قراءة في كتاب

محمد السعدي: أحمد الجلبي مراوغ بغداد.. قراءة في كتاب

رغبني صديق عزيز عليه، وهو باحث بالشأن السياسي العراقي، وأثق بتحليلاته ورؤيته السياسية حول مجريات الوضع في العراق ومستقبله، بقراءة كتاب ” سهام الليل ” للصحفي الامريكي المتمرس ريتشارد بونين حول رحلة أحمد الجلبي الطويلة في العراق وترجمه الى العربية محمد شيا . الكتاب بموقع ٤٧١ صفحة وبقطع متوسط . وقد أعارنياه صديقي لقراءته، وهذا ما قرأته في صفحاته .

يستهل ريتشارد بونين في كتابه ”سهام الليل ” سيرة أحمد الجلبي العجيبة والغربية منذ بواكير طفولته الأولى في بغداد ونشأته في عائلة بغدادية إرستقراطية، حيث والده عبد هادي يمتلك أراضي ومشاريع ووضع مالي يفرده عن الآخرين من أبناء المجتمع العراقي لحين أن تحل ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، وتقتل العائلة المالكة بطريقة مرعبة والرقص على جثثهم وتقطيعها . السيد هادي والد أحمد الجلبي ومن تداعيات الموقف يقرر ويترك ما يملكه في العراق من جاه ومال ويحمل أولاده هارباً الى عاصمة الضباب ” لندن ” . وهنا تبدأ سيرة الطفل أحمد الجلبي بعمر ١٤ عاماً، وهو يرى والده منزوياً في غرفته في العاصمة لندن حزين ويبكي !.

يكلل المرحوم أحمد الجلبي جهوده المضنية في إقناع الامريكان بتجيش جيوشها في إحتلال العراق وإسقاط نظامه السياسي وتدمير كيانه وتحطيم مؤسساته، بعد أن كان ينعتوه بعض السياسيين الامريكيين بالانتهازي والدجال والمختلس. على ضوء تداعيات بنك ” البترا ” في العاصمة الاردنية عمان، وفشله الإداري في تبديد حوالي بليون دولار، وما لحق به من سمعة سيئة لاحقته لسنوات، وصدر بحقه حكم غيبابي من قبل القضاء الاردني، وبات مطلوب بحكم قضائي وعرضه للتشهير والاختلاص . فكل الممرات أمامه أصبحت غير متاحة وهو المصرفي السيء السمعة، فوثب دخول عالم السياسة، وهو حلم قديم كان يراوده بين الحين والآخر في معاداته لحكم نظام صدام حسين، فشتغل على نهج الطائفية ومظلومية الشيعة في العراق واستبدال حكم الاقلية السنية بحكم الاكثرية الشيعية، لقد كانت فكرة في غاية التطرف، فمنذ قيام السلطة العثمانية في القرن الثالث عشر، أستمر السنة في حكم الارض العربية، حتى في الاجزاء التي يشكل الشيعة الأكثرية فيها، كما كان حال العراق .

وقد لاقى الجلبي صعوبات ومعوقات جمة في إستمالة الموقف الامريكي بدعمه في إسقاط نظام صدام حسين . والعراق كان يخوض حرب مع إيران ومحاولة الآخيرة في إحتلال اراضي عراقية من خلال غزوات بشرية هائلة والامريكان وأصدقائهم يدعمون العراق في حربه ضد إيران، خوفاً من تميل كفة الحرب لصالح إيران وتتعرض المصالح الامريكية الاستراتيجية للضرر في السعودية والكويت . في ٢ آب ١٩٩٠ غزا العراق الاراضي الكويتية وضمها الى العراق وإعتبارها محافظة عراقية التاسعة عشر . أستغل الجلبي غضب الموقف الامريكي من قدوم العراق على هذا التصرف الأهوج، ونشط في الاتصالات بالجهات الامريكية المعنية في وزارة الدفاع ودائرة سي أي آيه، وبين صفوف المعارضة العراقية من أكراد وقوميين وإسلاميين وبعثيين وشيوعيين في العواصم دمشق وطهران ولندن، بعد أن كانوا منسيين وبعيدين عن أي دعم من دول خارجية مؤثرة في القرارات الدولية .

يذكر سالم الجميلي الضابط المسؤول عن شعبة أمريكيا في المخابرات العراقية في كتابه ” المخابرات العراقية أسوار وأسرار ” الصادر في حزيران عام ٢٠٢٣ . في صفحة ٣١٠ .

