قراءات نقدية

علي فضيل العربي: جدليّة الثقافة والسياسة في المجتمع الشرقي المعاصر

قراءة نقديّة في رواية "البصّاصُون" – عباس خلف علي

صدرت رواية "البصّاصون" للأديب والروائي العراقي عباس خلف علي، في طبعتها الأولى سنة 2023 م، عن مؤسسة الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، في صفحاتها 184. تضمنت الرواية مجموعة من الأسفار (الأجزاء) هي:

سفر الرحلة / شلّة المماليك

سفر التاريخ " ابن إياس"

سفر التجلّي ما يقطفه الحلم من النافذة

سفر التدوين قنوط وترقُّب يشارفان أن يحكما قبضتهما

حسن الوزان 2005

سفر الرمل

شلة الأصدقاء

تقدر وتضحك منك االأقدار 2007.

سفر الهروب

كاسرة الوهم

سفر جنَّة عدن

معنى كلمة (البصّاصون) لغة واصطلاحا:

اتفق النقاد، أن العنوان في العمل الأدبي يجري مجرى العتبة إلى المعمار السردي أو الشعري. لم تعد العناوين مجرّد كلمات تشبه علامات إشارات المرور على الطرقات الأسفلتيّة، يهتدي بها المرء إلى هدفه وغايته. بل أخذ العنوان مكانته في النص الإبداعي، كعنصر رئيسيّ من المتن الأدبي، بل هو تجسير للهوّة بين المرسل والمرسل إليه، أو بين النص والمتلقّي. إنّ القيمة الفنيّة للعنوان الأدبي لها مفعولها الإيجابي أو السلبي، فكثير من عناوين الأعمال القصصيّة والروائيّة تكتسب سحرها اللغوي والدلالي وسرديتها الأدبيّة من جماليات كثافتها اللغويّة والدلالية، فتجذب القاريء وتستفزّ الناقد .

ولعل رواية الروائي عباس خلف علي " البصّاصون " تثير في نفسيّة القاريء نوعا من الإغراء والجذب، وتدفع الناقد إلى التنقيب عن دلالة عنوانها ورمزيّته وتداعياته على سيرورة أحداثها، ونفسيّات شخوصها وملامح بيئتها (الزمكانيّة) .

فقد جاء في معجم المعاني، أنّ " بصّاص " اسم وصيغة مبالغة من الفعل " بصّ"، والبصّاصة، العين الناظرة بتحديق وتدقيق. وبصّصت الأرض، ظهر أول نبتها،و بصّص الجرو، إذا فتح عينيه، وتبصّص الرجل، إذا تملّق. وقد أطلق لقب " البصاصة " في الذاكرة الشعبيّة على المرأة المشعوذة التي تقرأ الكف (القزانة)، كما أطلق على المخبرين في لغة السياسة. ومهما يكن، فقد اكتسبت كلمة " بصّاص " (الجاسوس) معنى خسيسا في الذاكرة الشعبيّة، تضاهي معنى التجسس وو التخابر والسعي إلى تعريّة أسرار الآخرين وفضحهم أمام الملأ. ومهما يكن، فقد جاء لفظ " البصّاصّون " بصيغة الجمع، للدلالة على ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة شائعة، منذ القدم، في ثنايا المجتمعات الإنسانيّة جمعاء، دون أن نستثني المجتمع العربي والإسلامي المتعدّد الأعراق والمذاهب وو الثقافات والأنساق الفكريّة . وهي ظاهرة موحشة وحربائيّة، متخفيّة وراء كثبان الرمل وتحتها، لا صفاء ولا نقاء فيها، حبلى بالشك والتقزز والنفور، كما جاء على لسان الكاتب في الملخّص.

جاءت الرواية لتعكس البنيّة الفكريّة والنظرة الفلسفيّة للمجتمع العربي المعاصر، من خلال توظيف تقنيّة الإسقاط. وهي منصّة فنيّة وفلسفيّة وسيكولوجيّة، هدفها استحضار التاريخ واستثمار التراث، كأداة لتفكيك (تيمات) معاصرة، وذلك باعتماد الرمز اللغوي والدلالي.

