قراءات نقدية

فوق إيقاع المائدة الملكية .. شعرية البعد الإشكالي في استنطاق الحالة الإنسانية

ahmad alshekhawiالخرق التركيبي الوارد في العنونة والمُقتـَرَفُ عن قصد أو عرضية، بغرض معارضة الشائع وإفراغ الروح من رواسب الانهزامية وتراكمات المشاعر السلبية، وعزلها عن ظلال الذاكرة الضاغطة بشدة والمستنسخة لشريط المعاناة .

هو خرق محقق للانسجام التام مع ما يخدم النّسغ الإبداعي المتقنع بمعنى البعد الإشكالي للنص في كليته.

فوق إيقاع المائدة الملكية.

هي فوقية رمزية مولدة لمنظومة دلالات مفجرة بدورها لزخم من الأسئلة التي تدين الالتفاتة المتأخرة والتتويج الطاعن في السن ، عبر مجاملة وفولكلورية أشبه بذر الرماد في الأعين والتخطي الذكي للحجم الحقيقي للتضحيات على نحو يكرر صور جلد الذات.

منْ يبيعكَ ضرسين لدهسِ اللّحوم

أنتَ، أيها الجنديّ العائدُ من الحرب؟

سلال ملهاة العمر ترتد فارغة. ويتخذ الغبن أردية عدة في شقيه الجنسي والحياتي.

هذا الرغد اللحظي والترف العابر،ما دواعي تأجيله ؟ ليتجلى في أقصى إغراءاته لاحقا، عند عتبة أرذل العمر بالذات،حيث العجز سيد الموقف والخور والضعف.

يا لهول المفارقة.' الجندي الهرم الذي أنفق عمره في خدمة الوطن،يشوب ومضة تكريمه الإقحام العبثي للوثر الاستهلاكي،كلعنة تلاحق الشعوب المتلاعب بها همّ الرغيف، كتجسيد لنوع من الصراع والاصطدام الطبقي وليد الأرستقراطية الجاحدة.

ثمة استضافة ومائدة وفضلا عن ذلك فهي تستمد قيمتها الهلامية من انتسابها إلى أعلى سلطة. لكن هيهات فآليات الإنشاء الآني دُفنت مع الشباب الآفل ولن تعود أبدا ،وحتى إمكانية اقتناؤها غير متوفرة وإذن ...ما الجدوى من هذه الحفاوة بعد تهالك نفسي وجسدي وذاكرة مشرعة على محطات ماضوية أمرّ وأشد إيلاما..؟

حتّى انتبهتَ لانقضاء العمرِ صدفة...ً

لا أحدَ هنا سيهديك طفلا يناديكَ يا أبي،

ولا آثار عضّةٍ على ساعديكَ

لعاهرة الحيّ اِثر لحظة انتشاءٍ كبرى ذات ليل،

ولا بيتا تحيكُ فيه قصّة حياةٍ أخرى

غير هذه التي حمّلتكَ بملاذع الموتِ

 

حتى أن هذه الشخصية النموذجية وقد تلبّسها القرين في إيماءة إلى الهزيمة النكراء والفشل ، قد تفضل الموت على نظير هذه التوشيحات والنياشين المماطلة الكامنة خطورتها في نكئ الجراحات القديمة الدفينة واستفزازها لنوبات الضمير اللوامة والقاهرة.

لم لا تعقب المكافئة الجهد مباشرة وقبل تبخر نبيذ الجلد؟

بديهي أنه واجب وطني،لا اعتراض على تخوين كل متقاعس عن تأديته، بيد أن مثاليته الممتزجة بإيقاعات جلد الذات، حسب شاعرنا،تتمثل في تفويت منظومة حقوق ومكتسبات من المستحيل إدراكها في خريف العمر إلا بما يشبه المعجزة، كالأبوة مثلا.

شهادةُ الشكر تلكَ التي تحملها الآن بين يديك

أكبرُ من الجدارِ

وأصغر من أن تُمسِكها الذاكرة،

أنتَ مهزوم

حتّى إن نجوت.

معاقلُ الحربِ قد أغلقتْ

والبندقيةُ، والمدفعية، والمسرحيةُ

لا تصلحُ كلها

كمَهرٍ لابنة الجار الممتلئة بالشهوة

والأقحوان.

