوق والحريات السياسية.

طرح الفصل السادس خيار الشورى، وبحثه من خلال جملة من الموضوعات، أبرزها: دور الأمة في النظام الإسلامي، موقع الشورى في النظام الإسلامي، مجالس الشورى في النظام الإسلامي، الاستبداد على وفق الأنظمة الثلاثة: الثيوقراطية والديمقراطية والإسلامية، ومعالجة دستور الجمهورية الإسلامية لظاهرة الإستبداد.

النتائج التي خرج بها البحث

تتلخص النتائج التي خرج بها البحث في مجموعة من الأفكار التي عبر عنها الباحث علي المؤمن بالحقائق، وأبرزها:

1- إن البشرية تمتلك العديد من الخيارات على مستوى النظام الاجتماعي ـ السياسي، فرفض خيار الديمقراطية لا يعني قبول خيار الدكتاتورية، وأن نقد الديمقراطية لا يعني القبول بالاستبداد، فهناك خيارات أخرى تتلاءم مع البنية الفكرية والعقيدية والثقافية لكل مجتمع، ومنها المجتمعات المسلمة.

2- ليس صحيحاً مصادرة الديمقراطية بحسناتها وسيئاتها، وليس صحيحاً قبولها بكل ما فيها، بل لابد من تفكيك عملية التقويم وفقاً للمجتمع الذي يراد تطبيقها فيه، فهناك مجتمعات تصلح الديمقراطية التقليدية فيها بنسبة 90 بالمائة، ومجتمعات أخرى بنسبة 10 بالمائة.

3- يجب أن لا ينطلق البحث عن الخيارات أمام المجتمعات المسلمة من المقاييس البشرية، بل من منطلق التكليف الشرعي للإنسان المسلم، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات، وفي مقدمتها تطبيق الشريعة الإسلامية.

4- إن النظام السياسي الإسلامي لا يمكن أن يكون ديمقراطياً أو دكتاتورياً أو شمولياً أو ثيوقراطياً أو اشتراكياً، ليس من منطلق التنكر لأي نظام أو مذهب سياسي، بل لأن النظام الإسلامي نظام مستقل ومن نوع آخر، ولا يحمل غير اسم «النظام الإسلامي»، وإن اشترك مع بعض الأنظمة الوضعية، كالديمقراطية مثلاً، في مساحات معينة.

5- إذا لم يكن النظام الإسلامي ديمقراطياً فذلك لا يشكل منقصة في النظام الإسلامي، وإذا لم يكن النظام الديمقراطي إسلامياً فلا يعد ذلك منقصة في النظام الديمقراطي، لأنهما ينتميان إلى فلسفتين وقاعدتين فكريتين مختلفتين، ونتاجا بيئتين مختلفتين فكرياً وثقافياً واجتماعياً، وإن اشتركا في كثير من الآليات.

6- إن النظام السياسي للجمهورية الإسلامية لا يشبه الأنظمة الرئاسية أو البرلمانية وغيرها، وإن اشترك معها في كثير من المساحات، بل هو مترشح عن «نظام الإمامة» في عصر غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ويسمى بـ «النظام القيادي»، لأن القائد (الولي الفقيه) هو رئيس الدولة ومحور السلطة فيها.

7- إن التوفيق القسري بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى، يعني منهجياً إجبار عقيدة سماوية ونظام ديني ليتواءم مع تجارب تاريخية ومذاهب اجتماعية بشرية.

8- إن المعيار في قياس سلامة النظام الإسلامي وأدائه؛ ليس ديمقراطيته أو عصريته )بالمعنى الوضعي)، بل المعيار هو مستوى انطباق أحكام الشريعة الإسلامية على غاياته وأهدافه وأدائه وممارساته.

9- يجمع النظام السياسي الإسلامي الحديث بين أصالة النظرية والتشريع، وعصرية الآليات وأساليب ممارسة السلطة، وهو تعبير عملي عن إمكانية الشريعة الإسلامية على استيعاب متطلبات العصر، وعلى الاستجابة لحاجات الإنسان الجديد.

10- إن النظام الإسلامي السياسي الحديث من خلال النموذج الإيراني، عمل عبر فقهه السياسي وقانونه الدستوري وآلياته، على معالجة إشكاليتين أساسيتين في الفكر السياسي الإسلامي، الأولى تتمثل بثنائية الشورى وولاية الفقيه؛ فكان هذا النظام هو نظام ولاية الفقيه القائم على الشورى. والإشكالية الثانية تتثمل بثنائية الفقه السياسي لمدرسة الخلافة (السنة) والفقه السياسي لمدرسة الإمامة (الشيعة)، فقد تمكن النظام الإسلامي من خلال دستوره، التقريب عملياً بين المدرستين، بصرف النظر عن الخلافات بين النظامين في المجالات الكلامية والفقهية.

موضوعية.. وانحياز

برغم ما بذلـه الباحث علي المؤمن من جهد علمي لتأكيد أفكاره والاستدلال عليها بخطاب جديد يستبطن مقولات كلامية وفقهية وقانونية، وأخرى من علم الاجتماع السياسي، ولكن يبدو أنه كان يسير في سياقات البحث وهو يحمل تلك الأفكار، وهي التي سبق أن قرأنا بعضاً منها أو إشارات عنها في دراساته وكتبه السابقة.

وفي إطار ذلك نرى أن رأيه في الديمقراطية لافت للنظر، بل انه يعترف بأن نقده للديمقراطية قد لا يكون مستساغاً في الوسط الذي ينتمي إليه، أي وسط المسلمين المتنورين، فيقول: (قد لا يكون مستساغاً في الوسط الذي يرى نسفه (مسلماً متنوراً) أن يقوم باحث عرف بانفتاحه الفكري بنقد الديمقراطية فكراً وتجربة). ويقول:  (إن سبب ذلك يعود إلى أن الديمقراطية فكرا وتجربة قد أصبحت آيديولوجية مقدسة في أذهان بعض المثقفين المسلمين، والوصفة السحرية للقضاء على الاستبداد والدكتاتورية، والآلهة التي تقود حركة الدولة).

ويعتقد علي المؤمن بأن (المجتمعات المسلمة التي تعيش تكويناً تاريخاً خاصاً، وإٍرثاً ثقافياً، وبنية فكرية واعتقاديه مختلفة عن مجتمعات الديمقراطيات التقليدية، من الصعب فرض الديمقراطية عليها قسراً، فالديمقراطية الحقيقية لا يمكن تطبيق فلسفتها وآلياتها إلّا في ظل أنظمة ليبرالية رأسمالية علمانية. وبالتالي ففرض الديمقراطية بروحها وفلسفتها ستكون ممارسة استبدادية مركبة، تحقق رغبة الأقلية السياسية الحاكمة باسم الأكثرية الشعبية المحكومة).

ويمكن القول أن السيد المؤمن يبالغ هنا بشأن خصوصيات المجتمعات، وبكون الأنظمة السياسية تعبر عن مشروعات حضارية، وكذلك بشأن جدلية العلاقة بين الفكر والواقع، لأن هناك مشتركات عامة، أو لنقل مستقلات عقلية يؤمن بها جميع البشر في كل زمان ومكان، ولا علاقة لذلك في تراكم الخبرات الإنسانية والتطور الاجتماعي التاريخي، وهو ما يستند إليه الباحث علي المؤمن في كثير من فصول الكتاب، ولاسيما في المقاربات المنهجية التي نجدها في معظم الفصول.

ونجد الباحث المؤمن أيضاً يستنكر على بعض المفكرين والباحثين الإسلاميين عدم استقلاليتهم في استخدام المصطلحات والأدبيات السياسية، واستخدامهم مصطلحات وأدبيات في غير موضعها. ويعتقد أن هذا الأمر يؤدي إلى إرهاق الفكر والمفكر في الوقت نفسه ويعبر عن معاناتهم.

ولعل الباحث في نسفه لكل المحاولات التي جرت لوصف النظام الإسلامي بالثيوقراطية، قد أسّس لمقولات جديدة، لأن تلك المحاولات لم تقتصر على المستشرقين أو الباحثين العلمانيين، بل تشمل حتى بعض الباحثين والمفكرين الإسلاميين. بينما رفض علي المؤمن وجود أي مساحة مشتركة بين النظم الثيوقراطية والنظام الإسلامي، عدا عن شبهة اشتراك واحدة، وهي شبهة نظرية ـ كما يقول ـ ترتبط بمصدر السيادة والحاكمية في كلا النظامين، ولكنه يفند هذه الشبهة أيضاً، ويعتقد أن هذه الشبهة مبنية على مشترك لفظي فقط، في حين أن المضمون مختلف تماماً.

ربما يؤخذ على الباحث أيضاً أنه طرح موضوعات أساسية وواسعة ولكن في صفحات قليلة لا تتجاوز الـ (230) صفحة، في حين أن هذه الموضوعات بحاجة إلى بحوث مطولة وشاملة.

من هنا يمكن القول إن ما قدمه الباحث المؤمن في هذا الكتاب يمثل مداخل بحثية، برغم ما بذله من جهد مميز، حاول من خلاله الإجابة على أسئلة ملحة تتداولها الأوساط السياسية والفكرية والثقافية، الإسلامية وغير الإسلامية، ولاسيما تلك المهتمة بما يمكن تسميته بالإسلام السياسي والإسلام الحضاري والدولة الإسلامية العصرية.

***

قراءة: د. أحمد الحسيني

"إزدهار العراق تحت الحكم الملكي 1921 ـ 1958"

ما إن وقعت عيني عليه، حتى إقتنيته فوراً. إذ يعدُ القارىء بكشفٍ عريض "تَعَرّضَ للتشويه" من قِبَلِ فئاتٍ متعددة متباينة. وكتابٌ كهذا لا يمكن التفريط به أبداً، خصوصاً من جانب الباحث والقارىء الجاد.

مُؤَلِّفُ الكتاب من مواليد محافظة بغداد، وحاصلٌ على البكالوريوس من جامعة بغداد في عام 1962م، ثم الماجستير في علم الإجتماع من جامعة هوارد في واشنطن 1975م، أما الدكتوراه فقد حصل عليها من جامعة كالجري في كندا 1981م (1)

هدف الكتاب:

هدفان أساسيان حَدّدهما الباحث لعمله هذا:

الهدف الأول: تسليط الأضواء على الخصائص المميزة للعهد الملكي في العراق والتي طالما تعرضت للتحريف وللهجمات الظالمة.

الهدف الثاني: تحذير الأجيال العراقية الجديدة من الإنجرار وراء الشعارات البرّاقة الفارغة (2)

المادة:

وضع الباحث كتابه في: مقدمة وعشرُ فصول وخاتمة. تناول في الفصل الأول ولادة الدولة العراقية، وفي الفصل الثاني عهد الملك غازي 1933 ـ 1939، وفي الثالث السياسي العراقي الملكي الأبرز نوري السعيد، وفي الرابع معاهدة بورتسموث بين العراق وبريطانيا، وفي الخامس الأمير ـ الوصي عبد الإله، وفي السادس إزدهار الإقتصاد العراقي في الخمسينيات، وفي السابع عوامل إنفتاح ونمو الطبقة الوسطى في العراق، وفي الثامن عبد الإله ونوري السعيد وحلف بغداد، وفي التاسع ضعف النظام الديمقراطي في العراق وأسبابه، وفي العاشر المؤسسات التي تهاوت بعد إنقلاب 14 تموز 1958.

قبل أن نبدأ في هذا العمل النقدي، لا بُدّ من تثبيت حقيقة مهمة جداً:

فنحن في نقدنا هذا لم نقصد تجريد الملكية العراقية من "إنجازاتها"، ولا نريد مهاجمة هذا العهد أيديولوجياً أبداً، فهو عهّدٌ قد طُويت صفحته من التاريخ، وليس أمامنا إلاّ دراسته دراسةً واعية من أجل الإستفادة من دروس الماضي. وأرجو أن لا يضعنا القارىء أيديولوجياً في صف الجمهوريين، فالعهد الجمهوري لم يكن سرمدياً، وبشاعته واضحة، إذ لا نزال نعيش سلبياته القاتلة (3)

ما الدافع لهذا العمل النقدي؟ يقول الباحث: (أرجو مخلصاً ممن يجدُ خطأً في معلوماتي أو تحليلاتي أن يُناقشني بأسلوبٍ مُتَمَدّنٍ يؤدي الى دحض آرائي بالمنطق السليم، لعلنا نتوصل الى الحقيقة وبدون اللجوء الى الإتهامات العشوائية ك"عميل الإستعمار" أو "الرجعي والإنهزامي" .. الخ من المصطلحات الغوغائية الفارغة التي كانت أحد الأسباب الأساسية التي خلخلت عراقنا الحبيب وأدت الى تدهور جميع أركانه الإجتماعية والسياسية والإقتصادية) (4)

وعليه فقد كان رجاء الباحث هو الدافع الأساسي لنا للكتابة هنا، ولا حاجة للتأكيد على أننا سنتبع الأسلوب المتمدن، فما أبعد الإتهامات العشوائية الفارغة التي تحدث عنها الباحث عن المنظومة المنهجية التي نتبناها ونشتغل عليها بإستمرار.

النقد:

أولاً: أول نقطة ضعف منهجية عند الدكتور زكي هي عنوان الكتاب! نعم العنوان، فالأخير لم يكن علمياً (5) فالباحث قد حسم القضية مسبقاً! فالعراق كان مزدهراً في العهد الملكي! وقد قُبِرَ هذا الإزدهار نتيجة سقوطه وقيام الجمهورية! وعليه فالبحث لم يكن علمياً بقدر ما كان سجالياً أيديولوجياً.

وفعلاً، فقد حُسِمت المسألة مُسبَقَاً عند الباحث، فالعهد الملكي كان مزدهراً: قيادة جماعية ـ إنتخابات ـ شخصيات وطنية ـ إعمار وتعليم .. الخ، ولولا الإنقلاب العسكري لأستطاع العراق أن يقطف هذه الثمار الناضجة التي إقتربت من الإعجاز في السنوات الست الأخيرة من عمره (6)

لكن ما يُسَجّلُ للباحث هنا ـ والأمانة العلمية تُحَتّم علينا ذلك ـ هو إبتعاده عن الشخصنة، فهو ينتقد إنقلاب تموز لكنه لا يُزايد على "وطنية" ضُباطه (7)، ولم يُنكر الباحث تواضع الزعيم عبد الكريم قاسم وشجاعته وإختلاف دكتاتوريته عن دكتاتورية الجبابرة في مواضع مختلفة (8)

ثانياً: هنالك حقيقة مهمة جداً في تاريخ الملكية العراقية، ألا وهي ضرورة التفريق بين عهد مؤسسها القدير فيصل الأول، وبين عهد إبنه غازي، ثم عهد حفيده فيصل الثاني الذي كان عهد الوصي عبد الإله بإمتياز، فقد كان فيصل قاصراً كما هو معلوم. فالعهد الفيصلي التأسيسي ـ رغم أنه لا يخلو من الإشكاليات بكل تأكيد ـ كان عهد بناء وتأسيس. فقد خرج فيصل ـ بدعمٍ بريطاني طبعاً ـ بالعراق من غياهب القروسطية الى العصر الحديث، وقد إتهمه خصومه من المدرسة القديمة والمثقفين الجدد أنه كان يمالىء الإنكليز، وقد نسي هؤلاء أن العراق لم يكن شيئاً مذكوراً لا في تاريخ العالم ولا بين الأمم، وأن فيصلاً بمساعدة المخلصين من العراقيين وغيرهم، قد إستطاع لأول مرة أن يضع أسس قيام حكومة عراقية يديرها العراقيون بأنفسهم (9)

نعم، تَنَبّه الباحث لفترة غازي من ناحية أنه كان فتىً يافعاً قليل الخبرة قياساً لوالده المتمرس، ولكنه في النهاية لا يُدينُ هذه الفترة المضطربة التي جعلت الملكية تحتضر مبكراً. فقد برزت ظاهرة الإستقواء بالعشائر في فترة غازي، فالأخير في نظر ساسة الملكية صغير ـ زعطوط ـ لا يفهم شيئاً في السياسة، فعمد هؤلاء الزعماء الى العشائر في الصراع الدائر بينهم. أما الملك غازي فقد كان وسط هذه الأمواج المتلاطمة لا يأمن حتى على نفسه (10)

ثم هنالك حقيقة أخرى في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهي ظاهرة "تدخل الجيش في السياسة". إذ يُدين الباحث ما قام به العسكر وبالتعاون مع المعارضة السياسية في تموز 1958. لكن، هل درس الباحث هذه الظاهرة جيداً؟ هل كانت من صُنع ضباط تموز 1958؟ لكن للتاريخ رأي آخر! نعم، فقد وُلِدت هذه الظاهرة من رحم الملكية العراقية! فقد قام الجنرال بكر صدقي بأول إنقلاب عسكري في العراق والمنطقة في عام 1936 ضد حكومة ياسين الهاشمي وبدعمٍ خفي ـ على الأرجح ـ من الملك غازي! فالأخير كان علاقته سيئة مع رئيس الوزراء ياسين الهاشمي (11)، ثم توالت تدخلات الجيش في السياسة وظهور "المربع الذهبي" بحسب المؤرخ لونكريك، أي العقداء الأربعة وهُم: صلاح الدين الصباغ ـ فهمي سعيد ـ كامل شبيب ـ محمود سلمان.

وتوجد حادثة خطرة جداً في هذا السياق، فبعد مقتل صدقي ورجوع نوري السعيد، وجدنا الأخير يتقوّى بالجيش! بل كان مرشح العقداء الأربعة لرئاسة الحكومة! يقول الأستاذ سليم طه التكريتي في نصٍ بالغ الأهمية والخطورة:

(كان نوري السعيد منذ أن توفي فيصل هو أول من وضع أُسس تَدَخّل الجيش في السياسة. وقد دفعه نجاح إنقلاب بكر صدقي في سنة 1936 الى ركوب هذا المركب الصعب الذي ألحق بالبلاد الخراب والدمار لعدة أجيال سابقة. فقد إصطفى نوري السعيد هؤلاء العقداء الأربعة ومن والاهم من ضباط الجيش لتنفيذ مؤامراته وتطلعاته الخاصة. فلطالما فرضوه على غازي عدة مرات لكي يؤلف الوزارة) (12)

حقيقة لطالما أهملها الباحثون "الملكيون"، إذ نرى عويلهم يشتد على تدخل الجيش في السياسة بعد تموز 1958، ثم يَصبّون اللعنات على قاسم وعارف وباقي الضباط، لكنهم يتجاهلون أن الملكية العراقية مُمَثَلَةً بساستها الكبار، هي من أسست لهذه السابقة الخطيرة.

ثالثاً: لا يُقيم الدكتور زكي للمعارضة السياسية في العراق الملكي أي وزن، فهي في نظره صاحبة شعارات خاوية. ثم يحترس أشد الإحتراس عندما يتحدث عن "الوثبة" و "إنتفاضة" 1952(13) هذه الإنتفاضة التي خُصِّصَ لها مبحثاً منفرداً (14) والمثير في هذا البحث ـ والطريف في نفس الوقت ـ أن الحكومة العسكرية التي شَكّلها الجنرال نور الدين محمود بأمر من الوصي عبد الإله، والتي كانت حكومة أحكام عُرفية، قد عَدّها البريطانيون بمثابة "إنقلاب" دَبّره الوصي ونَفّذه نور الدين محمود وسانده بعض الساسة القدامى وفي مقدمتهم نوري السعيد!!

إنقلاب دبره الوصي بمساندة نوري السعيد!! فأين عُشّاقُ الملكية من هذه الحقيقة الصاعقة؟!

رابعاً: يمتدح الباحث  ساسة الملكية الكبار، عبد الإله ونوري السعيد إنموذجاً. ويصل في حالة عبد الإله لحالة وكأنه يتغزل به! (هذه الحقائق المُوَثّقة عن الأمير عبد الإله، رجل الدولة من الطراز الأول والدبلوماسي المخضرم الذي أعطى العالم نموذجاً راقياً وصورة متألقة للجيل الجديد من رجالات العرب في تلك الفترة، وقد دحض الأمير بقامته الفارعة الرشيقة ووسامته البادية وأناقته المتكاملة وشخصيته الأرستقراطية الرزينة، دحض الصورة النمطية الشائعة التي كان أعداء العرب والمسلمين وخصوصاً الصهاينة ومؤيديهم قد ركّزوها في أذهان العالم، حيث صَوّروا العرب كونهم بدو رُحّل قذرين متخلّفين، أميين لا حضارة لهم ولا يفقهون معنى الحياة العصرية) (15)

تأخذني الحيرة في التعقيب على هذا النص المأموني! فعبد الإله الذي يتحدث عنه هو رجل آخر لم نألفه في كتب التاريخ! عبد الإله الذي نعرفه هو الحاقد على خصومه، التوّاق للقضاء عليهم، وإعدام العقداء الأربعة ويونس السبعاوي لدليل دامغ هنا. إذ تُرَجّحُ الباحثة الأمريكية فيبي مار أن اللوم يجب أن يُلقى على عاتق المسؤولين العراقيين هنا، خصوصاً الوصي (16)، وبشأن حادثة يونس السبعاوي، فقد رفض الوصي مقابلة والدة السبعاوي العجوز المفجوعة، وبقي شبح السبعاوي يطارده (17) بل حتى الدكتور زكي نفسه قد أقر بأنه قد أصَرّ على تنفيذ أحكام الإعدام بالعقداء الأربعة بعد أن إقترح بعض الوزراء وإبن عمه الأمير عبد الله حاكم الأردن تخفيف الأحكام من أجل تعزيز مكانته وتحسين صورته أمام الشعب العراقي! (18)

ويصف الباحث العلاقة بين عبد الإله والملك غازي بأنها كانت علاقة حُب عميق وصداقة وثيقة (19) فهل كانت كذلك؟ كلا، لم تكن كذلك، يقول مُرافِق الملك غازي العقيد سامي عبد القادر المفتي: (جاء الملك غازي في أحد الأيام وكان عصبياً جداً ومنفعلاً وقال لي: إذا جاء عبد الإله فلا تسمح له بدخول القصر وتطرده وأخذ يشتم به وقال: إنه يريد أن يقتلني. فقلت له: حاضر سيدي) (20)

يُريد أن يقتلني!! وهذه إشارة لضلوع عبد الإله ونوري السعيد بالإشتراك مع زوجة غازي، وهي أخت عبد الإله، في مقتل غازي كما تشير بعض الدلائل.

أما نوري السعيد، فهو الرجل الذي أحرق فترتي شبابه وكهولته في سبيل خدمة العراق، وهو المجاهد الكبير في سبيل العراق والعرب عامة (21)

ينقل المؤرخ المعروف الدكتور كمال مظهر أحمد نصاً بالغ الأهمية، فهو ـ برأيه ـ أول تقويم صحيح وخطير لشخصية نوري السعيد. ينقل هذا النص من جريدة ناطقة بإسم ثورة العشرين، وهي جريدة "الفرات"، وهو نصٌ طويل لا مجال لنقله هنا، لكن فكرته الرئيسية:

ربما يحضر إليكم من الشام الجنرال نوري السعيد ليقوم بالمهمة التي أناطتها به السلطة البريطانية، ألا وهي توطيد أركان الإحتلال وتثبيت أقدامه في العراق بمفاوضة العراقيين ودرس أفكارهم وخواطرهم وتعليلهم بالأماني والمواعيد الكاذبة، وربما ستتخذ السلطة المحتلة جميع الوسائل المادية والمعنوية التي من شأنها أن تجعل لكلامه شأناً، ولشخصه قبولاً أينما حل، فتُكثر من ذكر إسمه مقروناً بالجهر والثناء عليه، وتتظاهر بإحترامه وتبجيله. لا تُبالوا ولا تقيموا له وزناً ولو إدّعى الكلام بإسم الملك حسين والملكين فيصل وعبد الله أو بإسم المؤتمر العراقي أو أية جمعية أخرى، فإنه غير مفوّضٍ وغير مرخصٍ (22)

وبتعليلٍ جِدُ دقيق من الدكتور مظهر أحمد حول أهمية هذه الوثيقة:

(وتزداد أهمية هذه الوثيقة أكثر إذا تذكرنا أن نوري السعيد كان يُعد يومذاك أحد الوطنيين العاملين في سبيل القضية العربية. وأنه كان واحداً من أنصار الأمير فيصل المقربين الذي لم يقف أحد بعد على دقائق صِلاته السرية مع الإنكليز وعلى إيمانه المطلق بأنه "إذا كان نهر دجلة يجري، فما ذلك إلا بفضل الإنكليز") (23)

وطبعاً لم تبخل علينا المصادر بهذه الحقيقة، فموالاة نوري السعيد لبريطانيا وللغرب واضحة جداً (إن مسايرة الغرب وموالاته هي السياسة التي درج عليها نوري السعيد من أول حياته حتى آخر مماته) (24)

(وكانت وفاته خسارة كبيرة لإسرائيل) (25)

أما عن سياسته مع معارضيه، فقد كان صاحب القبضة الحديدية (وقد زرع نظام نوري السلطوي بين 1954 و 1958 بذور الديكتاتورية العسكرية المستقبلية) (26) ولم يبخل علينا الدكتور زكي نفسه في وصف سياسة نوري السعيد الميكافيلية (أما الصفة الثانية التي عُرِفَ بها فهي عدم تردده في اللجوء، شأنه بذلك شأن أي سياسي كبير وناجح، الى أساليب غاية في الميكافيلية .. فكان يُوَجّه الى خصومه ومناوئيه ضربات عنيفة) (27)

الأنسب أن يكون النص المأموني تاماً: نوري السعيد هو الرجل الذي أحرق فترة شبابه وكهولته وأحرق خصومه ومعارضيه في سبيل خدمة العراق!!

خامساً: "حُكم القيادة الجماعية" من أهم ما إمتاز به النظام الملكي برأي الباحث (28) أما النظام الجمهوري، فقد إمتاز بحُكم الرجل الواحد أي الدكتاتور.

وأنا أقرأ هذا الإشكال المأموني، وجدتُ أن العراق الحالي ـ عراق ما بعد 2003 ـ يصلحُ أن يكون إنموذجاً ل"القيادة الجماعية"، فقد إختفى القائد الضرورة، وظهرت على السطح مجموعة تَسَلّمت زمام الحكم في هذا البلد.

عندما تسأل أي عراقي الآن ـ الأغلب على الأرجح ـ ستجده ناقماً على هذه القيادة الجماعية، بل منهم من يَتَرَحّمُ على فترة حُكم الرجل الواحد!! فأين أنت يا دكتور زكي من هذه الحالة؟ فالقيادة الجماعية لا تعني دائماً أن أوضاع البلد كانت مستقرة، ولا تعني قيادة الرجل الواحد دائماً أن أوضاع البلد كانت مزرية!

ويُجري الباحث مقارنات غير موفقة بين العصور السابقة على الملكية وبين الأخيرة (أما في العراق الحديث، وتحت حكم فيصل والنخبة الكلاسيكية فلم يؤسس مركزاً أو دائرة لشيخ الإسلام أو لأي سلطة دينية مشابهة وتمارس دوراً في إدارة الدولة .. كان لسلاطين آل عثمان جناح في بلاطهم أو قصورهم مخصص للحريم أو ما يُدعى نساء السلطان الذي يضم زوجاته ومحظياته .. بالمقارنة لم يمتلك الملك فيصل حريماً ولا جناحاً للحريم والخصيان، ولم يتزوج سوى بزوجة واحدة) (29)

كان الأولى بالدكتور زكي ـ وهو باحث يحمل عدة شهادات من جامعات غربية ـ الترفّع عن هذه المقارنات البعيدة عن الموضوعية، فلا يرجع ذلك لطبيعة الملكية العراقية قدر رجوعه لطبيعة العصر الذي نحن فيه، فالسلاطين الذين يتحدث عنهم الباحث كانوا في جوٍ قروسطي خالص، أما الملكية العراقية فقد أدخلت العراق لعصر الحداثة، فكيف ستستقيم حداثتها مع تصرفات قروسطية طاغية؟! ولن يُعدمنا التاريخ الدليل على أن بعض الخلفاء والسلاطين قد إكتفوا بزوجة واحدة أيضاً! أو لم يكونوا مغرمين بالحريم والخصيان!

ومسألة الديمقراطية في النظام الملكي والإنتخابات معروفة عن كُل مُطَلِع، ولم يتركنا الدكتور زكي هنا وكفانا معونة المصادر. فقد أورد تعريف السياسي الإنكليزي هارولد لاسكي لمفهوم الشرعية، وبضوء هذا التعريف توَصّل زكي الى ما يلي:

(كان النظام البرلماني والهيئة التشريعية في العراق تفتقر الى حد ما للشرعية، وقد بقي النظام الملكي يعاني من إنفصام مع أكثرية الشعب، والبرلمان يعاني من عدم مصداقية وثقة الجماهير والطبقة المثقفة طوال الفترة التي تلت وفاة الملك فيصل الأول في عام 1933 وحتى سقوط النظام الملكي) (30)

بل لعل أعظم ضرر مُنيت به المملكة نتيجة الإحتلال البريطاني في 1941 هو فقدان الثقة بالحياة النيابية، وإنصراف لفيف من الزعماء والسياسيين لجمع المال بأي صورة كانت، ومشاركة التجار والزُرّاع والشركات في الإثراء على حساب الشعب (31)

أما نوري السعيد ـ رجل الملكية الأول بلا منازع ـ فرأيه في الإنتخابات عجيب وغريب فعلاً، وقد نقله الدكتور زكي نفسه، يقول السعيد: (لا يمكن لأي نائب مهما كانت مكانته الإجتماعية وإحترامه عالياً بين الناس أن يفوز بالإنتخابات بدون مساندة الدولة، ولا يُمكن أن يُنتخَب أي نائب ما لم ترضَ عنه الدولة) (32)

هذه هي الديمقراطية التي عاشها الشعب العراقي في ظِل الملكية وساستها الكبار!!

سادساً: يتحدث الكاتب كثيراً عن الدستور العراقي، وقد إنتقى بنوداً منه (33) ليؤكّد على ما يمتاز به وما ضمنه من حقوق للشعب. لكن هل إلتفت الباحث لأمرٍ لا يحتاج لعناء كبير لإكتشافه؟ فما يُكتَبُ في الدساتير شيء، وما يُترجَمُ على الواقع شيءٌ آخر! وإلاّ فالدساتير الجمهورية لا تخلو من حقوق ضَمنّتها في موادها!

وتَطَرّق الباحث لأمرٍ خطير جداً، ألا وهو الإستمرار في سياسة التمييز الطائفي التي سارت عليها الحكومة العثمانية ومن سبقها. إذ يستعرض أعضاء حكومة ياسين الهاشمي في اليوم الذي أُعلِنَ فيه الدستور العراقي 21 / 5 / 1925، ليقول في نصٍ خطير:

(ومن بين الأقليات في المجلس الوزاري كان ساسون حسقيل وزير المالية "يهودي" وعبد الحسين الكاظمي "شيعي"، الذي إعتُبِرَ من ضمن الأقليات بالرغم من أن عدد الشيعة في العراق لا يقل عن عدد السنة) (34)

العهد الملكي الذي يَتَرَحّم الدكتور الفاضل عليه، إعتبر الشيعة من الأقليات مع إنهم الأكثرية على الأرض!!

سابعاً: خصّص الباحث الفصل السادس من كتابه لإزدهار الإقتصاد العراقي ومشاريع الإعمار والتعليم في خمسينيات القرن الماضي. ونحن بدورنا لا نُنكر ذلك، فقد كانت سنوات الملكية الأخيرة سنوات إعمارٍ، إذ شُيّدَت سدود وجداول وطرق ومستشفيات، لكن هذه الإنجازات قد جاءت متأخرة جداً لإنقاذ صورة النظام (35) وقد فقد الجيل الجديد الأمل في التعاون مع الجيل القديم، هذا الجيل الذي كان يتألف في معظمه من العناصر الوطنية التي جلبت الإستقلال وتخلصت من السيطرة الأجنبية، تحوّل بعد الحرب العالمية الثانية الى فئة همّها المحافظة على المصالح الشخصية، فأُغلِق الباب في وجه الجيل الجديد الذي كان يتَطَلّعُ الى الإشتراك في تمثيل دوره على مسرح الشؤون العامة (36)

بينما نجد الباحث لا يكف عن التأكيد على أن سلبيات هذا العهد كانت على وشك الزوال (37) وأن الطبقة القديمة على وشك الرحيل، والمجال سيكون مفتوحاً للجيل الجديد ليحل محله! (38)

فهل من الممكن أن نُوقِفَ العوامل والشروط الواقعية عن العمل ونجلس لننتظر رحيل نوري السعيد وأقرانه الى العالم الآخر، لكي يصعد الجيل الجديد الى سدّة الحكم؟! ثم لو إفترضنا جدلاً صِحّة هذا الإحتمال، فكيف سيعمل هذا الجيل وسط ظروف لم تستجب مع الملكية ولفظتها الى الأبد!!

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

....................