يقدّم لنا الروائي شخصية بطل روايته، الموسوم بالضمير المتكلّم (أنا)، في الجزء الأول (سفر الرحلة / شلّة المماليك) مفصحا عن هويّته قائلا: " ربّما أنا المنسيّ الوحيد يرى كل شيء ولا يقوى على القول إلاّ لماما، أقتصد بالكلام قدر الإمكان، بعض الأحيان أكتفي بالإيماءة، لي لسان وشفتان ولكن غير متحررين، وعليّ أن أبقى هكذا حتى يُؤذن لي.. متى ؟ لا أعلم... ربما إلى ما شاء الله، وعليّ أن أحتمل... " ص 6.

ثم يقول عن نفسه قبل أن يتحوّل إلى بصّاص: " وقبل أن يتغيّر نمط وظيفتي، لا أخفي على أحد، أيضا أخذت جرعة من ذلك التوجيه الصارم، كل ثانية ودقيقة وساعة نبضاتها تسري في الأعماق، فهي كأنّها مكتوبة على شكل وصايا وتوجيهات، ومعلّقة على جدران هذا القصر المنيف، تحذيرات تلاحقك أنّى تكون، حتى وإن لم بها أحد، إيعازها يفرض عليك أن تنتبه لنفسك كالمرآة " ص 7.

يبدو بطل الرواية (الأنا) فاقدا للحريّة والإرادة والمسؤوليّة. فقد تحوّل إلى مجرّد أداة روبوتيّة (آليّة) أو رهينة في يد رجل القصر الأكبر، الذي أحاط نفسه بمجموعة من البصّاصين (المخبرين السريين) من ذوي الأشكال المستفزة . " حاسرو ؛ الرؤوس والشباب يتدفق بحيوية في أجسام راوية ومفتونة، لا تميّز فيها الأعمار كلّهم يتمتّعون بلياقة بدنيّة سرّها لا يعلمها غير الله، لا يتكلّمون مع أحد ولا يسمحون بالتحدّث معهم، الكتمان هو عمل هذا الصنف من البشر، ومع ذلك تراهم ملوكا أكثر من الملك نفسه " ص 7.

ظاهرة " البصاصة " أو ما نسميّه بلغة السياسيين " الجوسسة " قديمة في المجتمعات البشريّة، خاصة تلك التي يحكمها الاستبداد وتديرها المكائد البينيّة. وهي ظاهرة لا أخلاقيّة هدفها الإيقاع بالخصوم، وخدمة السلطان المستبدّ وإبداء آيات الولاء له . وهذا ما اتصف به بطل هذه الرواية، حين سخّر عقله وقلبه لخدمة " رجل القصر الأكبر " عندما استفسره عن واجبه. يجيب البطل (البصّاص): " افتح الشفرات عن الاتّصالات الغامضة " ص 7. فطلب منه قائلا: " أريدك أن تفتح لنا شفرات من هم فوق الشبهات لا نريد الالتباس... والشكّ آجلا أم عاجلا سيظهر هنا أو هناك " ص 7.

يحاول الروائي عباس خلف علي أن يستحضر فترات من التاريخ العربي الإسلامي المليء بالغموض والتشويه والتزييف، من خلال سفراته المتعدّدة، فهاهو ينزل بمصر ويقابل رجلا بمقهى "الفيشاوي " " بحي الأزهر " معتقدا أنّه " ابن إياس " الذي عاصر فترتين ؛ { العهد المملوكي والعهد العثماني }. وهنا يتحوّل التاريخ إلى معضلة حقيقية في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، تحتاج إلى إعادة غربلته وتطهيره من النحل والانتحال (على غرار موقف طه حسين من الشعر الجاهلي)، لأنّ الذين دوّنوا الأحداث التاريخيّة، سواء الشهود بالعين المجرّدة أو بوساطة السماع والرواية، لم يلتزموا الحياد والموضوعيّة والاعتدال والحقيقة . قال ذلك المٍؤرخ الصبور: " إنّ معشر الكتاب لا سيطرة عليهم في تناول الموضوعات، لديهم خيال لا يتوقف، خصب، يفوق ما يحدث في الواقع، فالتاريخ الذي نعرفه غير ما يتبنّاه المؤلفون، فهم يرون ما يناسبهم لمحاكاة شخصياتهم " ص 9.

