قراءات نقدية

الخطاب الفني في رواية (الحكاية من الداخل) لبرهان الخطيب

saleh alrazukإن المتتبع لأعمال الروائي العراقي برهان الخطيب يلاحظ اهتمامه بنقطتين: سيرته أو تفاصيل حياته. وهي الخزان الذي يستمد منه وقائع أهم رواياته. فهو قليل الترميز. بعيد عن الفانتازيا. ولا يألو جهدا في تصوير واقعه المعاش بالأسماء والحيثيات.و لا تخلو رواية له من اسم شخص يعرفه أو وجه صديق أو كتاب قرأه وترك في ذهنه أثرا لا ينمحي.

النقطة الثانية هي إعطاء خلاصة عن الآراء والقناعات الأدبية التي توصل إليها. ويبدو شغوفا جدا في هذا المجال. ويصل به الحال إلى تأمل أعماله السابقة. والنظر اليها كواقعة منفصلة تثير فيه اللواعج والأفكار. ولدرجة إعطاء أحكام قيمة.

مثلا يقول في (الحكاية من الداخل) عن روايته السابقة (ضباب في الظهيرة) إنها: رواية تجريبية تعرض مشكلة تقليديا ص ١٧٠.

و أيضا عن (الجسور الزجاجية) يقول: إن نهايتها تعلمنا أن اليأس أفضل ما في الحياة ص ٧١.

ومع أنه ليس ناقدا أدبيا. وليس لديه كتابات أساسية في هذا المضمار. فهو يسقط على شخصيات وأبطال رواياته هذا الدور ويحملها غالبا آراءه وانطباعاته.

وإذا كانت بعض تلك الآراء تبدو متناقضة، فهذا يمكن أن نعزوه لطبيعته الشخصية.

بمعنى أنه لا يعكس دائما خبرته ككاتب. وإنما ينقل آراء يتم تداولها في حلقات المثقفين والنخبة. ويعمل على إسقاطها على شخصية خيالية هي حتما ليست الأنا ولكنها الآخر.

بعبارة أخرى إنه يهتم في أعماله بآراء ومواقف أدبية تتبناها النخبة. ولكنه لا يلتزم دائما برأيه الشخصي. ويقدم رأيه ورأي غيره.

وإذا كانت هذه الظاهرة بسيطة في بواكيره. فقد كان يهتم بأدب الحياة. وفي مرحلة لاحقة اهتم بأدب البيئة ( البادية في الجسور الزجاجية. والغابة والمرتفعات في أخبار آخر العشاق). وأجزم أن ذلك من تأثيرات عمله كمحرر ومترجم في دار التقدم. وفوق ذلك من تأثيرات دراسته في المعاهد السوفييتية التي لديها إملاءات تفرضها على الكاتب.

وتبدو ظاهرة إطلاق الأحكام والمقولات أوضح منذ الجنائن المغلقة.

وهذا مبرر لو نظرنا إلى تاريخ معاناته مع نفسه.

فالكتابة من داخل المشكلة يفرض عدم شخصنتها والتكتم عليها بينما الكتابة في مرحلة تالية ومن خارج مسرح الأحداث يوفر مسافة للتفكير والتأمل. وفرصة لتنشيط الذاكرة وعملها.

و إن أعماله اللاحقة غالبا ما كانت تأملات عن الوطن ولكن من نوافذ منفاه الاختياري.

يعني المسافة واضحة وضغط اللوبي نفسي ولكنه ليس ماديا ملموسا.

وهنا لا بد من الإشارة إلى الفارق الملحوظ في الخطاب بين أدب الحياة وأدب حياة النخبة أو الأنتلجنسيا. فالحالة الأولى تحاول أن تقترب من الضمير البسيط للقارئ العادي. وأحيانا لفضاء هذا الضمير البسيط. كما لدى تولستوي المعروف بالاعتماد على حبكة مشوقة لا تنحدر إلى أكبر عيب يعاني منه الأدب وهو الاتجار بعواطف شريحة من القراء.

فقد التزم تولستوي في كل أعماله بخاصية الترفع عن مخاطبة الشريحة. والاهتمام بمسؤوليات الفن تجاه النفس البشرية. من تهذيب ووعظ وإرشاد رموزي واستعاري.

أما أدب النخبة فقد راهن على تجريد الحالة الفنية وشخصنتها. بمعنى أنه خاطب ذاته الفنية. وهو ما يسميه بيتر دامغارد بـ "نظام الحروف".

أو "جمهورية الحروف" كما ورد في دراسته عن المنفى في الرواية الصينية. وعارضها بمفهوم "الأدب العالمي". ورأى أن عولمة الأدب هو غير الأدب العالمي. الأول هو أدب شريحة بلا هوية عرقية. والثاني هو أدب عرق يفرض نفسه على أعراق أخرى.