الحواشي:

1ـ مأمون أمين زكي: إزدهار العراق تحت الحكم الملكي 1921 ـ 1958 / دراسة تاريخية إجتماعية مقارنة، دار الحكمة لندن، الطبعة الثانية 2013 ص505

2ـ المصدر السابق ص15

3ـ لا يخفى ذلك على المتتبع لكتاباتي، إذ كُنتُ حريصاً على هذه الحقيقة دائماً

4ـ المصدر السابق ص17

5ـ ندينُ بهذه النقطة المهمة للأستاذة الكبيرة الدكتورة لاهاي عبد الحسين

6ـ المصدر السابق ص24

7ـ المصدر السابق ص341

8ـ المصدر السابق ص400 و 401 و 402

9ـ إعتمدنا هنا على التحليل القَيّم للأستاذ سليم طه التكريتي في:

ستيفن همسلي لونكريك: العراق الحديث من سنة 1900 الى 1950 / تاريخي سياسي إجتماعي إقتصادي، الجزء الثاني، ترجمة وتعليق: سليم طه التكريتي، طبعة دار الرافدين الأولى 2019 بيروت لبنان ص55 الحاشية الأولى، تعليق الأستاذ التكريتي

10ـ محمد حسين الزبيدي: الملك غازي ومرافقوه، دار الحرية للطباعة بغداد 1989، توزيع دار اللام ص129 و 130 و 131

11ـ يقول الدكتور سامي عبد الحافظ القيسي: (لاتزال مسألة موافقة الملك غازي على الإنقلاب أو علمه به قبل وقوعه، محل شك) يُراجَع:

سامي عبد الحافظ القيسي: دراسات وثائقية في تاريخ العراق المعاصر، بغداد 2009 ص113، ونحن بدورنا لم نغفل ذلك، وعليه فقد رَجّحنا فقط

12ـ لونكريك: المصدر السابق ص94 الحاشية الأولى، تعليق المترجم الأستاذ التكريتي

13ـ زكي: المصدر السابق ص16 و 17 و 18 و 19

14ـ محمد حمدي الجعفري: إنقلاب الوصي في العراق عام 1952، مكتبة خالد في بغداد، الطبعة الثانية 2001

15ـ زكي: المصدر السابق ص248 و 249

16ـ فيبي مار: تاريخ العراق المعاصر 1921 ـ 2003، دار أوراق ودار المجلة، الطبعة الأولى 2020 بترجمة: مصطفى نعمان أحمد ص95

17ـ خيري العمري: يونس السبعاوي / سيرة سياسي عُصامي، الجمهورية العراقية ـ منشورات وزارة الثقافة والإعلام دار الرشيد، الطبعة الثانية 1980 ص144 الى 148

18ـ زكي: المصدر السابق ص227

19ـ المصدر السابق ص222

20ـ الزبيدي: المصدر السابق ص283 ونقلنا النص كما هو

21ـ زكي: المصدر السابق ص155 و 170

22ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر / دراسات تحليلية، منشورات مكتبة البدليسي في بغداد، الطبعة الأولى 1987 ص49 و 50

23ـ المصدر السابق ص76

24ـ مذكرات عبد المجيد محمود / الوزير في العهد الملكي في العراق، أعدّها وعَلّقَ عليها وقَدّم لها: د. عماد عبد السلام رؤوف، دار الحكمة لندن، الطبعة الأولى 2006 ص408

25ـ فالديمار غالمان ـ سفير الولايات المتحدة في العراق: عراق نوري السعيد، بترجمة: عبد اللطيف نوري، دار سطور في بغداد، الطبعة الأولى 2019 ص325

26ـ فيبي مار: المصدر السابق ص135

27ـ زكي: المصدر السابق ص159

28ـ المصدر السابق ص36

29ـ المصدر السابق ص38

30ـ المصدر السابق ص349

31ـ عبد الرزاق الحسني: تاريخ العراق السياسي الحديث، الجزء الثالث، دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، الطبعة السابعة 1989 ص3

32ـ زكي: المصدر السابق ص349 و 350

33ـ المصدر السابق ص44 وما بعدها

34ـ المصدر السابق ص51

35ـ فيبي مار: المصدر السابق ص129

36ـ مجيد خدوري: العراق الجمهوري، إنتشارات الشريف الرضي في إيران ـ قُم، الطبعة الأولى 1418 ص10

37ـ زكي: المصدر السابق ص30

38ـ المصدر السابق ص27

 

أكثرُ ما يُكتَب تحذفه عاجلًا أو آجلًا ذاكرةُ الكتابة، وتتنكر لحضورِه المكتباتُ الرصينة، ويطارده القراءُ المحترفون، ويفضح النقّاد زيفه. أقرأ كتاباتٍ في الفلسفة والكلام القديم والجديد تتحدّث عن كلّ شيء وتحاول أن تقول كلَّ شيء من دون أن تقول شيئًا، يكتبها أناسٌ يفتقرون إلى أدنى تكوينٍ تراثي أو أكاديمي أو لغوي، يكدّسون كلماتٍ صاخبةً مقعّرة لا تبوح بدلالاتٍ مفهومة، يورّطون أنفسَهم بحرفةٍ صعبة لا يمتلكون موهبتَها، تغويهم سهولةُ النشر اليوم فيُغرِقون المكتباتِ بأكداسٍ من الورق، تسرقُ أعمارَ القرّاء غير الخبراء، وتعبثُ بذائقتهم، وتهتكُ تقاليدَ الكتابة الجادة.4725 حبيب فياض

 هذا كتابٌ من النوع الذي يمكث في ذاكرة المكتبة، وأظنّ أن حضورَه سيتجدّد لدى الخبراء مهما تقادم زمانُه. في كتابِ "فلسفة التديّن" استطاع الدكتور حبيب فياض أن يكتب الكثيرَ من سيرته المعرفية والأخلاقية وتجربتِه الروحية. أعرف حبيب منذ ثلاثةِ عقود، وكلّما اختبرت الأيامُ صداقتَنا تجلّى حبيب كأعذب ما يتجلّى فيه إنسانٌ شجاع عاطفي صادق، العاطفةُ المتدفقة غير المشروطة هي ما يغويني في كلِّ صداقاتي. حبيب متصالح مع نفسِه، يقول قناعاتِه الفكرية بجرأة، وإن كانت لا تشدو ما يقوله أكثرُ الناس. ‏أعرف التكوينَ الرصين لحبيب فياض، وتلمذتَه على فلاسفةِ دينٍ ومتكلمين كبار نهلوا من منجمِ التراث الفلسفي والعرفاني ومعطياتِ الفلسفة والعلومِ الإنسانية الحديثة، وأعرف جيدًا الذكاءَ الفائق الذي يلتمع في ذهنِه، ومثابرتَه وجَلَدَه في مراحلِ التكوين الجامعي، وأعرف مواقفَه وشهامتَه وغيرتَه على الإنسان. هذا الكتابُ مرآةٌ مضيئة ارتسمتْ فيها صورةُ حبيب الباحثِ الدقيق، وصورةُ مشروعِ المفكر الذي يحاول أن يبتكر منهجَه ويحدّد خارطةَ تفكيره المرسومةَ بعناية واحتراف، خارطة لا تشبه إلا ذاتَه، وكأنها لوحةُ فنانٍ مزج فيها ألوانًا متناغمة لتكون مرآةً مضيئة لفرادتِه. يحاول حبيب أن يعيد بناءَ أسسِ التفكير الديني في الإسلام في سياقٍ مختلِف، لا يقف كثيرًا عند الدينِ بمفهومِه النظري، لا يذهب إلى الأفكارِ المجردة والتأملاتِ العقلية وقراءاتِ النصوص الدينية، يذهب مباشرةً للواقع يسائل تجلياتِ الدين وحضورَه العملي، يدلّ القارئَ على التديّن الذي هو صوتُ الله في ضميرِ الإنسان، وصورةُ الدين في حياةِ الإنسان ومواقفِه وسلوكِه الفردي والمجتمعي.

 عشتُ أيامًا عديدة مع مخطوطةِ هذا الكتاب، كانت رحلتي معه شيّقةً شاقة. شيّقة بوصفها معايشةَ كاتبٍ أعرفه عن قرب، وأعرف تكوينَه العميق في الفلسفةِ ومدرسةِ الحكمة المتعالية خاصة، وفي الإلهياتِ بشكل عام، واطلاعَه الواسع على الفلسفةِ وعلومِ الإنسان والمجتمع وعلومِ الألسنيات ومناهجِ التفسير الحديثة. وشاقة بوصفها كتابةً ابتكرت طريقتَها الخاصة في بناءِ المفاهيم والتعبيرِ عنها وإنتاجِ رؤيتها الاجتهادية، وكلُّ كتابةٍ من هذا النوع لا يمكن أن تستوعبها إلا بقراءةٍ متأنيةٍ متريثة. ربما لا تتفق مع حبيب في شيءٍ من رؤاه وطريقتِه في تركيب الأفكار، وما يسوقه من حجج، وأسلوبِ تعبيره عنها، غير أنه يفرض عليك كقارئٍ أن تنصت بهدوءٍ للمتن الذي ينسجه بإحكامٍ وتأملِ دقيق وتفكيرٍ صبور.كما يعرف تلامذةُ حلقات العلم التراثية أن قراءةَ المتون العرفانية بقدر ما هي شيّقةٌ هي شاقةٌ أيضًا، لا يستسيغها إلا قارئٌ قراءتُه عابرةٌ لأبعد من حدودِ الكلمات وآفاقِها الضيقة، قارئ تخترق استبصاراتُه ما وراء الكلمات.كلّما توغلتُ أكثر شعرتُ بحاجةٍ إلى قراءةِ هذا الكتاب أكثر من مرة. هذا كتابٌ نتعلّم منه كيف نفكر تفكيرا عقليًا في الدين، وهذا النوعُ من الكتب قليلٌ جدا اليوم.

  هذا كتابٌ يعلّمنا كيف نتفلسف في الدين والتديّن لا على نموذجٍ متداوَل سابقًا، ولا على رؤيةٍ مقرّرة سلفًا. لم أجد عقلي ينصاع لكلِّ رؤى المؤلِّفِ ومنهجِه، غير أن قوةَ الكتاب فرضتْ عليّ كقارئٍ متخصّص أن أعود لمسائلةِ مناهجِ الكتابات الأخرى في هذا الموضوع، وحججِها وقناعاتِها المفارِقة في كثيرٍ منها لما جاء في الكتاب، واختبارِها في تقويضِ قناعاتِ المؤلف. مادامت الأسئلةُ الميتافيزيقة الكبرى تختبر إجاباتِها وتجّددها على الدوام، فهذا كتابٌ يضعنا أمامَ إعادة النظر في إجابات تعلّمناها أو ابتكرناها، إنه كتابٌ يجعلنا نكرّر طرحَ هذه الأسئلة، ويدعونا أن نفكر مجدّدًا في أجوبتِنا.كلٌّ منا أنا وحبيب يفكِّرُ في الدين ويقرأ نصوصه على شاكلته، إلا أني وجدتُ نفسي وأنا أقرأ هذا الكتابَ بتأملٍ أتعرّف على حبيب مجدّدًا، حبيب الذي ينشد اللحن الروحي والأخلاقي في الدين الذي أنشده، لكن بمنهجَين غير متطابقين، وبرؤىً متوازيةٍ لا تتكرّر معالجاتُها، وإن كنا معًا نعمل على تكريسِ الروح وإيقاظِ الضمير الأخلاقي وتنميةِ الحسِّ الجمالي في التديّن.

  بدءًا بعنوانِ الكتاب: "فلسفة التديّن" يثير في عقلِك المؤلِّفُ سؤالًا تحير في جوابه، أنت تعرف أن مصطلحَ "فلسفة الدين" هو المتداوَل حتى اليوم في الفلسفةِ الحديثة، منذ العملِ الرائد "محاضرات في فلسفة الدين" للفيلسوف هيغل "1770 – 1831"، أما "التدين" فهو يحيل إلى العلومِ الإنسانية الحديثة، بما أنه تعبيرٌ عن تمثّلاتِ الدين وانعكاسِه في حياة الفرد والمجتمع، وهو ما يرتسم من صورةِ الدين في حياة الإنسان ووعيه وضميره، وهذا شأنٌ يتصل عضويًا بالواقع، ومداخلُ دراسة التديّن بوصفه واقعةً فردية ومجتمعية هو علومُ النفس والاجتماع والأنثربولوجيا والميثيولوجيا، وعلومُ الألسنيات والسيميائيات والهرمنيوطيقا الحديثة. حاول حبيب نقلَ التفكير الفلسفي إلى الواقعِ الذي يحقّقه الدين، وسعى إلى أن يشرحَ موقفَه بتمييزٍ دقيق بين: المباحثِ الداخلدينية، والخارجدينية، ومضى نحو تحديدِ مصطلحاتِه وأدواتِه المنهجية بدقّةٍ وصرامةٍ في الفصلِ الأول من الكتاب، وجهد في التدليلِ على ما أثاره من أفكار، لدرايتِه بالأسئلةِ المتنوعة المتوالدة من هذا الضربِ من الكتابةِ المفارِقة للمألوف.

يجادل حبيب فياض في فلسفةِ الدين، ويضع عقولَنا أمامَ أسئلةٍ مختلفة حول "فلسفةِ التديّن"، وهو المصطلحُ الذي يصرّ على تضمينِه عنوانَ كتابه، ويحاول أن يخوض فيه من مداخلَ متنوعة، لا يستوعبها إلا قارئٌ صبور ذو تكوينٍ فلسفي وديني مزدوج. مقارباتُ التديّن المتنوعة تتسع لتوظيفِ علم النفس وعلمِ الإنسان والاجتماع والألسنيات، غير أن حبيب فياض عمل على زحزحةِ التديّن وإدراجِه في حقل الفلسفة، وهي محاولةٌ دلّل عليها منذ بدايةِ الكتاب حتى نهايتِه، محاولةٌ تفرضُ عليك أن تنظرَ فيها بتريث، سواء اقتنعت بها أم لم تقتنع.

 لا تظهر قيمةُ الكتابةِ الفلسفية بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ جديدة، ولا فيما تكرّره من إجاباتٍ جاهزة. قيمةُ هذه الكتابة في براعتِها بوضعِ عقل القارئ أمامَ مشكلاتٍ عميقة يتطلب الخوضُ فيها الكثيرَ من التأمل والتفكير غير المتعجِّل. لم أجد عقلي في بعضِ إجابات المؤلِّف وآرائه، بل وجدتُ لديه ما يحرّضني على التفكيرِ ويستحثّ عقلي على توليدِ أسئلةٍ موازية للأسئلةِ التي شغلتني أكثر من أربعةِ عقود، وحاولتُ أن أكتب إجاباتي عنها في مؤلفاتٍ متعدّدة.

لا أريد أن ألخصّ مادةَ الكتاب الثرية الواسعة، فهذا يتطلب كتابةً موسعة. الكتابُ لا يترك عقلَ القارئ الذي يقرأه بهدوءٍ يهدأ، إنه كتابٌ لا يرضى عنه السلفيون، مثلما لا يرضى عنه بعضُ دعاة الإحياء والإصلاح والتجديد، إنه كتابٌ يشدو لحنَه الخاص، ويبتكر رؤاه، ويعمل على تعزيزِ حججه. قليلٌ من الكتب ذلك الذي يضيف للذهن مادةً جديدة للتفكير، وأقلُّ منها ما يثير لديه الأسئلة، لم يضِف لي هذا الكتابُ معلوماتٍ جديدة في الدين، على الرغم من وفرتِها فيه، بقدر ما حرّض ذهني على إعادةِ طرح أسئلةٍ وتعميقها كنت بحاجةٍ شديدةٍ لمواصلة التفكير فيها. أنا إنسانٌ يتغذّى تفكيري ويتجدّد بالأسئلة، ولا يكفّ ذهني عن العودةِ إلى الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى كلّما تقدم بي العمر. لا يستقرّ الذهن لمدةٍ إلا بتقديمِ إجاباتِه لها، ثم سرعان ما يعود إليها كلّما قرأ كتابًا من هذا النوع، أو واجهه موقفٌ لافت، أو رأى شيئًا مثيرًا، أو أنصت بعمقٍ لغابة أسئلة الوجود.

 شكرًا دكتور حبيب فياض على هذا الكتابِ الذي استحثّ ذهني على التفكيرِ معه وضدّه. ما ينقل الذهنَ للتفكير خارجَ الأسوار المغلقة على الدوام هو الكتابُ الذي يدعوك للتفكير ضدّه. أتطلع أن يأخذ هذا الكتابُ الثمين مكانتَه المناسبة في الدراسات الجامعية بتخصّصات الفلسفة وعلوم الدين، وأن يحضر في الدراساتِ الدينية في الحوزة ومعاهدِ التعليم الديني التقليدية، وأظنّها الأشدَّ حاجةً لهذا الكتابِ وأمثالِه، والأشدَّ حاجةً إلى تلك الكتب القليلة جدًا المنشغلة بإيقاظِ الذهن وبناءِ الحياة الروحية والأخلاقية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................

* تقديم كتاب فلسفة التديّن، تأليف: د. حبيب فياض، يصدر قريبًا عن مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار الفارابي ببيروت.

 

ترجمة: هاشم نعمة

يقول المؤرخ غاري غيرستل أن النظام النيوليبرالي الذي بدأ في عهد ريغان قد انتهى. فقد مارس الرئيس الديمقراطي كلينتون الضغط حتى أكثر من أسلافه الجمهوريين من أجل رفع القيود.

هل كان بيل كلينتون أكثر أهمية بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة من رونالد ريغان؟ هل كان الرئيس الديمقراطي في التسعينيات أكثر تأثيراً في نجاح الليبرالية الجديدة من سلفه الجمهوري في الثمانينيات؟

في الكثير من المقالات والكتب، يُنسب هذا الدور الأكثر أهمية إلى ريغان. ولكن بعد قراءة كتاب "صعود النظام النيوليبرالي وسقوطه" للمؤرخ الأمريكي غاري غيرستل* يمكنك بسهولة أن تستنتجَ أن كلينتون هو، في الواقع، بطل الليبرالية الجديدة. خاصة إذا قمتَ، مثل غيرستل، بالتمييز بين الأيديولوجيا والتطبيق العملي في نظام سياسي - اقتصادي. مثل هذا النظام هو، بحكم تعريفه، تفاعل بين الأيديولوجيا والسياسة والتنفيذ، والذي يمتد لفترة أطول من أربع سنوات بين دورتين انتخابيتين. في تعريف غيرستل، لا يمكنك التحدث عن نظام اقتصادي سياسي إلا إذا تم تبني تغيير كبير من قبل الخصم السياسي.

لم تصبح الصفقة الجديدة للرئيس فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات نظامًا سياسيًا اقتصاديًا في هذا النهج إلا بعد الحرب، عندما واصل الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور (من 1953 إلى 1961) السياسة الاجتماعية. كان هذا هو الوقت الذي نظمت فيه حكومة الولايات المتحدة الاقتصاد وقدمت الشركات والنقابات تنازلات اجتماعية. ووفقًا لغيرستل، فإن إحدى اللحظات الرئيسة في فترة الصفقة الجديدة هذه هي الاتفاقية الجماعية التي أبرمها كبار مصنعي السيارات الثلاثة مع النقابات في عام 1950. لقد أصبح ذلك مثالاً للعديد من الحلول الوسط بين رأس المال والعمل. كما أجبر تهديد الشيوعية الشركات الكبيرة على تحسين وضع العمال في الولايات المتحدة من خلال تحسين الأجور وظروف العمل. وهكذا بدأ صعود الطبقة الوسطى الأمريكية الكبيرة.

بحسب تحليل غيرستل، أدى سقوط الشيوعية إلى ظهور الليبرالية الجديدة في أوائل التسعينيات. ليس كثيرًا لأنه - على حد تعبير فرانسيس فوكوياما في ذلك الوقت – بالإمكان إعلان نهاية التاريخ، بل لأنه لم تبق سوى أيديولوجية واحدة مهيمنة. وذلك لأن رجال الأعمال الأمريكيين شعروا بالحرية في كسر التحالف مع النقابات. وانتقل الكثير من الإنتاج إلى بلدان خارج الولايات المتحدة، ونمت الفوارق في الدخل بسرعة.

في الثمانينيات، في عهد رونالد ريغان، أصبحت أفكار الليبرالية الجديدة بالفعل مهيمنة في واشنطن العاصمة. لقد قلَّص ريغان سلطة الحكومة وخفَّض الضرائب بوتيرة قياسية، مما أفاد الشركات والأثرياء على وجه الخصوص. كان ريغان قد استوحى توجهاته هذه بشكل مباشر من المنظرين الأيديولوجيين فريدريش هايك وميلتون فريدمان ومراكز الفكر التي تبنت أفكارهم منذ أواخر الستينيات. كما نجح في دمج هذا مع أفكار الحركة المحافظة المسيحية. وفقًا لغيرستل، غالبًا ما وُصفت الليبرالية الجديدة خطأً بأنها حركة محافظة.

اندماج الحركات

يجادل غيرستل بأن الحركات المختلفة التي، للوهلة الأولى، ليس لها علاقة تذكر ببعضها البعض قد اندمجت في نظام نيوليبرالي. كما يشير إلى "اليسار الجديد" الذي يناضل من أجل الحقوق المدنية الفردية منذ أواخر الستينيات، وإلى حركة المستهلكين التي أصبحت منذ ذلك الحين أكثر نشاطًا في الولايات المتحدة من أجل حقوق المستهلك الفردية أو الطوباويون التكنولوجيون الذين اعتقدوا أن التكنولوجيا ستؤدي إلى تحرير الفرد، وبالتالي فهذا سيحدد طريقة تفكير العديد من رواد الاعمال في وادي السليكون.  ويشير، أخيرًا، إلى صعود المواطنين الكوزموبوليتانيين (الكونيين) الذين يرون العالم وطنًا لهم أكثر من الأمة التي ينتمون إليها. وهذا أنتج نخبة لها نفس الخصائص في العديد من العواصم؛ تتحرك بسهولة في جميع أنحاء العالم وهي من دعاة العولمة.

لهذا السبب بالتحديد، يعتقد أنه ليس من المستغرب أن تشهد الليبرالية الجديدة ذروتها بشكل خاص في ظل إدارة كلينتون. ففي حكومته، اجتمع ممثلو النخبة العالمية وفتحوا الحدود. وتم تمرير أكبر قوانين إلغاء القيود خلال فترة حكمه. هكذا حصلت البنوك ومؤسسات مالية أخرى وشركات الاتصالات والتكنولوجيا على فرصة لكي تصبح طاغوتا تهيمن على أسواقهم.

تطرق غيرسيل، في كتابه، قليلا إلى باقي العالم، لكنه ركز ،بشكل أساسي، على التاريخ الأمريكي الحديث. ومع ذلك، فكتابه هو تحليل قيِّم للعقود السابقة، لأنه غالبًا ما يختار منظورًا مختلفًا قليلاً عن المعتاد لأحداث حدثت مؤخرًا.

لقد انتهى النظام النيوليبرالي. وبهذا، لا يريد غيرستل منح الكثير من الفضل لترامب. فهذا الأخير، يكتب غيرسل، لم يفعل أكثر من دفع الباب المفتوح لكي ينفتح أكثر. فالانكماش الحقيقي بدأ مع الأزمة المالية لعام 2008؛ إذ دعا الرئيس أوباما الاقتصاديين النيوليبراليين من إدارة كلينتون لمكافحة تلك الأزمة. وقد جرى إنقاذ البنوك من خلال السماح للبنوك الأقل تضرراً بالسيطرة على المنافسين الأضعف. وهذا أدى بقطاعات واسعة من المجتمع إلى زيادة النفور وعدم الثقة بالشركات الكبرى. فازدادت مناهضة العولمة منذ عام 2008، حيث بدأ كل من الشركات والمستهلكين في إثارة تساؤلات حول الحدود المفتوحة.

أين نقف الآن؟ يحاول غيرستل، بحذر، أن يصف الدعم الحكومي الهائل، خلال أزمة كورونا، كظاهرة لنظام جديد. لكن في مشهد سياسي شديد الاستقطاب، قد يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتبنى جانب واحد من الطيف السياسي مبادئ الطرف الآخر. نحن ننتظر نظامًا جديدًا، حيث تسود في الوقت الحالي فوضى بشكل خاص ومن داخلها يتعين على الحكومات والشركات أن تجد طريقها.

***

...................

* مؤرخ وأكاديمي أميركي، أستاذ في جامعة كيمبريدج.

* الترجمة عن: NRC Handelsblad, 25 November 2022

المؤلفان: ويليام بلان، كريستوف نودان

ترجمة وإعداد: فراس ميهوب

***

استغلال التاريخ عملية معروفة، وخصوصا عندما تكون الأحداث قديمة جدا، والمصادر التي تذكرها نادرة، ولاحقة للحدث، ومثالها معركة بواتييه بين العرب بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والفرنجة بقيادة شارل مارتل.

الجدير بالذكر أنَّ شارل مارتل لم يكن ملكا بل عمدة قصر لعدة ملوك ميروفنجيين -هذا المنصب يعادل رئيس الوزراء حاليا- ومؤسسا للسلالة الكارولنجية الملكية.

عادت معركة بواتييه للتداول في الغرب بعد سقوط جدار برلين، وتحديدا أثناء الحرب في يوغسلافيا السابقة مع خروج هنتينغتون بكتابه صدام الحضارات والذي فسَّرالتاريخ بأنه صراع بين كتل حضارية ذات مميزات و حدود ثابتة، فالكتلة الغربية تواجه ميكانيكيا الكتلة المسلمة، ما شغله ليس القيمة التاريخية لمعركة بواتييه بل دعم فرضيته بأن الشرق والغرب كانوا، وهم الآن، وسيبقون غير قابلين للتوافق.

بعد سقوط الشيوعية كان البحث جاريا عن عدو جديد للغرب، وسيكون الإسلام هو هذا العدو!

يحاول هذا الكتاب إعادة تقييم ثلاث مسلمات بدت كحقائق غير قابلة للنقاش، ومع ذلك لم يتم دراستها بشكل كاف، وهي:

الأولى: انَّ معركة بواتييه ليست ذلك الصراع الذي تصوره عدد من الكتاب، ويجب وضعها ضمن سياقها التاريخي من ناحية علاقات الإمبراطورية الإسلامية في أوج صعودها مع المجتمعات المجاورة لها والتي لم تكن دائما علاقات صراع وحروب.

الثانية: تكرر الرغبة بأن تصبح معركة بواتييه مكانا للذاكرة، وخصوصا مع تعميم تدريس التاريخ في المدارس الرسمية الفرنسية منذ نهاية القرن التاسع عشر.

الثالثة: أنَّ شارل مارتل لم يحتفى به دائما كمنقذ للمسيحية، وأنَّ مكانته كعمدة للقصر تغيرت حسب عدو كل مرحلة تاريخية إن كان عربيا ومسلما أم لا.

لقد أضحى شارل مارتل منذ عشرين عاما فقط رمزا لليمين الفرنسي والغربي للرغبة باستبعاد الإسلام والسكان المسلمين من الغرب.

تمكنت الجيوش الإسلامية بين عامي ٦٢٩- ٦٥١م من فتح معظم ما يسمى حاليا بالشرق الأوسط، وتمكنوا من تدمير الإمبراطورية الفارسية الساسانية وإضعاف الإمبراطورية البيزنطية.

لا يمكن تفسير ذلك بالحماس الديني فقط، أو بالطمع بالغنائم، بل لعب التنظيم العسكري دورا هاما وكذلك معرفة الأراضي المفتوحة، والتجنيد المنظم الذي أشرف عليه الخليفة عمر، وخفة حركة الجيش الإسلامي، واستخدام الخيول والجمال على الرغم من قلة العدد مقارنة بالأعداء، وفعالية رماة السهام العرب.

ومن جهة أخرى أنهكت الحروب المتبادلة كلا من الروم والفرس، واعتراض شعوب البلاد الخاضعة لهم على حكمهم، إضافة إلى الخلافات الدينية داخل الإمبراطورية البيزنطية.

تولى عبد الملك بن مروان الحكم في دمشق، وأرسل قوات إلى المغرب تمكنت من احتلال سبتة القريبة من إسبانيا التي كان يسيطر عليها القوط الغربيون عام ٧٠٩م فكانت فاتحة للتوجه إلى إسبانيا.

بعد إحكام العرب سيطرتهم على إسبانيا، جرت أولى محاولات اجتياز جبال البيرينيه بين عامي ٧١٨- ٧١٩م.

بلاد الغال عشية معركة بواتييه:

دبَّ الضعف في المملكة الميروفنجية، وتمكن شارل ابن بيبان من تعزيز مكانته كعمدة للقصر في أوسترازيا و نوستريا ولقب بدوق وأمير الفرنجة.

اجتاح عبد الرحمن بلاد الغال عبر جبال البيرينيه من جهة الغرب صاعدا منطقة غارون قبل أن ينهب مدينة بوردو وكنيسة سان هيللير ويتجه شمالا فاضطر أود دوق منطقة أكيتين بعد أن هرب إلى الشمال لطلب مساعدة شارل مارتل.

مكان المعركة:

مازال لغزا فالعديد من المصادر تشير إلى موسَّاي لا باتاي قرب بواتييه، وتشير مصادر أخرى إلى سان مارتان- تور، ويعتمد اختيار هذين المكانين إلى اختلاف الترجمة لاسم المعركة بالعربية وهو بلاط الشهداء.

تاريخ المعركة:

التاريخ الأكثر تواترا لها هو الخامس والعشرين من تشرين الأول عام ٧٣٢م، رغم ذكر تواريخ أخرى.

استمرتِ المعركة سبعة أيام، في صباح اليوم الأخير، كانت خيام العرب مرتبة، ولم يخرج منها أحد، كانوا قد ذهبوا باتجاه الجنوب بينما قام الفرنجة بالاستيلاء على غنائمهم، ولم يلحقوا بهم.

كان عدد الجيشين متعادلا تقريبا، رغم المبالغات التي ذكرتها بعض المصادر عن عدد المسلمين، فتعداد الجيوش الكبيرة في ذلك العصر كانت تقارب العشرين ألف مقاتل أو تزيد قليلا.

ملك العرب سهاما أكثر تطورا، ويعود انتصار شارل مارتل إلى الظروف الاستراتيجية للمعركة، فاكتفى بالدفاع، بينما توجب على عبد الرحمن الغافقي أن يقضي تماما على الجيش المعادي لينتصر وهذا ما لم يحدث.

لم يستطع فرسان المسلمين اقتحام صفوف الفرنجة الذين ثبتوا في أماكنهم، وساهم مقتل عبد الرحمن في تضعضع معنويات جنده.

تذكر بعض المصادر الغربية مقتل ألف وخمسمائة من الفرنجة وثلاثمائة وخمسة وستين ألفا من المسلمين وفي هذا مبالغة كبرى قياسا لعدد الجيوش في ذلك العصر، بينما لا تذكر مصادر المسلمين شيئا عن عدد القتلى، وتشير فقط إلى مقتل عبد الرحمن، ولكنها تؤكد أنَّ شارل مارتل و جنوده لم يلحقوا بالمسلمين المنسحبين.

نتائج المعركة:

بعد مقتل عبد الرحمن الغافقي، لم يقم أي وال آخر من قرطبة باجتياز جبال البيرينيه، وعلى الرغم من عدم توقف المعارك بين المسلمين والفرنجة لكنها اتخذت مسارا آخر عبر المرور بمنطقة البروفانس شرقا وتجنبت الأكيتين.

لم يتخلص شارل مارتل من أود ولم تسقط أكيتين بيد الفرنجة نهائيا إلا في عهد حفيده شارلمان وابنه لويس.

استغل شارل مارتل انتصاره ليحصل من بابا روما إشهارا له كبطل مسيحي، ووسع مملكته نحو الإمارات الأسقفية وفتح الطريق لاحتلال بورغونيه و بروفانس.

ساهم العنف الذي مارسه تجاه الأساقفة برسم صورته المتباينة كأمير إفرنجي في المصادر الكنسية اللاحقة.

يدحض الكاتبان الأساطير التي أحاطت بالذكريات التاريخية لمعركة لبواتييه، ويشيران إلى قلة المصادر التي تتحدث عن المعركة، كما أنَّه ولوقت طويل اعتبر شارل مارتل كعمدة قصر طرد الملوك الشرعيين من الحكم، واستغل ممتلكات الكنيسة لتحقيق أطماعه.

ظهر شارل مارتل بمظهر إيجابي في ثلاثة مراحل تاريخية:

الأولى: في بداية القرن السابع عشر لتبرير صعود آل بوربون على العرش.

الثانية: في العقود الأولى من القرن التاسع عشر عبر محاولات بعض المقربين من الحكام تحويل أبطال القرون الوسطى إلى رموز منقذة للديانة المسيحية.

الثالثة: منذ حوالي خمسة عشر عاما، ساعدت الذكرى المحورة للمعركة في إنشاء تمثيل سلبي للمسلمين برعاية اليمين الغربي المتطرف.

شارل مارتل في الأدب:

يشير الكاتبان إلى رواية جرجي زيدان "شارل و عبد الرحمن" التي تعتبر اول رواية من وجهة نظر إسلامية، وتصويره لمعركة بواتييه كصراع حضاري وليس دينيا.

من الجهة الأخرى اعتبر شاتوبريان أنَّ المسيحية هي خميرة الحضارة، وأنَّ الحروب الصليبية كانت انتقاما من فتوحات العرب التي وصلت إلى إسبانيا وفرنسا، وانتصار شارل مارتل في معركة بواتييه منع استعباد الجنس البشري.

أمَّا فولتير فيعتبر الحضارة الأوروبية وريثة حضارات سابقة مثل مصر وإسلام العصر الوسيط، ولا يتردد عن مقارنة الإسلام بروما القديمة، ويشيد بعبقرية العرب والنبي محمد، ويقول انه لولا انتصار شارل مارتل لكانت فرنسا منطقة محمدية، وأنَّ الأنوار كانت من جهة العرب في الأندلس بينما كانت أوربا تغرقُ في نهاية الإمبراطورية الرومانية وحتى عهد لويس الرابع عشر في ظلمة القرون الوسطى.

شارك فولتير هذه النظرة مفكرون آخرون مثل جون ميشيليه وأناتول فرانس ومستشرقون مشهورون.

خضع استخدام معركة بواتييه أيضا للظروف التاريخية فكان العداء للعرب يتراجع عندما يتصاعد العداء لألمانيا التي يراها بعض المفكرين عدوا أبديا لفرنسا منذ الغزوات الكبرى في القرن الخامس.

اليمين الفرنسي المتطرف و معركة بواتييه:

مع وصول اولى موجات الهجرة المغاربية إلى فرنسا في بدايات القرن العشرين، ظهر لأول مرة مصطلح رهاب الإسلام.

شجَّع عدة مفكرين فرنسيين هجرة مسلمي شمال أفريقيا إلى فرنسا بدلا من الإسبان والإيطاليين المتهمين بتهديد سلامة الأراضي الفرنسية أو بنشر الشيوعية.

لم ينظر إلى العربي كعدو في البداية، وهذا يعود إلى اعتباره أقل مستوى من الفرنسي!

كل هذا سوف يتغير مع حرب الجزائر، و وجود جالية كبيرة من المهاجرين في فرنسا قادمين من المغرب العربي.

مع بدء الأزمة الاقتصادية عام ١٩٧٣م، بدأ جزء من اليمين الفرنسي المتطرف باستعمال شارل مارتل كرمز ضد المهاجرين إلى فرنسا.

شكلت الحرب في يوغسلافيا السابقة منعطفا هاما في النظرة إلى المسلمين في أوربا، و عاد التذكير بمعركة بواتييه والدعوة إلى حرب على هيئة حرب الاستعادة الإسبانية التي عرفت بالفرنسية بمصطلح

LA RECONQUETE

وهو نفس الاسم الذي أطلقه مرشح الرئاسة الفرنسية اليمني المتطرف إيريك زيمور على حزبه الجديد الذي تأسس هذا العام ٢٠٢٢م!

تبنى زيمور أيضا نظرية الاستبدال الكبير، وتحدَّث عن شارل مارتل في كتابه مصير فرنسي الصادر عام ٢٠١٨م، وبالنسبة له لا بدَّ من تكرار حروب الماضي نفسها دون توقف.

الجدير بالذكر أنَّ برينتوان تارَّان الذي قتل في أحد المساجد في نيوزلاندا واحدا وخمسين شخصا و جرح أربعين آخرين، كان مؤمنا بنظرية الاستبدال الكبير، وسجَّل على بنادقه كلمات وأرقام مثل تور ٧٣٢، وكذلك شارل مارتل، و ١٦٨٣ إشارة إلى حصار العثمانيين لفيينا.

تبنت الجبهة الوطنية الفرنسية اعتبارا من عام ٢٠١٠ على الأقل خطابا معاديا للإسلام، فمارين لوبين شبهت صلاة المسلمين في الشوارع بالاحتلال، وتبنت الجبهة استخدام شعار "أنا شارل مارتل" عقب الاعتداء على مبنى صحيفة شارلي إيبدو في السابع من كانون الثاني عام ٢٠١٥م.

ولمواجهة هذه المواقف المتعصبة، نشأت دعوات لناشطين لإعادة التركيز على الوجود التاريخي للمسلمين في فرنسا في مناطق متعددة، و ذكرت وجود آثار لمسجد في ناربون يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي، واكتشاف ثلاثة قبور إسلامية في مدينة نيم، وجرى الحديث عن بقايا عملات في أود والبيرينيه الشرقية، وأختام رصاصية وعددها سبعة عشر قرب بيربينيان.

يقلل الكاتبان من أهمية هذه الاكتشافات، ويعولان على نتائج تنقيبات أثرية في المستقبل قد تغيِّر من المعطيات الحالية.

يدعو الكاتبان في الختام إلى الابتعاد عن التعصب في وجهات النظر للطرفين التاريخيين للمعركة، ويقترحان معالجة معركة بواتييه بالدراسة النقدية للأحداث بدلا من الذكريات المتناقضة لهذه المعركة التي تتراوح بين المبالغة والنسيان، ووضع الأمر ضمن السياق التاريخي.

***

..........................

المؤلفان:

ويليام بلان: مؤلف مختص بالقرون الوسطى، له نشاط في مجال السينما، لديه العديد من المؤلفات منها الملك "أرثر، أسطورة معاصرة"...

كريستوف نودان: مدرِّس لمادتي التاريخ والجغرافية، كتبَ عدد مؤلفات منها: " المؤرخون المتأهبون، من لوران دوتش إلى باتريك بيسّون، انبعاث الرواية الوطنية" بالاشتراك مع ويليام بلان و أودري شيري،...

العنوان الأصلي للكتاب

CHARLES MARTEL ET LA BATAILLE DE POITIERS

DE L’HISTOIRE AU MYTHE IDENTITAIRE

William BLANC . Christophe NAUDIN

المؤلفان: ويليام بلان، كريستوف نودان

الناشر: ليبيرتاليا- فرنسا

تاريخ النشر: ٢٠١٥- ٢٠٢٢

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: ٤٠٠

".. وإنّما يستبدع ذلك ممّن زجّى عمره راتعاً في مائدتهم تلك ثمّ لم يقْوَ أنْ يتنبّه."(1)

فاتحة: قُلنا في بداية هذه السّلسلة من المقالات أنّها مُخصّصة لاستعمال محمد العمري للبلاغيّين العرب القدامى في كتاب "المحاضرة والمناظرة"، الّذي ألّفه للدّفاع عن البلاغة ومناقشة كتاب "التبالغ والتبالغية"لرشيد يحياوي، وقد دفعنا اختلاط ما قاله فيه عن السّكاكي إلى مراجعة كتاب"البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" علّنا نعثر فيه على بعض ما يساعد على فكّ ذلك الاختلاط وإظهار مبرّرات الأحكام المرسلة. لكنّنا وجدنا فيه، عكس ما توخّيناه، إسقاطا وتعسّفا وتزويرا لا يمكن أنْ يبرّر بالاختيار القرائي غير التّوثيقي(2): صنّف السّكاكي "مختصراً "(3) لقّبه بـ"مفتاح العلوم"، وحدّد في مقدّمته مقاصده وفسّرها، وعيّن أنواع العلم الواجب الاعتماد عليها والاستمداد منها، وبيّن الْكَيْفيّة الّتي ينبغي أن تتراتب بها تلك الأنواع وتترابط بما يجعلها نسقا نافعا لعموم المهتمّين بالأدب في زمانه، وبرّر كلّ ذلك تبريرا علميّا كافيّا لا يخفى على المنصف، واحتاط بأنْ خاطب قارئه قائلا له إنّ "الاستعمال بيدك"(4)؛ بيد أنّ العمري يَكْفُر كلَّ ذلك، ويتورّط في الإتيان بآراء غريبة وأحكام متعسّفة وتَقوّلات غاية في الفحاشة، بدا معها صاحب المفتاح متهافتا، ومختزلا، ومحكّماً للنّحو والمنطق في البلاغة!. وقد ناقشنا بعض ذلك، وظهر لنا أنّ العمري ساقه بدون تحقيق، وحشر في كلامه آراء متفاوتة ينفي بعضها بعضا ويقع جلّها بعيداً عن بنية المفتاح ومقاصده.. لهذا نعود إلى كتاب "المحاضرة والمناظرة " الّذي نخصّص له هذه السّلسة من المقالات لمناقشة "محاضرته" الّتي يجعل من طوائف مخاطَبيه فيها الطلبة والتّلاميذ (5)!