و في سفر التاريخ (ابن إياس)، يتوغّل الروائي عباس خلف علي في حلكة التاريخ المملوكي والعثماني. فقد تحوّلت الرعيّة (الشعب) في فترتهما إلى رهينة في أيدي الحكم المؤلّه. لكن ابن إياس، لم يكن بصاصا وعميلا وانتهازيا، رغم أنّه من سلالة المماليك وأسلافهم، وعانى من وطأة الرقّ وآلامه، وأبى " أن يطلب التعويض عن ذلك لأنّه يريد أن يعيش مثل أبناء الآخرين الذين ينحدرون من العلم والفقه والمؤرخ والجندي والحرفي والتاجر " ص 20. لأنّه أدرك، بفضل حكمته ووعيه وصدقه أن " المجتمع لا يُبنى بالامتيازات بل بالمساواة واحترام حقوق الغير، فلم يكن في كتابه منحازا بل واضحا كنور الشمس في كشف ألاعيب الحكام التي تفوق أساليب الشيطان، أوهام هذه اللعبة، الحكم ثلثه أله، لم ينته، بل يوغل في الاستخفاف بالرعية وتشويه مصائرها ورغباتها " ص 20.

حين يجيد الروائي الغوص في الذاكرة، يتبوأ رتبة الفنّان المطبوع، ويكتسب الملكة والقدرة على تأديب (من الأدب) التاريخ وإخضاعه إلى فلسفة المخيال الاجتماعي والسياسي. ويقوم – بذكائه وفطنته ووعيه وحيلته الفنيّة - بتفكيك العقد التاريخيّة الماضيّة، وصبّها في قوالب الحاضر والواقع المعيش. التاريخ بالنسبة للروائي، وسيلة وليس غاية، جسر عبور لمساءلة الذات واستفزاز الثابت الممنوع والمحرّم (الطابو) السياسي والإيديولوجي . هذا الإسقاط، الذي مارسه الروائي من خلال شخصيّة المؤرخ الصبور (ابن إياس)، ومن خلال حكم المماليك والعثمانيين، يظهر حجم المأساة الفكريّة والعقائديّة والمذهبيّة التي يعاني منها العالم العربي اليوم . وهي مأساة ناجمة عن غياب تأصيل مفهومي العدل والمساواة وشيوع الظلم والاستبداد والمحاباة، وتغليب منطق القوّة على منطق الحقّ. فصار البقاء للأقوى، لا للأصلح.

في سفر التجلّي (ما يقطفه الحلم من النافذة)، تتجلّى لنا شخصيّة البطل (الأنا)، عندما ينخرط في عالم البصّاصين والعملاء والجواسيس لخدمة رجل القصر الأكبر. " دخلت ورشة اسمها غريب بعض الشيء " الصيانة النفسيّة "... كنت وأنا أتلقّى تلك الدروس ألعن في سرّي ذلك اليوم الذي قادني إلى هذا القصر " . " ص 21.

نعم، أنا في حالة سيئة، ولكن ما الفائدة ؟ هم يقولون: " هذا كلّه من أجل بلدك. وعليك أن تضحي بالغالي والنفيس "... طيب، ومتى أخدم نفسي، إذا أفنيت العمر كلّه من أجله، ماذا تبقى لدي ؟ صراع ومجازفة.... ولا تعلم أنّك منخرط بالتوجيهات حد النخاع ؛ وعليك أن تتصرّف بما لا يرضيك، وقد يكون ضدّ قناعاتك... " ص 21 / 22. هكذا تنكشف لنا صورة البطل، وتتجلّى مهمّته، التي فُرضت عليه، أو سُخّر لها، تحت عنوان {خدمة الوطن} والمصلحة العامة. وهي سياسة المستبد والديكتاتور، حين يريد استغلال عاطفة الوطنيّة، شعور الانتماء، ويحرّف معاني التضحيّة عن معناها الحقيقي. إنّ المستبّد ثعلب ماكر، يستعمل جميع الوسائل (الغاية تبرّر الوسيلة) من أجل الاستيلاء على كرسي السلطة، والبقاء على عرش السلطان مدى الحياة، بل ويسعى إلى توريث الحكم، باسم الوطنيّة والروح الثوريّة، لأبنائه أو حاشيته. وهذا حال الواقع المعيش في البلاد العربيّة، إلاّ ما شذّ، عنه، وهو نادر عموما.

