قراءات نقدية

عربة النهار .. صداقة العدو والساعة الشعثاء

jasim alayff"عربة النهار"مجموعة شعرية لـ"هاشم تايه" "منشورات اتحاد أدباء وكتاب البصرة" الفنان متعدد الاهتمامات، انفردت بالبناء الشعري المتماسك واعتماد الجملة الشعرية المقترنة بدقة الإيحاءات والصور التي مبعثها المخيلة والذاكرة المتقدة وحسن الصياغة واستخدام الصورة الشعرية بمهارة لغوية حديثة. ميزة (هاشم تايه) تنحصر في تنقله، بدراية وتمكن، بين حقول فنية متعددة، وما رسمه بالخطوط والألوان فَضلَ،ثانية،أن يشهره بالكلمات."هاشم تايه"تشغله ظاهرة تبادل المصالح الجارية أبداً بين الفنون، وتحولت بعض تجاربه في العيش ضمن فضاء يجمع التشكيل ونقده، والشعر والقصة القصيرة كذلك.(تايه) لم ينشر شعره إلا في الوقت الذي تريد روحه أن تنصرف لشجونها الخاصة. فقبل أعوام (فوضى الحرية) الحالية، لم ينشر(تايه) شعراً، وخضع لطبيعته الصامتة التي خلقها تاريخه الخاص والذي وجدَ في الرسم أولاً ونقده ثانياً ما يلبي حاجته إلى التعبير عنه بوسائله الخاصة، لكن الشعر كان قريباً منه، غير أن صمته كان ينوب عن ذلك. (تايه) في جريدة"المنارة"البصرية،نصف الأسبوعية، وكانت توزع في العراق وبعض دول الخليج العربي، اكتشف إمكانية الكتابة الصحفية، فكان له عمود، بعنوان "بصوت هادئ"، ومع مضي السنوات، انطلق يكتب في أنواع متعددة من الكتابة الصحفية. لم يبتعد في معظمها عن الرسم حتى إنه اخترع لنفسه لوناً من الكتابة يرتكز على الصورة الفوتوغرافية، مع لغة نثرية مرهفة، وأطلق عليهما تسمية (فوتو كتابة)، إذ كان يلتقط بكاميرته صوراً لأشيائنا وحياتنا القلقة - المنسية. في تلك الصور كان يؤشر ما يثير ويدهش بالكلمات، مستنطقاً ما يراه فيها وخلفها، وذهب بصوره وكلماته إلى موقع (كتابات )الالكتروني. وكان ينظر إلى كل نص كتبه فلا يرى فيه إلا ذلك الشيء الذي سطع لحظة ثم تنحى، ذلك الشيء الذي اخترق ضوؤه الخاطف كيانه، ورآه ملتماً على نفسه، غريباً بين الكلمات، التي لا تعرف عنه شيئاً، ذلك اللب المتكتم السجين بين الأصوات. الصوت المجروح بسبب غربته عن عالمه الراهن. المتأمّل للمشهد الشعري، الحالي، يجده محتشداً بأصوات شعراء قصيدة النثر الذين أضحوا يشغلون مساحة واسعة من فضاءات الصفحات الأدبية. و يعمد بعضهم إلى طبع مجاميعهم وإشهارها على نفقاتهم الخاصة متحملين مكابدات أُخَر،غير مكابدات الحياة المعيشية، وبهذا تكون قصيدة النثر"سيدة المشهد"، العراقي وربما العربي. ثمة سمات عامة مشتركة لما ينشر لغالبية قصائد النثر، منذ الثمانينات تحديداً، منها فقدان وحدة الثيمة في القصيدة، ترافقها أقصى حالات التجريد، الذي يدفع إلى التباسات كثيرة، من بينها انعدام الجهاز المفهومي لبعضها، واعتماد المفارقات، في الصور كمهيمنات في اغلب القصائد، التي، بتواضع، اطلعنا عليها وكتبنا عنها، مع اعتماد الغموض، وانغلاق النصوص على نفسها وسكوتها عما يجري حولها، فتتمّ التضحية بـ(المعنى) تحت سطوة النزوع إلى الإغراب،لابد أن نتذكر هنا بودلير وما كتبه:"مَن منّا لم يحلم بمعجزة (نثر) شعري، موسيقي بلا وزن ولا قافية، لين ومتنافر، كي يتآلف مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات الحلم وارتجافات الوعي". يعتمد"هاشم تايه"الشاعر، البنية السردية، في (عربة النهار)، بصفتها امتداداً لا متناهياً، ونرى في قصائده لغة واضحة المعنى لا تفتعل الغموض بذاته من خلال إدراكه لقيمة المفردة الشعرية ووضوح معناها ومقاربتها لواقعية الحدث، كواقع معطى أدركه واعتمده"تايه"الشاعر ولم يكن خارج (المعنى)،وبنيته السردية، دون افتعال الغموض من خلال تحديقه بالخاص، وقدرته على الانتقال به إلى العام، ما يمنح المتلقي أفقاً رحباً لإدراك المعنى الكامن خلف الكلمات والتجربة المعبر عنها، سرديا، والذي يحول اللغة نحو أفق أكثر تحسساً ومسؤولية من قبل منتج المعنى - المتلقي-، ثمة مسوغات عدة للحديث عن (هاشم تايه) منها انه مارس النقد التشكيلي وقدم قراءات لبعض تجارب أقرانه الفنانين،وحسب الناقد والتشكيلي"خالد خضير الصالحي" فيما كتبه عن هاشم تايه ": لو لم يوزع اهتماماته على أنواع متعددة من الاهتمامات الفنية لتحول إلى ناقد تشكيلي عراقي بارع. في مجموعة"عربة النهار" ثمة اعتماد الألوان اللغوية المتعددة ويعود ذلك إلى هيمنة اللغة التشكيلية التي عرف بها وأدمنها. الملاحظ في(عربة النهار) لغتها الثرية وصورها الدالة،ولكن"تايه"لم يعتمد تأرخة قصائده، لمعرفة حقب التطور الشعري لـه، و ذلك ضروري للدارس ومن موجهات القراءة الأساسية لما يمتاز به الزمن العراقي الراهن، وفي الشعر خاصة، من حقب متداخلة، إضافة لعدم فهرست المجموعة. يعتمد"هاشم تايه"، الشاعر،حصراً، في"عربة النهار"،البنية السردية، التي حسب"تودروف ورولان بارت"لا حصر لها، بصفتها امتداداً لا متناهيا. لا يمكن لمتتبع (عربة النهار)إلا أن يقف عند الصياغات الشعرية الدقيقة المنتقاة برهافة ودراية وتميز، والولوج إلى خفايا الأشياء واستبطانها، كما نلاحظ في قصائده لغة واضحة المعنى لا تفتعل الغموض بذاته من خلال إدراكه لقيمة المفردة الشعرية ووضوحها:

