قراءات نقدية

هديل عادل كمال: الادب المقارن الرواية والفيلم زقاق المدق انموذجا

يعتبر النتاج الادبي هوانعكاس لبيئة ومجتمع لكل اديب، وعندما يتحول هذا المنتج الادبي الى عمل فني فإن المخرج يبدع بصايغة ملامح الشخصيات التي هي بمثابته محور ومحرك الاحداث حيث يجعلها اكثر وضوحا وهنا تلتقي لمسة وفنية الاخراج مع ابداع الاديب واحيانا ايماءات واشارات تعطي للعمل الادبي روحا وحوارات صامته لايمكن للنص الادبي ان يصرح بها حيث تعتبر اللغة في العمل الفني هي التقاء فكرة المخرج والروائي.

عند مشاهدة اي عمل سينمائي ماخوذ من عمل ادبي سواء رواية اوقصة دون ان تسائل عن ماهو الفرق بينهما وهل كان العمل السينمائي قربيا ومخلصا الى النص الاصلي او بعيدا عنه، حيث ان قليل من الاعمال ينجح صانعوها من التعامل الحميم مع الاصل ، الكثير منا حين يشاهد العرض السينمائي وبجعبته الكثير من الاسئلة اهمها فيما اذا كان المخرج قد استطاع مع طاقم العمل اداء وتجسيد روح الرواية، في كثير من الاحيان يتم الانحياز الى العمل الادبي في اصوله الاولى، حي تظل الرواية اكثر غنى وتعددا من الاحادية التي يفرضها تحويل الادب الى سينما .

رواية " زقاق المدق" "تعد زقاق المدق الرواية الثانية التي أراد فيها نجيب محفوظ أن يصور أثر الحرب العالمية الثانية في حياة الطبقة الوسطى التي تسكن هذا الزقاق بعد روايته الأولى خان  الخليلي التي ألفها قبل هذه بسنة "

من المعروف ان معظم النتاج الروائي لنجيب محفوظ أنه تصوير لرحلة الحرمان الاجتماعي الذي تعاني منه الفئة البسيطة في المجتمع المصري بما في هذا المجتمع من اضطراب له علاقة بالحياة اليومية و الحياة العامة من أحداث وأفكار وفلسفات ونزاعات. هذا ما نراه مجسد في رواية زقاق المدق والتي سنحاول فهمها بشقيها الروائي والإخراجي.

تعتبر لغة الحوار لدى نجيب محفوظ بانها صورة من صور الأسلوب ومن الوسائل التي أعتمدها في رسم الشخوص وتطوير الإحداث، ومن ثم فهو يستعمل الحوار لتطوير موضوع الرواية و الوصول بها إلى النهاية، وفيه تستحضر الحلقات المفقودة في الحديث، وبه يتم الكشف عن جوهر الشخوص ويدور الحوار في رواية زقاق المدق حول فكرة معينة

اللغة والحوار في القالب الإخراجي:

السيناريو قصة تحكى بالصور: السيناريو يتعامل مع الصور المرئية، مع تفاصيل خارجية. مع شخص يعبر شارع مزدحم، سيارة تدخل شارع فرعي، باب مصعد يفتح، امرأة تشق طريقها وسط الزحام. في السيناريو تسرد القصــة بالصور.

الرواية تختلف عن ذلك، الرواية عادة تتعامل مع الباطن، الحياة الشــخصية لشخص ما، مع أحاسيس الشخصية وعواطفها وأفكارها، فالذكريات تأخذ حيّز في الشرود الذهني للفعل الدرامي. الرواية عادة تأخذ مكان داخـــل رأس الشخصية.

أن كاتبنا يعتمد دوماً على اللغة الفصحى وليست الفصيحة بل الفصحى الأقرب إلى العامية اعتماد كاتبنا على لغة الوصف تجعل ملامح الشخصية تبدو واضحة لدى المخرج ولكن نجد هناك إضافات فنية رائعة. قد أضافها المخرج إلى النص الروائي؛ أضافت بالفعل إلى الشخصيات ما يجعلها أكثر نطقاً وتوضيحاً للأحداث.

الشخصيات في الرواية:

تقوم الشخصيات على خدمة الفكرة؛ التي يريد الكاتب أن ينقلها إلى القارئ؛ حيث لا نجد بطلاً معيناً في القصة،إنما البطل هو الإنسان عامة بقضاياه فنجد في زقاق المدق " حميدة " بما تحمل من آمال وتطلعات و " عباس الحلو " وعاطفته نجدها جميعها تخدم فكرة الرواية، سواء كانت تلك الشخصيات محورية أم شخصيات ثانوية

وبالنظر في الشخصيات التي في رواية زقاق المدق نجد بعضها شخصيات جاهزة منذ بداية الرواية ولم يطرأ على مجريات حياتها تطور بعينه مثل شخصية " عم كامل " بائع البسبوسة و " الشيخ درويش " و" سنقر القهوجي " جميعها شخصيات تسير على وتيرة واحدة. إلا أنه هناك شخصيات نجدها تبنى من خلال العمل الروائي نفسه مثل شخصية "حميدة" التي بدأت تتزايد فنجدها في البداية فتاة تعيش مع أم لها بالتبني، ثم سرعان ما تتطلع لأحلام وطموحات أعلى من قدرتها. حتى تصير هي محور الدراما، و المحرك الأساسي له بعدما هربت مع "فرج إبراهيم" الذي أغراها بالزواج. ثم سرعان ما خلا بها وتاجر بجسدها وهذه روعة نجيب محفوظ فهو لا يفرق في بنائه بين شخصية رئيسية أو فرعية

التشخيص في الفيلم:

لنا أن نقرّ في بداية تناول هذا الجانب، أن نجيب محفوظ في رواية زقاق المدق قد اهتم إلى حد كبير في رسم الشخصيات بالنواحي الداخلية و النفسية. وبالتالي فقد ترك للمخرج مساحة كبيرة لوضع الرتوش الفنية على الشخصيات من ملابس وإكسسوارات تسهم في الفيلم.