الاستبداد صناعة (بصاصيّة) مخابراتية، جاسوسيّة، لا خير من ورائه، للفرد ولا الجماعة. ويحمل هذا الإسقاط – دائما – رفضا صريحا، وإدانة شديدة لما آلت إليه البلاد العربيّة، التي تحرّرت من الاحتلال الأجنبي، ووقعت فريسة في شرك الاستبداد. " الدنيا في القصر لا تشبه الحياة في مكان آخر، عندما تتعرّض إلى شيء لا تفقد توازنك، وتسأل ماذا يجري، كل شخص تابع لخليّة وكل خليّة مثل " مشبك الورق " عتد النازيّة لا تعرف م يدور حولها فقط ما يهمّها، الإنسان هنا كائن مسيّر بامتياز وليس مخيّرا " ص 28.

في مثل هذه البيئة يفقد الإنسان إرادته وتوازنه. مثلما فقد بطل الرواية عند انضمامه إلى القصر الأكبر. صار البطل (الأنا) في الرواية كائنا " بصّاصا " ومسيّرو مسخّرا ومجبرا (النظريّة الجبريّة) لا خيار له، فاقدا للإرادة والتمييز والاختيار، ( فقدان الحريّة). يعيش في جوّ أشبه بالعبوديّة الفكريّة والسلوكيّة. يعيش صراعا روحيّا بين قناعاته قبل " وظيفته الجديدة "، وما يملى عليه من أوامر بعد انخراطه في عالم " البصّاصين ".

في ثنايا رواية " البصّاصون "، انتهج الروائي عباس خلف علي، أسلوب الفلاش باك أو الاسترجاع، وغرف من معين التاريخ الإنساني القديم بكل ما فيه مآس وخدع وحيل وشرور وبطولات وهزائم وانتصارات. (تاريخ العرب والمسلمين، تاريخ الروم، تاريخ الفرس). وسكب المادة التاريخيّة في قالب سردي، معتمدا في ذلك على العناصر المختزنة في أعماق الذاكرة الفرديّة والجمعيّة (الذوات المتكلّمة والغائبة ) والمخيال التاريخي، المستمد من عنصر التراكم الحضاري، بالإضافة إلى الرؤى الفنيّة المستخلصة من الخبرات والتجارب الشعوريّة والمدركات المتنوّعة، ممّا أظهر لدى الروائي عباس خلف قدرة فائقة على خرق التسلسل الزمني في أحداث الرواية، وتحكّما في (العبث الإيجابي) بتواتر الأحداث وسيرورتها، ومراوغة بالمعاني وتلاعبا مفيدا بذائقة المتلقي. إنّ الرواية عند عباس خلف علي ليست تأريخا سرديا لأحداث روتينيّة، معتادة، في قالب فنيّ متخيّل، تعقبها نهاية (حل ما، أو لحظة تنوير ما) تسعد القاريء أو تؤلمه، أو تنتهي أحداثها بنهاية مفتوحة، لتوضع في رفّ النصوص المقروءة والمفروغ منها، بل نهايتها بداية أخرى لفكّ معضلة الوجوديّة، كما رآها كل من كيركجارد، جبرييل مارسيل. والملاحظ أن بطل الرواية، قد أدرك حقيقة وجوده من عدمه، فقد لقّنته التجارب دروسا في فقه الحياة، ولولا شبكة الإنترنت، ما استطاع الحصول على الإجابة لممارسة فنّ الكتابة المثيرة وغوايتها . لقد " انهارت أمامها كل الحواجز، لم يعد هناك ضوء خافت وضوء ساطع، الكل تحت المجهر، والشاطر يعرف من أين تؤكل الكتف " ص 55.