الجرجاني والسّكاكي مؤسّسان ومختزلان:

يقول العمري:«بدأت عملية اختزال البلاغة العربية مع الجرجاني نفسه، ثم خَطتْ خطوةً واسعةً مع السكاكي، وبلغت نهايتها مع القزويني وباقي الشراح والملخصين. ولا لوم على أحد منهم، فقد استجابوا جميعا لحاجيات عصرهم وأسئلته، واستثمروا إمكانياته. بل يمكن شكر المتأخرين منهم على إيواء البلاغة في لحظات احتضارها كما آوتها الكنيسة في أوروبا بعد ذهاب شبابها اليوناني واللاتيني. سنبدأ من البداية ونسير مع عملية الاختزال خطوة خطوة إلى العصر الحاضر(6) «.

قلتُ: يكفي أن تعرف أنّ العمري يرى، مثل آخرين كثيرين، أنّ عبد القاهر الجرجاني " هو المؤسّس الحقيقي للبلاغة العربية"(7)، وتعرف أنّه يرى، وحدَه هذه المرّة، وكما هو واضحٌ في هذا المقتطف، أنّ عبد القاهر الجرجاني نفسه هو أوّل من اختزل تلك البلاغة لتتأكّد من تنكّبه عن سبل الضّبط والتّحقيق في "المحاضرة والمناظرة". ففي الرّأي الّذي لا يقيم للمعرفة – بلهَ العلم- وزنا يمكنك دائما أن تقول إنّ الجرجاني أسّس البلاغة واختزلها، وتبرّر التّنافي بالقول إنّ ذلك الاختزال إنّما هو اختزالٌ منهاجي يمكن أن يؤيّد أو يعارض، دون أن تكلِّف نفسك بأن تسأل: إذا كان هو المؤسّس، فبالقياس إلى ماذا يمكن اعتبار عمله مختزلا؟ ومادام اختزاله اختزالا منهاجيّا، فكيف يمكن أنْ يُؤيّد أو يُعارض؟ لا يجب أن نكلّف أنفسنا السّؤال لأنّ كلّ ذلك سائغ في المحادثات التي يتحكّم فيها الهوى والرّأي بعيدا عن واجب التّفكير في تحقيق القول والتّدليل عليه: يتحدّث بعض المهتمين بالبلاغة من المعاصرين عن "البلاغة العامّة"، وفي مرحلة ما قبل الجرجاني كان هناك الكثير ممّن تناولوا، من زوايا مختلفة، جوانب ومسائل أدخلها الباحثون في مرحلة ما بعد السّكاكي في التّخصص الّذي لقّبه بعضُ المتأخّرين بالبلاغة، لذا، فإنّ الجرجاني حتّى وإنْ كان هو "المؤسّس الحقيقي للبلاغة" بالنّسبة للعمري، فإنّه مع ذلك هو الّذي اختزلها- ولا تستغرب!- لأنّه لم يجعلها عامّة بجمع كل ما كان منتشرا قبله!. نعم تجمّعت عنده كلّ الرّوافد، ولكنّه قلّل من قيمة الموازنات!! طيّب، ماذا لو جعلتَ "بلاغة" الجرجاني تتوسّع لتشمل "فصاحة" ابن سنان وغير ابن سنان أكانت البلاغة ستصير عامّة تماثل ريطوريقا أرسطو التي كانت نصب عين جيرار جنيت وغيره ممّن اقتفوا أثره وتحدّثوا عن البلاغة العامة والبلاغة المختزلة من الغربيّين؟ وعلى فرض أنّها ماثلتها أو فاقتها من حيث "المساحة" أكانت تسدّ مسدّ هذا النّموذج الكلّي الّذي يطمح إليه المختصّون زمننا هذا دون أن يقدر أحد على ادّعاء أنّه بناه على الوجه الّذي ينشد؟ وهل هناك إمكانية أصلا لإنشاء ذلك النّموذج الكلّي؟ وماذا لو كان ما يتحدّث عنه العمري بهذه الطّريقة الّتي تجمع الإسقاط والتّخبّط والوثوقيّة لا يوجد إلا في وهمه؟ كلّ ذلك لا يعني شيئا لصاحب "المحاضرة والمناظرة"، والمنطلق عنده متهافت: البلاغة العربية كانت عامّة قبل أن تتأسّس، وقد اختزلها المؤسِّس. ما هو علم البلاغة الّذي اختزله الجرجاني؟ الجرجاني اختزل علم البلاغة الّذي لم يكن! أو كانت ظواهره ومباحثه تتبلور تدريجيّا في النّحو والتّفسير وعلم أصول الدّين وأصول الفقه والنّقد الأدبي والإعجاز !..

والجرجاني نفسه لم يعيّن لكتابيْهِ أيّ إطار علميّ جديد؛ ولم ينشغل بتحديده على نحو ما قام به السّكاكي بعده سواء كان علما للبلاغة أو علما للأدب أو غيره. يبتدئ "أسرار البلاغة" بـ"قال الشيخ الإمام مجد الإسلام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمان الجرجاني النّحوي رحمة الله عليه ورضوانه"، ويقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني النحوي هذا مباشرة بعد أن يشير إلى فضيلة البيان إنّ "التّباين في هذه الفضيلة أو التّباعد عنها إنّما يتعلّق بالتّأليف والتّركيب والتّرتيب الّذي «يقع في الألفاظ مرتّبا على المعاني المرتّبة في النّفس، المنتظمة فيها على قضية العقل(8)«؛ ويبتدئ الرجل "دلائل الإعجاز" بالقول: «هذا كلام وجيز يطّلع به النّاظر على أصول النّحو جملة، وكلّ ما به يكون النّظم دفعة.. (9)«. والعملان يحكمهما همٌّ محوري يتمثّل في تحديد الخصائص التي تجعل الخِطابات تتمايز وتتفاوت ويفضل بعضها بعضا بهدف بيان تفوّق الخطاب القرآني، ولكنْ داخل مجال النّحو بالشكل الذي بدأ به، واسعا لا موسّعا. لذا فإنّ من سوء التقدير مؤاخذة المؤرّخين – على نحو ما يفعل رشيد رضا وغيره ممّن يردّد العمري آراءهم- على عدم إشارتهم إلى "أنّ الجرجاني هو واضع علم البلاغة"، ولا إنكار كون ابن خلدون الذي "تصدّى للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره"، «وزعم أنّ الّذي هذب الفن (قلتُ: البيان لا البلاغة) بعد أولئك الّذين كتبوا في مسائل متفرّقة منه هو السّكاكي(10) «! لأنّ «سلامة العبارة، وصفاء الديباجة، والغوص على أسرار الكلام، ووضع دُررها في أبدع نظام(11) «ليس بحال من الأحوال مما يمكن أن يوضع في مقارنة مع التّنظير والتّصنيف و"التّبويب والتّرتيب" و"تحرير الحدود والرسوم(12)"!

بعد أن يقرّر العمري أنّ عبد القاهر الجرجاني "المؤسّس الحقيقي لعلم البلاغة" هو أوّل المختزلين، يقول إنّ عمليّة الاختزال «خطت خطوة واسعة مع السّكاكي(13) «! ولا نحتاج إلى استحضار من يُرجِع فضل صياغة علم البيان إلى صاحب المفتاح مرّة أخرى، (14) ممّا يعني عدم وجاهة اتّهامه بالاختزال؛ بل يكفي تذكُّر قول العمري نفسه بأنّ كتاب المفتاح «ليس مؤلّفا في البلاغة(15) «! حتّى تصير أقواله الأخرى المتمثّلة في كونه اختزَل البلاغةَ، وأخذ روحها، وحكّم فيها مقولات النّحو والمنطق، وغيّر مسارها، جوفاء وبدون معنى: فَجَعْلُ كتاب المفتاح خارج دائرة البلاغة يدفع القول بتغييره لمسارها ويُنافيه.. (16) ودعك من الجمع بين الحكم بأنّ السّكاكي فكّر في شيء قريب لا من البلاغة فقط، بل من البلاغة العامّة، وبين الحكم بأنّ عمليّة الاختزال خطت معه خطوة واسعة!

ورغم أنّ هذا يكفي للتّدليل على تسييب العمري للكلام في ما يخصّ صاحب المفتاح، فإنّنا نقف معه عند تقديمه التّفصيلي لحججه على الأضرار الّتي ألحقها السّكاكي بالبلاغة تحت عنوانه المثير: تحويل المسار، أو أخذ الروح!

تمهيد العمري لبيان اختزال السكاكي للبلاغة:

قبل أن يشرع العمري في إيراد حججه مرقّمة ومفسّرة يمهّد لذلك بهذا الكلام:

« يُلام السكاكي عادة على إخراجه البلاغة من مجال الذوق والممارسة النصية إلى مجال التقعيد النظري الجاف الذي غلبت عليه القوالب المنطفية والأمثلة المصنوعة المكرورة. وهذه ملاحظة مفهومة بلاغيا، ولكنها تحتاج إلى تفسير. وهذا ما نحاول بيانه قبل أن نلتمس العذر فيه للسكاكي. (17) «

يبتدئ العمري كلامه بالبناء لغير الفاعل: "يُلام السكاكي عادة.." وهي صيغة يزدوج فيها مقصدان؛ أمّا الأوّل فهو جعل مَنْ يلومون السّكاكي كثيرين على نحو تنتفي معه الحاجة إلى تعيينهم، ويدعّم ذلك بكلمة "عادة"، فهم كثيرون ويلومونه باستمرار، ومن الواضح أنّ العمري هنا يعمل على تدعيم ما يُلْصِقه بعمل السّكاكي بطريق غير مشروع: الانطلاق ممّا تقوله، عادة، كثرة كاثرة غير محدّدة، واعتبار قولها حجّة لا يحتاج أيّ مناقشة؛ وأمّا الثّاني، فهو خلق مسافة بينه وبين تلك الكثرة ممّن يلومونه، فهو، وإنْ كان "يتفهمهم بلاغيا" ويرى أن دعواهم صحيحة، بل ويمكن أن ينوب عنهم في "محاولة" تفسيرها، فإنه يلتمس العذر للسّكاكي ولا يلومه مثلهم! ومن الواضح، هنا كذلك، أن التماس العذر للسّكاكي مجرد ثرثرة للتغطية على انجراره غير المبرّر لـ"محاولة" تفسير ما لا يقوم إلّا على الهوى والتّحكم، وإلا ما الفائدة من السّعي لالتماس العذر لمن حوّل مسار البلاغة وتسبّب في أخذ روحها! ومن الواضح، ثانيا، أن الحيل الخطابية المقصودة تنفي عن كلام العمري أي جدية في السّعي لإعادة الاعتبار للبلاغة باعتبارها مجالا لعقلانية موسّعة تتقصّد جعل القيم موضوعا للعلم يبتّ في ما يصلح منها مما لا يصلح ويراتب بين كل ذلك ليُنْتَفَع به في الرّقي في الحياة وبالحياة، ومن الواضح، ثالثا، أنّ الخبط والتّخليط غير المقصود ينزع عنه أيّ اقتدار على الإسهام في شيء من ذلك.

1.2. إخراج السّكاكي للبلاغة من مجال الذّوق و"الممارسة النصية":

لكن ما هو الخطأ الشّنيع الّذي اقترفه السّكاكي واستحقّ عليه اللّوم الدّائم الّذي يعتبره العمري "ملاحظة" مفهومة بلاغيا؟ لقد "أخرج البلاغة من مجال الذّوق والممارسة النصية". نقف عند هذين المأخذين وننتقل بعد ذلك إلى مجال "التقعيد النظري الجاف" الّذي حوّل إليه هذا العلم. ولنبدأ بـ"الإخراج من مجال الذّوق"، ونثنّي بـ"الإخراج من الممارسة النّصيّة".

1.1.2. الإخراج من مجال الذّوق:

لِنَسأل صاحب " المحاضرة والمناظرة" أسئلة ثلاثة: (1) ما علاقة الاختزال بترك الذّوق؟ الاختزال الّذي يحاول العمري أن يثبته بهذه الطّرق المغالطة هو ترك مناطق من "امبراطورية البلاغة" الشّاسعة؛ ومن البديهيّ أنّ الإنسان يمكن أن يكون إمبراطورا مستوليا على مناطق واسعة جدا ولا ذوق له؛ (2) كيف يجوز اتّهام من لم يقصد، وفقا لرأي العمري نفسه، إلى التّأليف في البلاغة بإخراجها من مجالها وتحويل مسارها؟ هل يمكن مثلا أن نقول، عملا بهذه السّنة غير الحميدة، إنّ أحمد المتوكّل -اللّساني المغربي- أساء للبلاغة عندما اعتبر نظريّة النّظم الجرجانيّة نَحويّة، أو عندما نَظّر للخطاب، وهذا مثل ثان، في إطار نموذج "نحو الخطاب الوظيفي" مستثمرا النّحو والبلاغة وأصول الفقه؛ (3) هل رفض السّكاكي "الذّوق" وانتقد من يقول به ويعتمد عليه؟ لا مُنْصِفَ يمكن أنْ يدّعي ذلك، والمفتاح متاح يشهد بعكسه على نحو صريح وفي مواطن مختلفة.

يتحصّل من تأمّل ما سبق أنّ السّكاكي لم يخرج البلاغة من الذّوق ولا الذّوق من البلاغة، والعمري نفسه أكّد ذلك في "البلاغة العربية". قال: «إنّ الاحتكام إلى الذّوق الّذي برز كتعبير عن أزمة منهاجيّة في آخر دلائل الإعجاز، كما سبق، يأتي هنا كموقف مبدئي(18)«. نعم إنّ العمري الّذي يقول إنّ السّكاكي أخرج البلاغة من الذّوق كان الحّ على أنّ الذّوق عند السّكاكي "موقف مبدئي"، وأضاف: «..فمهما كان العلم عقليا فلا بد له، في نظره، من الاستعانة بالذوق. فكيف به إذا كان مبنيا، مثل علم المعاني أو البلاغة عامة، على المواضعة والألفة. جاء هذا صريحا في تمهيد الكلام عن الخبر، قال..(19)«، ونقل كلاما للسّكاكي بالغ الدّلالة في ما نحن بصدده، بل إنّه ردّ بصرامة على الدّارسين التّقليديين!: «ومع ذلك فسيجد الدّارسون التّقليديون للبلاغة العربية كلّ شيء عند السّكاكي إلا الذّوق، وسيتهمونه بالتقريرية الجافة، ولكنه ما كان ليعبأ بهذا حتى ولو قيل له مباشرة. فقد برأ ذمته ودفع الحرج قبل أن يدخل في تلك التقنينات الصارمة (20)«. فكيف يعود العمري ويدرج نفسه في جوقة اللّوام الّذين ما كان السّكاكي لِيعبأ بهم حتّى لو بكوا واشتكوا في حضرته، وكيف يعود ولا حاجة تدعو إلى إثارة الذّوق أصلا، إذِ السّياق هو محاولة إثبات إغفال أو ترك أو بتر أجزاء أو مناطق إمبراطورية "من ورق"! وكيف يعود.. وأعظم فائدة للبلاغة، إذا صدّقنا جهابذتها، أن تكشف طرق المغالطة والسّفسطة ليُحْتَرزَ عنها!

2.1.2. الإخراج من "الممارسة النصية":

ليس لنا أنْ نلتفت في هذه الفقرة إلى تركيب "الممارسة النصية" التي يُرصّع بها "بلاغي" ينخرط في جوقة اللّائمين لِمؤلِّف قديم -لم يدّع قط أنّه بلاغي- لأنّه أخرج البلاغة من الذّوق!، فبمثل هذا الذّوق الّذي في "المحاضرة والمناظرة" يوجّه العمري الخطاب إلى الطّلبة والتّلاميذ! لنترك ذلك ولنفرض أنّ المقصود بإخراج السّكاكي للبلاغة من "الممارسة النصية" هو عدم تصدّيه لتحليل ونقد النّصوص. والجواب على هذا غاية في البساطة: إنّ من يقول هذا عن مفتاح السكاكي – وغيره مما يشبهه كمنهاج حازم ومنزع السّجلماسي- في الزّمن المعاصر الذي تراكمت فيه المعارف وتوضّحت الفروق بين التّخصصات ومقاصد التّأليف ومستوياته يجدر به أن يترك القراءة رأسا لأنه لن ينتفع بها، بَلْهَ أنْ ينفع؛ هذا إن لم نقل إنّه سيسيئ كلّما قرأ وكتب. يؤكّد السّكاكي أنّ كتابه "مُخْتَصَرٌ" عمل فيه على تمييز وتعيين وترتيب العلوم الّتي من شأنها أن تدخل في تركيب مترابط نوعا من التّرابط يصير معه "مدخلا منهجا" نافعا ومُعينا لأصحاب المطالب العلميّة في مجال الأدب. وهذا معناه أنّه يضع عمله في مستوى التّنظير، فيجتهد في صياغة رؤية منهجيّة عامّة، وفي ترتيب وتبويب وتفسير الكليّات والخصائص النّوعيّة التي تحكم اشتغال الخطاب في أنماطه وتجليّاته المعروفة في زمنه؛ وهو يقوم بذلك بالاستناد إلى جهود سلفه ممّن اشتغلوا على الخطاب من زوايا مختلفة بالرّصد والتّحليل والنّقد وصياغة القواعد والقوانين(21)؛ لذا فإنّ المقتطفات الّتي يوردها في كتابه، ممّا اعتمد فيه على من سبقه أو ممّا اقتطفه هو نفسه، لا تحضر لديه إلّا في إطار التّمثيل لقوانين كليّة أو لتفسيرها. وبناء على ذلك وضع عمله في صنف "علم الأدب" ولم يضعه في "نقد الأدب"؛ فكيف يجوز لنا أن نطلب من عالم الأدب أن يكون، في نفس العمل، ناقدا يجعل وكده تحليل نصّ أو مجموعة نصوص متعيّنة يكشف تفرّد كلّ منها وتميّزه. زوايا النّظر إلى الخطاب الأدبيّ تختلف وفق متغيّرات كثيرة، منها الاختلاف بين زاويّة علم الأدب وزاويّة نقد الأدب!

2.2. إخراج البلاغة إلى مجال التّقعيد النّظري الجاف:

ننتقل الآن إلى المجال الذي أخرج إليه السّكاكي البلاغة وفقا لدعاوى "اللّوام" الّذين يتفهّم العمري ملاحظتهم ويعمل على تفسيرها. وقد وصفوه بأنه: مجال التقعيد النظري الجاف الذي غلبت عليه القوالب المنطفية والأمثلة المصنوعة المكرورة. وَلْنُقلْ بالوضوح الّلازم: إن لم تعرف مستلزمات العلميّة ما هي لم يكن لك في طلب علم البلاغة، بلهَ الكتابة فيه بصيرةٌ ولا منفعة. ونعم لقد انْتُقِد السّكاكي بهذا كثيرا، ولكنْ من طرف من يرون البلاغة فنّا! ينظر في الأدب بمعناه الضّيّق المحصور في ما يعتبرونه "نصوصا ذات بلاغة عاليّة" من الشّعر ومن أجناس القول القريبة منه والشّبيهة، ومن قِبَلِ من يفرّون من الضّبط والعلم كسلا واستسهالا، ولا يميّزون بين الخطاب الإبداعي والخطاب العلمي الّذي يتناول ذلك الإبداع، على الأقلّ بالنّسبة لمن يعتقد به ويحاول اصطناعه في ما يكتب؛ لهذا، من الواجب أن ينتبه من يعلن جهاراً أنّه تطلّع أن تقع مؤلّفاته الأساسيّة في «الكتابة الأكاديمية الصارمة(22) « إلى ما في هذه العبارة من "تقاعس" صارخ لا يجب أنْ يهادن: كيف تريد لخطاب العلم أن لا يكون تقعيدا؟ وما التّقعيد إن لم يكن بناء لقوانين كليّة يمكن الانطلاق منها لاختبار كفايتها التّفسيرية في حقل الخطاب إن كانت اعتباراتك علميّة، أو لبيان "براعة" و"سحر" نصّ معيّن في فرادته وتميّزه إن كانت اعتباراتك ذات طبيعة نقديّة؟ وكيف تريد لخطاب علميّ قصد به صاحبه أن يكون مدخلا جامعا، فصاغ رؤيته العامّة، وربط بين علوم مختلفة ومتنافية أحيانا، فرتّب وركّب وفقا لضوابط صاغها والتزم بها، وحدّد المفاهيم والقوانين والوظائف ممثّلا ومفسّرا..أن يكون؟ لقد سعى السّكاكي إلى أن يوفّر لخطابه مستلزمات العلميّة الّتي تريد التّخلص منها بنعتها بهذا الاستعارة الجوفاء: "الجفاف"؟ فهل من وصفة للاشتغال بالعلم بلغة الشّعر؟ ألم يكن الجرجاني نفسه الذي يُقارَن به السّكاكي يسعى، جهده، إلى الخروج من "الرّمز والإيماء، والإشارة في خفاء"؟ وهو ما دافع عنه العمري، وإن خلّط موقفه بالغثّ من اللّفظ والرّأي كما أوضحنا في مناقشتنا له؟ بقي أن نشير في ختام هذه النّقطة إلى (1) أنّ الجمال في الأدب نفسه ليس واحدا، وتعدّده يُنَسّب، التّصورات السّاذجة الّتي يمكن أن تحمل قيما ضارة، ومطلقات تعتقل إرادة الإنسان، (2) وأنّ الجمال إن لم يكن واحدا في الأدب، فإنّه ليس مقصورا عليه. وجمالية الخطاب العلمي تختلف بالطّبع عن "جمالية النزعة الأدبية الجوفاء"، وتلتقي مع جمالية الأدب المرتبطة بالحياة والعلم من وجوه وتختلف عنها من وجوه؛ وفي كلّ ثراء، وإلى كلّ حاجة! (3) وأنّ البلاغة سعت (وتسعى) إلى أن تكون علما للخطاب؛ وهي مطالبة في شقها الحجاجي أن تسهم في الفلسفة العمليّة الّتي تنشغل بالقيم من أجل عقلنة أشكال التفاعل الاجتماعي في الأخلاق والسيّاسة والدّين، وغير ذلك..

3. بيان العمري لاختزال السّكاكي للبلاغة:

رأينا في الفقرات أعلاه أنّ الملاحظة الّتي يوردها العمري منسوبة لمجهولين، ويصرّح أنه يتفهمها "بلاغيا" وأنه سـ"يحاول" تفسيرها وبيانها ليست ممّا يمكن أن يسعفه في التّدليل على اختزال السّكاكي للبلاغة. يبقى أن ننظر في الحجج الّتي قلنا إنّه يوردها مرتّبة ومرقّمة، فقد يكون فيها ما ليس في الملاحظة العامّة ممّا يدلّ على ذلك الاختزال:

1.1.3. عملية الاختزال الأولى:

يقول العمري:

«2-2-1-أوّل عملية قام بها السكاكي لتحويل تصور الجرجاني عن مجاله الشعري الفلسفي النحوي التجريبي، هو تحويل «الغرابة« و«العدول« (عند الجرجاني) إلى «بيان(في مفتاح العلوم)، ثم جعل البيان في امتداد الاستدلال. كانت الغرابة (اللفظ/الصورة) عند الجرجاني قسيما للنظم في إنتاج الحسن. فينتظر أن يكون «من«(أو ما) يحل محلها (وهو « البيان «) محتلا لنفس الدرجة، أي نصف البلاغة. (23) «

2.1.3. تعليق:

هذا الكلام مختلط وفاسد لاعتبارات تُعدّ ولا تُحصى، نكتفي منها بهذه الثلاثة: (1) أمّا الأوّل، فلتعمّد التّحريف فيه؛ فالعمري يعرف -كما يعرف غيره- أنّ السّكاكي الّذي سعى لتحديد المفاهيم وترتيبها عموديا وأفقيا وبيان تبايناتها وتداخلاتها لم يحوّلالعدول والغرابة إلى "بيان" البتّة؛ ومن يتصفح المفتاح يدرك دون جهد أنّ التّشبيه والمجاز والكناية مفاهيم مرتّبة تحت البيان باعتباره جنسا عاليا؛ وأنّ السّكاكي رصد الخروج (= العدول) عن القاعدة (أو أصل المعنى أو مقتضى الظّاهر) في مختلف مستويات الخطاب، وليس في الظّواهر التي يختصّ بها علم البيان فقط، واستعمل ما يقوم مقام لفظ العدول مع تحديد المقصود منه بدقّة وفقاً لكل سياق(24) ؛ وأمّا كلمة الغرابة عند الجرجاني فهي لا تُعيِّنُ عناصر خطابيّة ونصيّة بل تشير إلى حالة تنتج عما يُحْدِثه العدول والخروج عن القاعدة والسّنن من تأثير في المتلقّي (النّموذجي؟)، ما يعني أنّ الجرجاني كان يستعملها لوصف التّفاعل المحتمل بين النّصوص الّتي يعتبرها جيّدة مع ما يشكِّل "عقل" ذلك المتلقّي المفترض من حقائق وقواعد وخبرات وعادات؛ وقد احتفظ السّكاكي للغرابة بنفس الفهم، واستعملها بلفظها(25) أو استعمل ما يقوم مقامها؛ بل، إنّه تفرّد بمحاولة تفسيرها تفسيرا علميّا، وذلك بربطها بما اصطلح عليه بـ "خزانة الخيال"؛ (2) أمّا الثّاني، فلأنّ صاحب المفتاح لم يجعل البيان في امتداد الاستدلال، بل قام بعكس ذلك؛ فقد أخرّ الكلام في الاستدلال أوّلا، وأوضح لماذا يضعه في امتداد علم المعاني والبيان بعد أن انتهى من الكلام فيه بالقول « وإذْ تحقّقتَ أنّ علم المعاني والبيان هو: معرفة خواصّ تراكيب الكلام، ومعرفة صياغات المعاني، ليتوصّل بها إلى توفية مقامات الكلام حقّها بحسب ما يفي به قوّة ذكائك، وعندك علم أنّ مقام الاستدلال بالنسبة إلى سائر مقامات الكلام جزء واحد من جملتها، وشعبة فردة في دوحتها، علمت أنّ تتبّع تراكيب الكلام الاستدلالي، ومعرفة خواصّها، مما يلزم صاحب علم المعاني والبيان.. (26) « وافتتح كلامه في الاستدلال بالتوكيد على ذلك مكتفيا بعلم المعاني دون استعمال صيغة العطف (والبيان): «الكلام إلى تكملة علم المعاني وهي تتبّع خواصّ تراكيب الكلام في الاستدلال ولولا إكمال الحاجة إلى هذا الجزء من علم المعاني، وعظم الانتفاع به لما اقتضانا الرّأي أن نرخي عنان القلم فيه، علما منّا بأنّ من أتقن أصلا واحدا من علم البيان، كأصل التّشبيه أو الكناية أو الاستعارة، ووقف على كيفية مساقه لتحصيل المطلوب به، أطلعه ذلك على كيفيّة نظم الدّليل.. (27) « ؛ فَلِمَ يحرّف العمري ويقول إن السّكاكي أحلّ البيان محلّ الغرابة والعدول وجعل البيان في امتداد الاستدلال؟ وقد كان من الممكن أن نعتبر هذه العبارة من باب القلب؛ ولكن القلب هنا تمّ بقصد التّحريف. ومع ذلك، فإنّ التّحريف من أجل إثبات امتداد جفاف المنطق إلى أراضي البلاغة الخصبة لا يدلّ، البتّة، على أنّ هناك بترا واختزالا! (3) وأمّا الثّالث، فلأنّ ما يُفهم من تخليط العمري بأنّ «الغرابة (اللفظ/الصورة) كانت عند الجرجاني قسيما للنظم في إنتاج الحسن فينتظر أن يكون «من«(أو ما) يحل محلها (وهو « البيان «) محتلا لنفس الدرجة، أي نصف البلاغة« يقع بعيدا عن تصوّر السّكاكي وتصوّر الجرجاني نفسه. والأدلّة عليه كثيرة، نكتفي منها هنا بما ورد في المقتطفين السّابقين اللّذين أوردناهما في الاعتبار الثّالث؛ فالسّكاكي يستعمل فيهما علم المعاني والبيان بصيغة العطف، ويكتفي في المقتطف الثّاني بصيغة علم المعاني (بالإفراد ودون عطف)، ويقول فيه بأنّ من أتقن أصلا واحدا من علم البيان (التّشبيه والاستعارة والكناية) أطلعه ذلك على كيفيّة نظم الدّليل، وهو ما يعني ألّا انفكاك، عنده، بين علم المعاني والبيان، وأنّ الكلام عن كون أيّ من العلمين يحتلّ ربع أو ثلث أو نصف البلاغة إنّما هو عبثٌ لا صلة له بالمفتاح، و"هذا كافٍ في حقّ من أوتي حظّا من الجلادة"، بتعبير صاحبه.

1.2.3. عملية الاختزال الثانية:

يقول العمري:

«2-2-2- إنزال مكانة «البيان« من قسيم «للنظم «(الذي صار يسمى «علم المعاني «) إلى تابع مكمل له. قال: «علم البيان شعبة من علم المعاني؛ لا ينفصل عنه إلا بزيادة اعتبار «. كان اللفظ(البيان) نصف البلاغة، يقتسمها مع النظم، فصار شعبة من شعب النظم! (28) «

2.2.3. تعليق:

قلت: هذا تكرار قبيح، وبَكْلٌ من البَكْلِ؛ مع أنّ صاحبه يورده على نحو يوهم بالتّفصيل والتّدقيق! وقد كنّا أوضحنا ما يقصده السّكاكي بقوله إنّ علم البيان شعبة من علم المعاني في المقال الخامس الّذي خصّصناه لما قاله عنه العمري في "البلاغة العربية"، وأشرنا هنا، في الاعتبار الثّالث من مناقشتنا للحجّة الأولى أعلاه، إلى قدر كافٍ. ولا ندري ما الحاجة إلى اجترار ما قال في بيانه الأوّل: «كانت الغرابة (اللفظ/الصورة) عند الجرجاني قسيما للنظم في إنتاج الحسن. فينتظر أن يكون «من«(أو ما) يحل محلها (وهو « البيان «) محتلا لنفس الدرجة، أي نصف البلاغة«؛ فقد أعاد هنا في بيانه الثّاني نفس التّهمة وإنْ أسقط لفظ الغرابة والعدول واكتفى بـ "اللّفظ" وبنصف البلاغة التي كان يحتلّها عند الجرجاني، حتّى جاء السّكاكي فصيره مجرّد شعبة من النّظم «كان اللّفظ(البيان) نصف البلاغة، يقتسمها مع النظم، فصار شعبة من شعب النّظم! «؛ وَتَعَجَّب!

1.3.3. عمليّة الاختزال الثّالثة:

يقول العمري:

«2-2-3- تحويل العوالم التخييلية الخلاقة التي يشير إليها معجم الجرجاني (الغرابة، العدول، التوهيم، التخييل، الغموض، التوسع، الزيادة، الإفادة، النسج، التصوير، السبك....) إلى مجرد «معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه والنقصان، ليحترز –بالوقوف على ذلك-من الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه«(29) «

2.3.3. تعليق:

قُلتُ هذا تكرار للتّزوير. لنخلّص الفكرة المزوّرة من التّكرار الّذي لفّها في "البيانين" الأوّل والثّاني:

«2-2-1- تحويل «الغرابة« و«العدول« (عند الجرجاني) إلى «بيان(في مفتاح العلوم) «.

«2-2-3- تحويل (الغرابة، العدول، التوهيم، التخييل، الغموض، التوسع، الزيادة، الإفادة، النسج، التصوير، السبك....) إلى مجرد «معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه والنقصان، ليحترز –بالوقوف على ذلك-من الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه« «

ما الّذي أضافه العمري من حجج في البيان الثّالث الّذي يرقّمه على النّحو الّذي أوردناه؟ يضيف إلى لائحة الكلمات الّتي كان الجرجاني يشير بها إلى "العوالم التخييلية الخلاقة" وحوّلها السّكاكي إلى بيان: فبالإضافة إلى الغرابة والعدول أوضح أنّ هناك لائحة مفتوحة؛ لكنّ هذه الحيلة لن تكون ناجعة إلّا إذا أوهم بأنّ الأمر يتعلّق فعلا بما هو جديد يستحقّ أنْ يُقدّم مستقلّا ومرقّما؛ لذا، وليوسّع مدارك الطّلبة والتّلاميذ ويُطْلِعهم على جريرة السّكاكي الّذي "أخذ روح البلاغة" ارتأى أن يترك التّصريح بمفهوم البيان الّذي قال إنّ السّكاكي حوّل إليه العدول والغرابة واللّفظ.. ويضع مكانه التّعريف الّذي يقدّمه له: "معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزيادة في وضوح الدلالة عليه والنقصان، ليحترز –بالوقوف على ذلك-من الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه"!

وأمّا "العوالم التّخييلية الخلّاقة الّتي "يشير" إليها معجم الجرجاني" فإنّ العمري نفسه توقف عند انتقاد الجرجاني لحديث العلماء قبله عن الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة واعتباره أقوالهم من قبيل الرّمز والإيماء والإشارة في خفاء، وقال مفسرا لكلامه إنّ حديث العلماء السّابقين عليه يفتقر إلى الوصف الدّقيق والتّفسير المقنع! هذا إذا سلّمنا بجواز محاسبة السّكاكي على تركه لمعجم الجرجاني، وسلّمنا أنّ السّكاكي لم يستعمل تلك الكلمات في الإشارة إلى تلك "العوالم التّخييليّة الخلاّقة"؛ وليس.

وننهي مناقشة هذه الحجّة المعادة بملاحظتين؛ تتعلّق الأولى باستبعاد كلمات الفصاحة والبراعة والبلاغة من لائحة الكلمات الممثّلة لمعجم الجرجاني الّذي حوّله السّكاكي، وتتعلّق الثّانية بتوسيعه لتلك اللّائحة وفتحه لها بنقط الحذف دِلالة على حجم التّضييق والاختزال الّذي اقترفه السّكاكي حين حوّلها إلى مجرّد بيان، لا بل إنّ عبارة العمري تذهب أبعد في تهويل التّحويل الّذي قام به السّكاكي وتقول بوضوح إنّه حوّل"العوالم التخييلية الخلاقة التي يشير إليها معجم الجرجاني". والاستبعاد فعل تأويلي يلازم كلّ قراءة، لكنّه هنا مستعمل بتعسّف واضح: الإيهام بأنّ الجرجاني كان أسّس علم البلاغة وجعلها عامّة تشمل قسمين متكاملين وواضحين: نصف اللّفظ والصّورة، ونصف النّظم (وهو حجبٌ لكون كلمة البلاغة عند الجرجاني إنّما هي وصفٌ لبعض الكلام والمتكلّمين مثلها مثل البراعة والفصاحة)..وأنّ السّكاكي جعل المنظور النّظمي يهيمن وَيُفقّر القسم الأول. وهو تعسّف بيّن يسيء إلى الجرجاني قبل السّكاكي. أما تحويل السّكاكي "للعوالم التخييلية الخلاقة التي يشير إليها معجم الجرجاني" فلا ندري كيف يَقْدِر عليه؛ ولقد يُعْقَل أن يُفَقِّر ذلك المعجم نفسَه، ويستعمل ما ليس ملائما على أبعد تقدير، أمّا أن يستطيع تحويل ما يشير إليه من "العوالم التّخييلية الخلاقة"، فلا يمكن أنْ يُفهَم إلّا في سياق الرّغبة غير المنضبطة في تهويل ما قام به السّكاكي من تقليص. ولأنّ التّزوير -هو الآخر-لا يكون أبدا كاملا، فإنّ ما يقوله العمري عن المفتاح لا يلزم عنه ما يروم إثباته: إنّ تحويل تلك العوالم الواسعة الخلّاقة إلى بيان، تدلّ على أنه صيّرها جافّة وقاحلة لا مبتورة وناقصة!