عندما نقارن بين الفلم والرواية (زقاق المدق) نجد الكثير من الامور التي تستدعي ان نركز تفكيرنا على فهم اهم النقاط بين العملين:

(تحكي الرواية قصة زقاق المدق الموجود بمنطقة الحسين، تتناوله بوصف الدقيق، حيث يصف الجدران والأرضيات والمحلات، تطرق الرواية لشخصية حميدة الفتاة شديدة الجمال، التي تربيها صديقة والدتها، بعد وفاتها، فهي دائما متمردة رافضة لعيشة الزقاق القاسية، وتتمنى الخروج منه بأي طريقة، ولكنها تستجيب لحب عباس الحلو وتتم الخطبة).

. والأشخاص المهمشين وملابسهم وتصرفاتهم.         عندما تعرف أن فيلم زقاق المدق كان سيسمى حميدة ستعرف الفرق الجوهري بينهما، فالرواية بطلها الزقاق، والفيلم بطلته حميدة، خرج الفيلم تمامًا عن اهتمام محفوظ بـ الزقاق كمكان وفترة الاحتلال الإنجليزي بالأربعينات كتاريخ، ليهتم بالبطلة حميدة التي جسدتها الفنانة شادية.

أما فيلم زقاق المدق فقد اعتمد على رمزيات مختلفة تماما، فاختاروا أن تموت “حميدة” كنوع من التطهر من ذنبها، وأن تدفع حياتها ثمن ضياع شرفها، وقد قيل أن شادية ترمز لمصر وعباس الحلو يمثل الشباب الثوار، والإنجليز هم من قتلوا حميدة.

أبرز الفوارق بين رواية زقاق المدق والفيلم   /     هناك بعض الفوارق التي يُمكننا رصدها بين الفيلم والرواية، هي:

* النهاية:

يبقى أن نشير في الختام إلى أن المخرج، أو ربما كاتب السيناريو قد تصرّف في خاتمة الرواية، فبدلا من أن يقتل عباس الحلو على يد الإنجليز، تُقتل حميدة بطلقة طائشة لينقلها الشابان حسين كرشة وعباس الحلو إلى الزقاق في مشهد بالغ التأثير، وربما انسجاماً مع النظرة الأخلاقية حول فلسفة الخطيئة والعقاب، أو للتأثير في المشاهد الذي أعجب بنموذج عباس الحلو السلوكي والأخلاقي، لكنّ الإشارة تستوجب القول إنّ اختلاف النهاية على هذا النحو يخالف وجهة نظر محفوظ الفكرية ورؤيته لصراع القدامة والحداثة، وفي انتصار للحداثة حتى ولو كان الثمن غالياً.

* حميدة.. نحبها أم نكرهها؟

جاء دور حميدة الذى لعبته الفنانة المحبوبة (شادية) عكس ما أُريد منه فلقد أحببنا شادية و تعاطفنا معها، بينما كان ينبغى أن نرفضها و نحتقرها، كما أراد نجيب محفوظ. حميدة في الرواية كانت البطلة التي باعت كل شيء في سبيل المال، حتى أمها التي تبنتها، فهربت مع إبراهيم فرج وتمرغت في نعيم المهنة الجديدة، عكس الفيلم الذي بدت فيه حميدة شخصية ساذجة تقع في شرك شخصية القوَّاد دون وعي منها.

بينما بدت حميدة في الرواية شخصية قوية يحركها الانتقام والتسلط بدت على الشاشة شخصية ضعيفة يحركها ضعفها أمام الحب.

* مقتل البطل النبيل أم البطلة الخاطئة؟

في الرواية من قُتل هو عباس الحلو، عندما اجتمع عليه الجنود الإنجليز، حين كان ذاهباً ليثأر لشرفه. بينما عاشت حميدة. أما في الفيلم فقد ماتت حميدة وكأن الفيلم يدفعها لدفع ثمن خطيئتها، كعادة أغلب الأفلام العربية التي تُفضل أن تنتهي الحكاية بانتصار الخير على الشر. وهو أمر كما نعلم جميعاً للأسف لا ينتمي للواقع.

* البطولة.. بين المكان والإنسان:

في الرواية كانت البطولة للمكان.. للزقاق أو الشارع الذي سكنه عدد من الشخصيات المختلفة وتوزعت بينهم جميعاً البطولة. أما في الفيلم فقد ركز المخرج على حميدة وحدها وجعلها محوراً رئيسياً للأحداث التي تدور من حولها.

***

ا. م. هديل عادل كمال

في المثقف اليوم