يقول البطل في معرض حديثه عن الإنترنت: " أصبح هو العالم الداخلي للإنسان أسمّيه " عش الدبابير " إن لم تحذر يلسعك، ولكن الأغلب لا يهمّه اللسع، مجنون من يعتقد أنّه في منأى عن الاستهزاء والسخرية " ص 55.

لقد سمعهم يقولون (و الأغلب أنّهم البصّاصون) أنّ الدنيا قد تغيّرت، وانقلبت، و" الزمن الذي كانت فيه المقولة السائدة " حدّثهم على قدر عقولهم " انتهى وولّى إلى غير رجعة، الوسيلة الوحيدة للعيش إما أن تفكّر، وإلاّ تنقرض " ص 56.

كما قال جان بول سارتر: " أنا موجود فأنا أفكر"، أو على غرار مقولة ديكارت: " أنا أفكر فأنا موجود ". وهذا يعني أنّ البطل (الأنا)، صيّرته وظيفة " البصاصة " إنسانا وجوديّا في تفكيره وسلوكه الاجتماعي. لكن وجوديّة سلبيّة، لأنّ ممارسة الفرد للتفكير في بيئة " البصاصة " تعني الاتصّاف بالأنانيّة والساديّة والإضرار بالآخر من أجل إرضاء (رجل القصر الأكبر) وإشباع رغبة نفسيّة مرضيّة ذاتيّة.

ومن الشخصيات، التي كان لها حضور قويّ (شخصيّات ثانوية حاسمة)، شخصيّة الأب والأم والخال وابن إياس.)

شخصيّة الخال:

تاجر الأحجار الكريمة، مهذار، يكسب مالا كثيرا من تجارته تلك، لكنّه يبدو مفلسا، لا يملك شيئا منه، غير نشوة الحكي " تأخذه النشوة بالحكي دون أن يلتفت إلى من ينصت إليه، لا يهم، هو لا يبالي لهمس الأبناء ويستمرّ في الحديث، لا شيء يعكّر مزاجه، عندما تطيب نفسه لا يكترث لأحد، هذه طبيعته " ص 62. ضائع القصد . لا مأوى له. كثير الغياب، طويله، وبحجج واهيّة. بخيل، يصفه الأب بقوله: " يا لك من ثريّ بخيل، حتى الصعاليك في العصور البائدة تضحك من تصرّفك " ص 64. يعاني من انفصام الشخصيّة يكره الموت وتذكّر الأموات. وصفه البطل قائلا: " خالي كان يكره ذكر الأموات ويحاول نسيانهم، عندما تتذكّر أمي شيئا ذلك يهرب إلى مرقد الشيخ " السيد صروط " ؛ يطلب منه أن يشفي صدره بالذكر الحكيم، ومع ذلك كان البعض يراه آخر الليل في بار " شمعون " يحتسي الخمر ويبكي ". متناقض في سلوكه وأقواله، لا يرسو على حديث أو فعل " لا قبلة له بالحديث، ومن كثرة تناقضاته يقول عنه أبي، " جنت على أهلها براقش " ص 59. وقال عنه البطل أيضا ما يلي: " خالي ؛ كل الدهر كان يستلف من أمي مصروفه، لا أفهم معادلة الثراء والإفلاس لديه، آخر تقرير يحتفظ به في جيبه، عقابيل شدّة على رأسه، هذا ليس سببا لتدهور وضعه المادي والذي لا يريد أن يفصح عنه ويكذب ما نقوله أنه تعرّض للنصب والاحتيال مرات ومرات " ص 62. " يغيب حتى تنقطع أخباره، أمّي لا يخيب ظنّها، حين تقول: إنّه سوف يظهر بعذر جديد، استهلكت كل الأعذار ولم يبق أمامه سوى المرض، أبي دائما ما كان يزدريه ويخفي ذلك عنّا " ص 62. وتقول عنه الأم (أخته) : " عاش حياته عبثا في عبث " ص 65. ورغم هذه الهنّات، فإن صبر الخال، كان يثير إعجاب الأبناء والأطفال " والأجمل ما في هذا الخال ؛ أنّه يصبر على شقاوتنا الساذجة ونزقنا الطفولي " ص 64.