خاتمة:

والخلاصةُ أنّ السّكاكي لم يحوّل الغرابة والعدول إلى بيان، ولم ينزّل البيان من المنزلة الّتي أحلّه فيها الجرجاني الّذي جعلَه نصفَ البلاغة، ولم يحوّل العوالمَ التّخييلية إلى مجرّد معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة، بالزّيادة في وضوح الدّلالة عليه والنقصان. والعمري يحتاج إلى إثبات صدق هذه الأحكام، ولا سبيل إلى ذلك بالاستناد إلى بنية المفتاح وعلاقة المفتاح بـ"أسرار ودلائل" الجرجاني، وبغيرهما من أعمال البيانيّين ممّن سبقوه. ثُمّ إنّه، وحتّى على فرض التّسليم بقيام السّكاكي بهذه التّحويلات، فإنّ ذلك لا يلزم عنه أيّ اختزال، فالتّحويل من كذا إلى كذا، وإنزال كذا من كذا إلى كذا تغييرٌ يمسّ صورة المحوّل ومرتبته على التّوالي، لا أكثر. ولنا عودةٌ، بعد المقالة الّتي تلي هذه، إلى البيان لتوضيح بعض المغالطات التي يُسْقِط فيها العمري طوائفَ قرّائه، خاصّة الطّلبة والتّلاميذ الّذين يصرّح أنّ مناقشته لزميله توسّعت لـ"صالحهم"!

***

البشير النحلي

...........................

المصادر والمراجع:

- ابن خلدون: المقدمة، تحقيق حامد أحمد الطاهر، دار الفجر للتراث- القاهرة، ط.1، 2004.

- أحمد مطلوب: البلاغة عند السكاكي، منشورات مكتبة النهضة- بغداد، ط.1، 1964.

- عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، ط. 1،1991.

دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.

- محمد العمري: • البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا الشرق، 1999.

المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا الشرق، 2017.

هوامش

(1) مفتاح العلوم، ص.524.

(2) بالتمييز بين المنطلق القرائي والتوثيقي انتقد العمري من كانوا أواخر الستينات "يفتون" بأن العرب لم يفهموا كتاب فن الشعر لأرسطو، ويستدلون على ذلك بترجمتهم للتراجيديا بالمدح والكوميديا بالهجاء!. أنظر: محمد العمري: البلاغة العربية، ص.223، 224، 225.

(3) مفتاح العلوم، ص.39.

(4) نفسه، ص.40.

(5) أنظر: البلاغة العربية، ص.5؛ وانظر: المحاضرة والمناظرة، ص. 11. ولمحمد العمري غيرة كبيرة على الطلبة والتلاميذ؛ ينهي نصحه لرشيد يحياوي بعرض ما يكتب على "من له قدم راسخة في البلاغة قبل أن ينشره" قائلا: «فالانتصار على العمري، أو على من هو أعلم من العمري، أو أظلم (إن تصور أن نقدي لكتابه ظلم) لا قيمة له أمام إفساد عقول الأجيال بكلام يجافي الحقيقة «؛ نفسه، ص. 180.

(6) المحاضرة والمناظرة، ص. 17.

(7) نفسه، ص.13، 14، 15، 16. وانظر صيغة "المؤسس الحقيقي" في الهامش 1 من الصفحة 14.

(8) - أسرار البلاغة، ص.4-5.

(9) - دلائل الإعجاز، ص.3.

(10) مقدمة رشيد رضا لكتاب: أسرار البلاغة؛ ضمن مقدمة محمود محمد شاكر لنفس الكتاب بتحقيقه، ص.11.

(11) نفسه، نفس الصفحة.

(12) نفسه، نفس الصفحة.

(13) المحاضرة والمناظرة ص.17.

(14) يقول ابن خلدون مثلا: «ثمّ لم تزل مسائل هذا الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفا من التّرتيب، وألّف كتابه المسمّى بالمفتاح في النّحو والتّصريف والبيان، فجعل هذا الفنّ من بعض أجزائه «!، أنظر: المقدمة ص.708.

(15) المحاضرة والمناظرة ص.17.

(16) يقول اللساني المدقّق أحمد المتوكّل في سياق توضيحه لأنواع الإسقاط ودرجاته واتجاهاته: «أما إسقاط التقويم فأن تنتقد نظرية ما سلبا أو إيجابا إنطلاقا من نظرية أخرى«، أنظر: المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، ص.169.قلتُ: وأقبح من إسقاط التقويم الذي يوضحه أحمد المتوكل، أن يكون ذلك الإسقاط معتمدا تفاريق أفكار لا تعود لأي نظرية محددة، وهو ما يجعل أحكامه مطلقة ودون ضفاف، أي أقوالا عامية ضارة من كل وجه.

(17) المحاضرة والمناظرة، ص.17.

(18) البلاغة العربية، ص. 487.

(19) نفسه، ص. 487.

(20) نفسه، ص. 488.

(21) من الآراء التي تتكرر عند الكثيرين ممن يستند إليهم العمري والتي يُعبّر عنها أحيانا بطرقٍ غاية في السخف ما ورد في كتاب "البلاغة عند السكاكي": «ولكن السكاكي لم يأخذ برأي عبد القاهر –كما يبدو- مع أنه تسلط على كتابيه «أسرار البلاغة« و«دلائل الإعجاز « وجردهما من النزعة الأدبية، وأحالهما هياكل بتقسيماته وتبويبه« (التشديد مني). أنظر: أحمد مطلوب: البلاغة عند السكاكي، ص. 145.

(22) المحاضرة والمناظرة، ص.90.

(23) نفسه، ص.18.

(24) انتبه العمري نفسه إلى ذلك وألح عليه في سياق آخر. ومما قال: «قد يجد بعضنا صعوبة في تعميم المفهوم الانزياحي على كل الصور البلاغية التي يضمها علم المعاني والبيان«، أنظر: البلاغة العربية، ص.494.

(25) يقول في أسباب بعد التشبيه وغرابته: « وكلما كان التركيب، خياليا كان أو عقليا، من أمور أكثر كان حاله في البعد والغرابة أقوى «، وقال أيضا، في سياق قبول التشبيه ورده، «هذا وإنك متى تفطنت لأسباب قرب التشبيه وتقارب مسلكه، وكذا لأسباب انخراطه من القبول في سلكه، تفطنت لأسباب بعده وغرابته، ولأسباب رده لرداءته، ولن يذهب عليك أن مقرب التشبيه، متى كان أقوى، كان التشبيه أقرب، وكذا مبعده، متى كان أقوى كان أغرب، وجرى لذلك في شأن قبوله ورده، على نحو مجراه في شأن قربه وبعده «أنظر: مفتاح العلوم، ص.461،462،463 على التوالي.

(26) مفتاح العلوم، ص.542-543.

(27) نفسه، ص.544.

(28) المحاضرة والمناظرة، ص.18.

(29) نفسه، ص.18.

 

طبقا للصحفي مينكين H.L.Mencken، كل مشكلة معقدة لها حل واضح وبسيط وخاطئ. كتاب لغز العقل: نظرية جديدة للفهم الانساني للكاتبين عالِم الادراك هوغو مرسير ودان سبيربر خُصص لإختبار مثل هذه المشكلة وحلها. المشكلة في السؤال هي، لماذا يطورالكائن البشري القدرة على التفكير؟ الحل، الذي دافع عنه الفلاسفة طوال التاريخ ومعظم علماء النفس اليوم هو، ان "العقل تبدو له وظيفة واضحة وهي لمساعدة الافراد في انجاز أكبر قدر من المعرفة واتخاذ قرارات جيدة بأنفسهم" (ص175).

الهدف من كتاب لغز العقل هو لبيان لماذا يفشل هذا الحل، ولماذا يكون توضيح بديل آخر هو الأفضل. اذاً ما هو الشيء الخطأ في الفكرة التقليدية بأن "مهمة التفكير هي لمساعدة الافراد في انجاز معرفة اكبر وعمل قرارات جيدة" (ص4)؟ في الحقيقة، نشير هنا لشيئين هامين. الأول هو ان التوضيح التقليدي يجعل العقل قوة عظمى دارونية حقيقية، ومكافأة واضحة لكل حيوان يعيش في أي بيئة. انه ليس كالقدرة على تحديد الموقع باستخدام الصدى، والتي هي قدرة مفيدة فقط للحيوانات التي تعيش في بيئة قليلة الضوء كالخفافيش، ولكن بمزيد من الرؤية، التي تطورت بشكل مستقل والتي هي مفيدة في نطاق واسع من البيئات. لماذا اذا،لم يطوّر أي حيوان آخر قدرة على التفكير بنفس المستوى؟ لماذا تطورت هذه القدرة المفيدة فقط مرة واحدة؟ "ان فهم لماذا عدد محدود من الكائنات فقط لديها  قدرة تحديد المواقع بالصدى أمر سهل". يكتب الكاتبان  ان "فهم لماذا الانسان فقط  لديه عقل هو مسألة أكثر صعوبة" (ص2). الصعوبة الثانية هي انه اذا كان الانسان طوّر قدرة على التفكير لكي يساعد نفسه بشكل أفضل في عمل القرارات، فلماذا لا نعمل قرارات جيدة؟ الدراسات السايكولوجية الواحدة بعد الاخرى أظهرت ما يعرفه معظمنا من التجربة: ان "عقل الانسان هو متحيز وكسول ايضا. متحيز لأنه يجد دائما تبريرات وحجج تدعم وجهة نظره، وكسول لأن العقل يعمل القليل من الجهد في تقييم نوعية التبريرات والحجج التي ينتجها" (ص9). الكاتبان يستنتجان ان "العقل كما فُهم هو لغز مزدوج. هو ليس آلية ذهنية عادية وانما هو قوة عظمى ادراكية وهبها التطور فقط لنا كبشر. واذا لم يكن لغزا كافيا، فان هذه القوة العظمى ستبدو معيبة باستمراريتها في تضليل الناس. هل حقا العقل، هو القوة العظمى المعيبة.؟"(ص4). ان الهدف من كتاب لغز العقل هو لتطوير "فهم علمي جديد للعقل، يمكن فيه حل اللغز المزدوج". الكاتبان يسعيان لبيان ان العقل، "بعيدا عن كونه اضافة ادراكية غريبة، هو قوة عظمى وُهبت للانسان بفعل شذوذ تطوري غير محتمل، تنسجم تماما بشكل طبيعي مع القدرات الادراكية الاخرى للانسان، وبالرغم من الدليل الظاهر المضاد لذلك، فهي تكيفت جيدا مع وظيفتها الحقيقية" (ص5). لذا هما يأملان توضيح  لماذا الانسان فقط طور قدرة التفكير، وماذا يعمل العقل بالضبط لنا.4706 عقل الانسان

ما هو العقل حقا؟

لكي يقوم الكاتبان بهذا هما اولا يجب ان يعرّفا ما هو العقل بالضبط. طبقا للكاتبين، العقل يجب اعتباره كـ "عنصر واحد للاستدلال من بين العديد من العناصر" (ص328).

كل الحيوانات تستفيد من الاستدلال، الذي يُعرّف كـ "استخلاص معلومات جديدة من معلومات متوفرة سلفا" (ص53). حين يرى او يشم الحيوان النباتي،مثلا، نوعا من النبات، ويستنتج ان النبتة نوع من الطعام او سم، فهو يمارس الاستدلال. الحيوان الذي لا يستطيع الاستدلال ستكون حياته قصيرة جدا.

هذا لا يعني ان البقرة ترى العشب وتظن مع نفسها، "انها تستطيع تناول ذلك العشب". معظم الاستدلال الذي يتم بواسطة الحيوانات هو غير واعي. في الحقيقة، الاستدلال الواعي هو الاستثناء وليس القاعدة. ولكن بين الوعي الكامل والاستدلال اللاواعي بالكامل تكمن منطقة رمادية هامة، يقع ضمنها الحدس. فمن جهة، "محتوى الحدس هو واعي". ولكن من جهة اخرى، "المرء لديه القليل من المعرفة او لا معرفة بأسباب الحدس، ولكن من المسلم به وجود أسباب جيدة بما يكفي لتبرير الحدس، على الأقل بمقدار معين" (ص66). بكلمة اخرى، البداهة تخبرك لتؤمن بشيء – انها عادة تخبرك به بثقة تامة حتى عندما تكون مخطئة – لكنها لاتخبرك لماذا انت يجب ان تعتقد بها. الكاتبان يصفان البداهة كـ "جبل جليد ذهني: نحن ربما نرى فقط القمة لكننا نعرف ان تحت السطح هناك الكثير منها، والتي لا نراها" (ص7).

العقل عادة يتعارض مع البداهة، حيث يُعتقد انهما مختلفان جوهريا – وحتى متضادان – بطبيعتهما. هذا خطأ كما يرى الكاتبان، لأن العقل هو في الحقيقة شكل متخصص من البداهة: "العقل"، كما يكتبان،"هو آلية للاستدلال البديهي حول نوع من التمثيلات، أي الأسباب" (ص7). العقل يعطيك حدسا بأن (س) سبب للاعتقاد بـ (ص). انه لا يعطيك سببا لماذا (س) سبب للاعتقاد بـ (ص). وتفكير آخر، بالطبع، قد يُظهر هكذا سبب، لكن اذا ظهر فعلا،فان ذلك السبب الآخر سيكون هو ذاته حدسا.

يرى الكاتبان اذا كنا لا نستطيع الاعتماد على بداهتنا حول الأسباب، يجب ان يكون لدينا سبب (ج) للاعتقاد ان (س) هو سبب لـ (ص)، ومن ثم سبب (ق) للاعتقاد ان (ج) هو سبب للاعتقاد ان (س) سبب لـ (ص)، وهكذا الى الأبد. وكما يلاحظ الكاتبان، هذه مفارقة استكشفها ليوس كارول Lewis Carroll في ورقة ساخرة بعنوان "ماذا قالت السلحفاة الى أخيل" (ص131-132). يرى الكاتبان ان "التفكير ليس بديلا للاستدلال البديهي، التفكير هو استعمال الاستدلال البديهي حول الأسباب" (ص133). لذا السؤال يصبح، لماذا الانسان وليس أي مخلوق آخر يطور هذه المقدرة؟

مجتمع العقل الانساني

كما لاحظنا، الجواب على سؤال لماذا يطور الانسان مقدرة على التفكير لا يمكن ان يكون لأن العقل يساعد الافراد في طرح استدلال أفضل. لأنه اذا كان الامر هكذا، نحن سوف نكون جميعا أفضل به الآن. بدلا من ذلك، "العقول هي بالأساس للاستهلاك الاجتماعي" (ص127). اي، ان العقول، طبقا للكاتبين تخدم وظيفتين اجتماعيتين رئيسيتين – وظيفة تبريرية justificatory function ووظيفة جدالية argumentative function. الوظيفة التبريرية تبرز لأننا دائما نهتم بما يفكر به الآخرون عنا. اذا كان الآخرون يثقون بنا ويتعاونون معنا، فانهم يحتاجون معرفة لماذا نحن نقوم بما نقوم به. التفكير الواعي يجعل بالإمكان ان نوضح انفسنا للآخرين وتقييم التوضيحات التي يعطيها الآخرون لنا حول سلوكهم . وكما يقول الكاتبان، "إعطاء اسباب لتبرير المرء والوصول للأسباب التي يعطيها الآخرون هي اولا وقبل كل شيء طريقة لبناء السمعة ولتنسيق وترتيب التوقعات" (ص143).

وظيفة المحاججة تُعتبر هامة لأننا نهتم بما يعتقد ويعمل به الآخرون. نحن عادة نحب ان يعملوا اشياءً نريدها، او يشتركون بعقيدة معنا، لكنهم ربما لايميلون للقيام بهذا. لذلك فان المحاججة تساعدنا لنكون قادرين لإعطاء الناس اسبابا لماذا هم يجب عليهم الموافقة معنا. والعقل ايضا يساعد الناس في تقييم الاسباب التي تُعطى لهم، والاّ، سنكون اداة طيّعة في أيدي أي سارق محترف. ولهذا، التفكير الواعي له "وظيفة محاججة مزدوجة: للمتصل، التفكير الواعي وسيلة لإنتاج حجج لكي يقنع جمهورا يقظا، وللجمهور، يكون التفكير الواعي وسيلة لتقييم هذه الحجج وقبولها عندما تكون جيدة او رفضها عندما تكون سيئة" (ص288).

لذلك، يرى الكاتبان، ان العقل هو "اولا وقبل كل شيء كفاءة اجتماعية" (ص11): "نحن نطرح اسبابا لكي نبرر افكارنا وأفعالنا للآخرين ولإنتاج حجج لإقناع الآخرين ليفكروا ويعملوا كما نقترح. نحن ايضا نستعمل العقل لا لتقييم افكارنا بقدر ما هو تقييم الأسباب التي ينتجها الآخرون لتبرير أنفسهم او لإقناعنا" (ص7). هذه النظرية، طبقا للكاتبين، توضح تماما الطبيعة الغامضة المزدوجة للعقل. لماذا الانسان وليس المخلوقات الاخرى تطور مقدرة على التفكير؟ ذلك لأننا حقا اجتماعيين بشكل استثنائي. لا مخلوق آخر منشغل في مستوى التنسيق الاجتماعي المعقد الذي كان يمارسه الجنس الانساني منذ ايامه الاولى. هما يوضحان "العقل هو تكيّف لـ المكانة المفرطة اجتماعيا التي بناها الانسان لنفسه"، (ص33).

النظرية ايضا تخبرنا لماذا أثبت الكائن البشري المنعزل انه سيء جدا في التفكير الواعي: لنفس السبب حين أثبت الناس انهم سيئون في التنفس تحت الماء. "في اتجاهنا التفاعلي، الظروف الطبيعية لإستعمال التفكير هي اجتماعية، وبتحديد اكثر هي حوارية. خارج هذه البيئة، لا ضمان هناك بان التفكير يعمل لمصلحة صاحب التفكير الواعي، وهذا لا يعني ان التفكير معيب، ببساطة انه اُخذ خارج ظروفه الطبيعية" (ص247). الناس عادة يكونون بارعين جدا في استدعاء بعضهم لتقديم حجج سيئة والانخراط في تفكير كسول. في الحقيقة، المجموعة العلمية طورت هذه الممارسة الاجتماعية لمستوى عال: انها هي التي جعلت بإمكان تلك الجماعة الحصول على المعرفة الرائعة. اذا لم يطلب الناس منهم توضيحا عندما يخطئون، فانه حتى أرقى الأذهان العلمية قد تذهب في أوهام مؤلمة . كان لينوس بولنك Linus Pauling وهو الشخص الوحيد الذي ربح جائزتي نوبل، لديه قناعة غريبة بان فيتامين C قد يمنع السرطان – وهو الايمان الذي لم يتخل عنه حتى بعد تشخيصه بالسرطان (ص205-207).

هناك الكثير مما يقال حول كتاب غموض العقل، انه كتاب ثري ومعقد لدرجة انه جمع عددا كبيرا من الأدلة العلمية والفلسفية، في الختام سنشير لملاحظة فلسفية . الكاتبان يقولان ان أول فيلسوف غربي عظيم، فهم الطبيعة الاجتماعية للجدال جيدا هو سقراط، وبالنسبة للفلاسفة المبكرين مثل افلاطون، "يمكن النظر الى التفكير السقراطي كتفكير بامتياز" (ص197). مع ارسطو اتخذت الفلسفة اتجاها مختلفا وفر صورة جديدة للمفكر المنطقي الشائع: "بدلا من محاولة سقراط إقناع محاوره والمحاور يفهم قوة الجدال السقراطي، نموذج التفكير الواعي جسّد تفكير العالمِ المستقل للوصول لفهم افضل للعالم" (ص198). لذا اذا اريد الايمان بصحة رؤية الكاتبين، ولو اردنا ان نفهم العقل بشكل صحيح، سنحتاج لنكون سقراطيين أكثر مما نكون ارسطيين.

كتاب لغز العقل: نظرية جديدة للفهم الانساني، للكاتبين Dan Sperber وHugo Mercier صدر عن دار Allen Lane عام 2017 في 416 صفحة.

***

حاتم حميد محسن

"قراءة في كتاب الباحثة الاجتماعية الاميركية كيت ميرفي المعنون / أنت لا تُصغي"

لم يعد خافيًا على أحد منّا أن تقنية الاتصالات الحديثة تؤمّن للجميع تواصلًا اجتماعيًا افتراضيًا موسعا الى حدود أبعد مما نتخيّل، لكنها في جانبها السلبي تمنع الناس القريبين مثل العائلة والأصدقاء الحميمين والأحبة من الإصغاء الى بعضهم البعض حين يلتقون في البيت او المقهى او النادي أو أيّ محفل اجتماعي واقعيا.

لسنا وحدنا في مجتمعاتنا من نعاني من هذا الانفصام المجتمعي فقد أكدت السيدة الباحثة الاجتماعية الاميركية " كيت ميرفي " في كتابها / انت لا تصغي " You’re Not Listening"

إنه وباء التكنولوجيا الذي يبعد القريب ويقرّب البعيد وعَمِدَت إلى تسليط الضوء على أمور مهمة باتت تشكل تهديدًا على قوام المجتمع وترابطه بشكل عام، وفي مقدمة هذه الأمور مسألة انفراد الأشخاص بهواتفهم المحمولة وانعزالهم عن المحيطين بهم بصورة تدعو حقًا إلى التمعن والذعر من انفكاك الروابط الاسرية والاجتماعية.

حرصت ميرفي على إبراز المشكلة وتحليلها في فصول الكتاب، وعلَّقت في هذا السياق بقولها:

" أضحى الناس في المقاهي والمطاعم وعلى موائد الطعام العائلية يميلون إلى النظر إلى هواتفهم المحمولة بدلاً من التحدث وحتى إن تحادثوا، تجد هواتفهم موضوعة على المائدة كأنها جزء من الجلسة "

كان الناس في أوقات خمولهم أو قلقهم يقومون بتدخين سيجارة، لكن الوضع تغيّر الآن، وبات أول شيء يفكرون فيه هو استخدام هواتفهم ؛ وكما هي الحال بالنسبة إلى المدخنين مع السجائر، بات الناس يشعرون بالقلق من دون هواتفهم مما يدلل خطورة تداعيات ذلك التحول المجتمعي، مستندة في ذلك إلى كثير من الإحصاءات والنتائج البحثية من أجل إقناع القراء بأنهم ينحدرون عبر تلك العادة السيئة بشكل غير متعمد إلى واقع مرير جدا.

فإن الإحصاءات تبيّن أن متوسط الوقت الذي كان يخصصه الناس للإنصات إلى بعضهم في أوقات استيقاظهم على مدار القرن الماضي تراجع بحوالى النصف، من 42 إلى 24 في المئة. كما لفتت الباحثة في كتابها إلى نتائج استطلاع شمل عشرين ألف أميركيًا في عام / 2018 فكيف الحال الان ونحن على وشك مغادرة العام / 2022.

وكشف الاستطلاع ان حوالى نصفهم اعتبروا حياتهم بلا أي تفاعلات اجتماعية ذات معنى، تزامنًا مع تراجع متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة بسبب الانتحار، وإدمان المواد الأفيونية، وإدمان الكحول وغيرها من الأمراض التي تعرف بـ " أمراض الكرب أو الحزن "، والتي غالبًا ما يتم الربط بينها وبين الشعور بالوحدة.

لفتت ميرفي بقولها إلى أن الشعور بالوحدة يؤثر بشكل سلبي في واقع الأمر على صحة الإنسان مثل تأثير تناول المشروبات الكحولية باطراد أو التدخين المتواصل يوميًا.

وأكدت ميرفي على إبراز فكرة التغيير الذي طرأ بشكل واضح على تركيبة المجتمعات، بالصورة التي تدعو إلى عدم إنكار حقيقة أن ولعنا بالهواتف المحمولة بات يسلب الكثير من الوقت الذي كنا نمضيه سابقًا في الإنصات إلى الأشخاص الذين نشعر بالقرب منهم.

كما إن الهواتف المحمولة ليست وحدها التي تسببت في تدمير قدرتنا على الإنصات، بل إن هناك عوامل أخرى في مقدمتها تلك الثقافة التي تعرف بـ " ثقافة التسويق الشخصي العدواني "، حيث يلتزم فيها الجميع الصمت إزاءها.

فالإنصات إلى الآخرين، وفق هذه الثقافة، يعني تفويت فرصة لدفع علامتك التجارية إلى الأمام ووضع بصمتك، وغالبًا ما ينظر إلى الاستماع على أنه النظير الوديع للتحدث. ونتيجة للصخب الكبير الذي بات يهيمن على العالم الآن، ربما بات يشكل الإنصات تحديًا بدنيًا بشكل متزايد، فمستويات الصوت على سبيل المثال تقدر في المتوسط الآن بـ 80 ديسيبل في المطاعم بالولايات المتحدة، كما تصل مستويات الصوت في متاجر، مثل " إتش آند إم " و" زارا " إلى 90 ديسيبل. فضلًا عن تحذيرات منظمة الصحة العالمية من سوء استخدام المراهقين لسماعات الرأس بشكل شبه مزمن وتأثير ذلك سلبياً على حاسة السمع لديهم، وهو ما وصفته ميرفي بـ " صمم الأجيال ".

تقول ميرفي متمنيةً عودة الكتاب بدل الهاتف واللوح الالكتروني بأيدي الملأ، إذ إن الكتاب سيساعد القراء على تحويل محادثاتهم وعلاقاتهم وحياتهم الى الحميمية الاجتماعية ؛ مقدمةً نصيحتها في السياق نفسه إلى الأمهات في المنازل بأن يستبدلوا نوعية الأسئلة السريعة التي يطرحونها على أطفالهم لدى عودتهم من المدارس بأسئلة أخرى تحمل بين طياتها قدرًا أكبر من الاهتمام، لتوطيد العلاقة وإعادة لغة التحدث والإنصات في نطاق الأسرة بعد تآكلها بسبب التكنولوجيا اللعينة هذه.

لكن، قد يختلف البعض حول طبيعة الحلول التي اقترحتها ميرفي في الكتاب، إلا أن المؤكد أنها تمكنت من تشخيص المشكلة وتحديدها بشكل صحيح، مع قولها في فصل كتابها الأخير:

" يصعب التركيز على العالم الحقيقي ونحن منشغلون بالعالم الافتراضي. والتكنولوجيا في تصوّرها لا تحبذ ولا تتداخل بهذا الشكل الكبير مع الاستماع الى الغير المقرّب منا إلى الدرجة التي تجعله يبدو غير ضروري ولا داعي له طالما لوحك الالكتروني أو هاتفك يلازمك كل حين ".

***

جواد غلوم

 

للفيلسوف اليمني البروفيسور قاسم عبد المحبشي.

أجمل ما في الصدفة أنها خالية من الإنتظار، فهل تظل الشعوب العربية رهينة الصدفة، أم سيشغلها الانتظار؟

فيما يشبه التوطئة:

الأحلام تبقى أحلاما طالما لا تؤلمنا ولا تسعدنا عند استئناف الواقع، فالحزن كل الحزن على ما تمنيناه ولم يحدث، أو حدث مرة واحدة وما كنا ندري انه لن يتكرر. ونبقى قيد الطمع في أن يتكرّر، فيدخل حيز الانتظار، فحتى لا نصاب بالغرور في طلب مايفوق سقف المتاح، وحتّى لا تكلّل تطلّعاتنا بالخيبات نلجأ إلى مكابح المطالب.. فنجعل كل احلامنا بمقدار ونسم تمنياتنا بما يشبه الانتظار..

من المبالغة النقدية والفكرية، أن تحاول نقد  مرحلة زمنية موبوءة من عمر الوطن والأمة، أو محاكمتها، عبر نصوص مكتوبة، أٌثقِلت بالأسقام والشجون، لتحكي تجربة عشتها بكل تناقضات المشاعر، وأبصرتها بعين المحب المفكر الفيلسوف في حين رآها غيرك بعين الطامع الراغب الملهوف، هو ذاك ما حدث مع شخصيتنا اليوم والتي نحن بصدد تسليط الضوء عليها. إنّه الفيلسوف العربي اليمني البروف " قاسم المحبشي " أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة في جامعة عدن باليمن. من خلال مؤلّفه  الجديد "فيما يشبه الانتظار" الصادر عام 2021م عن دار الشواهين بالقاهرة، وإذا قلنا اليمن فسترتسم الصورة الزاهية في ذاكرة التاريخ، أرض الجنتين تلك، الصامدة الشامخة شموخ جبالها،  ابن سبأ،وبلقيس له جسد يسري في أرض الكنانة أما اليمن فهو القلب والشريان، هو الحياة والوريد الذي يستمد منه قوة استمراره وغاية صموده وأمانه. لو سألته لقال:الفل بكل أشكاله يزهر في اليمن، اليمن بلد الزهور الجميلة، وبلد الحياة، والنشأة السعيدة، رغم أنها أحلام هاربة. عاش وعايش فيها آلام وطنه وآماله،  فراح يمنّي نفسه بالظفر بحلول مؤجلة لمشاكل عالقة في وطنه الأم والوطن العربي، يخدم فكرته النقدية في تفريغ اليقظة من مضمونها المتعمّق، ويؤصل للتناقضات الداخلية المزعومة، ليحقق نظرية التوجس والظنون الطاغية على ما أشيع أنها أفكار مطلقة، ويجعلك تفهم الحدث من منظومة الصفات الصانعة للتصور، لتدرك أن التنوير  حدث سيميائي ذهني يتم بناؤه عبر العلامات وليس المقولات، مما يجعله صيغة ثقافية واستجابة ظرفية، وبما أنه كذلك فإنه لا يختفي، ولكنه يبدل علاماته حسب المتغير الظرفي كما سنرى لاحقا.هذا ما يدفعنا لتأويل نصوص الكتاب بدءا بالعنوان. نصوص الكتاب أغلبها مقالات تنظيرية وشقها الآخر واقعي يعكس تجربة عاشها مفكرنا وعرضها عبر ملخصات فكرية سردية، فاستعرض سجالا متكافئا بين قلبه وعقله، وكون فيلسوفنا شاعرا طغت المشاعر لديه وسعت لقولبة العاطفة المتمرّدة لديه في قوالبها، فوضعته في حالة مدّ وجزر بين عقله وقلبه، فكانت فلسفته مقاربة ذكية تتماهى فيها العلوم والفنون والنظريات لتحلّ بالفلسفة وتؤثر فيها وتتأثر بها، وفيما يشبه البوح. يبدو جليا أن مفكرنا خاض في أهم القضايا الفكرية الفلسفية. فكانت. مقالات نشرت في كتاب بعنوان " فيما يشبه الانتظار.. قضايا وأفكار " هي كلمات جامعة تدور حول أغراض مختلفة الأدب والدين والفكر والأخلاق والاجتماع. عرضها ضمن محطات إرجاعية بعناوين ومضامين هامة. أهمّها " الفلسفة وحب الفن " ــ  " الثورة بين المفهوم والسياق " ــ  " تشكل النخبة " ــ نحن نصنع التاريخ ــ ضرورة النقد ـ قضايا المرأة بين الهوية واللون ـ اشكالية اللغة بين المشافهة والكتابة ـ ومقالات بين الوطن الإرث (اليمن) والوطن المكسب (مصر). وكثير من المؤتمرات واللقاءات التي سنشير إليها ضمن الدراسة. لذلك أحاول في هذا المقال قراءة وتوطئة لكتاب مفكّرنا، سائلة الله التوفيق في مقاربة غاياته، راجية أن يجعله الله للحق لسانا يمحق به الباطل. وينير به العقول الضالة.

ــ  فينومينولوجيا العنوان.. فيما يشبه العتبة:

العنوان هو المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليها لكشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلك العنوان،كونه يمارس الاستمالة والاقناع والاختزال والكناية والتلميح، ذلك أن انفتاح النص يرتبط بالعنوان كونه عتبة تؤدي فاعلية قصوى في إدراكه. فهو البوابة الأولى التي تضيء للقارىء طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، إنّه مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي. الأمر الذي يشدّ القارىء الى ولوج المتن،واستطعام الكلام وفهمه. إلا أنّ الحديث عن العنوان ارتبط بالناقد الكبير جيرار جينت، الذي يعدّ صاحب الجهد الكبير لهذا المصطلح وقد عرفه بقوله: "هو ما يصنع به النص من نفسه كتابا ويفرض ذاته بهذه الصفة على قرّائه وعموما الجمهور أي ما يحيط بالكتاب من سياج أولي وعتبات بصرية ولغوية"(1). سليمة لوكام شعرية النص عند جيرار جينيت من الاطراس الى العتبات، مجلة التواصل المركز الجامعي سوق أهراس ع 29 2009 ص 38

وكقارئة مهتمة جذبني العنوان وشدّني الفضول حتى صرت لا اطيق صبرا لقراءة النص، فهو عنوان ارتدادي خرج من صلب النص ومكوناته الأساسية، فالقارئ يجد فيه تلخيصا عجيبا وقدرة في الاختزال اللغوي فقد اختصر النصّوص بكلمتين: " فيما يشبه الانتظار ". تتلخص كل الحكمة الإنسانية في كلمتين: الانتظار..  والأمل. الانتظار له محنة والأمل فيه منحة، في الانتظار تتمزّق أعضاء الأنفس،  ويموت الزمن وهو يعي موته، لكنّه شبه انتظار،  والمستقبل يرتكز على مقدّمات واضحة ولكنه يحمل نهايات متناقضة، فهو بذلك شبه يقين. في انتظاره  هوس برصد الاحتمالات الكثيرة. يشير كاتبنا أنّنا نعيش لنهتدي إلى الحق والخير والجمال وكل ما عدا ذلك هو لون من ألوان الانتظار.آمالنا وآلامنا نسبيان، النسبية تغزو حياتنا،  فنظرية النسبية التي تعلمناها في المدارس والجامعات لا تقتصر على ظواهر الفيزياء فقط، وإنما تغزو كل مجالات حياتنا. فكل ما حولنا في هذه الحياة هو نسبي، فالجمال والقبح، الذكاء والغباء، القوة والضعف، السيادة والعبودية، المعرفة والجهل، والسعادة والضنك، وحتى القيم الإنسانية والمُثل كلها نسبية، وباختصار فإن كل ما هو ضمن حدود إدراكنا البشري المتواضع يعتبر نسبيا.