ما الذي لم تخسرهُ وأنتَ الرابحُ؟

تفاصيل الحيّ تغيّرت،

أطفالٌ قد كبروا، شيوخ قد ذهبوا، عاهرات تُبنَ عن بيع الهوى بأثمان بخسة

شبّان يخاطبون حبيبات في النصف الآخر من الكوكب

والشمس صارت أكثر قربا من زحل.

لا شيء يهمّك في كلّ ذلك،

فأنت الذي لم يطأكَ الزمنُ

ولم يغيّركَ المكانُ،

أنتَ الهزيمة كيفما اتفقت

الجدل الدائر حول هذه الشهادة الرسمية يكتسي أهميته من انطوائها على مجموعة تناقضات تبصم الواقع وتحجب مخابئ المرض فيه.

فهي كبيرة جدا ،أي الشهادة التقديرية، لرمزيتها لا أكثر، وصغيرة كذرة غبار بالنظر الواعي إلى حجم الخسائر المتكبدة في سبيل بلوغ وعيش لحظة الإنصاف والتكريم تلك .

الذاكرة مثقوبة إلا عند نقاط بث اللواعج والجهر بالمعاناة.الجرح غائر والحي بأكمله مضطرب وقد طالته أيادي التغيير، وكذلك التفاصيل متقلبة والمناخ.

أيضا مهر الجارة التي يهواها القلب يتعذر قطف مقابله من شقوة كل هذه السنين التي مرت وانقشعت كأنها سحابة .

ما البديل الذي من المفترض أن يعادل من حيث القيمة كمّ الكنوز المفوّتة على هذا الجندي الرابح الخاسر العائد للتو من الحرب؟ حتما لا شيء. فحلاوة التكريم الخاطف ليس في مقدورها تضميد الجرح أو تقديم تعويضات منطقية في مستوى البطولة والتنازلات.

اخلع الآن بوطك العسكريّ

وقل لصدى صوتكَ القادم من هناك

الآن فقط، الآن، وأنا نائم بجانب أنثى

أسمع جيّدا، طبول الحرب وهي تُدقّ.

الزوايا فانتبهتَ

لأزهارِ الطريق العابقة

وقلتَ في نفسكَ اِثر التخلّف عن القافلةِ

«"كم من العمرِ أنفقتُ في اصطياد الدمع

اللحظة،كل إرث هذا الشقي بطل أمسه ضحية يومه،مجرد ذكرى منغصة وباعثة على التوجع، البوط العسكري الثقيل وقد آن للقدمين الداميتين الاستراحة من عبئ ولعنة انتعاله .عدا ذلك أصداء صولة وبطولات ومراوغات موت وشيك.

لكن برغم ذلك، الحياة مستمرة والقافلة منطلقة لا يفيد في شيء خيار التخلف عنها، بل إن عواقب ذلك تهبّ وخيمة وعبارة عن دموع وهموم وأوجاع خاصة.

إلى حد ما قد نتفق مع صاحب النص في تعاطيه مع كهذه حالة إنسانية،لكننا نستبعد أن تحوز الخدمة العسكرية كامل المسؤولية في نسج المعاناة وتعميق الأزمة، أوتعيق الإرادة في نيل بعض المكتسبات والمآرب الشخصية.

وما التزام الشاعر التونسي الواعد سليم الحاج قاسم،بالإيقاع الضمني ،المتناغم مع طقوس تفجير الطرح الإشكالي الذي اقتضته مغامرة تناول الموضوع إلا ضربا من المساءلة الواعية للحالة باعتماد قاموس ينأى عن المعقد من المفردات ويروم المتدوال والمستعمل وما يلهج وينبض به الشارع، بمعية الاتكاء على أسلوبية سلسة وباذخة تنم عن تفنن في اصطياد المعاني الجديدة الآسرة،ودربة في تحاشي الارتجال أو أيما مشادة أو تعسف ذهني مفض إلى ما يشوه ازدحام الصور الشعرية وتداخلاتها حد أن تعافه الذائقة .

وانتهاء نستشف من الأسطر الأخيرة للقصيدة، ما يفيد ضرورة الاصطدام بالواقع في جميع الأحوال ، والتصالح مع الذات المجلودة والتنبيه إلى جدوى الممارسة الإبداعية في نقل الأزمات النفسية وترجمتها إلى ثمار إيجابية مرممة للشرخ الوجداني وداعية إلى استئناف الرحلة الحياتية ضمن آفاق لا تخلو من أمل وحيطة وحماسة ومثابرة.

 

أحمد الشيخاوي / شاعر وناقد مغربي

في المثقف اليوم