و لو قمنا بعمليّة الإسقاط لشخصيّة الخال على واقعنا الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. لتوصّلنا إلى قناعة، مفادها، أنّ سمات شخصيّة الخال تعكس ما وصل إليه العالمين العربي والإسلامي، بعد سنة 656 هـ (1258 م)، سنة السقوط المروّع للخلافة الإسلاميّة، وبداية عصر الضعف والانحطاط (عصر المماليك والأتراك العثمانيين) في حواضر الشام والعراق ومصر وجزيرة العرب. ثم أعقب ذلك السقوط المدوّي سقوط غرناطة ثم استيلاء الغرب الصليبي على معظم بلاد العرب في المشرق والمغرب، ثم سقوط القدس بين مخالب الصهاينة، ثم استسلام العرب لفضيحة تقسيم فلسطين، ثم جاءت النكبة فالنكسة فمعاهدات الاستسلام، ليصل قطارها إلى محطة التطبيع، تحت مسميات برّاقة، ويحوّل (الربيع العربيّ) المزعوم إلى (فوضي خلاّقة) برعاية أمريكيّة وصهيونيّة، ومازال (الحبل على الجرار) . إنّ الأمة التي لا تستقريء تاريخها بنظرة ثاقبة وعقل نافذ، وضمير واع، ولا تعتبر من أحداثه ولا تستشرف المستقبل، مآلها الزوال، ولو بعد حين من الدهر.

شخصيّة الأب:

أما شخصيّة الأب، فتبدو عكس شخصيّة الخال المحبّ للمال والتجارة وزخرف الدنيا . فهو رجل حكيم في تصرفاته وحديثه. تختزن ذاكرته الكثير من أخبار روايات السلف، في مجال العلم والتصوّف، رجل معجب بقصصهم، متيّم بما صنعه العلماء المسلمون في سالف العصور الذهبيّة. كان يحدّث أبناءه عن الطبيب (ابن سينا) " تذكّرت في الحال أبي وهو يحدّثنا عن ابن سينا الجرّاح " ص 60

شخصيّة الأم: امرأة شجاعة، مجاهدة، مقاتلة، وطنيّة الفعل، وهبت روحها للثورة والحريّة، حاربت الإنجليز دون هوادة. " كانت تتنكّر بلباس الرجال، وتقتحم مع المتطوّعين معاقل الإنجليز من أجل الظفر بعدد من الأسرى والاستيلاء على بعض أنواع من الأسلحة النادرة، فيكون ردّ الأعداء طائشا في أغلب الأحيان " ص 58 / ص 59 .

هي خولة بنت الأزورعصرها، هي شجرة الدر، هي صورة المرأة العربيّة الحرّة، الأبيّة، التي أنجبت الأبطال والفاتحين والشهداء، وانزرعت في كل بقعة من البلاد العربيّة. هي الخنساء في صدر الإسلام، وخولة بنت الأزور، وزنوبيا، وفاطمة لالة نسومر وجميلة بوحيرد وجميلة بوباشا في الجزائر ودلال المغربي في فلسطين الحبيبة. هي المرأة العربيّة التي أنجبت الرجال الأشاوس، الذين قهروا المحتل الأجنبي، فكانت - على قول شاعر النيل، حافظ إبراهيم – مدرسة تحرّج الأبطال والعظماء.

في الجزء المعنون بـ (سفر الهروب.. كاسرة الوهم)، استهلّ الروائي عباس خلف علي بعتبة، جاء فيها: " قاسيّة.... هي...شهوة الأمنيّات.. تخطو نحو السراب...لتقطف من موجه ؛ موطنا للأثر ". ص 159.

لم يسلم الإنسان العربي ؛ في مشرقه ومغربه، من عورات التخلّف ومظاهره القاسيّة ؛ الجهل المميت والأمراض الفتّاكة والفقر المادي والمعنوي. ومازال هذا المخلوق العربيّ الضمآن يجري وراء السراب وهو يحسبه ماء. غايته القصوى، رغيف خبز لسدّ الرمق، وتأجيل موته الحتمي. ومنذ سقوط بغداد، وضياع غرناطة، وتقسيمات سايكس – بيكو وعد بلفور، ما فتئء المواطن العربي يدفع ثمن الخيانة . ومازالت رحى الاستبداد تطحن جسده وروحه.. " غرفة الصفيح هي المأوى، وبساط بال ؛ تنطرح عليه الصبيّة " ص 163.