يوحي لنا الفيلسوف أننا نملك أوطانا وجودها فينا حقيقة ووجودنا فيها شبه انتظار أن نحبّ أوطاننا حبّا خالصا، حبّ هو  المحك، وليس ادعاء للحصول على مطامع شخصية أو سبيلا لنيل أهداف ذاتية، وكأن الدكتور محبشي يريد أن يصرخ عاليا، أن أحبّوا أوطانكم من دون رفع الشعارات الجوفاء التي ظاهرها الولاء والحب وباطنها حاجة في نفس يعقوب، وليكن حبكم لها بفرض الانتماء الحقيقي إليها، والسعي على نشر السلام في ربوعها، والمساعدة على إقامة الأمن فيها من أجل تعايش مسالم بين جميع أطياف أبنائها، مع الحرص على النضال والتضحية في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونصرة المظلوم ورفض الظلم، ونبذ كل صور التسلط والعدوان الممارسة فيها بوسائل حضارية، ولتكن غايتكم تحريرها  من الفساد الذي يعدّ العدو الحقيقي له بعيدا عن فتح الثغرات والجبهات الجانبية التي تخدم مصلحة الذين يريدون السوء والشر لها. في ذات السياق يمكن لي ولكم فهم معنى كلمة ( فيما يشبه) التي أدمن كاتبنا إدراجها في عناوين مقالاته دون قصد. من خلال وفرة ما كتب، فيما يشبه الفرح، وفيما يشبه التهنئة، وفيما يشبه الاحتفاء، وفيما يشبه الاعتذار، وفيما يشبه الحياة، وفيما يشبه الوطن، وفيما يشبه الأمل،  وفيما يشبه الحرية، وفيما يشبه الشعر، وفيما يشبه الحب،وفيما يشبه الحلم، وفيما يشبه التفكير، وفيما يشبه الحزن، وفيما يشبه المؤسسات وفيما يشبه الجامعة، وفيما يشبه المدينة، وفيما يشبه الثورة، وفيما يشبه الدولة وفيما يشبه الثقافة، وفيما يشبه البشر، فيما يشبه الجيوش وفيما يشبه الصلاة وفيما يشبه الحرب، وفيما يشبه الثقة، وفيما يشبه الصدق، وفيما يشبه العلم وفيما يشبه الحقيقة..  الخ. نعم كتبها في عناوين مقالاته المنشورة. ولم يكن على دراية واعية بحضورها الكثيف هذا. وربما يعود الفضل لأخيه صالح،  الذي استفزّه بسؤاله التلقائي،وجعله يتفحص الدلالة في هذا العبارة العالقة بذهنه. إنّها نابعة من احساس عميق، بأنّ تلك الحياة التي نعيشها في هذه الأصقاع المسمّمة بالبؤس والخراب والظلام والخوف والجريمة ليست حياة طبيعية للكائن الإنساني. أنها فقط فيما يشبه الحياة، وجودنا فيما يشبه الوجود أحلامنا فيما يشبه الأحلام أفراحنا فيما يشبه الأفراح، لا شئ طبيعي وراسخ ويبعث على الاطمئنان والثقة والحلم والأمان في هذا الزمان.إنّنا نعيش في حالة وجودية عبثية تعي قوة التمييز والحكم. وتلك هي السّمة العامة التي تتّسم بها المجتمعات التي تضيق فيها حدود الحرية (حرية الضمير والفكر والعمل)، إذ يندر أن تجد فيها أشخاصا طبيعيين يتصرفون على طبيعتهم ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجيتهم الحقيقية، بل تسود ثقافة وقيم ازدواجية الشخصية بين الظاهر والباطن وتزدهر قيم التكلف والتزلف والنفاق والتملّق واللفّ والدوران، والكذب والأحقاد والضغائن والخيانات والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم والتفاهم والفصام وسرعة التقلب من حال الى حال والجمع بين المتنقاضات دون الشعور بالتناقض، وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم، واختلاط المعايير وغياب الحدود بين الغثّ والسمين بين الجيد والردئ، ويمكن للقارىء  تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياته  وتجاربه الشخصية.

هذا هو المحبشي في موقفه من القديم والجديد، يكتب نظريات فلسفته بحبر شرايينه، وليس الذي يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب، يطمح إلى الكمال في كل الأمور الدنيوية والأخروية بتوسط، فيصبو إلى ما يشبه الكمال، وينبذ النصفية فيما يشبه الوسطية، فلسفته براغماتية واقعية، تبحث عن فرصة لإعادة صوغ معطيات التاريخ والفكر والفلسفة والدين والتدين،و حتى اللغة والمبادىء العامة والأخلاق والفن والنخب ومواضيع المواطنة والمرأة والطفولة، كي نحصل في الأخير على حياة تستحق أن تعاش، بصرف النظر عن المكانة والمكان والإمكان غايته في ذلك أن يغير فكرنا في حياتنا بالإيجاب، وأن نجد فلسفة حياة تسعدنا وتغنينا عن التّبعية والخضوع، وعلى سبيل الانتظار، غايتنا الأسمى هي تنمية القدرة على الحياة ولن يتأتّى ذلك إلاّ بتنمية القدرة على التفكير، فراح يصوغ المفاهيم صياغة أكثر موضوعية وتفصيلا، عرّفنا من خلالها على الفن والفلسفة وعلى النخب وشروط قيامها، وعلى اللغة مشافهة وكتابة وعلى الوطن بتجلياته. ليصل في النهاية وفيما يشبه السعادة، أن الشقاء وليد الخيبات، والعدمية ليست سوى شقاء يؤدّي إلى اللاّمبالاة بالحياة، ولن نتخلّص من هاته الإحباطات سوى بإشغال الفكر من أجل كسب القدرة على العيش بأقلّ قدر ممكن من الآمال والأوهام، وأن نحيا ضمن الممكن فيما يشبه الحلم.

ــ جدلية النخبة والثورة وإدمان الفشل:

يشكل مفهوم النُّخبة منطلقا منهجيا في كل فهم واع  لحركة التاريخ الإنساني وما يحدث فيه من صيرورات وأحداث، ويعوّل عليه كثير من المفكرين في مقاربة التكوينات السوسيولوجية للمجتمع، كما يعدّ واحدا من المفاهيم السياسية العنيدة المتمرّدة التي تفرض نفسها على نحو إشكالي وتطرح نفسها في ميدان المقاربات السوسيولوجية على نحو يتميز بطابع الديمومة والاستمرار. لقد وظّف مفهوم "النخبة" تاريخيا كأداة منهجية لتحليل الأوضاع الاجتماعية في أكثر تجلياتها أهمية وخطورة،و إنّه من منطلق النظريات حول مفهوم النخبة التي أوردها الدكتور محبشي، استطعنا أن نسقط دلالات هذا المفهوم على ثلاثة نماذج للنخب في مجالات الثقافة والسياسة والدين، وهي النخب الأكثر أهمية ربما في توجيه الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. توغّل كاتبنا في  مفهوم النخب وماهيته ونظرياته وتجلياته السياسية والثقافية، فراح يقولب اشكالياته في تساؤلات ثلاثة:  ما النُّخبة ؟ وكيف نميِّز بين النُّخَب؟ وما هي الشروط الأساسية لوجودها وحضورها الفاعل؟. واسطاع فيما يشبه الاستطاعة أن يقدم الإجابات المناسبة عن هذه الأسئلة الحيوية التي تشكل محور معاناة المجتمعات العربية. حيث ألقى الضوء على مفهوم النخبة بصورة علمية بنائية وافية، كانت غايته فيها أن يوقظ غفوة الفرد العربي،  وأن يجد منطلقا لفهم الدور التاريخي والمجتمعي الذي تمارسه النخب في مجال الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. يوجّه الدكتور محبشي عناية المثقف العربي إلى تأدية الدور المنوط به في التغيير إلى الأحسن، ويناضل ببسالة في سبيل أن تؤدي النخبة ما يجب أن تؤديه، على نحو واسع في تحليل العمق الاجتماعي بما ينطوي عليه من إشكاليات وما يشتمل عليه من تقاطعات. والمتوغل في كلامه يدرك الجدل الذي يريد أن يثيره بين وجود النخبة فيما يشبه الوجود، وإدمانها الفشل في التغيير إلى الأفضل فيما يشبه الانسحاب من جوهر الدلالة لكلمة نخبة، ويصوغ ذاك الجدل في تساؤله: هل هزمت النخبة العربية ؟ (ص21)،  ويرى فيما يراه أن النخبة لا يجب أن تموت مبكّرا، حتّى ولو ماتت الشعوب التي أدمنت الفشل في ظل نخبها. وقد أكّد ذلك الجدل في عمق كلامه: " رُبَّما كانت مُهِمَّة النُّخَب العربية المثقفة اليوم هي مُهِمَّة مزدوجة: إذ عليها أن تعيد النظر في تنظيم نفسها في كتلة تاريخية متماسكة بما يجعلها قادرة على حمل الرسالة التاريخية في تجاوز أزمتها وأزمة مجتمعها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى الاطلاع بوظيفتها الأساسية في تنوير المجتمع وتنميته التنمية

الثقافية المستدامة. فالمثقف هو ذلك الشخص الذي يقاوم ويتصدَّى لتمثيليات

السلطات، والطعن بشرعيتها والتشكيك فيما يُسمَّى (بالروايات الرسمية)، ومداومة نزع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر المهيمنة، وتقديم صورة بديلة يحاول المُثقَّف فيها أن يكون صادقًا ما وسعه الصدق مع نفسه ومع غيره ومع حقائق الأشياء.. ".ص 26  "فيما يشبه الانتظار ".

ــ ديستوبيا ما بعد الثورات العربية:

إن الثورات هي الجنون الذي يبوح به المقهورين ويكتبه العقلاء. هذه الثورات ليست غضب جياع، بل إنّها ثورة أفكار، كانت بذورها في حالة سبات وأزهرت بعد حلول ربيع العقل وانصهار جليد الخوف، إذ لا  يتطوّر المجتمع إلاّ بتطور الفكر، ولا تطوّر لفكر إلا بالتغيير، ولا تغيير دون ثورة، ولا حريّة إلاّ معها، ولا إنسانيّة عميقة إلاّ في حضورها. والثورة التي يقصدها فيلسوفنا، هي الثورة الفكريّة العميقة التي تضعُ القيم الإنسانية ومبادئها موضع مساءلة وتفكير، وتُشرّح الواقع بكلّ ما يرزح تحته من فوضى ودماء وهمجيّة وعنف واستبداد. فكيف يمكن للثورة أن تقلب الثوابت وتغيّرها؟ وكيف لها أن تؤسّس للجديد؟ وهل يتمّ ذلك عبر الممارسة والفعل أم عبر العفويّة والتلقائيّة حدَّ الفوضى؟ وهل يجعلها ذلك تتلبّس بالفعل الفلسفي؟ أم هي مُجرّد ظاهرة إنسانيّة سرعان ما تذريها رياح النسيان؟

يفترض أن يكون للنخب دور محوري في صناعة الثورات وإحداث التغيير وقيادة الشعوب. إن حوصلة مايريد الدكتور محبشي الوصول اليه وترسيخه في بحثه هذا هو أهمّ، بل أخطر ما يمكن أن يستنبط ويطبّق، ببراعة عزف كاتبنا على الوترين الحساسين في منظومة محركات المجتمع (النخبة والثورة )، يريد ترسيخ فكرة أن لا تغيير إلا بالثورة ولا ثورة إلاّ بنضال ومصداقية مساعي النخبة، وهي الحلقة المفقودة لدينا على الأقل في المجتمعات العربية، يقول أنشتاين "لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس التفكير الذي اعتمدناه عندما خلقنا تلك المشاكل". ينطبق هذا القول بدقة على الثورات التي تكتسح العالم العربي. وحسب المحبشي، أخطر ما في الوضع أن بعض أسرار انتصار الثورات وعلى رأسها العفوية وغياب القيادة هي نفسها أكبر المخاطر التي تهددها، الأمر ذاته الذي حدث مع الثورات العربية، اذ لم تكن منطقية في شيء. فقد كانت عفوية وشعبية ومفاجئة، وأحدثت تغييرا سريعا، قبل أن تفرز قيادات تنهض بمرحلة ما قبل الثورة وما بعدها. ويذهب إلى أعمق من ذلك، فيرى أنّ النخب التي طالما خذلت شعبها وفشلت على مدى عقود في إحداث التغيير، وساهمت في تجمّد الأوضاع، وأصبحت جزءا من الواقع المطلوب تغييره بل باتت عقبة في طريق التغيير، تعود لتتصدر المشهد وبنفس العقليات والسلوكيات والمقاربات الفاشلة. ويوعز ذلك إلى غياب التخطيط من طرف النخبة. ويقدم الدكتور محبشي مقاربة فكرية عن الثورة والثورات العربية، تتجاوز المفهوم النّمطي الذي تناولته لحد الآن ثورة الشعوب العربية. فقد سعى إلى فحص عوامل ومسببات ونتائج ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن والجزائر.. " وقد خلّفت هذه الظاهر الاجتماعية «الثورية » التي لم يشهد لها تاريخنا العربي مثيلً حالةهائجة وصاخبة ومضطربة من ردود الأفعال والانفعالات والمشاعر والتصوُّرات والأفكار والعصف الذهني والاستفزاز المعرفي والجذب الحماسي. ومثلي، مثل غيري، تحمستُ بقوة، وأحسستُ بسحر الظاهرة، وحضورها الآسر على الأجساد والأذهان، فأخذت أردِّد مع الناس ومع نفسي كلمة «ثورة » تحت وهم الاعتقاد بأنَّني أعي تمامًا عمّا أتحدَّث!..  وحينما تساءلتُ: «ما هي الثورة؟،»

تلكأتُ، ولم أجد جوابًا، وعجزتُ عن صياغة تعريف لها، بل أحسستُ بأنَّني لم أكن على وعي وإدراك وفهم واضح ومقنع ودقيق لمعنى «الكلمة » التي طالما درجتُ لساني على قولها بدون تردُّد أو حذر، وفي غير مناسبة. واكتشفتُ وقتئذٍ جهلي السقراطي، وقِلَّة حيلتي المعرفية تجاه هذه «الكلمة الآسرة،»لكن ما شجَّعني أنَّ الاعتراف بالجهل هو الخطوة الأولى في طريق المعرفة، فأقرب الأشياء حميمية إلى التأمُّل المنهجي، وجعل وعينا النقدي في حالة يقظة باستمرار كي نتمكن من رؤية الأشياء التي نشاهدها كُلّ يوم على حقيقتها الواقعية، ونستطيع الإمساك بخيوطها ودلالتها المخفيّة والمتشظية. ورُبَّما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم الاجتماعيةو اعتبرها ثورات شعبوية بدأت بتفاقم الضغط الشعبي، وآلت إلى نفق مظلم، خيّبت آمال الشعوب لانّها تحوّرت من يوتوبيا ماقبل الثورة إلى ديستوبيا مابعد التّغيير المزعوم، ويوعز الدكتور محبشي ذلك إلى غياب دور النخبة وتغييب الفكر الفلسفي، في صنع النخب ويعتبر أن إيجابيات حركة التغيير الراهنة في الوطن العربي وسلبياتها ناجمة كلها عن عدم تفعيل نخبويتها..  فالمطلوب من الثورات فعلا ليس إزاحة أنظمة أو اسقاط هيئات بقدر ماهو مطلوب منها تغيير الإنسان في جوهره على مدّ أزمنة يكون فيها ملقّحا ضد خطورة التأثير والرّدّة. فما عاد يكفي أن نثور.. بل يجب أولا أن نخلق الإنسان الذي يحمي الثورة.. من هنا فنحن نعيش  ما يشبه الثورات في انتظار مايشبه النخب كي تؤدي ما عليها.

فيما يشبه الانتظار

يتبع

***

بقلم الكاتبة الناقدة ليلى تبّاني من الجزائر

يُلفي مَن يطالع هذا الكتابَ «عبد الجبار الرفاعي: الدين حياة في أُفق المعنى» أنّ تجربةً فكريّةً قد تناولتها اطروحات ورسائل دراسات عليا في عدة جامعات، ودراسات، ومقالات، ومراجعات، وشهادات، لأكثر من عقدين، وفي مناسبات مختلفة، ولدواعٍ شتى، وبتنوع ثقافيّ بين الشرق الإسلاميّ وغربه، واتفقَ، اختياراً وجمعاً، أن يوضعَ شيءٌ منها في كتابٍ، وعلى ثلاثة محاور: شهادةً، ومقالاً، ودراسةً؛ كشفاً عن نسقِ التجربةِ الظاهرِ والمضمرِ معاً، وتعريفاً بها وفاءً لأثرها. وما كانَ لهذه التجربةِ أنْ تنال هذه العنايةِ لولا غناها، وتنوّعها، وعمقها، وتميزها، واختلافها أيضاً.

الرفاعيّ أثراً

وقفَ الكتّابُ ـ في غير مظنّةٍ ـ عند أثر الرفاعيّ، وتناولوا ما هو شخصي قامَ على صلةٍ، أو موقفٍ، وما هو عام قامَ على قراءة منجزٍ، وفي الحالين يتجلى الأثرُ؛ محرضاً على أنْ أفتتحَ التقديمَ بشيء من الصلةِ بالأستاذ الرفاعي؛ لأصلَ بعدها إلى المنجز، ولا يعدمُ في التعريف بالمنجز شيءٌ مما هو ذاتي.

   حينَ دخلتُ النجفَ دارساً للمعارف الدينيّة، وكان سناً مبكراً، تعرّفتُ إلى الدكتور الرفاعيّ، وكانَ التعرّفُ في ضوءِ المنجزِ، لاسيما في شرحي أصول الفقه والفلسفة، وبين هذين الكتابين كنتُ أطالعُ مجلة «قضايا إسلاميّة معاصرة» التي تصلُ النجفَ بموادٍ غنيّة: طروحات جديدة، وترجمات تفتحُ كوةً لنفاذ فكر الآخر المختلف. ولا تعدمُ أحاديث أساتذة عن الرفاعيّ، سيرةً وموقفاً وثقافةً، ومع كلّ هذا يزدادُ حضور الرفاعيّ في أفق الوعي، ويتماد الفضولُ بالتعرّفِ إليه عن كثبٍ.

 توثقت الصلةُ بالرفاعيّ مفكراً ومترجماً، وكانَ ما أسسه في بغداد، مركزاً لفلسفة الدين، رافداً معرفياً مهماً، إذ قامَ بنشرِ نتاج مفكرين إيرانيين لم يطالع عربيّاً، إضافة إلى ما ينجزهُ الرفاعي شخصياً، مراجعةً، ونقداً، وسجالاً، وفكراً. وكانَ يحرصُ، في كلّ هذا، على شيعوعةِ الاستنارة في العالم العربيّ، وفي العراق تحديداً.

 لم تكن طروحات الرفاعيّ تفارقُ نبعين إلاّ ما ندر: الأولى القرآن الكريم، والنزعة العرفانيّة. غير أنّ تكأة الرفاعيّ على هاتين النبعين لم تعد تكأة القُدامى، فهو يبتكرُ لنفسه آليات اشتغال أخرى، ومنظوراً مختلفاً، ومراساً جديداً ينجم عن استجابةِ راهنٍ، ولا يبعدُ، في ما ينجزُ، عن طرح الإشكاليات الكبرى في الثقافة الإسلامية، وهو صانع الأسئلة الأمهر.

شيءٌ آخر يضاف، أنّ الرفاعي لا يرى تعارضاً، أو انفصالاً، بينَ العلوم الحديثة، إنسانيةً، واجتماعيةً، والمعارف الدينيّة القُدمى؛ وإنما يرى ثَمَّ نسغاً يتماد بينها، وتخادماً يقضي بفهمٍ جديدٍ للدين، إلا أنه يفارقُ بينَ معطيات تيك المعارف أو العلوم الإنسانيّة وبينَ العلوم الصرفة؛ طبيعيةً أو غيرها.

لا جرمَ، أنّ الأثر تمادَ أبعدَ من المنجزِ، وصارَ إلى صلةٍ مباشرةٍ، تواصلاً ولقاءً وحواراً، فتعرّفتُ إلى المفكر الرفاعيّ شخصياً، وكانَ ما يطرحُه ذات ما يتمثلُ في شخصيته، تقبلاً للاختلاف، وانفتاحاً واصغاءً للآخر، وتدفقاً فكرياً وروحانيّاً واخلاقيّاً، ونأياً عما يتركُ في الروح صدأً، وبذلاً، بلا جزاءٍ، لأي سؤالٍ.

لم تنقطع الصلةُ، ولم تخفت، ولا يعكرها الحاحٌ بطلبٍ، فكانَ يبادرُ بالسؤالِ دوماً، متفقداً الغياب، أو مواسياً لحظة فقدٍ، أو فرحاً بإنجازٍ، محفزاً إليه، ومتابعاً تفاصيل تأديته، داعماً ومحتفياً، ولقد مدَّ بالصلةِ إلى شخصيات أُخر، عراقيّاً، وعربيّاً، وإيرانياً، معرّفاً، أو قاضياً لمسألة تعسرت.

هكذا تعرّفتُ إلى الدكتور الرفاعيّ، ولقد أًبقي على هذا الأثر؛ لأنه مما يأملُ ويعلّمُ، ويفتحُ آفاقاً، ويمنحُ الطمأنينة.

الرفاعيّ منجزاً

اتفقَ أنْ أعنى بالفلسفةِ والعرفانيّة جرّاء الدرس الديني في النجفِ،  ثُمَّ  أنْ أواصلَ هذه العنايةَ أكاديميّاً في الدراسة العليا، وكانَ النظرُ في الفلسفة والعرفانيّة، دراسةً وتحقيقاً، يقدمُ معالجةً لمشكلٍ منهاجيّ، ألا وهو العلاقة بين العقل والوحي، ثُمَّ سؤال الدين، وكانَ قد شاعَ، بلا أصلٍ، أنّ ثَمَّ قطيعةً بينهما، أو قل إنّ ثَمَّ تهافتاً خفياً قد سوّغ العلاقةَ الذهنية، وربما هذا ما أدّى بـ «أبي حامد الغزالي» إلى إشهار «تهافت الفلاسفة»، ثُمَّ جاءَ رداً «تهافت التهافت» لـ «ابن رشد»، وبقي هذا السجالُ مفتوحاً على هامشِ المدوّنتين الفلسفيّة والعرفانيّة، واتخذ شكلاً آخر في النظر المعرفيّ الحديث «الابستمولوجيا»؛ إذ صارَ السجالُ إلى ثنائية الدينيّ والبشريّ، ومعاينة الحدود الفاصلة بينهما، ومدى التقارب والتقاطع.

ولا جرمَ، أنّ لعلم الكلام دوراً في تغذية هذا السجالُ إسلاميّا وعربياً، واسهاماً في تكريسه لقرون، بل تشويه العلاقة، وتحريف طبيعتها، واشغال الدارسين عمّا هو جوهريّ في الدين، ومما لا يخفى أنّ علم الكلام القديم يقوم على غايةٍ هي الإلزام، مما تفرضُ أنْ تكونَ المنهاجيةُ جدلاً يأنسُ بنتائجها التلقي العامي، وتضفي مشروعيةً للتقليد والاتباع بلا عبء بحثٍ ومساءلة.

وإذا ما عُرفَ أنّ للعقلِ مدياته، وللوحي مدياته، وما بينهما علاقة ملء الفراغ ـ أياً كان شكلها: أفقية نظير ما صورها المشاؤون، أم عمودية «تراتبية» كتصوير العرفانيّة ـ يُكتشف الشططُ الذي مارسه علم الكلام، وينجمُ فهمٌ دقيقٌ لسؤال الدين، وربما حاولَ، قديماً، «اخوان الصفا» مقاربة هذا المسعى، ثُمَّ حاولَ، اتباعاً، «صدر الدين الشيرازيّ» تطبيق، وشيعوعة، هذه المقاربة.

يبدو لي أنّ سؤال الدين في تجربة الرفاعيّ يتأسسُ على فهمِ العلاقة بين العقل والوحي، وهو فهمٌ يقومُ على إعادة تعريف العقل والوحي على غير ما قرّ في المدوّنة القُدمى، وبمعزلٍ عن التركةِ النظرية التي ورثها المتكلمون والفلاسفةُ عن «أرسطو»، وهو ما يقترحه كمقدمة لعلم الكلام الجديد بقوله: « يبدأ علم الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرر تعريفه في علم الكلام القديم كما هو...»(1). ثُمَّ يقول: « العقل كائن تاريخي يتغير ويتطوّر ويتكامل تبعاً لنمو وتراكم معقولاته كيفاً وكماً...»(2). وإذا ما كانَ هذا المدخلُ لسؤال الدين؛ فتكون النتيجةُ أنّ ثَمَّ فهماً جديداً للدين، وقراءة مختلفة، أو بتعبير الرفاعيّ نفسه: «يفهم الدين من داخله، وإن كانت تمثلاته في الحياة البشرية تفهم من خارجه. الدين حياة في أفق المعنى، الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية هي الأفق الذي يتحقق فيه الدين، وهي لا تتطابق مع المادة التي تتحقق وتنكشف فيها العلوم وقوانينها.»(3)

زاولَ الرفاعيّ هذا الفهمَ بوصفه أصلاً مرجعيّاً تستندُ إليه تمثلات تجربته، ففي كتابه «الدين والظمأ الأنطولوجي» يضعُ هذا الأصلُ مفتتحاً؛ ليتفرّعَ منه إلى سردِ سيرته الفكريّة وتحولاتها، ثُمَّ معالجة المشكلات التي أرهقته، وهي مشكلات عامة، بل إنّها مشكلات الإنسان المفكر.

ولا يُعدمُ هذا الأصلُ في كتابه «الدين والنزعة الإنسانيّة»، إذ يقول: « لا أفهم الدين فهماً وضعياً يقطع صلته بالمطلق، لذلك أختلف في فهمي لـ «أنسنة الدين» عما هو شائع لدى كثيرين من الباحثين في هذا المضمار»(4). ثُمَّ يعودُ لتعريفِ الدين قائلاً: «الدين حياة في أفق المعنى، تفرضه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاج معنى روحيّ وأخلاقيّ وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية. هذا هو تعريفي للدين»(5). ولهذا الأصلُ المرجعيّ تجلٍ آخر في كتابي «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، و«الدين والكرامة الإنسانيّة».

حاولَ القدامى، بمختلف اتجاهاتهم، أنْ يقدموا فهماً لعلاقة العقل بالوحي، غير أنّ هذا الفهم لم يخلُ من الميلِ إلى طرفٍ، والانتصار له. فثَمَّ نفرٌ مالَ إلى فاعلية الوحي ميلاً كلياً بوصفه مصدر المعرفة الرئيس، والكاشفُ عن الواقعِ، أمّا العقلُ فلا يحوز مزيةَ كشفٍ، بل هو خطّاء، ولا يصحُ الوثوق به، وكانَ «أوغسطين»، و«توما الأكويني» الآباء المؤسسين لهذا الرأي، وتبعهم، إسلاميّاً، «أبو حامد الغزالي».

ونجمَ، في الثقافةِ الإسلامية، رأيٌ آخر، كانَ يصوّر العلاقة، بين العقلِ والوحي، على أنّها توصلية، أي أنّ العقلَ يحوزُ مزيةَ توكيد الأصول، توحيداً ونبوةً، ثُمَّ يقفُ، ويمضي الوحي بوصفه المصدر الرئيس لتوكيد الأصول الأخرى، ومكاشفة التفاصيل، وإذا ما تعارضَ العقلُ والوحي تعارضاً بدوياً، أو مستقراً، فيقدمُ الوحي.

وبينَ هذين الرأيين ثَمَّ رأي آخر يحوز للعقلِ مزية المعرفةِ مطلقاً؛ مستبعداً فاعلية الوحي، وهو يستندُ إلى تكأةِ علميّة صرفة «تجريبية»، وربما هو أشبهُ بما قرّ في الفلسفةِ الوضعية.

لا تبعدُ تيك الآراء عن دائرة الجدلِ الكلاميّ القديم التي أرادَ المحدثون، عرباً وغيرهم، أنْ يعيدوا النظرَ فيها، وأن ينقدوا بالمساءلةِ ما تسربَ منها إلى المدوّنة الجديدة، غير أنّ نفراً من هؤلاءِ المحدثينَ وقعوا بفخاخ الاستعادة، أي أنّهم تبنوا، قبلياً، رأياً ما في مساءلة الآراء الأخرى بمعزلٍ عن التفكير بإعادة تعريف العقل والوحي تعريفاً جديداً، كما فعلَ الدكتور الرفاعي، ثُمَّ محاولة فهم العلاقة فهماً ايجابياً.

حاولَ الرفاعيّ أن يعرّفَ الوحي بأنه: «صلة وجودية بين عالم الغيب والشهادة، تصيّر النبي شاهداً للغيب. إنها نحو ظهور للإلهي يتجلى على مرآة البشري.» ، وبهذا يفارق الرفاعي بين الوحي والعقل مفهوماً ومحددات، مجترحاً رأياً رابعاً لا ينتصر فيه إلى طرفٍ ما، أو يقصر، أو يهمش، فاعليته، بقدْر ما يقدّم فهماً للعلاقة على أصلٍ من تنوّعِ الواقع الوجودي وسعته، غيباً وشهادةً.  

ينجمُ مما مرّ، أنّ تجربةَ الدكتور الرفاعيّ تقومُ على فهمٍ جديدٍ للدين، وأنّ هذا الفهمَ يشكّلُ أصلاً مرجعياً في منجزه، وقد انبجسَ، بدءاً، من مساءلة مفهومي العقل والوحي، والعلاقة بينهما، في المدوّنة الفلسفيّة، والكلاميّة القُدمى، وكانَ للنزعة العرفانيّة دورٌ في تشكّل هذا الفهم.

شيءٌ آخر يضاف، أنّ الرفاعيّ توصلَ إلى هذا الفهم، بوصفه أصلاً مرجعياً، بعد خبرةٍ في قراءة ودراسة التراث الدينيّ والإنسانيّ، وتجربة روحية في تأمل عوالم الغيب، والشعور بتجلياته، إضافةً إلى شغفه بمتابعة ما تنتهي إليه مناهج العلوم الحديثة، وهو يرى، قبلاً، أثرها الفاعلَ في سياقِ التجربة البشرية.

ختاماً، أنّ هذا الكتابَ يعدُ تعريفاً بالرفاعيّ أثراً ومنجزاً، وانجازه وفاءً واحتفاءً.

والحمدُ لله أولاً وآخرَ.

***

أسامة غالي

باحث عراقيّ متخصص بالأدب المقارن، والدراسات العرفانيّة.

........................

 1) مقدمة في علم الكلام الجديد، د. عبد الجبار الرفاعي، دار الرافدين، بغداد: 2023م، ط3، ص21.

 2) مقدمة في علم الكلام الجديد، د. الرفاعي، ص126.

 3) الدين والكرامة الإنسانية، د. عبد الجبار الرفاعي، دار الرافدين، بغداد: 2023م، ط2، ص47.

 4) الدين والنزعة الإنسانية، د. عبد الجبار الرفاعي، دار الرافدين، بغداد: 2023م، ط4، ص55.

  5) الدين والنزعة الإنسانية، د. الرفاعي، ص55.

 

يسعدني أن تكون لي قراءة في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور الفاضل على المؤمن، والذي أتشرّف أن أكون متخرِّجاً من نفس الجامعة التي تخرّج منها، ورغم أنّي أكبره سنّاً، ولكنّه متقدم كثيراً في بحوثه. وما أدونه هنا هو عرض لكتابه المذكور، إضافة الى طرح رؤيتي حيال ما تفضّل بكتابته المفكر الدكتور على المؤمن.

بدأ الدكتور المؤمن في طرح أفكاره من مقدمته، وأراد فيها أن يقول أن هذه الافكار مكتوبة من باحث وأكاديمي موضوعي، وإن كان ينتمي للتشيع، وليست مكتوبة من قبل شخص مقدس، ولا شخص يحمل خصومة مع الدين، وهو حال أكثر الذين كتبوا عن التشيع؛ فهم أما يكونوا على منهج التقديس، واطلاقه وتعميمه، أو على منهج الخصومة. ولكن أغلب الكتب التي تصف الشيعة واجتماعهم الديني هي معادية للشيعة، وقد كتبها خصوم الشيعة. أما الكتب الموضوعية التي تناولت هذا الموضوع؛ فمنها ـــ مثالاً ـــ كتاب «هوية التشيع» للدكتور الوائلي، و«الشيعة والحاكمون»  وغيره من مؤلفات الشيخ محمد جواد مغنية، و«الشيعة والآثار السياسية» للدكتور حمزة الحسن. ولكن؛ هناك ما يميز كتاب الدكتور علي المؤمن؛ فقد وقفت على هذا الكتاب منذ أن كان ينشره مؤلفه كدراسات ومقالات متسلسلة خلال الأعوام الماضية، ووجدت أنه متبحّر فعلاً في هذا المجال، وهو ما تكشفه أفكاره الجديرة بالدراسة، والتي أحاط فيها بكل الزوايا المطلوبة للموضوع.

لقد استخدم الدكتور المؤمن منهجاً علمياً معتبراً معتمداً، هو المنهج الوصف التحليلي، ويأخذ في مدخليته الجوانب التطبيقية العملية، فضلاً عن مقاربته للجوانب النظرية، ولكنه يعتمد أكثر السياق العملي في عرض المشهد الشيعي العام، وهذا المنهج الجديد لعلم الاجتماع الديني الشيعي يطرح لأول مرّة من قبله، فهناك علم الاجتماع وهناك علم الاجتماع الديني، ولم يسبق أن وقفنا على فرع مبتكر اسمه الاجتماع الديني السني، ولكن الدكتور المؤمن ابتكر علم الاجتماع الديني الشيعي، ونظّر له بصورة تفصيلية، من ناحية الهيكلية والمكوّنات والاجزاء والنسق وما إلى ذلك، وهو ابتكار متميز بحد ذاته، وهو ما أتفق معه بشأنه، بما يعني أن الاجتماع الشيعي متفرد، ويتداخل فيه الدين والمجتمع والسياسة والفكر والثقافة والمعرفة، والجوانب المختلفة. وقد ألمّ الباحث بكل هذه الجوانب في الفصول التسعة للكتاب.

وربما هناك من يُشكل على الدكتور علي المؤمن بأنّه هو ينتمي أيضاً إلى من وصفهم بمنهج التقديس، رغم أنه ليس مقدّساً، إنّما هو مفكر، أو هو باحث كما يسمّي نفسه تواضعاً. نعم هو ينتمي إلى هذه البيئة التي تجعله ربما يميل إلى تحبيذ هذه البيئة وتجميلها، بمعنى أنه ينأى بنفسه عن المآخذ أو السلبيات  الموجودة في الجوانب المختلفة للاجتماع الشيعي الذي ينتمي أليه. وبطبيعة الحال فإن القدرة على التسامي على الانحياز تظل لصالح الدكتور المؤمن، لأنه رجل عاش المعاناة والانتماء من جهة، كما عاش التخصص والحياة البحثية من جهة أخرى، ومارس كل جوانب العمل الفكري والثقافي والسياسي، من خلال كثير من المؤسسات؛ قمنذ العام 1979 حين كان عمره (15) عاماً؛ انتمي إلى الدعوة الإسلامية، وبعد ذلك درس في الحوزة العلمية، ثم اشتغل في مؤسسات كثيرة، من جملتها أنه كان باحثاً في "المركز الإسلامي للأبحاث السياسة"، بعمر (20)، وأسس وأدار المركز الاسلامي للدراسات المستقبلية، وكان رئيساً لمركز دراسات المشرق العربي في لبنان، فضلاً عن دراسته الأكاديمية وتخصصه الدقيق في القانون الدستوري. هذا الممارسة البحثية المؤسسية أعطته أبعاداً عميقة لمعرفة المذهب الشيعي واجتماعه السياسي والديني والثقافي والمعرفي، وهو ما يتجلى في كتبه وبحوثه الأخرى أيضاً، وكل ذلك يحسب لحضرة الدكتور المؤمن حقيقة.

وقيما يتعلق بالكتاب؛ لم يتطرّق الدكتور المؤمن الى سبب تقسيم الكتاب إلى هذه الفصول التسعة،   ولماذا يعني بهذه السياق؟، إذ ربّما لاحظت في الفصول بعض التكرار في الموضوعات، وخاصة في قضايا المرجعية الدينية الشيعية، وفي موضوع ظواهر القوة في المذهب الشيعي، رغم أنه لا يتكلم عن المذهب، وإنّما عن الطائفة الشيعية، وهو يفرّق بينهما، وهذا صحيح، فأنا أتفق معه على وجود فرق بين المذهب المتمثل في البعد العقدي والبعد الفكري والبعد الفقهي، وهو التشيع، وبين الطائفة الذين هم الشيعة أو المجتمع الشيعي والواقع الشيعي. وأتصوّر بأن الباحث وُفِّق للتبحر في كثير من الجوانب، وخاصة عناصر الاجتماع الديني الشيعي الستة وتفاصيلها، وشكل المذهب  ومجتمعه، وربما كان بإمكانه إضافة بعض الجوانب الأخرى إلى العناصر الستة، وهو ما يتطلب بعض التفاصيل في هذا الجانب.

وبالنسبة لظواهر الاجتماع الديني الشيعي؛ فقد حدد المؤلف ست ظواهر، وكان موفقاً في هذا التحديد، وكذلك في شرحها، وخاصة ظاهرة المال الشرعي، كقاعدة للتمويل الذاتي الاجتماعي. ثم يعيد الحديث عنها في فصل آحر، ولكن من زاوية أخرى، أي من زاوية علاقتها بالمرجعية. ومن الأمور المهمة الحساسة التي يكشف عنها في إطار موضوع المرجعية؛ مسألة الحواشي وجماعات الضعط، ثم الوكلاء والمراقد والمساجد والمؤسسات الداعمة والحكومات والأحزاب وعموم الشيعة، وكذا التداخل بين العناصر والظواهر، رغم توضيح سياقاتها العامة في  مخطط هيكلية النظام الاجتماعي الدنيي الشيعي، وقد عجبني أنه يرسم صورة هذه الهيكلية، بهذه الكيفية، ويبدأها بالإمام المعصوم، ثم النواب الفقهاء، وصولاً إلى المؤسسات والقواعد الشعبية، وهو أمر جيد وملفت.