"على جباهنا

قبلة زرقاء من نار الأيام ولكي لا نخسر ظلالنا نغدر بالألم، ونخون الموت.. نبني ملاجئ للملابس العاجزة ومحطات للندم، ونعلق حراساً على قفل الأيام وعلى الدوام لنا سلام النيران،

ومحبة الحروب،

وذرائع الزوجات بالتقوى".

المتلقي، هنا، سينتج"المعنى"، عبر العلاقات المؤشر عليها في المقطع السالف، من خلال"نار الأيام"والتناقض بين"سلام النيران"وفعل الخارج- السلطة أو القوى القامعة - مهما كانت- وإكراهاتها،، والتي تدفع لـ"محبة الحروب"والتآلف معها(كرهاً) الذي تلغيه بوضوح ذرائع الزوجات"بالتقوى"و رعب الزمن و الواقع، المقفل بحراس الأيام. يلجأ هاشم تايه في بعض قصائد (عربة النهار) إلى ما يمكن عده بـ(الانزياح اللغوي) أو (سرد اللحظة الآنية) فيستبدل (جحوظ القلب) بدلاً عن (جحوظ العين) بسب قلق و دراما المصير الإنساني وفجيعته:

"كلّ يوم في الساعة الشعثاء، الساعة المنهوبة

تدق دقّةَ الخسران أترقّبُه.. (جاحظَ القلب) وحينما يصفقُ وراءَه الباب

أطيرُ إلى مُحَيّاه

أقبّلهُ وأصيح:

خيراً

فعلتَ يا إلهي

إنّه

لم يعد بوجه مدمّى".