هذا المواطن الذي شغلته يوميّات البحث عن المأوى الآمن، ويفتش عن حبل ينجيه من أنياب الفقر والمتربة. ويدفع - بكل قواه الضعيفة - عن نفسه وحش العوز. هذا المواطن الذي انعتق من أغلال المحتل الأجنبي، ليقع فريسة ولقمة سائغة في قبضة الاستبداد (القطري)، تحت مسميّات برّاقة ومتعدّدة ؛ تارة باسم الوطنية، وتارة باسم القوميّة، وتارة باسم الصمود والتصدّي والممانعة، وتارة باسم الثورة وووو... أجل لم هذا المواطن (المهروس)، سوى صورة اللحم والدم، أمّا الروح فقد غيّبتها رحى الحاجة . وهاهو الرجل الملثّم يبيع ابنته، عندما اشتدّ به الفقر والعزو، مقابل ثمن بخس. " ولمّا اشتدّ به الفقر والعوز ورأى نفسه بدأت العجلة تهرس ما تبقّى منه.. قبل بأقلّ الخسائر، قبض ثمنا بخسا لقاء بيعها " ص 163. ثم ولّى هاربا إلى وجهة مجهولة. " ولّى هاربا، هروبا مجهولا، لا يعلمه غير الله، والراسخين في العلم " ص 164.

و هذه المشهد الأسود، يعكس لنا عمق المأساة . " تصوّر أيّ فقر هذا يدفعك إلى عصر الجواري، ذلك الجرح التاريخي في جبين الإنسانية، يفتح أبوابه من جديد أمام صراصير الفقر، فهل هناك من هو أشقى وأقبح منه ؟ " ص 163.

شخصيّة ابن إياس:

لقد كان (ابن أياس) ثائر عصره ضدّ أساليب الظلم والقهر، ورمزا للمعارض والمصلح. كان " لا يتحدّث عن ازدهار الأقليّات من العوائل المملوكيّة التي عاثت في الأرض فسادا، ولكنّه أشار إلى الظلم الذي تمارسه لا يدوم طويلا وأنّه سوف ينقلب على هذه الطبقة إن أجلا أم عاجلا، المجتمع المصري مثل أي مجتمع عربي آخر يكره الظلم والطبقيّة والطغيان والمحتل ويحب وطنه خاليا من العملاء والجواسيس وينادي بالحرية والعدل والمساواة." ص 19 / ص 20. " ابن إياس يا أولادي يرى في الظلم والفساد هلاكا للشعب أمام أطماع العثمانيين من جهة، والفرس الصفويين من جهة أخرى " ص 20.

" فهو كان يجد مكانه في الأسواق والمقاهي والدكاكين، ولا يجالس الأمراء والسلاطين ولا يدخل قصورهم ولا يقتدي بمشيتهم أو لبسهم، لا أريد أن أقول زاهدا أوعفيفا، ولكنه كان لا يحب هذه المظاهر ولا يطمع بالترف " ص 20.

وظّف الروائي عباس خلف علي، عنصر الإسقاط في رسم ملامح شخصية " ابن إياس ". وهو أسلوب فنّي فلسفي وسيكولوجي، استغلّه المبدعون للتملّص من مقص الرقيب، والتستّر وراءه، مستعنين في ذلك بالرمز والتلميح والانزياح الاستبدالي. تمثّل شخصيّة ابن إياس المحامي عن المجتمع العميق، القائم على الطبقة المسحوقة تحت نعال المستبدّين ؛ طبقة الفقراء والمساكين والمحرومين والمضطهدين والمستعبَدين. فهو بمثابة ضوء المنارة الذي تهتدي به السفن والبواخر إلى مراسيها. ومن خلالها يبرز لنا دور العلم ومكانته في حياة الأمم الحرّة. إنّ ثورات الشعوب المقهورة تندلع شراراتها من البيئة الدنيا في المجتمع، وقادتها وأبطالها هم أولئك الموسومين بـ " الصعاليك والمتسوّلين وأرباب الحرف " ص 20.