في الفصل الثاني؛ يتحدث الباحث عن عصور ستّة للشيعة، ابتداءً بعصر الإمام امير المؤمنين علي، ثم يحدد موضوع سقوط الدول الأموية، ليكون مفصلاً لبدء العصر الثاني، أي عصر الإمام حعفر الصادق، وأدخل معه إمامة باقي الأئمة، من الكاظم الى غيبة الإمام المهدي. ولكن؛ أرى ان العصر الثاني بدأ في عصر الإمام محمد الباقر، وليس الإمام الصادق، أي قبل سقوط الدولة الأموية؛ ففي تلك الفترة حدث نوع من الانفراج السياسي، لأن الدولة الاموية كانت مريضة وضعيفة، حيث ازدهر وضع الشيعة، وأصبحوا مدارس؛ فقد استطاع الإمام الباقر، قبل الإمام الصادق، أن ينشر المذهب الشيعي. نعم؛ كان الإمام الصادق مبسوط اليد اكثر من الإمام الباقر، ولكن البداية كانت من الإمام الباقر. لذلك؛ كان بودّي لو أن الدكتور المؤمن قد حدد العصر الثاني في فترة الإمام الباقر، ثم يختمه بعصر الغيبة الصغري.

ثم يحدد العصر الثالث بعصر نواب الإمام أو السفراء، وحتى ظهور الشيخ أبي جعفر الطوسي؛ ليكون بداية عصر جديد. وهذه المفاصل الواضحة في تاريخ المجتمع الشيعي قد تكون صحيحة، ولكن؛ أعتقد أن أبا جعفر الطوسي أخذ عن سابقيه، أي أنه لم يبدأ من فراع. نعم؛ حاول الدكتور أن يميز عصر الطوسي بتأسيس حوزة النجف، بوصفها علامة فارقة. وبعد ذلك يذهب المؤلف إلى التأسيس السياسي للمذهب في ايران على يد الشاه اسماعيل الصفوي. وهنا قد يختلف معه بعض الباحثين، بأن التوجه الشيعي لتأسيس الدول وقيادتها كان موجوداً قبل الصفويين، مثل دول العلويين والأدارسة والحمدانيين والفاطميين وغيرهم. وربما نتفهم أسباب ذلك، لأن الدكتور المؤمن يحدد منهجه الاجتماعي الديني بالشيعة الاثني عشرية وليس الإسماعيلية أو الزيدية، التي كانت مذاهب قادة الدول الشيعية الأخرى، عدا الدولة الحمدانية الاثني عشرية.

وفي الفصول التالية، ابتداءً من الفصل الرابع، يركز الدكتور علي المؤمن على الظواهر ذات العلاقة بالحوزوة والمرجعية، أو مايسميه المؤسسة الدينية الشيعية المركزية وقيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ويتعمق في تفاصليهما، بالنظر لما يقول أنه العمود الفقري للنظام، وهو جهد مضني وجيد، ولكن يبدو أن هناك تكرار واستغراق في الموضوعات في الفصل الخامس الخاص بالحوزة العلمية والفصل السادس الخاص بمنظومة المرجعية، لكنه تكرار واستغراق غير مخلين، بل إيجابيين. وأرى أن المؤلف كان موفقاً جداً في تحديد عناصر القوة الإثني عشر للاجتماع الديني الشيعي، والتفصيل فيها، والتحذير من ضعفها.

ويتناول في الفصل الثامن موضوعاً إشكالياً مهماً وحساساً، هو موضوع الهوية الشيعية، وهو موضوع ربما يشكل هاجس الدكتور علي المؤمن في كثير من دراساته. وقد أحاط في الكتاب بكل إشكالياتها وتراكيبها، بين المذهب والقومية والوطن وبين الخطاب القومي والمناطقي، فضلاً عن علاقة الهوية الشيعية بالاسلام، بوصفها جزء من الهوية الإسلامية العامة. وقد اطعت على دراسات سابقة للمؤلف بهذا الخصوص، ولكنه في هذا الكتاب؛ قارب الإشكاليات ووضع لها حلولاً واقعية، بشكل أكثر علمية وعمقاً.

ويخصص المؤلف الفصل التاسع لمسألة المرجعية الشيعية بعد رحيل السيستاني والخامنئي، ويستشرف مستقبلها، ويسرد سيرة مجموعة كبيرة من المرشحين لخلافتهما، ويوزعهم بين مراجع الصفين الأول والثاني، وكذلك الفقهاء غير المراجع، لكنه يضع ـــ مثلاً ـــ مرجعاً كآية الله الشيخ الجوادي الآملي ضمن مراجع الصف الثاني، المحتملين للخلافة، رغم انه الآن ضمن مراجع الصف الأول، كما يضع ـــ مثلاً ـــ الفقيه الشيخ محمد باقر الايرواني ضمن الفقهاء المحتملين لخلافة المرجع السيد السيستاني، رغم أنه الآن ممن يشار إليهم بالبنان. وهنا قد نختلف مع الدكتور المؤمن في التقويم من مرشح محتمل لآخر، ومن مؤسسة وجهة ترشيحية الى أخرى، ولكن؛ محاولاته في المقاربة هنا مورد احترام واعتزاز. ونرى على مستوى الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ قال بأن هناك جامعة المدرسين في قم، وهي مؤسسة أساسية فس ترتيب موضوع المرجعية، ولكن قد لا يكون الأمر كذلك، لأن تسنم موقع المرجعية تتعلق بالتفاف الناس عامة حول فقيه معين، أكثر من أن كونها مهمة مؤسسة معينة. نعم؛ جامعة المدرسين تطرح أسماء عدد من الفقهاء، كما حدث بعد رحيل السيد الإمام الخميني، حيث طرحوا أسماء ستة أو سبعة مراجع، ثم استمروا بالتحديث بعد وفاة بعض المراجع أو برزو مراجع آخرين.

والحقيقة؛ أنا أنظر إلى بعض الأمور التي يذكرها الدكتور المؤمن من زاوية مختلفة، ولكن؛ هذا لايقلل من حقيقة جهده الجهيد الكبير، وهو جهد علمي يستحق عليه الدكتور علي المؤمن التقدير والإشادة؛ فقد قارب فعلاً موضوعات وإشكاليات أساسية في إطار الاجتماع الديني الشيعي والنظام الذي يفرزه، وهو عمل تأسيسي رائد، نأمل أن يأتي الباحثون الآخرون لاستكماله والاستمرار في دراسته.

***

د. جلال فيروز

باحث من البحرين

 

 

من الكتب النقدية التي نَسِمُها الرديف للكتب الأكاديمية هو كتاب مؤتمن الأفكار للدكتور صالح الطائي الذي أخذ تسميته من أنَّ "النقد أمانة لاتقل في أهميتها عن مكانة البحث المنقود نفسه ، وأنه يسير بمحاذاة النص؛ لكي يردم الهوة القاتلة التي تفصل الباحث عن المتلقي الذي هو شريك في النص، وأنَّ الناقد مؤتمن على النص واقعاً لا ادعاءً، إذ ليس كل من ادعى أنه مؤتمن على أفكار الآخرين ونتاجهم الفكري هو مؤتمن بحق"، وقد طرح  الدكتور الطائي في كتابه قضايا مهمة، تعد مراجعة حقيقية لقراءة فهم المتلقي غير المتخصص في الأدب، وهو يطرح ما استوعبه من طروحات النقاد الكبار، فضلاً عما لدية من خزين معرفي وحدس واعٍ ، فهو الناقد المتبحر في الدراسات الإسلامية، والمؤلف لبضع وسبعين كتاباً ما بين إسلامية وتنموية اجتماعية وشعرية، إذ نجده يطلق عنان آرائه في كتابه الذي وسمه بمؤتمن الأفكار كونه أفرد فيه حياديته تجاه نصوصٍ أدبية انتقاها لعدَّة شعراء وروائيين.

استهلَّ كتابه بمقدمة عن مفهوم الكتابة بوصفها فناً ساحراً وهدفاً نبيلاً، تلك التي تبحث عمَّن يفكُّ طلاسمها، ويكتشف خفاياها ويُظهر حقيقتها، معولاً على النقاد الذين  يحترمون نوايا الكاتب حين يقرؤون نتاجات المؤلفين وينؤون بعيداً عن التأويل المتطرف الذي عادةً ما يكون ممجوجاً، ولا روح فيه سوى الذم أو الطعن أو المبالغة والتفخيم . وقد عدَّ كتابه النقدي هذا نتاج محاولات عديدة للمجازفة بالكتابة عن بعض النتاجات التي وقعت بين يديه، فكتب نقوده على وفق منهجه البحثي في التخصص والذي عده منهجاً انطباعياً، لكنه حين نسلط الضوء عليه نراه يتواءم مع منهج القراءة والتلقي؛ كونه لا يقطع كل ما هو قبلي حين يعرج على تحليل النصوص، بل ينطلق مستعيناً بمخزون ثقافته التاريخية، والذي وجدناه في كتابه قد حقق الكثير مما في عِدَّة الناقد للنصوص سواء أكانت أدبية أم تاريخية وسواهما.

وحين لم يكن غير المتخصص له شأن في الدراسات الأدبية الأكاديمية، إلا أنه استطاع أن يلفت نظرنا إلى رؤية غير الأكاديمي حين ينظر إلى الدراسة الأدبية فيضيف ويقترح لها من لبنات أفكاره، فهو يرى أنَّ هناك عالمان في الكتابة الأدبية، هما عالم الهدم، وعالم البناء وأنَّ ما بينهما هو عالم الأسطورة المودع في اللاوعي حسب "كولد ليفي شتراوس"، ذلك ما يعقده حالة من التوازن بين العالمين؛ ليبقي على النص حالته التأويلية التي يحتفظ بها؛ ليقابل المتلقي بما يجعله يؤوِّل ويستنطق ويحاكي، كما أنه يرى أن النقد لديه هو ما يعكسه النص من حالة وجدانية للمتلقي الذي بدوره يفيد من العقل مستعيناً بقراءته للنصوص، والحكم عليها متبنياً رأي "بيتر آي فاسيون" الذي يرى "أنَّ تفكير الناقد يتضمن نوعين من المهارات، هما: المهارات الوجدانية، والمهارات المعرفية، ووصف المهارات المعرفية بأنها جوهر المهارات الوجدانية" .

ويبدو أنه طرح شروط الناقد الفطرية منها الذوق، والموهبة، والاستعداد الفطري، والمكتسبة أشار إليها بالتزود بقدر كبير من الثقافات بما يمكِّنه التعرف على سمات الأعمال الأدبية وربطها بأصولها الكامنة في ذات الأدب لتتحقق بينها وبين الأديب، إذ بغير هذه الصلة لا يتأتى للناقد أن يتأكد من أصالة الفن وصدقه، فهي سبيله في الإقناع، ولاسيما حين يشرِّع في البحث والتعليل. وهذا الطرح يتوافق مع ماورد في كتب النقد التي طرحت شروط الناقد، إلا أنه ذكرها استكمالاً لكتابه وما عناه كشاهد لمنهجه النقدي الذي توخاه كتابه الذي بين أيدينا.

أما نظرته للتفريق بين الأدب النسوي والأدب الذكوري، فقد تناول كتابه جانباً منه حين قرأ نصاً للشاعرة سجال الركابي، وهو لا يميز بين تسمية أدب نسوي وآخر ذكوري فكلاهما سواء لديه، بينما يقوم بعض النقاد من تسمية لكلا الجنسين الأول أدبٌ للمرأة من أجل مناصرة قضيتها؛ وهي تطالب أن تكون مساويةً للرجل بالحقوق والواجبات ومن كتب عن المرأة. أما الآخر الذكوري فما كتبه جنس الرجال عن موضوعات لغير المرأة.

وجدناه يقترح تعريفاً للشعر، فلما كان الشعر في معناه الواسع صورة من صور الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية للمجتمعات والشعوب كلها، وجدناه يتبنى تعريف الناقد والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" الذي يرى أنَّ الشعر "هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات وإلى الآخرين ومن دونه لا يمكن العيش حقيقةً، والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائماً نحو العمق". والذي نراه أن الطائي اختزل مفهوم الشعر بفهمه السامق في الوعي ما جعله ينفثه نفثاً بعدَّة مجاميع أنتجها معبِّراً بها عن روحه التي تبحث عن شطآن حضارة، ما جعله يعوم بقريحة النقد الأدبي أيضاً مفككاً رموز النصوص ومومئا إلى كنه مضمراتها التي تؤسس لحضارة إنسانية يتكفل قسم من بنائها أصحاب الكلمة ومعدنها، ولاسيما الأدباء.

وقد انتقى الدكتور الطائي في كتابه عدة شعراء وكتَّاب منهم: أديب كمال الدين، ويحيى السماوي، ومحمد تقي جون، وسجال الركابي، ومحمد الصالح الغريسي، وزهير البدري، وأدباء منهم شوقي كريم حسن، وصالح مطروح السعيدي، فرأيناه يحلل النصوص على وفق ما يبدو في شعوره تجاهها ثم يضع من ثقافته ما يلمحه ينسجم مع ما لديه، متحدثاً عن شخصية صاحب النص ومدى علاقته به، فلم أره يختار من بطون المكتبات نتاجات شعراء ليكتب عنهم، بل لما أهداه له أصحابها من مؤلفات فينتقي من بينها ذلك الكم، ولعل مؤتمن الأفكار أراد به الطائي إفراغ جذوته الثقافية وخزينه المعرفي من مفهومه للنقد وقدرته على تحليل النصوص الأدبية، فكان حاضراً في كثير من موضوعاتها، فأوضح مرامي الكتاب المضمرة وربط بينها وبين ما ادخره من وقائع تاريخية سواء أكانت أدبية أو إسلامية بأبهج صورة يودعها بين ثنايا سطوره.

وقد أشار في كتابه إلى  مشروعين للشعر أقامهما، وهما من المشاريع الفريدة المائزة التي نوه عنهما ، فالأول هو مشروع (قصيدة وطن رائية العرب) عام 2020م، وكان عبارة عن محاولة لتوظيف الشعر خدمةً للقضايا الإنسانية والوقوف بوجه التوحش والعدوانية، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، بدايته كانت بيت شعر واحد قاله الطائي في لحظة تأمل، ثم صار قصيدة، جمع فيها 139 شاعراً عربياً، كل واحد منهم اشترك في بيتين أو ثلاثة في إشارة إلى أن الأمة العربية لابد لها أن تتوحد طالما هناك مقومات لوحدتها، فقد عدَّ القصيدة هي أول قصيدة وطنية في التاريخ كله، وفي العالم كله، يزيد عدد أبياتها على (369) بيتاً، فطبعت كتاباً في مطابع المملكة المغربية والعراق وسوريا.

أما مشروعه الآخر الذي سلط عليه الضوء في مؤتمنه أيضاً، فهو إعلانه في أوائل عام 2021م موضوعاً بعنوان (عينية الوجع العربي، قصيدة أوجاع العرب) لما أصاب الشعوب العربية من اليأس الذي استشرى في النفوس بعد الهزائم المتوالية التي منيت بها المشاريع القومية والوحدوية منذ النصف الثاني من القرن العشرين ولغاية هذه الساعة، فوضع الطائي مطلعها بنفسه مثلما مشروعه الأول (قصيدة وطن) ما جعل الشعراء العرب يشتركون في نسجها، وهي تؤكد أيضاً أنَّ كل التخريب الذي مورس، لم ينجح في فصل العرب عن بعضهم، ولا في إيقاف اهتمامهم بقضاياهم المصيرية المشتركة، وقد أثبت شعراء الأمة هذه الحقيقة المغيبة من خلال كم المشاركات ونوعيتها، ومدى جديتها. وقد تألفت القصيدة من 425 بيتاً اشترك فيها 226 شاعراً من مختلف الأقطار العربية.

فضلا عما تقدم، تبنى في مؤتمنه بعض آراء النقاد، ومنه ما دونه من التاريخ النقدي العربي من تعاريف لمصطلحات نقدية، وذكره لكتب أدبية مهمة فيها من التنظير؛ ما جعله يستند على إضاءاتها التي أعانته على طرح ما في خلده؛ لإتمام فكرةٍ أو لإيضاح مسألة، كما استضاء بآراء النقاد الغرب مستعيناً بما طرحوه من قضايا نقدية، أو آراء طرحها متشفعاً بمقولات لهم في الصدد ذاته. فجاء كتاب مؤتمن الأفكار خلاصة واعية لما استجمعه الطائي بمنهجية تكاد تعبر حدود الفهم الواعي لرجل يمتلك ناصية الثقافة المتنوعة، فرأيناه يدلو بدلوه؛ وهو يشترك بهذا العطاء الثر مع أقلام كثر جسدت صورة النقد الجميلة وخلَّفت بصماتٍ لامعة على صحيفة الأدب المعاصر.

***

بقلم د. رحيم عبد علي الغرباوي

من المعروف ومنذ القدم ان المدونات السردية تأخذ مادتها من الواقع ثم تنحرف عنه عبر فعالية الخيال او التخيل وتحول ما هو خيالي بقوة السرد وتقنياته الذي قد يصل الى حدود اللامعقول وتحويله الى معقول جاعلا المحال وغير الممكن واقعيا  وتمنح السرد المقبولية وهذا ما جربه القصاصين والروائيين صيغا جديدة من الواقعية الى اللاواقعية والتي هي ليست جديدة على السرد العربي القديم الذين ارسوا اسسه السردية على الدعائم الخيالية وله اساليبه في السرد غير الواقعي وطرائقه التي يتحول غير الحقيقي واقعيا  بمنطقية التحبيك وبما يمنح الشخصية غير الادمية صفة الانسنة ويضفي على الجمادات حركة دينامية موظفا اللامعقول من الاحداث   وهذا ما يرصده الناقد عبد علي حسن وتقديم رؤيته والبحث في هذه المنطقة .

يشرع الناقد في تقديمه للكتاب والذي اختار له عنوان (وهم المرجع في المتخيل السردي) الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في بيان الخطوط العامة لكتابه النقدي

وهم المرجع / مرجعية الكاتب

ابتدأ الناقد في تناصات كاستهلال اقتباس لناتالي ساروت وآيزر ارادها مدخلا لتمرير وتمهيد لمرامي الكتاب الذي جاء بعنونة تنطوي على مفاهيم  جوهرية سردية مهمة تخدم طالب النقد كون المنجز يتطرق الى عدد من المفاهيم السردية وما له من  اهمية كبيرة لكل مهتم بالشأن السردي على مختلف الاجناس السردية:

"هناك واقع يراه كل الناس ويدركونه بشكل فوري ومباشر، هذا الواقع ليس أبدا واقع الكاتب الروائي، فهو مجرد مظهر يوهم بالواقع، الواقع بالنسبة الى الروائي، هو المجهر اللامرئي، هو ما رآه بمفرده" ناتالي ساروت ص7

فمن هذا الاستهلال نلمس  توضيحا للمتلقي الشطر الاول من العنوان

"وهم المرجع " مرجعية الكاتب تجاربه الشخصية والجمعية وما استقر  في مخياله من تجارب وخبرات ثقافية ومعرفية

فهنا السارد يقوم باستدعاء مرجعيات المتخيل الذي شبهه الناقد بصندوق التجارب الحياتية والمعرفية للكاتب (اي ما يرتسم في الذاكرة مما نعيشه ونراه او نقرأه)

ويعزز لنا الناقد باقتباس آخر (فولفغانغ آيزر) " لقد ساد تعريف الادب بأنه نص تخييلي لانحرافه عن الواقع او لاجتثاثه من مرجعه، فيكون النص التخييلي هو النص الذي لا مرجع له الا ذاته "1

باستدعائه لمرجعيات المتخيّل عبر فاعلية الخيال او التخيل ليعيد صياغتها وانتاجها" فالسرد يكون بهذه الحالة منطلق من تلك المرجعيات ومفارق لها فهو لا يستنسخ تلك المرجعيات وانما يدخلها في مختبره التجريبي لينتج نصاً مغايراً عن المرجع المتمثل في المتخيل او الواقع بصيغة فنية"2 او مايسمى بمفهوم السرد غير الواقعي  الذي "يقوم على فكرة عدم استنساخ العالم بشكله المباشر والممكن وانما التعبير عنه على نحو غير ممكن، تحكمه مبادئ لا علاقة لها بالعالم الموضوعي لكن بالفهم الادراكي الذي يعزز الصلة التوليفية بين السرد والعقل"3

ضم الكتاب  بعد التمهيد والمقدمة كمدخل نظري لعدد من المفاهيم السردية المتصلة والمتعالقة مع الموجهات المنهجية التي اتبعها الناقد في دراساته الذي عمد الى نظام الفقرات تسهيلا لمهمة القارئ في تقصي الكشف عن مرامي الكتاب عبر المفاهيم التي تضمنها العنوان الذي يعد العتبة الاولى.

1-1: يسعى السرد بانواعه المختلفة الى توصيل رسالة النص عبر طريقين الاول هو تفعيل اركان السرد من مكان وزمان واحداث وشخصيات بوضع تتضافر فيه هذه الاركان ...

اما الطريق الثاني هو الكيفية تي يتم فيها السرد...

1-2: ان ماينتجه النص السردي من علاقات مع الواقع بشقيها التمثل والانعكاس والمحاكاة والشق الثاني هو الدخول الى منطقة الغرائبية والعجائبية وعدها مدخلا الى الواقع، وفي كلا الشقين فان الهدف واحد وهو الابهام بما يحدث...

ويقول الناقد: لعلاقة النص بالواقع هي علاقة وهمية تتجاوز حدود التوثيق والأرخنة التي هي من اختصاص آخرين ملتزمين بحرفية مايحدث...

1-3: يرتهن النص السردي بالمرجع بعدّه مجموعة العلاقات التي نقيمها مع ما حولنا في الواقع الاجتماعي اي ما نعيشه في الواقع وكذلك مجموعة الخبرات المكتسبة من التجارب المعرفية التي نحصل عليها بفعل تعالقنا الثقافي مع ما ينجز من فعل ثقافي ومعرفي ...

ثم يتطرق الى موضوعة التخييل بما له من مكانة رفيعة ومؤثرة في معاير اكتساب النص لا دبيته الذي يعد القاسم المشترك لكل الفنون والآداب...  

تضمن الكتاب على ثلاث فصول ففي الفصل الاول الذي اختص بالرواية  الذي جاء بعنوان ارتدادات المرجع في الرواية العراقية  الذي تضمن دراسات لعدد من الموضوعات التي شكلت اضافات نوعية في المشهد الروائي العراقي  فيما اختص الفصل الثاني بدراسات للقصة القصيرة لعدد من القصاصين العراقيين اما الفصل الثالث اختص بالقصة القصيرة جدا.

 جاءت اهمية الكتاب بما أمتاز الكتاب، من ذائقة نخبوية، وقيمته تكمن في نخبويته فمن لم يمتلك الولع والاهتمام  المؤصل بالسرد قد لا تستهويه مثل هكذا دراسات.

تناول الناقد  نخبة مميزة في حقل الكتابة السردية بالأجناس السردية المختلف من رواية وقصة قصيرة وقصيرة جدا   سرد يخالف للسياق السردي التقليدي الذي فيه خرق المعتاد ويجعله غير مقبول، " لكنه بمنطقية التحبيك السردي يصبح معتادا هو ليس كذباً ولا خداعاً، بل مجموعة مسببات افضت الى نتائج مقبولة ومعقولة من ناحية منطقية الفواعل السردية"4 .

***

طالب عمران المعموري

................................

المصادر

1-  وهم المرجع في المتخيل السردي، عبد علي حسن،منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد،2022 .

2- نفس المصدر ص17

3- علم السرد ما بعد الكلاسيكي، نادية هناوي، مؤسسة ابجد للترجمة والنشر والتوزيع،2022 .

4- علم السرد ما بعد الكلاسيكي، نفس المصدر

 

عنوان الكتاب: فوكو في السينما بالنسخة الإنجليزية -  Foucault at the movies .. وميشيل فوكو يذهب إلى السينما -  Michel Foucault va au Cinéma في النسخة الفرنسية.

أما أنا فسأعطيه عنوان فوكو والسينما:  Foucault et le cinéma - Michel Foucault va au Cinéma

باتريس مانيجلير - Patrice Maniglier

دورك زبونيان - Dork Zabunyan

مقدمة المترجم

   ميشيل فوكو وجيل دولوز يذهبان إلى السينما

دراستان حول علاقة مفكري القرن العشرين بالفن السابع. النظرية النقدية للحدث التاريخي لأحدهما، فك التشفير المفاهيمي للصور للآخر. يذهب فوكو إلى السينما، بقلم باتريس مانيلييه ودورك زابونيان، إصدار بايارد، 2011، 170 صفحة، دولوز في السينما لسيرج كاردينال. مطابع جامعة لافال في كيبيك، 2011، 236 صفحة.

الفلسفة، بحسب جورج كانغويلهم، هي نشاط العقل الذي يتغذى على كل ما هو غريب عنه. نريد أن نضيف: بشرط ألا تفقد المعنى بالمفهوم أبدًا. كيف إذن لا نشك في الموضة الحديثة التي، تحت عنوان ضبابي إلى حد ما "الفلسفة السينمائية"، تدعي توضيح القضايا النظرية بمساعدة الصور التي ترقى لهذه المناسبة إلى مرتبة الفلاسفة الجاهزين؟ للعمل؟ من المؤكد أن الفن السينمائي، في المرتبة السابعة على اسمه، يستحق مصيرًا أفضل من مخزون الأفكار المفعمة بالحيوية للمستمعين والمتفرجين المتلهفين للقراءة.

في هذه اللعبة الصغيرة في الوقت الحاضر، لم نكن لنقتصر على فلاسفة مثل ميشيل فوكو وجيل دولوز. تحليل دراستان حديثتان عن فيلسوفين معاصرين وعلاقتهما الفريدة بالسينما. الأول ليس بالمعنى الدقيق للكلمة معروفًا بارتباطه بفن لم يكرس له أي عمل. على الأكثر، لدينا بعض النصوص والمقابلات التي أجراها فوكو حول أفلام تتعلق بعمله كفيلسوف ومؤرخ. يقدم باتريس مانيلييه ودورك زابونيان عينة تتراوح من بيير ريفيير إلى مارغريت دوراس، بما في ذلك آلان رينيه. من خلال السينما، اكتشف فوكو طريقة أخرى لصنع تاريخ المعرفة والتصور المفاهيمي، ومنهجًا للأحداث يفتح باب النقد لبعده الميتافيزيقي التقليدي. رحب فوكو بالسينما على أنها ما يغير مفهومنا عن الجسد البشري والقصص التي يمكن إنتاجها عنه.

مع جيل دولوز، الأمور مختلفة للغاية. يعتبر دولوز متحمسًا للفيلم ومنظراً أكاديميًا وانتقائيًا، وهو مؤلف واحد من أعظم الكلاسيكيات في الأدب الفلسفي عن السينما. نعم، ولكن إليكم الأمر: هذا العمل، الذي يُستشهد به على نطاق واسع ومسهب في كثير من الأحيان، كثيف، مثل كل أعمال مؤلفه. لا يدخل هذه الغابة المفاهيمية من يريد. يجب أن يكون مستعدًا لذلك، وليس فقط من خلال معرفة السينما. لابد أنك قرأت برجسون واستوعبت نصف قرن من النقد السينمائي. للتخفيف من قسوة هذه القراءة الأساسية، يسعدنا أن يكون لدينا الآن أداة من الدرجة الأولى مع عمل سيرج كاردينال. باستعادة أدنى دقة لطريقة دولوز ومقاربته، وفك رموز أذواقه وهواجسه، يجعل الكاردينال في متناول القارئ النقطة المركزية في مقاربة أو نهج دولوز: النقطة التي يكشف فيها الفكر إلى أي مدى يمكن أن تنحرف الصورة، الخيط الإرشادي لكل هذه الدراسة. في المفهوم وحتى تطارده في حركته غير المتوقعة في كل مرة. بعد ذلك تصبح السينما تتحدث حقًا.

أما ميشال فوكو والسينما: فلهذا قصة كاملة:

بين ميشيل فوكو والسينما، كان هناك تاريخ منقط. وكتاب يجمع هذه الأجزاء المتناثرة.

تعتبر الفلسفة السينمائية من المواضيع المألوفة وموضة هذه الحقبة، حتى لو كنا نبحث في كثير من الأحيان عن التوضيح البسيط للأفكار التي تم إنشاؤها بالفعل. إذا كان لقاء ميشيل فوكو مع السينما قد أسيء فهمه، فربما يكون ذلك لأنه لا يسمح بمثل هذا الموقف. لم يؤلف فوكو كتابًا عن السينما أبدًا. لكنه ترك عشرات النصوص والمقابلات مبعثرة في Dits et Ecrits. تم جمع مقتطفات واسعة النطاق هنا لتقدم فكرة أفضل عن لقاء هذا الفيلسوف بالفن السابع. لا يظهر الفيلسوف هناك على أنه صاحب حقيقة متداولة؛ لكنه وجد، في أفلام معينة، طريقة للتعامل مع المشكلات التي يعمل عليها كفيلسوف ومؤرخ. هذا الكتاب هو المحاولة الأولى لتقييم هذه المواجهة غير المعروفة. نرى هناك أن السينما تجعل من الممكن بلورة مفهوم جديد للحدث؛ لاستكشاف جسم خالٍ من عضويته؛ لالتقاط قصة بدون ضحايا أو أبطال، بناءً على الإجراءات الدقيقة التي لا ندركها بالضرورة والتي مع ذلك تقرر إجراء تغييرات عميقة في الفهم الذي قد يكون لدينا عن أنفسنا. التفكير على نحو مختلف لنرى بشكل مختلف، وننظر بشكل مختلف لنفكر بشكل مختلف.

على عكس دولوز Deleuze أو رانسيير Rancière أو مؤخرًا آلان باديو Alain Badiou، لم ينشر ميشيل فوكو Michel Foucault كتابًا عن السينما. ومع ذلك، فقد عبرت حياته المهنية، بطريقة دقيقة ولكن حاسمة، تاريخ الفن السابع، حيث تتعقبه العديد من النصوص والمقابلات، المنشورة والمبعثرة " أقوال وكتابات Dits et écrits"

من مقابلة أساسية مع مجلة كراسات السينما – كاييه دي سينما Cahiers du Cinema حول "الموضة الرجعية mode rétro» إلى حوار مع هيلين سيكسيوس Hélène Cixous حول مارغريت دوراس Marguerite Duras، مروراً بتحليل مفصل للغاية لفيلم من إخراج Pasolini  بازوليني، تحقيق حول الجنس Enquête sur la sexualité، لم ينقطع فكر فوكو، في الواقع، عن الانغماس في الصالات المظلمة .

مقاربة شاملة لعلاقة الفيلسوف بالسينما:

كان لدى كل من دورك زابونيان Dork Zabunyan وباتريس مانغليه Patrice Maniglier فكرة حكيمة تتمثل في جمع بعض هذه الأجزاء معًا في مجلد واحد. وحتى لو شعر المرء بالأسف لأن يجد في عملهم مجموعة مختارة فقط من النصوص والمقابلات التي كرسها الفيلسوف للسينما، فإن مقالاتهم التمهيدية المفيدة للغاية تجعل من الممكن، لأول مرة، الحصول على مقاربة لعلاقات فوكو مع الصور المتحركة.

وبالتالي، فإن هذه النظرة العامة تكتسح الفكرة التي تم تلقيها والتي بموجبها يمكن تلخيص تاريخ فوكو والسينما في مفترق طرق فريد: إعداد المخرج رينيه أليو René Allio، للسينما في عام 1976، للشهادة التي نشرها المؤلف، قبل ثلاث سنوات، أنا، بيير. ريفيير، بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي. Moi, Pierre Rivière, ayant égorgé ma mère, ma soeur et mon frère.. أو، بشكل أكثر تحديدًا، يوفر إمكانية فهم ما كان من الممكن، في فكر فوكو، أن يولد مثل هذا التقاطع والتلاقي: بين انتباه الفيلسوف إلى "الحبوب الصغيرة" من التاريخ grain minuscule de l’histoire  "(الذي وصفه بنفسه بأنه متأثر بطريقة فيلم أنطونيوني " الانفجار Blow up  ") والفن السابع، وكان لا بد من عقد لقاء.

هذا العنوان المبهج والجذاب مضلل. في الواقع، يتساءل اثنان من الفلاسفة على التوالي عن مفهوم "التاريخ العام" فيما يتعلق بالحدث كما ذكر فوكو والطريقة التي يمكن للسينما أن تستخدمه، "تأثير السينما على ميتافيزيقيا" الحدث ". يبدو فيلم رينيه أليو، "أنا، بيير ريفيير ...»، الذي يتناول خبرًا مؤرشفاً حلله فوكو، نموذجيًا تمامًا. استطاع أليو صانع الأفلام الذي يتسم بالرصانة والحنكة، أن يعطي صوتًا لأولئك الذين أسكتتهم قوى التاريخ والمعرفة؛ يعيد العناصر الدقيقة التي تعطي جوهرًا لكتلة الحياة اليومية. يتم اقتباس أعمال سبيربيرغ Syberberg (هتلر، فيلم من ألمانيا)، Resnais (Nuit et Brouillard) وليل وضباب للآن رينيه، وفيريه Féret (حكاية دي بول) وعدد قليل من الأعمال الأخرى في رسوم توضيحية موجزة لسينما تفلت من إغراءات الجماليات. عمليات البطولات المعتادة أو إحياء الذكرى، وتتجاهل "الرجعية" المؤسفة. تختتم بعض نصوص فوكو هذه التأملات، مقتطفات من منشورات أو مقالات أو مقابلات.  الأسلوب، والتكنيك، والمفاهيم، صعبة، لا تشجع على القراءة.

فهناك أولاً حساسية تجاه الفن السابع أكثر مما هي حساسية تجاه نظرية منهجية:

نجد هذا الشغف الدقيق نفسه في الصفحات الثمينة التي يكرسها فوكو للأفلام التي يحبها، وقبل كل شيء في أوصافه الرائعة لـلعبقرية السينمائية cinégénie " لــ " الممثلين. سواء كان ميكائيل لانسدال Michael Lonsdale ("كثيف وضخم مثل ضباب بلا شكل") أو بطلات أفلام شروتر Schroeter ("في موت ماريا ماليبران La Mort de Maria Malibran، الطريقة التي تتبادل بها المرأتان القبل la manière dont les deux femmes s’embrassent, qu’est-ce que c’est ?، أليس كذلك؟ الكثبان Des dunes، قافلة في الصحراء une caravane dans le désert، زهرة شرهة تتقدم une fleur vorace qui s’avance، فك الحشرات des mandibules d’insecte، شق مستوى العشب une anfractuosité au ras de l’herbe  ").

وها هي هنا المفاجأة الرئيسية: إذا ذهب فوكو إلى السينما، فليس لاستخراج أسس نظام نظري أكثر مما هو ممارسة هذه الحساسية الخاصة أولاً وقبل كل شيء للطريقة التي تخترع بها العدسة جسمًا جديدًا. ابلاستيكياً تماماً entièrement plastique   أي تشكيلياً محض "، وكأنه يهرب من نفسه.

تُجمع هنا لأول مرة نصوص ميشيل فوكو عن السينما بفضل Dork Zabunyan و Patrice Maniglier الذين يعرضونها ويحللونها. من المثير للدهشة أن هذا الجانب من عمل ميشيل فوكو لم يكن أبدًا موضوعًا لكتاب حتى الآن، حيث يتم التعليق على أعماله ومناقشتها اليوم. كانعكاس غير مسبوق لعلاقته بالسينما.

التفكير في السينما بشكل مختلف:  Penser autrement le cinéma

استجابت أبحاثه حول السجن والمستشفى والجنس، لرغبته في "التفكير على نحو مختلف" وعلى وجه الخصوص في صنع التاريخ بشكل مختلف، من خلال التركيز على كل هذه الإجراءات الدقيقة التي لا ندركها ولكنها تحدد بعض التغييرات الأكثر عمقًا . عولى وجه التحديد، وهذا ما يوضحه هنا المؤلفان الفيلسوفان دورك زبونيان وباتريس مانيلييه Dork Zabunyan et Patrice Maniglier، السينما مكان يمكن فيه رؤية هذه التغييرات الدقيقة اللاواعية. وبالتالي، فإن علاقة فكر فوكو بالسينما بعيدة كل البعد عن كونها هامشية، مثل مساهمة هذا العمل في استقبال آثاره وأبحاثه ومؤلفاته.