هذه لحظة انتظار مفزعة لغائب- قريب- وإنتاج لمشاعر إنسانية تعاني وطأة الغياب المتجسدة في اللحظة الراهنة، والتي تكشف أن ذلك الغياب ، كمتحصلات ونتائج راهن قاتم ومتكرر. الغائب والقلق عليه بقي متجسداً حتى لحظة حضوره، وهو يصفق الباب وراءَه،مع التوسل والتمني (انه) حضر بلا وجه مدمّى، ربما مؤقتاً.(عربة نهار) هاشم تايه تدافع، عن الحرية وآفاقها وتمتلئ بالكثير من مفصلات الحياة اليومية: أرامل الحروب، وأطفال الشوارع،وعربات النقل، والذئاب التي تحسب على البشرية، والمصائر اليومية المفتوحة على غيابات مجهولة وعند إنعام النظر فيها نجد عموميتها كواقع مُعطى متحقق و أدركه الشاعر ولم يكن خارجه في اللحظة ذاتها:

"الآلام الرعناء-الآلام ذوات الحدبات- آلامُ التراب الثقيل- الآلام الضاجة وراء التلول- الآلام الخفية التي ينسخها الليل كي تكفهر حنادسُه- الآلام التي اشتريت بها مرغماً(صداقة العدو) - الآلام المسالمة التي تسألني الصفح.. كلما أخذتْ دمعة من عيوني". هاشم تايه الشاعر قالت له روحه المعذبة التائهة: أنا من قادكَ إلى الشعر، وأكد له الشعر: أنا من رآكَ، وامسك بكَ. وقعت عربة نهار (هاشم تايه) على(107) صفحات من القطع المتوسط، بغلاف حمل احدى لوحاته، وصممه الفنان صدام الجميلي، وسأل والدته (عطية طعمة)الغفران، وأنهاها بقصيدة(حاملو الطريق) التي أهداها إلى (روح شقيقه..حاتم تايه)، المشنوق حتى الموت، بتهمة إطلاعه على (صحيفة-تقدمية) سرية في الثمانينات:

"في اطمارنا صهيل حصان جواد سليم

ذي العنق الأتلع...عالياً..

عالياً..

يرفع أصابعه

ظلنا

وينثرُ معنى التراب..

نحن سدنة الآهات

وبناة الثمر

لا نموت إلا كالقناديل..

نحن الرهط الأبيض ذا الراية السائلة،

بلوِنها الأحمر المهيب

نحنُ، الخمسة والعشرين مليوناً،

بألواننا السبعة أو العشرة،

نقطن مع الأنهار

والنخل والزّقورات

والأرض التي لا تكفُّ

عن التغريد".

يقول (أركون):"أصعب ما في كتابة الشعر هو القصيدة القصيرة..لان عليكَ أن تقول فيها كل شيء بالقليل جداً..جداً.. من الكلمات التي يحصل فيها غيرك على الثمرات.".بعض قصائد (عربة النهار) قصيرة جداً، لكنها دالة على الزمان الغريب والمكان المحاط برعب الانتظار والقسوة واليأس والالآم والإحباط والقهر الراهن،بالترافق مع عذابات الماضي،ودهشة ما آل إليه الحاضر غير المتوقع والذي لم يحسب له حساب. ثمة في(عربة النهار) قصائد قصيرة منها:السرير يتصبب عرقاً(18) ومياه (ص20) وحلبة(ص21) و زفرات(ص28) ولو تصير طيراً(30)،وردة بعد وردة(ص32) ومثل شمعة(ص33) وتعليم(ص34) والطيور(ص37) و ديدن(ص67) ومصباح:

"يمشي المذبوح

في طرقاتنا

ليل نهار

حاملاً

مصباحه المقطوع".(ص43)

ومع قصرها نلاحظ أن (هاشم تايه) الشاعر، هنا، متمكن من البنية التركيبية - المعرفية بالترافق مع القدرة التوصيلية:

(ربة بيت)

"أنا ربّةُ بيت

في ساعة الصديق..". (ص19).

 

في المثقف اليوم