جاءت ملامح شخصيات الرواية (أسوف، نرجس، الأب، الخال، الأم، أبن إياس، لمى، مشعل..)، تعكس النسيج الاجتماعي العراقي والعربي. شخصيات مهزوزة اجتماعيّا، مأزومة نفسيّا، تبحث عن تعويض النقص الاجتماعي والاقتصادي في بيئة مزقتها الأهواء السياسيّة والإيديولوجيّة والثقافات القبليّة.

شخصيات تعيش – بكل جوارحها - المآسي التي أفرزتها الحروب البينيّة والنزاعات الإقليميّة والإرهاب القاعدي والداعشي والأزمات السياسيّة القاسيّة. شخصيات تبحث عن جرعات الأمن ورغيف الخبز ونسائم الحريّة والكرامة، في بيئة موبوءة، استولت عليها مظاهر الفساد والاستبداد والساديّة والأنانيّة. وهي شخصيات جسّدت " مرحلة السقوط والانهيار " في حياة الأمّة العربيّة والاسلاميّة. لقد انهزم - للأسف – المثقفون في معاركهم مع السباسيين. واستسلم سلطان العلم لسلطان السياسة. مّما أدّى إلى أفول شمس العرب، التي أشرقت على مدى قرون على الغرب.

وهي – أيضا - شخصيات متباينة الملامح والتوجّهات والأمنيات، إلى درجة التناقض. فالأب والخال ومشعل، شخصيات عاشت على النقيض، وكذلك الأم ونرجس. بينما عاشا كل من لمى وأسوف حياة ملؤها الحب والتآلف. وهما يرمزان إلى الجيل الجديد، جيل ما بعد الحروب الداميّة والأزمات الخانقة. وهي رؤية من رؤى الروائي، وحلما من أحلامه المعسولة.

خلاصة:

لجأ الروائي عباس خلف علي إلى استغلال التراث العربي والإسلامي، من بوابة الإسقاط والرمز. وكانت غايته من ذلك المسعى، زلزلة الواقع العراقي المرّ، من جراء الحرب العراقيّة / الإيرانيّة، والناجم – أيضا - عن الحصار السياسي والاقتصادي والعلمي الذي فرضه الغرب الصليبي بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكيّة والكيان الصهيوني والعملاء من أبناء العمومة. ثم الغزو الغربي للعراق في مطلع القرن الواحد والعشرين ؛ هذا الأخير، الذي سبّب دمارا وانهيارا هائلين في البنيّة النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة العراقيّة. ثم تلته الأزمات الاجتماعيّة والسياسيّة (الصراع الحزبي والعشائري والحرب ضد إرهاب القاعدة وداعش) . وهي أزمات أنهكت الإنسان العراقي، وأعادته سنينا إلى الوراء. " الحصار الخانق دمّر الحرث والنسل " ص 163

يمكن أن ندرج رواية " البصّاصون " ضمن تيار السرديّات الواقعية السحريّة، وهو تيار تزّعمه في أمريكا اللاتينيّة الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، من خلال رواياته: ألف عام من الحنين، والحب في زمن الكوليرى.

وما يلفت نظر القاريء – حقّا – هو الأسلوب المتميّز للروائي عباس خلف علي. فقد أضاءت لنا لغته السرديّة والحواريّة نقاط وزوايا التحوّل في حياة شخصيات الرواية، كما غاصت لغة الرواية في أعماق تلك الشخصيات، سوااء ذات السلوكات الإيجابيّة السلبيّة، أو ذات السلوكات السلبيّة. فدور اللغة في سيرورة الفنّ الروائي والقصصي - على السواء – ونموّهما دور أساسيّ ومركزي، كما هو الشأن في رواية " البصَّاصُون " للروائي عباس خلف علي.

لقد أبانت رواية " البصّاصون " للروائي عباس خلف علي، عن قدرة صاحبها على استغلال مناجم التاريخ العربي والإسلامي، واستنطاق التراث الزاخر بالأحداث والوقائع والأخبار والرموز.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

 

في المثقف اليوم