Dork

إصدار كتاب يجادل فكر الفيلسوف في ضوء الفن السابع:

"فوكو يذهب إلى السينما". الفلسفة هي الموضة، في مجال السينما، تم تكييف العديد من المفكرين بالفعل مع صلصة الفن السابعة لمدة عشر سنوات. بالطبع، هذا ليس شيئًا جديدًا أيضًا: بالفعل في السبعينيات، أجرت مجلة مشهورة سلسلة من المقابلات تحت رعاية أحد أعظم النقاد في التاريخ - سيرج داني Serge Daney - مع طلاب مدرسة نورمال سوبريور Normale Sup السابقين، بما في ذلك الفلاسفة المعروفون الآن بكتاباتهم في السينما.

دولوز Deleuze على وجه الخصوص مع الأعمال الشهيرة بعنوان "السينما" والتي تزين معظم مكتبات عشاق السينما. أو حتى جاك دريدا Derrida، مخترع "التفكيك déconstruction «، فقد سلطت مقابلات مختلفة الضوء عليه غنبثقت منها فكرته القوية عن السينما وحول السينما، من بين أمور أخرى، فكرة أو مفهوم "الأشباح على الشاشة fantômes à l’écran ". بالنسبة لفوكو، الذي يثير اهتمام الأكاديميين باتريس مانيلييه ودورك زابونيان، فإن القضية أقل وضوحًا. يعتبر مؤلف كتاب "الكلمات والأشياء Des mots et des choses "، كما نعلم، أحد أشهر الفلاسفة في السبعينيات، والذين لا تزال أعمالهم حول تاريخ الجنون والجنس مستخدمة ومنتشرة على نطاق واسع. يكمن رهان الأكاديميين في المقام الأول في تجميعهما معًا ومحاولة تحليلهما لاستخراج فكرة مشتركة عن الفن السابع. تتكون معظم تصريحات الفيلسوف حول السينما من مقابلات أجريت مع فريق كراسات السينما Cahiers du Cinéma، ولا سيما حول أحد أشهر أعماله، أنا، بيير ريفيير، بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي. تم أيضًا نشر معظم النصوص المتعلقة بالسينما في مسيرة فوكو في مختاراته من أقوال وكتابات.

يذهب الكتاب أحيانًا إلى أبعد مدى لفرض فكرة أن الفيلسوف فكر في السينما جيدًا من خلال تجربته كمفكر للفنون، من خلال كثرة جمل الأمثلة، ولكن أيضًا من تحليلات ما كان يمكن أن يكون فكرًا فوكويًا تم تكييفه مع فيلم. كتاب فوكو يذهب إلى السينما مقسم إلى ثلاثة أجزاء. في البداية، يسعى المؤلفان جاهدين لفهم ما يمكن أن يجلبه فكر الالفيلسوف، وخاصة التاريخ، إلى نظرية الفيلم. المحاولة الثانية لتعكس ميتافيزيقيا الفيلسوف على الأعمال التي ميزته، مثل فيلم لويس مال Louis Malle، لاكومب لوسيان Lacombe Lucien، أو فيلم  هتلر، فيلم من ألمانيا Hitler, une film d’Allemagne لسيبربيرغ Syberberg، والذي يتعامل بالنسبة له حقًا مع ما أسماه ضد صيغة الماضي الرجعية "أنتي ريترو l’Anti-Rétro "، وهي قصة في الماضي يمكن تسجيلها في الوقت الحاضر . وأخيرًا، في الجزء الثالث، يجمع المؤلفان كل نصوص فوكو معًا، وبالتالي يعرضونها ببساطة كما على القارئ.

إذا هتفنا بإصدار نصوص هذا الفيلسوف الذي تكون كتاباته معاصرة دائمًا، فلا بد أن نأسف للإفراط في الإضافة sur-ajout المقحمة وضجيج عدد الأفكار. من خلال هذا الانغماس في كتابات المؤلف، يبدو أن الأكاديميين يفقدان تفكيرهما الخاص، وتحليلهما الشخصي للأعمال السينمائية والمكتوبة، ويقدمان فقط ما يسمى بتحليل النصوص المكافئة لتلك التي يمكن إجراؤها في المدارس الثانوية الفرنسية. على وجه الخصوص، أخذ الأمثلة التي لا تتناسب دائمًا مع الموضوع. من المؤسف أن نرى أفكار فوكو تغرق في سيل من الاقتباسات وإعادة الصياغة، حيث يستحق هذا المفكر، على سبيل المثال، مزيدًا من الاهتمام بعمله حول الجسم في السينما.

ميشيل فوكو المفكر بامتياز في الخطابات والسلطات. يمكن حصرها في جملة واحدة، فإن الفيلسوف هو الذي أعاد، في أعقاب نيتشه Nietzsche وفي السياق الثقافي الحيوي للغاية في الستينيات / الثمانينيات في فرنسا، بناء الجوانب المتعددة للتاريخ السياسي لحقائقنا. هل هو مفكر سينمائي؟ لا يبدو هذا الارتباط واضحًا للوهلة الأولى. على عكس الفلاسفة الآخرين في عصره، مثل جيل دولوز، على سبيل المثال، لم يخصص فوكو أبدًا كتابًا أو سلسلة من النصوص العضوية للسينما. يجد المرء في مقابلاته ومقالاته، المنشورة بالفرنسية في أقوال وكتابات Dits et Écrits، عددًا معينًا من المراجع، غير المتجانسة والمشتتة وغير المنتظمة، وغالبًا ما تكون نتاج لقاء مع المخرجين والنقاد والمثقفين الذين يعملون من خلال السينما ومعها . إن كتاب فوكو يذهب إلى السينما أو فوكو في السينما

يفترض الرهان على حوار ممكن ومثمر بين الممارسة السينمائية وفلسفة فوكو. هذا الرهان كبير، لأنه يجب أن يتغلب على عقبتين رئيسيتين: من جهة، كما أشرنا للتو، غياب خطاب منظم من قبل فوكو حول السينما، الطابع العارض والعرضي دائمًا لملاحظاته حول السينما. من ناحية أخرى، فإن المخاطرة التي أكدها المؤلفان في مقدمتهما، تتمثل في جعل هذا اللقاء بين فوكو والسينما مجرد تأثير أزياء، يصلح للدخول في عنوان "فلسفة الفيلم" الرائج اليوم ومن سيقنع نفسه مع البحث في الأفلام عن رسوم توضيحية بسيطة لأطروحات فوكو. ومع ذلك، نجح عمل المؤلفان في تجنب هاتين الخطوتين، ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلى العمل الذكي المتمثل في "التحرير" على مستوى كل من المحتوى وشكل النص. يتألف الكتاب بالفعل من مقالتين، كتبها المؤلفان، تعكسان فورًا ثراء وتعدد نهج  ومقاربة للممارسة السينمائية من خلال فوكو: يقترح دورك زبونيان، أستاذ الدراسات السينمائية بجامعة باريس 8، التفكير في "علم الوجود" للفيلم الذي يمكن أن يلهم الحوار مع فوكو، حول الخصائص المحددة لهذه "المعرفة" المحددة، بالمعنى الفوكوي للمصطلح، التي تنتجها وسيلة السينما ؛ باتريس مانيجلييه، محاضر في الفلسفة في جامعة باريس نانتير، يفحص عن كثب التداخل النظري والفلسفي بين العمل السينمائي وكتابات فوكو: ما يمكن للسينما أن تلقي الضوء على "ميتافيزيقيا" فوكو"métaphysique" foucaldienne.

تمت إضافة إلى هاتين المقالتين، في النسخة الفرنسية من العمل، مقاطع من النصوص والمقابلات التي خصصها فوكو للسينما، والتي نُشرت في Dits et writings، ومقتطف من برنامج دورة من الإسقاطات التي عقدت في La Villa Arson في نيس بين فبراير وأبريل 2011، تحت رعاية ECLAT (مكان الخبرات للسينما والآداب والفنون والتقنيات). اقترح هذا الحدث مناقشة سلسلة من الأفلام التي تدخل في حوار مباشر أو غير مباشر مع فلسفة فوكو، كنوع من الرحلة السينمائية في القوة "السياسية المصغرة" للصور والأرشيف السمعي البصري. ومع ذلك، فإن النسخة الإنجليزية من العمل، بفضل العمل المهم للمترجم، تزيد من إثراء هذه الفسيفساء من الخطابات: يتم نشر النسخة الكاملة لنصوص فوكو عن السينما وإتاحتها للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية. أضاف المترجم أيضًا المراجع والملاحظات لتوضيح بعض النقاط للقارئ غير الفرنسي، واستخدم العناوين الإنجليزية (عند وجودها) للأعمال والأفلام المذكورة. تشكل الترجمة الإنجليزية لكتاب Maniglier و Zabunyan ain إذا كانت لحظة مهمة لاستقبال فوكو في العالم الناطق باللغة الإنجليزية وفرصة للحوار بين النقد الفوكوي foucaldienne la critique  في فرنسا وداخل الثقافة الأنجلو سكسونية.

يبدأ مؤلفا العمل من الفرضية التي بموجبها يجد المرء في المواجهة بين فوكو والسينما أكثر بكثير من مجرد مصلحة متبادلة أو تقارب سطحي للموضوعات. من الواضح أن الأمر لا يتعلق بالكشف عن نوع من السينما المثالية الفوكوية (الأفلام التي أحبها فوكو)، ولا الاكتفاء بتتبع المناقشات وعمل صانعي الأفلام حول فكر فوكو (حتى لو كان الكتاب يخصص حقًا مكانًا مهمًا للعنوان). المقابلة التي أجراها فوكو مع محرري كراسات السنينما "Cahiers de cinema" في عام 1974، [4] وإلى تصوير فيلم "بيير ريفيير" إخراج رينيه أليو، 5 استنادًا إلى العمل الأرشيفي المهيب الذي نفذه الفيلسوف ومعاونيه في وقت مبكر. السبعينيات). يتمثل التحدي في عمل مانيجلير وزابونيان في إظهار أن الفلسفة والسينما الفوكودية تلتقيان على نفس البعد النظري والعملي: يمكن أن يشكل الاثنان قوة خبرة، بالمعنى الذي أعطاه فوكو لهذا المصطلح، أي ديناميكية قادرة على تغيير من نحن وكيف نرى ونتصرف في العالم. أكد فوكو في عام 1978 في مقابلة شهيرة مع دوتشيو ترومبادوري Duccio Trombadori أن التجربة هي "شيء يخرج منه المرء متحولًا". تعد السينما والفلسفة إذن شكلين، وإن كانا مختلفين، للحركة التجريبية: وهكذا يمكن للسينما أن تواجه، من خلال هذه الوسائل، القوة النقدية في قلب فلسفة فوكو كبادرة ملموسة للفكر، كديناميكية للتحول للذات وللإنسان والآخرين. السينما تجعلنا "ننظر بشكل مختلف" ما تسمح به الفلسفة "بالتفكير على نحو مختلف".

على وجه الخصوص، تجعل السينما من الممكن إعادة التفكير في سؤال يقع في صميم أعمال فوكو: هل يمكننا تخيل طريقة أخرى للتفكير وصنع التاريخ؟ يستكشف الفصل الذي كتبه Dork Zabunyan هذه المشكلة من خلال انعكاس، نظري بالتأكيد ولكنه يعتمد على عدد من الأمثلة الملموسة " هانس يورغن،سبيربيغ،لوي مال،رينيه فيريه،بيير باولو بازوليني،، ويرنر شرويتير ليليان كافاني، ميكائيل لانسدال، (Hans-Jürgen Syberberg، Louis Malle، René Féret، Werner Schroeter، Michael Lonsdale، Liliana Cavani، Pier-Paolo Pasolini، إلخ. .)، المتعلقة بشكل المعرفة الخاصة ببعد الفيلم. عند التساؤل من منظور المشروع الأثري الفوكوي، من الواضح أن السينما لا يمكن أن تقع في جانب الخطاب البحت، مثل رواية أو مخطوطة أرشيفية، ولا في جانب غير الخطابي، مثل الرسم. على سبيل المثال، فهي نفسها رمزية في أعمال فوكو (فقط فكر في تحليل Las Meninas من قبل فيلاسكيز Vélasquez الافتتاحي الكلمات والأشياء). بين الصورة والخطاب، المرئي والقابل للقول، يسمح الفيلم في الواقع على مستوى إعادة البناء التاريخي بينما يشكل شكلاً "الخروج" من أي مفهوم أكاديمي وثابت للتاريخ وكذلك من الذوق "الرجعي" البسيط للماضي. يمكن للفيلم أن يصبح عنصرًا من ممارسات واستراتيجيات "الهجوم المضاد" 8 التي يصفها فوكو، في كتابه عام 1976  إرادة المعرفة La volonté de savoir ، باعتباره الإمكانية الوحيدة للمقاومة الفعالة لأجهزة القوة والجنس التي تشكلنا. يتضح هذا بشكل خاص إذا أخذنا في الاعتبار بُعد الجسد في السينما. فوكو نفسه، بالإشارة إلى أفلام فيرنير شروتير Werner Schroeter أو مارغريت دوراس Marguerite Duras، على سبيل المثال، يعترف بالقوة المناسبة للوسيط السينمائي للعرض على خشبة المسرح لجسد يهرب في تعدده من الإدراك العضوي للسلطة ومن الوضوح الوحيد لسلطة ما. الرغبة الجنسية: 9 "جسد بلا أعضاء"، لاستخدام مفهوم أساسي لأنطونين أرتو Antonin Artaud، والذي يكشف في تجزئه وتشتت القوة (كم مثير للشهوة الجنسية) للتأليف الجسدي الذي يفجر منطق التفرد وتصنيف القوى المعاصرة . عندئذٍ بالضبط، من خلال قدرتها على التفكك والتشتت، يمكن للسينما أن تنضم مجددًا إلى هذا الطابع من الانقطاع الخاص بممارسة فوكو التاريخية. السينما هي "فن الفقر والافتقاد art de la pauvreté "، كما قالت هيلين سيكسوس عن مارغريت دوراس في مقابلة مع فوكو من عام 1975: 10، وهو تمرين يتكرر باستمرار في تجريد أغلال التقاليد والأيديولوجيات ووسائل الراحة. هذا الفقر، علاوة على ذلك، له الكثير ليفعله، كما أشار المؤلف بحق، مع متطلبات "الزهد" و "أسلوب الذات" التي ستكون في صميم فكر فوكو، لا سيما في الثمانينيات - ونحن نأسف أن انعكاسات دورك زابونيانDork Zabunyan تشير إلى هذه النقطة، فإن الفتحات نحو السينما في المرحلة الأخيرة من العمل الفوكوي لم يتم استكشافها كثيرًا. على أي حال، فإن غياب السينما عن الأرشيفات التي استخدمها فوكو في أعماله الكبرى لا ينبغي أن يكون مفاجئًا. ربما يكون الوسيط السينمائي قريبًا جدًا في منطقتنا أن يكون تاريخًا حديثًا حتى يتمكن مؤرخ "الحاضر" من جعله موضوع نظره. لكن هذا لا يعني أنه لا يمثل افتراضيًا مهمًا للتفكير في هذا الحاضر بالتحديد الذي نحن فيه ونعيشه: إنه على العكس من ذلك، وفقًا للمؤلف، مكانًا رئيسيًا للنقاش حول أشكال "المقاومة" .. والتحول الملموس للذات في واقعنا.

يبدأ المقال الثاني في الكتاب، الذي كتبه باتريس مانيغيليه، من ملاحظة أن اللقاء بين فوكو والسينما، مهما كان عرضيًا، ليس بالأمر الهين لأن هناك تقاربًا جوهريًا بين المشكلات المثارة، ومعرفة المجالات المفتوحة لـ التساؤل، عما هو مبهم ومعقد بالنسبة لنا بسبب حقيقة أن هناك شيئًا من النضال الأساسي يحدث هناك: الجنس، القوة، الجنون، علاقتنا بالماضي، بالذاكرة الجماعية، إلخ. مرة أخرى، تكمن المشكلة الرئيسية حيث يلتقي الفيلم والفلسفة ويتصادمان بالنسبة للمؤلف في مسألة التاريخ: لقد أدرك كل من السينما وفوكو انهيار علاقة تقليدية معينة بالزمن والذاكرة ومتطلب إعادة التفكير في معاصرتنا بالطريقة التي نعيشها. التي نبني هويتنا التاريخية. لا يتردد باتريس مانيغلييه في استدعاء العديد من الأمثلة السينمائية لهذه "الثورة" في مقاربة التاريخ، بدءًا من رينيه أليو René Allio إلى آلان رينيه Alain Resnais وإريك رومر Éric Rohmer وكوينتين تارانتينو Quentin Tarantino وروبرتو روسيليني Roberto Rossellini وغيرهم. لكنه يرغب في ترسيخ هذا التأمل في التاريخ في السينما، من خلال فوكو، من خلال تحليل فلسفي مناسب، وميتافيزيقي بشكل أفضل، لبعد يقع في قلب فكر فوكو، وعلى وجه الخصوص مفهومه للتاريخ: مفهوم الحدث. قد يبدو الاستخدام المفترض لمصطلح ميتافيزيقا فيما يتعلق بمفكر مثل فوكو في غير محله. على الرغم من أن المؤلف أوضح أن استخدامه لهذا المفهوم لا يحتفظ بأي شيء من الهدف المتعالي للميتافيزيقا التقليدية، إلا أنه لا يزال هناك شعور بأنها صورة لفوكو في جيل دولوز تظهر في هذه الصفحات. ومع ذلك، فإن عملية مانغلييه Maniglier لا تخلو من الاهتمام: من خلال مسألة الحدث، ينزل إلى القلب النقدي لفلسفة فوكوية philosophie foucaldienne وعلاقتها بالتاريخ. ما هو التاريخ المتقطع إن لم يكن سلسلة من الأحداث مثل التفردات التي تحدث في مساحة فارغة، بعيدًا عن السلسلة التي حددتنا في الأيديولوجيات التقليدية العظيمة والتليولوجيات téléologies للتاريخ؟ ولكن بعد ذلك، كيف نفكر حقًا في ظهور وتسلسل وإنتاج الوضوح والقيم من هذا الوقت الحافل بالأحداث والمتقطع والمشتت؟ ما الذي يجعل التاريخ في هذه الصيرورة بلا زمن؟ كيف يمكن التفكير في أن تصبح بدون مادة، وموضوعات بدون هويات سابقة، وابتسامات بدون قطط، كما في فيلم أليس في بلاد العجائب Alice aux pays des merveilles من إخراج لويس كارول Lewis Carrol (رسم توضيحي للحدث وفقًا لجيل دولوز في الاختلاف والتكرار)؟ 11 هذه أسئلة فلسفية كثيفة، ولكن لا يستطيع فوكو الهروب منها، في بحثه عن فكر نقدي، أي: الذي لا يكشف لنا حقيقة الأشياء ولكنه يسمح لنا دائمًا بالاعتقاد بأن الحقيقة موجودة في مكان آخر، ويمكننا أن نتحول ونصبح آخرين، عن طريق تغيير رؤيتنا للواقع. إجابة فوكو، من وجهة نظرنا، دائمًا ما تكون تاريخية أكثر منها ميتافيزيقية: فبدلاً من أن يسأل نفسه مباشرة "ما هو الحدث؟»، يبحث، على وجه الخصوص من أعمال السبعينيات، عن أمثلة تاريخية تظهر التفرد الزمني يصنع حدثًا، وينتج كسر في الوقت المناسب. بعد قولي هذا، من المثير للاهتمام أن نلاحظ، كما يفعل المؤلف، التقارب حول هذه الأسئلة الخاصة بالفلسفة الفوكوية والسينما، والتي يمكن أن تصبح مكانًا للتفكير أو حتى لإنشاء الأحداث بفضل عملياتها، قوتها في الحركة خارج زمان وفضاء الوجود اليومي. يمثل الفيلم إذن أداة نقدية بالمعنى الفوكوي للمصطلح: لحظة اختراع أشكال جديدة للعلاقة بالزمانية والهوية التاريخية؛ فتح فضاءات جديدة للعمل والفكر.

في الختام، في ثراء الموضوعات والنهج، يشكل كتاب باتريس مانيجلييه ودورك زابونيان قراءة مهمة لتعميق أحد أبعاد العمل الفوكوي (العلاقة بالسينما) التي تم التقليل من شأنها لفترة طويلة أو حتى تجاهلها. من المسلم به أن تأثيرات التفسير المتحيز ممكنة دائمًا، بمجرد أن تكون مسألة إعادة تتبع بأي ثمن خيطًا مشتركًا في الكتابات التي تظل غير متجانسة من حيث تاريخ تكوينها، ومناسبة إنتاجها، والمواضيع التي يتم تناولها. ومع ذلك، يدرك المؤلفان هذا التنوع الأساسي للمواد التي يتعاملون معها، ويقومون بعمل ملف نقطة الشدة، التي يجب أن نلعب عليها من أجل استكشاف ليس تماسك الرؤية في فكر فوكو، بل بالأحرى مكان الإشكالية المتكرر باستمرار: مسألة علاقة الحاضر بتاريخه، من خلال المحفوظات - تلك الخاصة بالتاريخ ونظرية السينما - الوقوف على الحد الفاصل بين أبعاد الخطابي والبصري، بين الكلمات والصور وواقع الأجساد. من خلال قبول العمل بدلاً من ذلك على الحدس المتشتت والنصوص الصغيرة لفوكو (بقدر ما يمكن تطبيق هذه الفكرة على إنتاجه)، تفتح سلسلة جديدة كاملة من الأسئلة واللقاءات المحتملة بين الفكر الفوكوي والسينما، وبشكل أعم لا يزال فوكو والفنون المسرحية بحاجة إلى استكشاف إلى حد كبير: نقد التمثيل والعلاقة بين اللغة والإشارة والواقع ؛ الإدراك بأن مرحلة معينة من تاريخنا قد انتهت نهائيًا، وبالتالي فإن هناك حاجة إلى تفكيك المفاهيم النقدية وهو في نفس الوقت إعادة ترميز وإعادة كتابة للذات ؛ التفكير في ذاتية الممثل والمشاهد ؛ إشكالية الجسد وإمكانياته في التعبير والتهجين ؛ مطلب سياسي بحت لانتقاد أنظمة السلطة وتسلسلها الهرمي من أجل تخيل وابتكار طريقة مختلفة للوجود.

يبدو أن ما أصبح واضحًا أكثر فأكثر في هذه السنوات الثلاثين الأخيرة من النقد الفوكوي، منذ وفاته في عام 1984، هو أن ميشيل فوكو ليس فقط فيلسوفًا لخطابات علم الآثار، وسلسلة نسب القوى، وأنماط الذاتية، وألعاب حقيقة. وهو أيضًا مفكر استخدم الفنون في كثير من الأحيان كرموز بلاستيكية لنماذج من المعرفة، واستعارات فنية وجمالية لتصميم مساحة عمله الفلسفي - الحياة كـ "عمل فني" ؛ العين الحاسمة "لرسم" الحياة العصرية ؛ "مسارح" الحقائق والأجساد التي تشكل سلاسل الأنساب المتعددة لعلاقات القوة. فتح فوكو خطابه الفلسفي أمام تلوث حقيقي ونشط من خلال تعددية الممارسات الفنية، والتي غالبًا ما يتم إنزالها إلى حدود الفكر التقليدي. الأدب، والمسرح، والسينما، والموسيقى، والتصوير الفوتوغرافي، و "عروض" الكلام: هناك أبعاد عديدة لا تعتبر بالنسبة لفوكو ترفيهًا جماليًا بأي حال من الأحوال، وتوغلات بسيطة في مجالات الممارسة والفكر بعيدة كل البعد عن الخطاب الفلسفي الكلاسيكي، ولكنها تشارك بشكل مباشر من بناء فلسفة فوكوية وتعبئة قوتها النظرية السياسية. ليس من قبيل المصادفة أن السينما، من بين الفنون الأخرى، تواصل اكتشاف فوكو، لتعبئته أو لاستنفاره، ولاستجوابه.

يجب أن ينقلب أفلاطون في قبره: دروس الفلسفة تجري في هذه الكهوف التي هي صالات العرض المظلمة! الغرباء منذ زمن بعيد عن بعضهم البعض، السينما والفلسفة يسيران جنبًا إلى جنب اليوم. حتى أن الكلمة العصرية جدًا تشهد على هذا الاتحاد الجديد: "الفلسفة السينمائية cinéphilosophie ". لكن لماذا وكيف يستحوذ الفلاسفة على السينما؟ في نظر المشكك الأمريكي ستانلي كافيل Stanley Cavell، ليس هناك شك: السينما تعكس علاقتنا بالعالم. الفن السابع هو عالم الظلال. ظاهرة الإسقاط تجعل العالم الغائب يظهر. إنها تعكس الخطوط العريضة بالأبيض والأسود لهذا العالم الموجود وغير الموجود، والذي لن أتمكن من معرفته أبدًا. السينما إذن هي "صورة مؤثرة" للشك، كما عبر عنها المؤلف بلطف. إنه يضعني في قلب "جدلية خيبة الأمل والرغبة"، المعرضة للخطر في كل أفكار كافيل Cavell.

السينما مكان الاخلاق. نتيجة للدورات التي قام الفيلسوف بتدريسها في جامعة هارفارد، والتي تربط بين المفكرين والأفلام، تقدم فلسفة الصالات المظلمة رحلة عبر تاريخ الفلسفة الأخلاقية، من أفلاطون Platon إلى راولز Rawls، عبر نيتشه وإيمرسون Nietzsche et Emerson، بالإضافة إلى توضيح حول الكمالية الاتقائية perfectionnisme (انظر أيضا ص 82). كيف تصبح نفسك؟ كيف تصبح أفضل؟ هذه الأسئلة هي في صميم الأفلام التي جمعها كافيل تحت نوع واحد: كوميديا الزواج. فيلم قلب محاصر Un cœur pris au piège إخراج ستورجس Sturges ؛ سيدة الجمعة La Dame du vendredi لهوكس Hawks. أو حتى فيلم الطيش من إخراج كيكور Indiscrétions de Cukor يعبرها نفس االنابض الدرامي: ينفصل الزوجان للعثور على بعضهما البعض بشكل أفضل. ويعيشان سعادة جديدة ...

بالنسبة إلى ميشيل فوكو Michel Foucault، الذي لم ينجذب كثيرًا إلى نظرات كاثرين هيبورن Katharine Hepburn وكاري غرانت Cary Grant، فإن الاهتمام هو عدم معرفة ما إذا كانت السينما تجعلنا أفضل. إنها مرآة التاريخ التي شاهدها، من جانبه، على الشاشات، وهذا "الارتباط بين السينما وأرشيف العصر"، كما كتب Dork Zabunyan في فوكو يذهب إلى السينما، التي تحتل النصوص القليلة والمقابلات التي كرسها المفكر للفن السابع. إذا كان أحد الفلاسفة النادرين الذين تم تكييفهم للعرض على الشاشة – نصه العظيم " أنا بيير ريفيير بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي" ... الذي أصبح فيلمًا من إخراج أليو -، فإن فوكو، على عكس كافيل أو دولوز، لم يطور أبدًا فكراً شاملاً منظماً في السينما. من خلال أفلام فيريه، أوشرويتير،أو ودوراس، أوبازوليني،Pasolini أو Duras أو Schroeter أو Ferret، يستحضر آثار علاقة بالماضي أو بالسياسة أو بالجنون أو بالجسد أو بالجنس. هل يمكننا، على سبيل المثال، أن نصنع فيلمًا بدون إضفاء الإثارة الجنسية أو البطولات؟ عندما يتحول إلى بطل للفلسفة، لا تتوقف السينما عن إبهاره بجمالها المظلم.

يقدم باتريس مانيغلييه ودورك زابونيان مقالتين طويلتين مجمعتين معًا في كتاب، مصحوبة بمجموعة مختارة من نصوص ميشيل فوكو، دراسة مفتوحة رائعة، لقاء سياسي بين الفيلسوف والسينما. كتاب له اهتمامات متعددة، تحركه حركات فكرية رائعة.

السينما، في نفس الوقت باعتبارها فناً غير نقياً أو صافياً art impur، ربما توجد أيضًا، كما قال غودار Godard، بين التلسكوب والميكروسكوب: أداة علمية مخصصة للمقياس البشري. هذان السببان يمكن أن يفسرا الحماس الفردي لما يسمى بـ "العلوم الإنسانية" للذهاب ومشاهدة جانب السينما، خاصة أنه يبدو بداهة أنه الفن الأقل إثارة للخوف. إن هذه الخاصية الديمقراطية (بكل معاني المصطلح) هي التي تبدد سراب الشرعية أو اللاشرعية في الحديث عنها، وتفتح السينما على أي نوع من الفكر. هذه الفرصة لتكون قادرًا على فهم السينما بعدة طرق هي أيضًا فرصة للسينما نفسها: التفكير فيها بشكل مختلف هو تتابع لصنعها على نحو مغاير ومختلف مختلف.

كان باتريس مانغيلييه قد شارك بالفعل في العمل الرائع عن فيلم ماتريكس (ماتريكس، ماكنة فلسفية Matrix, machine philosophique [1]) الذي قصد التفكير في السينما والفلسفة بشكل مشترك، وفتح فكر كليهما. نادرًا ما لم تأت الفلسفة لتلتقط المصفوفة لترفعها إلى سماء يفترض أنها أكثر نبلاً أو ثراءً؛ على العكس من ذلك: هذه المحاولة (التجريبية) لم تستدعي التوضيح ولا السخرية ولا حتى هذه النية الحسنة لإعادة التأهيل والتي غالبًا ما تنطوي على لهجات متداخلة، حتى من الكراهية المخفية بشكل سيئ للسينما التي لن تكون "سائدة". ". قدمت لنا آلة ماتريكس الفلسفية بسعادة (تركت كل الادعاءات في الخزانة) للتفكير مع ماتريكس، لإرشادنا لتقدير جميع الأحاسيس المسكرة لتجربة المشاعر الفلسفية في نفس الوقت مثل السينما.

إذا سمحت لنا المصفوفة Matrix، وهي آلة فلسفية، أن نشعر بذكاء وإبداع الفيلم بشكل فعال، يذهب فوكو إلى السينما التي يقترحها لدراسة العلاقة بين السينما والتاريخ، مثل أنهما كانا قادرين على الظهور بشكل مشترك مع ميشيل فوكو طوال عمله، وفي السبعينيات من القرن الماضي للنقاد (باسكال بونيتزر Pascal Bonitzer، سيرج داني Serge Daney، سيرج توبيانا Serge Toubiana) وصانعي الأفلام المخرجين(رينيه أليو René Allio وآلان رينيه Alain Resnais). هذه العلاقات بين السينما والتاريخ مدعومة بالسياسة، أو بالأحرى سياسة العرض والتمثيل la représentation.

بعد مقدمة واضحة جدًا حول موضوعهم، موقفهم ("فكرة في العمل" الرغبة في السعي إلى "التفكير بشكل مختلف"، تمامًا مثل فوكو، الذي كان تعبيره، يهدف إلى إيجاد طريقة جديدة لممارسة التاريخ)، ومشروعهم (لمواجهة الممارسات الفلسفية والسينمائية والتأمل في التاريخ)، يتعامل المؤلفان معه من زوايا انطلاق مختلفة تنتهي بالالتقاء في خطوط رحلتهم: إمكانيات فيلم لدورك زابونيان، مفهوم الحدث، لباتريس أكثر ذكاء.

ماذا يمكن أن يفعل الفيلم؟

بهذا السؤال، بالتوازي مع سؤال سبينوزا Spinoza الذي أعاد دولوز قراءته، افتتح دورك زابونيان مقالته. يبدأ المؤلف بتحليل تأثير الفكر الفوكوي la pensée foucaldienne كما عرض في مجلات كراسات السينما Cahiers du Cinéma في منتصف السبعينيات، في خضم موجة نضالية متشددة [2]، ومقابلة "Anti-Retro" الشهيرة (CC رقم 251-252 Juillet - أغسطس 1974) التي أجراها باسكال بونيتزر وسيرج داني وسيرج توبيانا ضد موجة من الأفلام "الرجعية  rétros "، وتحويل الماضي إلى لوحة جدارية زخرفية. باتريس مانيغلييه (انظر أدناه) يكمل تحليل فيلم رينيه أليو (أنا، بيير ريفيير، بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي ...) بدأ هنا. لكن زبونيان أكثر اهتمامًا هنا بما جذب انتباه فوكو في السينما، أي جمالية الفقر، وغياب اللياقة أو التأثيرات. يمكن للآثار فقط أن تقلل من التأثير السياسي أو تصرف الانتباه عن قضايا التمثيل. "إذا كانت هناك خصوصية إيجابية للسينما في فوكو، [...] فهي مسألة تصور فن سينمائي خالٍ من أي مقاربة جمالية [3]: (" رجعي "أم لا) [...] فن حيث يؤدي الزهد المرئي والصوتي في كل شكل من أشكاله إلى الغوص في التعرجات القاحلة للأرشيف، أو قسوة علاقتنا بالسلطة، أو تحريك الجسد المجهول. (ص 32) يحلل زبونيان العلاقة البعيدة بين الفيلسوف والسينما من خلال المسافة التي يمكن أن يتخذها المؤرشف فيما يتعلق بالحقائق الحديثة جدًا، حيث يظل الوقت المنقضي قريبًا جدًا وغامضًا للغاية.

قضية مشروعة:

على الرغم من أن فوكو عاشق للسينما، إلا أنه لم يؤلف كتابًا عن السينما كما قلنا أعلاه، ولم يعترف بأنه مؤهل للتحدث عن الجماليات السينمائية. مداخلاته مشتتة في عدد قليل من المقالات والمقابلات، والتي يجب أن تفعل بالضبط، في فئة خطابها، مع الواقع والصراعات الملموسة. كما قال باتريس مانيغلييه بلطف، "من الصعب تخيل الميتافيزيقيين في توغاس وهم يتظاهرون مع مجموعة معلومات السجن. من الصعب أن نتخيل المفكر التأملي يقول مع فوكو إنه لا ينبغي للمرء أن يتردد في لكم الشرطة، لأن رجال الشرطة مصممون لذلك، أي لممارسة العنف الجسدي. يمكن لأخصائي المحفوظات و "الناشط" أن يتعايشا، ولكن ربما ليس بالضبط في نفس الوقت. على الرغم من هذا الاحتجاج على اللاشرعية، فقد يكون حدث ما بين فوكو والسينما مثل "علاقة غرامية" (للتلاعب بالكلمات)، تبادل متبادل على شكل استجواب.

بادئ ذي بدء، وهذا هو الجزء الأول من مداخلة باتريس مانيلييه (التي تضيف إلى انعكاسات دورك زابونيان، يرى فوكو في السينما إمكانية غير مسبوقة لعرض قصة "جزيئية". يطور فوكو مفهومًا جديدًا جذريًا للتاريخ، وهو مفهوم سياسي يمكن تلخيصه بالفعل بهذه العبارة من الفيلسوف: "شخص ما يتكلم دون امتلاكه"؛ إما: شخص (مثل بيير ريفيير، ومثل "رجال سيئو السمعة hommes infâmes " الذين أراد فوكو جعل تاريخهم) غير شرعي [4 يأخذ على عاتقه تاريخه الفريد، معارضة القوات الشرعية (الشرطة، الأطباء، المحامون، إلخ). بالنسبة للتاريخ الرسمي البطولي لأي كيان (رجل عظيم، أمة، طبقة) يعارض فوكو الذاكرة الشعبية، "عملية بلا موضوع" (كما عرّفها ألتوسير Althusser). الشعب ليس الفلاحين أو العمال، إنهم ليسوا طبقات، إنهم "خونة: إنهم في التاريخ، لكنهم مثل الفيروس. إنهم يطاردون تاريخنا، لكن تاريخنا ليس تاريخهم. (ص 63) لا تزال ذاكرة هذه الأقلية موجودة في الوقت الحاضر، حتى لو كان عمرها عدة قرون، لأنها مرتبطة بدقة بالحدث (تم شرحها بالتفصيل وبشكل جيد جدًا بواسطة مانغلييهr لاحقًا).

مفاصل أو تمفصلات: Disjonctions

الذاكرة الشعبية هي تاريخ لا يدمج وجهة نظر متدلية (فوق تاريخية)، ولكن أين الحدث، ليقول بسرعة ما يظهر في الفجوة التي أحدثتها الطفرة وتلاقي العديد من القوى التاريخية، المعرفية، يمكن أن يأتي على وجه التحديد للإضاءة من خلال إمكانيات انفصال الوسيط السينمائي: بين الكلام والصوت والصورة، بين اللقطات - تأثير كوليشوف effet Koulechov. بهذا المعنى، فإن فيلم رينيه أليو Moi، بيير ريفيير ... (تم تحليله ببراعة من قبل Maniglier) مانغلييه، يتكيف مع حرف النص الأصلي الذي اكتشفه فوكو، يلعب على مفارقات الكلام لإظهار مجموعة كاملة من القوى الخطابية التي تتعايش وتتعارض، يمكن أن تعارضها مراجعات نصوص مجلة كراسات السينما Cahiers du Cinéma بأسلوب رجعي (حيث يكون فيلم عتال الليل Portier de nuit [5] ولوسيان لاكومب Lacombe Lucien [6] جزءًا، وفي نهاية الثمانينيات ولكن بالمثل، أورانوس Uranus لكلود بيري Claude Berri الذي سينتقده بشدة سيرج داني).