” كان الجلبي خبيراً مالياً يقيم في عمان ويرأس مجلس إدارة بنك البتراء في فترة الثمانينات، وبالنظر لحاجة جهاز المخابرات إلى خبير مالي لأهداف مرتبطة بالحرب مع إيران فقد تم التحرك عليه بغطاء وزارة المالية كمرحلة أولى، ثم أصبحت العلاقة به مباشرة من خلال مدير عام الخدمة الخارجية كاظم مسلم، حيث التقاه في عمان وكذلك أشرف على إدارته فاروق حجازي، وكان الجلبي سعيداً بعلاقته مع الجهاز . تم تكليف الجلبي بمهام تتعلق بجمع المعلومات الخاصة بالصيرفة والحسابات السرية لبعض شخصيات المعارضة العراقية والحسابات الشخصية لرؤساء عرب، وكانت المهمة الأساسية كشف الحسابات الخاصة بمافيا تجار السلاح وحركة الاموال لتغطية العقود العسكرية السرية الخاصة بتجهيز إيران بالعتاد والسلاح، وقد زود الجهاز بمعلومات قادتنا الى معرفة صفقات السلاح السرية التي عقدتها إيران مع بعض الدول، وبالتالي معرفة مصادر التسليح وحجمه ونوعه ومعلومات هائلة تتعلق بالمجهود الحربي أثناء فترة الحرب العراقية الإيرانية، وبذلك فقد ساعد الجلبي بشكل مباشر في عمليات دعم المجهود الحربي، كما إنه تبرع في عام ١٩٨٩ بست عشر سيارة تويوتا بيك أب في حملة إعادة إعمار ميناء الفاو، وقد أثنى الرئيس صدام حسين على الجلبي وقال عنه إنه أبن عائلة عراقية عريقة وليس لدينا شيئ ضده، وقد خطط الجلبي لزيارة العراق في تلك الفترة، وكان الرئيس قبل ذلك قد وافق على طلب الملك حسين تولي الجلبي رئاسة مجلس إدارة بنك البتراء في الاردن في عام ١٩٨٢ .

بعد غزو الكويت عام ١٩٩٠ وما ترتب على ذلك من عقوبات وحملة عسكرية، ألغى الجلبي زيارته للعراق وانقلب علينا، وفي عام ١٩٩٢ أسس الجلبي المؤتمر الوطني العراقي كحزب معارض للنظام . وفي عام ٢٠٠٠ أسس مكتب المعلومات لصالح استخبارات وزارة الدفاع الامريكية، وكان أحد مصادر المعلومات المفبركة عن برنامج العراق الكيميائية والبيولوجية التي قادت الى إحتلال العراق، وعلى الرغم من أن المخابرات المركزية الأمريكية لم تثق به ورفضت اللقاء به وأعتبرته شخصاً كاذباً إلا أن الهيئة السياسية في وزارة الدفاع هي التي إلتزمته واعتبرته أحد مصادرها الموثوقة عندما كانت تسوق الأكاذيب لإيجاد أدلة على وجود أسلحة دمار شامل في العراق . وبعد إحتلال العراق في العام ٢٠٠٣، كانت إحدى مهام مكتب الجلبي القذرة في نادي الصيد هي أستدراج المسؤولين السابقين بعد تقديم ضمانات كاذبة وطمأنتهم وبالتالي تسليمهم إلى القوات الأمريكية، كما أن أحد أعضاء مكتبه المدعو انتفاض قنبر، كان الدليل الذي قاد القوات الأمريكية الى مسكني للقبض علي في نيسان ٢٠٠٣ بعد أن جند أحد أبناء الجيران لمراقبتي ”” أنتهى النص .

تدلك صفحات الكتاب على جهود الجلبي المستمرة في السعي للانقضاض على النظام رغم كل الخيبات والمواقف المتناقضة من قبل الأجهزة الامريكية في اتخاذ القرارات وصراعات مراكز القوى بينها . في العام ١٩٩٦، عندما إجتاحت قوات الحرس الجمهوري مدينة أربيل العراقية في أقليم كردستان، دمرت وأستباحت مقرات ومواقع المؤتمر الوطني العراقي على بكرة أبيها والتي كانت بحماية ”سي أي آيه ” . وكان الجلبي في يومها يقضي وقتاً مع زوجته وأولاده الاربعة في عاصمة الضباب لندن . وعندما عاد الى أربيل وجد بقايا وشظايا ما بناه طيلة سنوات، ولقد أتخذ قرار مسبق من قبل ” سي أي آيه ” بالتخلي عن دعم المؤتمر الوطني ورئيسه أحمد الجلبي على كافة المستويات . مما أصيب الجلبي بالعزلة لكنه لم يراوده اليأس، لقد عاد الى لندن مرة آخرى يبحث عن منفذ أمريكي آخر يدله على تنفيذ مشروعه فأخترق البنتاغون الامريكي عبر عدة سيناتورات يكظمون الحقد والكراهية للعراق وأهله، وتم عبرهم إحتلال العراق وتدميره بحجج واهية . وما يعانيه العراق اليوم وشعبه من نتائج الإحتلال من دمار وفساد وطائفية تكلل ما بذله الجلبي بالتعاون مع كل قوى الشر في تدمير بلدنا .

***

محمد السعدي

مالمو/٢٠٢٤

 

في المثقف اليوم