بعبارة أوضح: إن أدب النخبة عابر للأجناس والقوميات. وانتماؤه الأساسي يكون لحالة الشرط الإنساني. وأبرز مثال على ذلك أدبيات أندريه مالرو عن الهند الصينية. ورواية دوبوفوار (المثقفون) والتي حازت بها على الغونكور.

إنها أعمال هامة وضخمة واستشرافية. لا تكتفي بالتأمل في وضع الإنسان داخل وجوده الطارئ. ولكنها تضيف آراء ووجهات نظر تضع على المحك فكرة الفن ونظريته.

و هذا ما فعله برهان الخطيب في عدد من رواياته الأخيرة. وبالأخص أنها روايات سيرة.

و إذا كانت ظروف حياته فيها تحتل الحيز الأهم لكن معاناته الفنية وأفكاره تفرض نفسها أيضا.

فسيرة برهان الخطيب ربعها حياة عادية وثلاثة أرباعها صراع مع الفكر والفن والسياسة.

و تجد ذلك بشكل أساسي في روايته (غراميات بائع متجول) التي تحولت من حكاية غرامية إلى تحليل سياسي ونفسي لمشكلة الأديان والقوميات في روسيا الاتحادية بعد فشل البيروسترويكا ونظام غورباتشوف.

و هو يطور هذه الشجون في روايته (الحكاية من الداخل) والتي تبدو لي أكثر انضباطا من سابقتها. وأقرب لبديهة الأنتلجنسيا. وأعمق بالنسبة لكاتب يشخصن حياته ثم يجردها.

فهي تهتم بكل أطوار حياته. ومن ناحيتين: نضوجه النفسي والفني. وشتاته أو منافيه المتعددة وغير المتشابهة.

ما الذي يجمع عراق الخمسينات مع عراق صدام ثم مع الصورة الملحمية لسياسة غير واضحة ولا تثق بنفسها. ومتضاربة في الولاء والهوية. ولا تعرف أين هو مكانها بالضبط، هل هي مع مفهوم الحرية المشروطة الذي تسنه وتشرعنه أمريكا أم مع فكرة ولاية الفقيه وما تفرضه من قيود على عملية تصنيع المجتمع وتطبيع الاقتصاد كما يحصل في إيران.

ناهيك عن علمنة ولاية الفقيه في روسيا واعتماد صيغة تلفيقية تكاد تعيد إلى الأذهان مبدأ الدكتاتور العادل.

إن هذه المحاور التي اخترقها برهان الخطيب حولت الرواية من عمل متسلسل يقدم صورة عن الأحداث الجارية إلى عمل تيار شعور تفكيري وتركيبي يقدم صورة عن موقف الذات من موضوعها.

تتألف الرواية أصلا من عدة محاور متشابكة، يعني غير متسلسلة ولا متوازية. والعلاقة بينها تقابل وترادف. ولها بمصطلحات الناقد الدكتور شكري المبخوت أفق خاص بالكاتب وآخر خاص بالذات.

يعني هي رواية تتآزر عليها الذات الفنية للكاتب وذات بطل الرواية الافتراضي الذي يعيد الكاتب تركيبه.

و عليه إن الآراء التي وردت فيها تحتمل التصديق والنفي. فهي قد تعكس رؤية الكاتب أو رؤية شخصيات يسقطها على النص.

مثلا يقول عن (الجسور الزجاجية) بلسان شخصية يسميها خلدون : إنها تتحدث عن الشر الذي يأكل بعضه بعضا لتبقى الأرض للملائكة. ويضيف: إن أعماله التالية بسبب الشيخوخة قدمت مقولة مختلفة. ص ١٧٦

وسرعان ما يصحح له الراوي بقوله: هذا لأن الشيخوخة مصالحة ظاهر وباطن ص ١٧٦

وهذه مشكلة لها سوابق في الأيام لطه حسين عميد الأدب العربي.

فقد كان يتكلم عن نفسه بلغة تصويرية مع أنه ضرير. ويبتعد ما أمكن عن ضمير المتكلم ويلجأ لضمير الغائب والمخاطب.

و كانه يريد أن ينفصل عن ماضيه وأن يحاكمه. أو أن يتعامل معه كجزء غير عضوي. وكمرحلة أفلت ودالت دولتها. وهذا يقدم له حرية تساعده على الاعتراف بالأسرار والنقائص. وعلى إطلاق الأحكام بتجرد وموضوعية.