يتدخل مانغلييه بعد ذلك بشكل أعمق في مفاهيم الحدث، المتسلسلة (ربما في قراءة أكثر دولوزية  deleuzienne  لفوكو)، لينتهي به الأمر في نهاية المقال بمجموعة من المقترحات النظرية والتحليلات الفيلمية المبهرة، والتي تكاد تكون مقبولة: رؤى وطرق تصور للتحدث عن الأفلام، ذات قوة كبيرة، أسلوبية ونظرية. دعونا نقتبس، على سبيل المثال، هذا التأكيد والعرض في غاية الجمال: "ليس قطارًا يدخل المحطة، لكن المحطة كلها كما هي تتحقق في قطعة قطار. (ص 87) أو هذا المقطع: "وهكذا، لن تظهر لنا السينما أياديًا متوترة، بل توترات تنشأ في وسط قوى أخرى، وليست عيونًا تثبت شيئًا ما، بل نظرات تشغل وجهًا، وليس خطافات منقولة التي تقطع الحناجر، لكنها قطع الحلق التي تعبر الزمن ... "(ص 102) هذه الصفحات المذهلة وغيرها، والتي ا أستطيع مقاومة إغراء اقتباسها، تذكرنا بمداخلة دولوز في إحدى محاضراته عن الوجه في سينما:

"ما يفعله الوجه شيئان: الوجه يشعر، والوجه يفكر بــ [...] يعود الزوج إلى المنزل في المساء منهكا من عمل طويل. يفتح الباب، يجر رجليه، وتنظر إليه زوجته. فيقول لها عابساً نكد المزاج وعلى نحو عدواني تقريباً، مشاكس ومتذمر: ما رأيك بماذا تفكرين؟ وأجابت: ما خطبك؟ - "فيم تفكر"؟ وهذا يعني: ما هي الجودة التي تنبع من وجهك؟ والإجابات الأخرى "ما بك؟»، ما هذه السلسلة الغريبة والمكثفة التي تخترقك صعودًا وهبوطًا.»

هذه القدرة الرائعة للابتكار، للعرض والتفكير في نفس الوقت، للتوفيق بين الاثنين في جملة واحدة، تشوه من خلال الأسلوب أي محاولة لإفساد الفلسفة في السينما: يوجد هنا أيضًا لقاء حقيقي، شيء رائع تمامًا يحدث، وهو ما يتوازى بشكل مباشر مع محاولات فوكو القليلة للتفكير في السينما كوسيلة للتجربة. والاقتباسات من إبشتاين Epstein، وهو نفسه صاحب نظرية أو منظُر وممارس للسينما، متطابقة (أو ينبغي أن أقول "متسلسلة").

لأن المؤلفين يصرّان على علاقة الجسد المعاد تشكيله بالسينما والسينما نفسها كجسم جزيئي كبير: الطريقة التي يرى بها فوكو في أفلام فيرنر شروتر Werner Schroeter "نشأة الجسد"، أو في أفلام مارغريت دوراس " ضباب بلا شكل (انظر حول هذا الموضوع النصف الثاني من مقالة زبونيان، بالإضافة إلى تحليلاته لتمثيل السلطة). ومع ذلك، فإنه من خلال ممارسة هذه الملكات المشتتة يمكن تطوير كل من سينما التاريخ وفقًا لفوكو، ولكن أيضًا طريقة جديدة لفهم السينما والتعاطي معها بقوة كامنة، في الإمكانات.

لأنه (وهذا بالتحديد الجزء الأخير من مقالة مانغلييهr) يعود الفضل في ذلك إلى ملكة التخوف، هذا النمط من الرؤية الذي يمكن لسينما الذاكرة إعادة الاتصال بالحاضر. إذا كانت كتب فوكو مهتمة بالعصور البعيدة عنا، فإن مقالاته ومقابلاته كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأحداث الجارية، ومع ذلك فإن السينما تقوم بتحديث الذاكرة (وهذه هي نظرية مانغلييه) من خلال التساؤل الدائم عن صوره. الشاشة كقناع (حسب أندريه بازان) تعرض الصورة من الخارج، أي صورة سينمائية غير مكتملة من قبل في تحليل مذهل وعما لا يُصدق في فيلم ليلي وضباب Nuit et Brouillard إخراج ألان رينيه Alain Resnais، يصف مانغلييه قوى الصورة وتمثيل الصيحات، التي تتشكل بين المفارقات (الزمنية، المكانية، الجمالية) التي ينتجها الفيلم. يمكننا أن نرى بوضوح ما تقدمه هذه التحليلات أيضًا للخطاب حول السينما، وطريقته في الحديث عنها، ووصفها، وهي ملكات ملموسة وخيالية في نفس الوقت.

في الختام، يوضح مانغلليهr بالتفصيل عددًا آخر من الأفلام التي قد يكون من المثير للاهتمام دراستها، موضحًا أن هذا الكتاب ليس سوى مثال واحد ممكن لما يمكن أن تجلبه المواجهات بين فوكو والسينما. يقول باتريس مانغلييه، في اندفاع رائع من التواضع ("أنا لست مؤرخًا ولا صانع أفلام ولا ناقدًا سينمائيًا"، ص 53 – هل هو جبن اللاشرعية، مرة أخرى؟)، ينفي تقديم نماذج عملية للسينما. لكن إذا لم يفعل ذلك بشكل مباشر، فإنه يفعل ذلك بطريقته في التعامل مع الأفلام، وما يحدث لنا من خلال الكتابة.

سيكون من المستحيل ومن الحماقة تكرار الرسالة، باستثناء أن تصبح نوعًا من بيير مينارد Pierre Ménard، كل ما يحتويه هذان النصان مثير، ومفتوح بشكل خاص، كإمكانية للدراسات. ما هو مؤثر بشكل خاص، وما يكمن وراء المشروع، هو هذه الرغبة في أن تصبح، هذه الرغبة في شيء جديد، يشبه العالم المجنون أو الساحرة، والتي تتشكل في كل من الرغبة في رؤية "شيء آخر"، ووضعه بطريقة أخرى بطريقة مشتركة في التخصصين. هذا هو السبب في أن قائمة البداية (الخاطئة) التي وضعها المؤلفون في المقدمة (التأثيرات الأربعة التي يقصدها هذا الكتاب: على النقاد، والمنظرين، وصانعي الأفلام، والفلسفة نفسها) يمكن فقط تفريقها وتقسيمها إلى العديد من النقاط الفردية، غير قابلة للتوحيد. ضد توحيد، المسلمات: المتعدد، المفتوح. يسلم المؤلفون إلينا النص: الأمر متروك لنا لتولي المسؤولية منهم، من فوكو أو غيره، للعب السينما بمعرفة أخرى، ولعب دور الكيميائي الصغير أو الساحر، التسرع في زج الوسيط.

***

د. جواد بشارة

 

محمد السعديسيرة ذاتية للصديق والقاضي زهير عبود كاظم عنوان كتابه ”الأرض والسلاح والإنسان ” الصادر عن دار نشر 4D في مدينة النجف الاشرف ” الذي أهدانياه مشكوراً، والذي لفتني عنوانه بتلك المفردات الثلاثة تعبيراً عن الإنسان ومحطات حياته النضالية في حقبة مهمة من تاريخ العمل الفدائي (الفلسطيني) عشية هزيمة ٥ حزيران عام ١٩٦٧ . في مقدمة كتابه، الذي يحوي ١٢٦ صفحة من الحجم الكبير عرض موجز ومكثف عن بدايات إعلان الثورة الفلسطينية وإنطلاق منظمة التحرير ” فتح ” بقيادة ميدانية من رئيسها الراحل ياسر عرفات، وتداعيات الموقف العربي الرسمي والشعبي في الدعم والمساندة المعنوية والمادية والاعلامية والوجستية بإتجاه تحرير الارض الفلسطينية المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني ودوائره الامبريالية، فضلا عن هذا الدعم والتأيد الكبيرين للقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير ممثلها الشرعي في التمثيل والنضال، لكن تناسلت عنها عدة تنظيمات ومنظمات بداً من الجبهة الشعبية مروراً بالجبهة العربية لتحرير فلسطين الى منظمة حماس بعد أن أصبحت قراراتها ووجودها بيد قرارات وأمزجة الانظمة والدولة التي أحتوتها وبمرور الاعوام تحولت من مشاريع نضال وتحرير وعمليات فدائية الى سياسة تطبيع وإستسلام والتخلي عن شعارات الدولة القيطة والخنجر المغروس في قلب الوطن العربي . كان خطاب الاعلام العربي تأثيره النفسي والوطني بإتجاه تعبئة الشارع العربي نحو تحرير فلسطين فلبى هذا النداء الآف من الشباب العربي باتجاه التطوع في العمل الفدائي من أجل تحرير فلسطين ولم يغب عن بال الآخرين هناك دوافع وعوامل ثانية وثالثة دفعت هؤلاء الشباب بالتضحية بحياتهم ومستقبلهم .

زهير إبراهيم خالد .. من أهالي صفد / منطقة الصفصاف، هذه هي هويته الجديدة من مكتب الجبهة الشعبية القيادة العامة في العاصمة بغداد ليحملها بصفة مقاتل فدائي بين عمان ودمشق لمدة تسعة شهور وتسعة أيام  يسردها بتفاصيل المدن والشخصيات والوقائع والاحداث والمفاجأت وروح التجربة، في بداية حياته بمدينة مسقط رأسه ”الديوانية” أحدى معاقل الشيوعيين في الفرات الأوسط أنتمى الى خلية حزبية ولضنك العيش وصعوبة وضع أهله المعيشي تطوع نائب ضابط في الجيش العراقي، وظل مجاهداً متمسكاً في خليته الحزبية الشيوعية، وفي موجة حملة مداهمات وإعتقلات قبل إنقلاب البعثيين عام ١٩٦٨، أدت الى اعتقاله وطرده من الجيش وراح يبحث عن وعاء جديد يرى به نفسه ويلبي طموحه ويحقق رغباته في النضال والعنفوان فقادته تلك الهمم الى مكتب الجبهة الشعبية / القيادة العامة ”أحمد جبريل في العاصمة بغداد ليسجل نفسه فدائياً عربياً. تجربة غزيرة يرويها القاضي زهير عبود كاظم في إستذكار سيرته الفدائية وتتبع أدق تفاصيل مجرياتها بحرارة ذلك الزمن من المقاومة والنضال ووقعها التاريخي والوطني .

بعد تسعة سنوات وتسعة شهور يرجع الى وطنه العراق عبر بوابة ”دمشق عاصمة الامويين الذي يصف مدنها وأزقتها وشوارعها بالرشاقة والوسامة ونهر ”بردى الذي يضيء تاريخ وجه المدينة وعنفوانها . بغداد .. التي تركها منذ شهور الى العاصمة عمان التي يراها مدينة صغيرة وقديمة وتاريخية ويتوسط شارعها الرئيسي فندقها الوحيد . عاد الى مطرحه الأول مدينته ”الديوانية”وجيبه ممتليء بالافكار والطموحات قد تفوق عمره في ذلك الزمن . ومرة أخرى بين صفوف تنظيمات الحزب الشيوعي في مدينته تحت ظروف معيشية صعبة للغاية، وكان يتطلع كأي شاب بعمره وطموحه الى مستوى دراسي قد يرفع به مستوى عائلته المعيشي والمادي، وكان يأمل أن يمنح زمالة دراسية عن طريق الحزب الشيوعي العراقي الى أحدى الدولة الاشتراكية، لكنه أزداد أحباط وخيبة، عندما شاهد بأم عينيه طريقة منح الزمالات الدراسية الى أولاد القادة الحزبيين وذيولهم، هنا وقفني أمام تجربة شخصية سابقة  أيام الجبل وحرب الانصار، كانوا يأتون لنا شباب من المدن ولا أحد يعرف ربهم ولا ممكن حتى الاختلاط معهم ومعرفة أساسياتهم وطيلة وجودهم في مقراتنا عيونهم تربوا الى الطريق المؤدي الى  إيران ومن هناك الى دول الزمالات والدراسات على حساب رفاق ومناضلين ومقاتلين أشداء ؟.

في ١٥ شباط ١٩٧١ يترك مدينته والعراق مرة ثانية بحزن بعد أن خابت ظنونه وأهتزت قناعاته وسيطرة البعثيين على السلطة ودفة الدولة واللعب بمقدرات الناس فلم يجد أمامه سبيلاً الا العاصمة دمشق حيث هناك النشاط والعمل السياسي (الفدائي)، ليجد نفسه مجدداً مقاتلاً وسط تنظيمات منظمة الصاعقة واسمها الرسمي " طلائع حرب التحرير الشعبية - قوات الصاعقة ", هي منظمة فلسطينية قومية موالية للبعث السوري (على عكس جبهة التحرير العربية الموالية للبعث العراقي . ولخبرته السابقة في العمل الفدائي وفي الجندية العراقية يرحل الى جنوب لبنان مسؤول أحدى الفصائل المسلحة في منطقة (جبيل) الحدودية مع العدو الصهيوني . 

الذي لفتني في كتاب القاضي زهير عبود كاظم (أبو علي)، ذاكرته في ذكر التفاصيل التفاصيل اليومية لكل يوم من خلال تجربته، الاشخاص، المواقع، التعرضات، المفاجأت، الشهداء، القادة، الامكنة، حمدونه، التموين، تفاصيل الطبخ، القرى، السلاح . حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ كانت ومازالت تداعياتها تلقي بظلالها على الشارع العربي والموقف الرسمي للحكومات وتحديداً التي خاضت الحرب أي دول المحور والتصدي العراق، جمهورية مصر، سوريا . وقد خاض المصريون الحرب مع الكيان الصهيوني على أمتداد جبهة واسعة تجاوزت  عبور خط ”بارليف المنيع ” الى قناة السويس .  سوريا وجيشها العربي والفصائل الفدائية لقد تعرضت الى ضغوطات كبيرة، وكان لوقفة الجيش العراقي من خلال مشاركته في الدفاع غير مجرى المعركة بإتجاه آخر . نتيجة الحرب وتداعياته تركت أثارها على الفصائل الجهادية في خطط عمل جديدة وسيناريوهات مختلفة . يذكر القاضي زهير في ختام كتابه بعد تلك الاحداث وجد له كرسياً في جامعة دمشق ليكمل مشواره العلمي والاكاديمي وليتخذ من القلم والقانون وسيلة نضالية في خدمة مشاريع الوطن والانسان . 

 

محمد السعدي

مالمو/كانون الأول ٢٠٢١

 

 

 

محمود محمد عليواهم من يعتقد الأطماع الإسرائيلية بالتوسع والاستعمار تقف عند حدود المسجد الأقصى وفلسطين، فالحلم اليهودي المزعوم يمتد أبعد من ذلك بكثير، إذ ترنو أنظار الإسرائيليين نحو قبلة المسلمين والأرض التي احتضنت تاريخ الرسالة الإسلامية .

وهذا ما يجسده لنا هذا الكتاب الذي بين أيدينا وهو بعنوان "العودة إلى مكّة" والذي ألّفه المؤرخ اليهودي “دنيس آفي ليبكن” Dennis Avi Lipkin، وهذا الكتاب يدور حول فكرة مفادها أن بني إسرائيل استوطنوا قديما في جزيرة العرب، ليبرهن أنه من حق اليهود العودة إلى مكة .. أرض الميعاد، ويعتمد الطرح الدي يقدمه " ليبكن" على بحث تاريخي، يزعم أن بني إسرائيل لما تاهوا لأربعين عاما في البلاد كانوا في منطقة شبه الجزيرة العربية، مضيفا إلى أن جبل الطور الذي كلم الله موسي فيه، إنما هو جبل اللوز في تبوك السعودية، وليس جبل موسي المعروف في سيناء

والكتاب يمثّل تطوّرا لافتا في الأحلام الصّهيونيّة التي تراود صهاينة اليهود ومتديّنيهم، وتغريهم بالاستحواذ على أرض الميعاد التي تحدّثت عنها نصوص التّوراة المحرّفة، ويسمّيها الصّهاينة “مملكة إسرائيل الكبرى” أو “مملكة داود”، وتضمّ بزعمهم فلسطين وأجزاء كبيرة من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية.

يأتي هذا الكتاب القنبلة في وقت كشف العرب العاربة والمستعربة على حد سواء،عن عوراتهم وأسقطوا حتى ورقة التوت التي كانت تستر عوراتهم، بخصوص العلاقة الخفية بينهم وبين مستدمرة إسرائيل الخزرية، بإعلانهم التحالف الاستراتيجي معها،تحت ستار الخوف من إيران ؛ يقول ليبكن “… أصرّح يا إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بأنّ مكّة المكرّمة حرم الله الآمن يحتلها شرذمة أشدّ من اليهود، لأنّهم في هذا البلد الحرام وفي هذا الشّهر الحرام ذي القعدة الماضي هجموا على التكارنة السّود المسلمين رجالا ونساءً وأطفالا حتى يسفروهم ويخرجوهم عن مكّة المكرّمة”، كما نشرت مجلة الشهيد الإيراني (لسان حال علماء الشيعة في قم بإيران) في عددها 46 الصادر في 16 شوال 1400هـ صورة للكعبة المشرفة وإلى جانبها صورة للمسجد الأقصى المبارك وبينهما يد قابضة على بندقية وتحتها تعليق “سنحرّر القبلتين”!

وأرض الميعاد التي يسميها الصهاينة مملكة إسرائيل أو مملكة داوود،تحدثت عنها التوراة المزيفة،وهذا ما خاض فيه المؤرخ الصهيوني الإنجيلي ليبكين،،وحمل غلافه صورة المسجد النبوي الشريف يتوسطه "التيفلين اليهودي" مكان الكعبة المشرفة،وهو مكعب أسود يشبه الكعبة المشرفة مربوط بخيط أو حزام يضعه متدينو اليهود على جباههم.

هذا الكتاب يرسم حدودًا جديدة للدولة اليهودية وفق “ليبكن”، انطلاقًا من مبدأ “استعادة أرض بني اسرائيل الذين يعتبرون انفسهم السكان الاصليين لجزيرة العرب”، فتصبح بزعمه “العودة إلى مكة، أرض الميعاد”، حقًا لهم.

وأكد " ليبكن " بنبرة تشي بأطماع اليهود: إن السعودية والجزيرة العربية ما هي إلا جزء من الأرض الموعودة لبني اسرائيل”، مستشهداً بما تقوله التوراة المزعومة لدى اليهود:" أن الله يقول أنه سيمدد حدود أراضيكم الموعودة من لبنان إلى أرض العرب ولكن الله لم يقل أرض العرب بل قال الصحراء ومن البحر الأبيض المتوسط إلى الفرات".

والجدير بالذكر أن غلاف كتاب “العودة إلى مكة” تضمن صورة للكعبة المشرفة -قبلة المسلمين- وحولها انشوطتان سوداويتان وعلى جانبها وضع الشمعدان اليهودي، وفي وسطه “التفيلين” اليهوديّ مكان الكعبة المشرّفة، والتّفيلين مكعّب أسود يشبه في شكله الكعبة، مربوط بخيط أو حزام، يضعه متديّنو اليهود على جباههم.

ويدعي مؤلف كتاب العودة إلى مكة أن الله لم يكلم موسى عليه السلام في جبل طور سيناء،بل تم ذلك في جبل اللوز الواقع بمحافظة تبوك السعودية،ويدعو لتحالف مسيحي – صهيوني لتحريره من المسلمين، كما يدعي أن أرض الميعاد تمتد إلى مكة المكرمة،ويدعو أيضا إلى تشكيل حلف مسيحي- صهيوني لتقسيم السعودية واحتلال الكعبة ومنع المسلمين منها.

واللاّفت في أمر هذا الكتاب أنّ مؤلّفه لا يكتفي في مقابلاته الصحفية بزعمه أنّ جبل الطّور الحقيقيّ الذي كلّم الله فيه نبيّه موسى عليه السّلام وأنزل عليه الوصايا العشر هو جبل اللّوز الموجود في محافظة تبوك على الأراضي السّعوديّة مقابل أرض سيناء، وليس هو جبل موسى المعروف في سيناء مصر! وأنّ فيه الكهف الذي استقرّ فيه إيليا (إلياس)، وبدعوته اليهود والنّصارى لأن يتّحدوا لتحريره من المسلمين؛ لا يكتفي هذا الصّهيونيّ بهذا الزّعم، بل يذهب بعيدا ليدّعي أنّ أرض الميعاد تصل إلى مكّة المكرّمة وفق ما فهمه من نصوص التّوراة التي تتحدّث عن صحراء العرب ولا تتحدّث عن أرض العرب فحسب!

وأضاف ليبكن بأن على المسيحيين واليهود أن يتّحدوا ليحرروا جبل اللوز" جبل سيناء"، وينتزعوه من حوزة المسلمين، متابعاً أن "الجوف وتبوك الواردة في اقتباس بن لادن لا تبعد سوى 100 أو 200 كم من إيلات على الحدود الجنوبية لإسرائيل".

وأشار "ليكن" إلى أن أطماع ايران مرتبطة بوقوع مكة في منطقة قريبة جداً من الساحل، ومن يتمكن من السيطرة على مكة سيمتلك زمام الحرب بين الشيعة والسنة"، مستدركاً أن "الأيام القادمة ستشهد مواجهة حاسمة" معرباً عن اعتقاده بأن "الحوثيين والإيرانيين سيقومون باحتلال السعودية من الجنوب والغرب".

وأردف ليبكن أن “السعودية ستطلب العون من مصر وربما من إسرائيل ولكن داعش ستأتيهم من الشمال أيضاً”، مستطرداً أن “حرب السنة والشيعة المستمرة منذ 1400 سنة ستنتهي عندما يسيطر أحد الطرفين على مكة”. وبذلك يدعو “ليبكن”، معتمدًا على نُبوءات “الكتاب المقدس”، المسيحيين واليهود للتوحد من أجل استعادة مكة، التي تعد أرضًا مقدسة للديانتين معًا.

الكاتب "ليبكن" الذي دأب على الظّهور في كثير من الفضائيات الدينية التابعة للمسيحية الصهيونية في أمريكا، داعيا إلى تشكيل حلف مسيحي صهيوني لتقسيم السعودية واحتلال الكعبة، يوصي بالاستفادة من الحركة الحوثية التي تستهدف الأراضي السّعوديّة، وتضع عينها على مكّة والمدينة، وإلى توظيف العقائد الشيعيّة التي تغري أتباعها بضرورة استعادة مكّة والمدينة من أهل السنّة، وهو الحلم الذي لا يزال بعض المسلمين يتجاهلونه رغم توارد دلائل كثيرة تشي بأنّ الشّيعة يسعون سعيا حثيثا لتحويله إلى واقع؛ دلائل كثيرة ربّما لن يكون آخرها تصريحات بعض معمّمي الشّيعة وقادة مليشياتهم بأنّ انتصار حلب سيمهّد لتحرير مكّة والمدينة!

ويدعي ليبكن أن الله لم يكلم موسى عليه السلام في جبل طور سيناء، بل تم ذلك في جبل اللوز الواقع بمحافظة تبوك السعودية،ويدعو لتحالف مسيحي – صهيوني لتحريره من المسلمين، كما يدعي أن أرض الميعاد تمتد إلى مكة المكرمة، ويدعو أيضا إلى تشكيل حلف مسيحي- صهيوني لتقسيم السعودية واحتلال الكعبة ومنع المسلمين منها.

يعترف ليبكن ذاته علانية بنية مستدمرة إسرائيل الخزرية احتلال مكة المكرمة،ويؤكد أن الصهيونية ما تزال قائمة على الأساطير التي وضعها حاخامات السبي البابلي، ويعرب عن أمله بأن يصل الربيع العربي إلى السعودية،كي تطلب النجدة من أمريكا وإسرائيل،وبالتالي يصبح احتلال مكة المكرمة تحصيل حاصل، وهذا ما يفسر تزيين الصهاينة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان جرائمه بحق المواطنين السعوديين من ناشطين وعلماء وأثرياء حتى أن أذاه شمل أبناء عمومته الأثرياء والأقوياء.

ويأتي الهدف من هذا التزيين تسريع الإنفجار في السعودية، ليتسنى لأمريكا ومستدمرة إسرائيل إحتلال مكة رسميا وبطلب سعودي،بحجة أن الشيعة يدعون للهيمنة على مكة والمدينة،ويبدو أن المخطط الصهيو-مسيحي"الإنجليي " سينجح بسبب غباء البعض أو إتقانهم لدورهم وتفانيهم في خدمة أصولهم .

ويعتبر “ليبكن” أنّ التحركات المعارضة داخل السعودية تعدّ من الأمور التي على “اسرائيل” استغلالها في سبيل تحقيق هدفها. ويوضّح كلامه في أكثر من مقابلة، إذ يؤكد أن الربيع العربي لا بدّ أن يصل إلى السعودية التي ستطلب الحماية من الولايات المتحدة و”اسرائيل”، ما يقدم لليهود فرصة للسيطرة على مكة. في حين يظهر الكيان نفسه بصورة البطل الذي أنقذ آل سعود.

وفي سياق طرحه يدعو " ليبكن" المسيحيين واليهود للتوحد من أجل استعادة مكة، على اعتبارها أرضا مقدسة للديانتين معا مستشهدا بأقوال من الإنجيل والتوراة، وزاعما أن العهد الجديد حدد مكتن جبل سيناء على اعتباره في جزيرة العرب، وقد أكد ليبكن مرارا خلال مقابلات عدة له أن ما عرف بالربيع العربي لا بد سيصل يوما إلى السعودية، التي ستطلب بدورها الحماية من الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يوفر لليهود فرصة عظيمة للاستيلاء على مكة، بعد تقديم الكيان الغاضب نفسه على أنه المنقذ لآل سعود بعد إشاعة الفوضى، فهل ستنبه قادة العرب والمسلمون إلى هذا المخطط، أم أنهم أكلوا يوم أكل الثور الأبيض

واختتم ليبكن كتابه داعياً إلى اتحاد «المسيحيين واليهود» لاحتلال السعودية والإستيلاء على مكة موظفاً نصوص التوراة والأسفار المحرفة كما في كتبه، وزاعماً أن “نهاية مجد الإسلام باتت قريبة جداً” وهي النغمة النشاز التي دأب الكثير من قساوسة الدين المسيحي وحاخامات اليهود على ترديدها في كل المحافل.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

جاسب المرسومياصدارات تتجدد في طياتها روح التكوين والمدارس الأدبية المفعمة بالانطلاقة والتحرر من قيود الإفراط في النمط المتبع في كل لون أدبي له أساسيات بني عليه ذلك اللون الذي يحاكي الحب والوطن .

في القراءات الجديدة التي أصدرها الشاعر عباس باني في كتابه الأخير  (قراءات في دفتر الجنون) نرى صورة لمجموعة مدارس ربطت بين الحاضر والماضي لنمط شجاع تحرر من قيوده فانطلق نحو مدرسة كان قد وضع لها قداسا جديدا جامع بين الحداثة والقدم .

في جسد الشاعر شخصيتين، الأولى المستقرة اجتماعيا حسب ما يظهر والمتكيفة في ضلال عدم الحاجة، والتي لها القدرة في الوصول الى ما تبغي لكنها لا تنعكس ماديا مترفة على ضلال الأخرى المتعلقة في الجسد ذاته، وهي الشخصية ذات الجوف الدامي والأنا الباكية لجروح ذاكرتها القديمة والعميقة التكوين تلك التي تنزف الكلمات بإيقاعات مبنية على ذاكرة الزمكان المتفاوتان في آنيهما .

(حين تكون الطفولة مازالت عالقة بالحبل السري للزوال

.. المطر يبكي فراقه لعلو الغيوم).

ولم تتمكن الروح في الشخصية الأولى القضاء على القلق الدائم المبيت أرقه في حصارات على شبابيك الأنا المزدوجة والمزدحمة والتي لطالما استسلمت رغم محاولات الانفلات والهروب من غربتها كأنها تعشق ما تكنه الذاكرة المبطنة لتعيدها في منظور يتطور في صوره كلما كثرت كتابات عباس.

(متعلق بغرقي بكف المجهول الذي استطال الى همس الجنون).

وهنا في (قراءات في دفتر الجنون) يبحث عباس عن مخرج لانطلاقة يحاول فيها إدراك كل الكينونات المقيدة في كتاباته المختزلة لتلك الكينونات التي وضعت الإشراط والجزم والتجزر كأنها تشبه حصار أناته الذي ما انفك قائما، محاولا إدراك ذواته تماما في حرية مطلقة وصل فيها الى إرضاء كامل لما حبلت به الذاكرة النشطة للزمكان المنقرضان، والذي ولد جديدا بصياغة حديثة مبنية على قدسية الأنا المنصهرة في بودقة التحديث لعولمة الكاتب والذي يتحدث عن حاضر غائب في ضمير الأنتظار لحلم قد لا يتجاوز جملا على ورق أرادها أن تكون طويلة تعطي كل تصوراته مشبعة في انتظار الغائب .

(كي ارتقي سلالم النور على جسدي الباحث عن حرية الاختيار

ارمي صمتي بزجاج النوافذ لأرسم صورتك بكل الألوان

تضوع روحي بأنفاسك واسقط بين كفيك بريئا في صلاة الأسفار

أعرف انك لن تعودي وبانك ستأتين قبل موعد الانطفاء

سأنتظر ... سأنتظر).

وفي حافات أخرى للنصوص المفعمة بالتأله

(أصادق الأنبياء والمجانين والعشاق والثوار).

فهذه الفئات الأربعة تشكل عند عباس باني رموز إلاهية، هي تلك التي تتصف بكل صفات المنطق الذي لا يشبه الآخر، وهي الحقيقة في واقعها تماما لصناعة الحياة التي وضع هؤلاء أساسياتها في فلسفة الروحانيات والتجدد، وهي الروح التي تلامس ذاته بكل تفاصيلها الثورية، وأنا في الحقيقة أرى أن النصوص التي تصنع الحياة لا تأتي من فم عاقل أو سوي طبيعي لم يتصف بصفة من تلك الصفات الأربعة والتي تلازم نصوصه ومن حدا حدو جنونياته .

في دفتر الجنون حضورا متميزا لجملة مجانين صنعوا للحياة مزارات منها ما عبد ومنها ما استقام على أساسه الفكر فانبثقت منها السونيتات وينابيع العزف الروحاني في سيمفونيات مطولة، حضورا أنيقا لطاغور بفلسفة الحاضر ولجبران بصناعة الوجود المثالي للقصيدة ونيتشه المفعم بالحقيقة والوجود وكأنني أمام عالم من مدرسة لاهوتية تقتحم عالم الحداثة في إبداع عولمي متجدد أو انه يصنع جمهوريته ليطير بها متمردا ينعم بلحن متخصص في قراءات متجددة لإسفار التوراة والإنجيل وبعض من مفردات قرآنية.

(لان الحكماء دائما يصلبون على جذع الضوء الخارج من أرواحهم

لأنهم تعلموا كيف تتجاذب أرواحهم مع المعنى

دون أن يغلق بصيرتهم الضوء الساقط من حافة اللامعقول

لان شريعة المعنى فضيلة الغرباء).

وحين أتنقل بين أوراق القراءات في دفتر الجنون أرى أنني أعيش خاطرة الفلسفة الكونية في أحجية تهمس في أناتي لتوقظ فيها ذاكرة حاولت أن تجعل في إحساسها أسلوبا له ذات الانطلاق في تحضيرات عباس باني،إذ لم تزل الخطوط الأولى التي رسمت كتاباتي تنقش في خط الأسلوب ذاته لكنه تعثر في زحمة الأساليب فأصبح غير مستساغا ولم يرى منه النور سوى بعض مخطوطات صغيرة في كتيب اسمه (صور قيد التظهير) الذي انتهى متعثرا في أروقة الأرق والانتظار .

هنا وضع عباس كل ما حلم به وما أراد أن يوصله للقراء في صورة أدبية شجاعة وما أراد أن يوصله للحبيب المفقود في جنونياته والذي ما انفك منتظرا إياه رغم كونه متأكدا من أنه لن يأتي وضل يقول

(آتيك .. آتيك)

بعد يأس من كلمة

(تعالي .. تعالي)

ولم يزل يبحث عنها في كل قراءاته الى النفس الأخير مترجما أحزانه في البحث عنها لتشكل في قاموسه حياة أبدية وحلما من أجمل ما يكون

(بعد أن غسل النهار جنوني بحد ضياع ولادتي بين كفيك في كل حين

تعالي .. كل روحي اليك مهبطا

تعالي قبل أن تضيع براري الهوس بشرائع خرافة الألم في جبين العصور

تعالي)

هذا الحلم المفقود بنيت عليه تلك القراءات الكبيرة في جسد جنونياتها،، هذا الجنون الطفولي المكتشف في ذاته لذاكرة تدارست، لكنها لم تنقطع أحلامها ولهذا لم تزل تنتظر أملا يأتي وحلم عبر المواسم والأعوام رغم هروبها وهرمها .. هذا التاريخ الكوني الذي كتب في صفحاته المتدثرة بصفائح الروح لامرأة لا تشبهها ثانية، تعني كل أشياءه فهي التأريخ في كل المواسم وهي الفردوس والأسفار والوطن

(عيناها جدولة الكون حين ينهزم التأريخ من أوراقه، عيناها صديقة كل المواسم التي تنثر بساتين روحي بكل أزهار الفردوس، كانت امرأة خارج النساء حين ينبت ضلع الطين على أجسادهن، كانت وطن دون جدران المدن

كانت وكانت

افترقنا دون عنوان الروح بالمسير إلى وطن

دون وطن)

وللأماكن والمسارات التي قطع شوطها من الحزن الم ينشره على تلك الطرقات والقطارات والمطارات ورمل الشواطئ والمدن التي تقاذفته، والمواسم التي مر بها كمسافر دائم الأسفار حقيقة وتصور

(أنا ضيعت وجهي في زحمة المطارات التي ترتقي فوق تنفس الهواء الممزوج بالغيم أبحث عنه

ابحث في مرايا عابري السبيل باتجاه نقطة هوس البحر وقت ازدحامه على صخرة الرب

انتزع وجهي من المرايا وأعبر الشوارع دون انعكاس الضوء على عيون المكان)

وهو يحمل في حقيبة صغيرة بين أضلعه رمزا لحياة رغم كونه يعلم أنها أضحت خسارة وضلت حلما لم تأته حقائقها البتة، سوى أنها تشكل حاضرا بنيت على أساسه خاتمة التصور فأنتجت تلك الفلسفة الصوفية  وهذا العبور إلى مرحلة التيه والتوحد مع الذات التي ما انعس الحاضر ليأخذ أحلام الطفولة كأنه يضع الوجود الحقيقي لجمهورية القلب والروح كحقيقة يتلمس وجودها بين أضلع لم تزل تنظر خارج حدود الزمن.

(أصبح القلب خيط الأمس يمتد باتجاه وجوهنا التي كانت تؤشر الفرح في لقائنا

ما عادت هكذا وذبلنا من أجل لقاء قد لا يأتي أبدا الى دروبنا

وتقطعت علامات الحنين في كوابيس ارقنا

نما فقدان الذاكرة دون إشارة إني عشت أمسنا)

أما أنا فلم أزل أتيه بين الدفاتر الجنونية لعباس باني لعلي أصل الى حقيقة ما يريد رغم كونه أعط بجلية كل تصوراته لكنه لم يعط الحق بتصريح يجاز به القارئ ليصل الى كيفية التوحد بين المفترقات التي تزيح في دائرتها الثورية لعقلية الأديب المتفحص لعلة المنشور، ورغم استخدام كل أجهزتي الحديثة التكوين لكنني لم استطع تشخيص علَاته الكثر، وما زلت اعشق هذا التيه بين سطور هذه الصفحات المجنونة . ورغم ذاك فأنا لم أعط حق ما أعطيته أو يعطيه أي كاتب يقرأ (قراءات في دفتر الجنون) حقها،، فهي عمق كبير وشرخ واسع في ذاكرة الزمان والمكان والحداثة، فانا لم اعد أدرك منها سوى القليل كوني أراني أمام هرم كبير له قداسه وطقوسه .

 

الكاتب: جاسب المرسومي – العراق

 

 

الصفحة 6 من 6

في المثقف اليوم