وهذا هو مبدأ برهان الخطيب أيضا. فقد قال: الأديب يفضح نفسه أولا ص ١٥٣. ثم يضيف:

لماذا لا تكسر المرايا وتكتب على المكشوف ولا تتستر خلف الشخصيات. اكتب مباشرة عن الذات ص ٢٣.

و يمكنني أن أذكر هنا ان عموميات الخطيب تقف وراءها ذات تخجل من العيب والفضيحة. فهو كاتب غير ميلودرامي. بينما لا يتورع جمال الغيطاني في (دفاتر التدوين) وعاصم باشا في (رسالة في الأسى) عن الإشارة لممارسة العادة السرية في وقت من الأوقات خلال المراهقة. ويصل الأمر بمحمد شكري في ( الخبز الحافي) للاعتراف بزنا المحارم وكأن المسألة التهام شطيرة نقانق باردة وليس إثما يمكن له أن يتسبب في تشوهات اجتماعية بالغة.

عموما، إذا كانت لغة طه حسين مضمخة برومانسية هي إحدى خصائص المعوقين الذين يهتمون بالصوت أكثر من الصورة. وبالظل أكثر من اللون. فإن لغة برهان الخطيب حافلة برومنسية ونوستالجيا يمكن أن تعزوها لتضخم الذات.

ولا سيما أنه يتعامل مع موضوعه كفرد مقابل جماعة.

وفي الرواية عبارات كثيرة تؤكد على قيمة الذات. وعلى الانطواء. وعلى الانتقائية.

مثلا يقول عن نفسه بصيغة الغائب (القناع الذي توارى خلفه طه حسين): في عقدين ينجز أكثر من عشرين كتابا ترجمة وتأليفا ( ص ٥٥).

و كلنا نعلم أن هذا هو رقم أعمال برهان الخطيب حتى نهاية فترته السوفييتية.

ويقول: إعادة اكتشاف العالم والتاريخ ولادة الكاتب الحقيقية ص ١١٧.

ويقول أيضا: الروائي وكيل الخلود. ص ١٧٠.

***

إن (الحكاية من الداخل) عمل ذهني بامتياز، إنها رواية عن الروائي وأعماله. وخلاصة لجوهر حكمته عن الواقع والفن. وربما ترادف ما فعلته نوال السعداوي في عملها المتميز (الرواية) التي تتكلم عن هواجس كاتبة تواجه نفسها في مرآة مشروخة.

إن العطب في مرآة الكاتبة ساعدها على رؤية حالة اللاتوازن والانحرافات التي تعاني منها في حياتها الداخلية تحت قشرة من الانضباط والمظاهر المزيفة. وهذا ما فعلته (الحكاية من الداخل). لقد صححت رؤية الكاتب لمعنى الصداقة والحب والرغبة. وكشفت له الستار عن العدو الذي ينمو في داخله. وهو خططه التي لا يمكن تطبيقها. وعن ذلك يقول:

من هو عدو الروائي؟ ويرد على نفسه بقوله: جموحه ص ٩١

و لكنه سرعان ما يشرح هذه العبارة الغامضة بعبارة أشد غموضا والتباسا فيقول: جوهر جموح الروائي هو إدانة النصف المظلم المتواري وراء المظاهر ص ٩١

و بالإستنتاج والمنطق نستطيع أن نفهم أن برهان الخطيب يدمر نفسه بانتظام. فهو يؤمن بضرورة التخلي عن المظاهر وانتقادها. وعليه هو يؤمن بمبدأ الجموح الذي يلحق الضرر بالفن وأدواته.

إنه لا يكتفي بتحطيم وحدة الفنان الجوهرية، ولكنه يلغيه. ويبدل هويته.

بمعنى آخر ينقله من شريحة في البنية النفسية وهي الإيغو الى شريحة معادية ومناقضة وهي (الآي دي) الهو.

و بترجمة ما سلف: يحوله من مجال الشعور إلى اللاشعور.

وعن ذلك يقول بصراحة: الفن إعادة تفكيك وتركيب وتحويل المضمون إلى الهو ص ١١٧

و لا يوجد وجه اعتراض على ذلك. فالفن هو خزان اللاشعور ومنبعه. ليس بمعنى أنه المصدر ولكن بمعنى أنه المستقر. الشكل الذي نرتب فيه خبراتنا اللاشعورية ونخلصها من الشوائب والفوضى والإبهام. ونعطيها المعنى والنسق.

و هذا ما يؤمن به برهان الخطيب إيمانا لا جدال فيه. فهو يقول:

إن الروائي يتعامل مع شخوصه محيطا محبطا اللامنطقي بالمنطقي ص ٢٢٠.

 

أيار ٢٠١٥

 

 

في المثقف اليوم