قراءات نقدية

أبو نواس كبش فداء لشهواتنا الآثمة (1)

لقد ترسّخت وتجذّرت في مخيالنا الصورة النمطية لأبي نواس صورة الرجل المتهتك والعاشق للغلمان والمولع باللواط وأصبحت مسألة شذوذه الجنسي من مسلمات حياتنا اليومية وإننا سنحاول في هذا المقال دراسة هذه الإشكالية لنقف على حقيقة توجهات وميول الرجل الجنسية.

بداية نقول بأن ما تذكره كتب التراث من أقوال شعرية تنسب إلى أبي نواس وهذا بصيغة " وكان يقول " أو ما شابه هذا التعبير أي بضمير الغائب لا بلسان حاله. فهي أقوال لا محالة منحولة في معظمها على الرجل، ولئن تقوّل الناس على محمد ص وهو رسول وعلى عيسى وموسى عليهما السلام من قبله. وكل يضع ما يخدم مذهبه في الحياة، ألن يكون من السهل أن ينسبوا لأبي نواس ما أرادوا من أخبار من بعد موته. ولئن استطاعوا أن ينحلوا شعرا لشعراء الجاهلية ومنهم حماد الراوية والذي لم يكن ثقة ووضع آلاف الأبيات ونسبها كذبا لشعراء جاهليين أليس من السهل قول أشعار ونسبتها لأبي نواس؟.

ومن هنا أصبح كل من يريد أن يفرغ مكبوتاته الجنسية يسقطها على أبي نواس وكل من راودته شهوة أو رغبة ما تجاه هذا الفتي أو ذلك الولد فنراه هو أيضا يستنجد بأبي نواس لتبرير ما هو مقبل عليه وسبب هذا هو الخوف من ردة فعل المجتمع ومن سلطته الردعية. ولهذا فإننا نقول كفانا جُبْنا ولنكن شجعانا ولنبتعد عن عقلية الأطفال الصغار الغير قادرين على تحمل مسؤولياتهم. فنراهم دائما ينكرون ما يأتونه وينسبونه لغيرهم وهي ذات العقلية لكل من يتخفى بأفلاطون أو بأبي نواس ليبرر شذوذه الجنسي.

كما أن الفيصل في حل إشكالية شذوذ أبي نواس تكمن في القراءة الجديدة لديوانه ككل كلمة بكلمة وبيت ببيت. وهذا لكي نقرأ ديوانه قراءة باطنية لا خارجية فقط، بهدف الوقوف على لغة الشاعر وعلى الألفاظ التي يستخدمها والوقوف على روح نظمه، وهل هي منسجمة مع النسق العام لشعره أم هي مثل العضو الاصطناعي في الجسد البشري يمكن تمييزه وبسهوله، وهذا لكونه دخيل وغريب عليه. ومن هنا مقارنة كل هذا بالأبيات الغزلية الماجنة والتي تنسب له وهل تتطابق مع روح شعره أم لا، وإلا فهي منحولة عليه. وهذا العمل لا يقوم به ناقد واحد وفقط بل يتجاوزه إلى الشعراء لأنهم هم الأقدر على الوقوف على روح الشعر قبل الوقوف على جسده الظاهر والذي تعبر عنه الكلمات فقط.

وليست مهمتنا هنا أن نبرر القاضي يحي بن أكثم مثلا من تهمة اللواط ولا الشاعر الكبير أبي نواس. ولكن مهمتنا هي استنطاق النصوص وهذا بغية الوصول إلى الحقيقة بعيدا عن كل تشويه أو توظيف غائي لها. ولننظر مثلا وعلى سبيل المثال إلى: كتاب تاريخ بغداد وكتاب الأغاني وغيرهما من المصادر التي ورد فيها ذكر أبي نواس وهنا علينا أن نناقش هذه المصادر وعلى رأسها كتاب الأغاني ومروج الذهب والتي هي مصادر شيعية لا يمكن فصلها عن معارك تلك الأيام بين البيت العلوي والبيت الأموي ثم العباسي من بعده. ولقد أخبرنا نقاد الأصفهاني بأنه كان رجلا شيعيا كذابا وأسانيده كاذبة ومضللة حتى أنه تجرأ على الصحابة وعلى التابعين فكيف لا يتجرأ على أبي نواس أو على هارون الرشيد؟؟.

إن أبا نواس لا محالة قد كان ضحية لشخصه ولعصره تماما مثلما هو حال أفلاطون وأرسطو. فهو ضحية لشخصه لأن الكل يريد أن يمتلكه لعبقريته الفذة حيث يقول فيه الجاحظ: "لا أعرف بعد بشار بن برد مولدا أشعر من أبي نواس ". في حين قال فيه ابن الحسن الطوسي: " شعراء اليمن ثلاثة: امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نواس ". ولهذا فإننا نرى الزهاد يتنافسون فيه مع الفساق والشواذ. وكل يحاول أن يبرهن على صحة ما يراه هو في أبي نواس مستدلا بشعره.

وهو هنا ضحية أوهامنا نحن اليوم، وهذا في ما يخص موضوع الشذوذ الجنسي. فلئن بحث الغرب

على شخصية محترمة يستقي منها تبريره للشذوذ الجنسي وتكون هي بنت منظومته الفكرية فهنا هو يحيلنا مباشرة على أفلاطون. وكذلك كان أبو نواس ضحية بحث البعض عن الشرعية التي يريدها الداعون والمبشرون بالشذوذ الجنسي بيننا اليوم. وبما أن الفكر اليوناني غريب بعض الشيء عن العوام. وبما أنه فكر فلسفي ونحن نعلم أن الفلسفة قد كانت ولا زالت سمعتها سيئة، وهذا شيء يدمينا ونأسف له. وبالتالي فإنهم سيجدون صعوبة في تقبل الناس للتطبيع مع الشذوذ الجنسي انطلاقا مما قدمته الفلسفة اليونانية. ولذلك فلا بد من البحث عمن يؤصل هذه الظاهرة ويكون هو ابن المنطقة والثقافة. وهذا لكون الناس ينساقون وبسهولة وراء ما يقول أبناء جلدتهم، وعلى هذا فقد كان أبو نواس ضحية لهذا المشروع الماكر.

ولنضرب المثال التالي: إن الكاردينال لافيجرى ومعه فرقة الآباء البيض ولما أرادوا تنصير الجزائريين فقد عمدوا إلى جلب مسيحيين من الشرق " بلاد الشام " ترى لما أقدموا على مثل هذه الخطوة؟. الجواب يكمن في أن الجزائريين لم يتقبلوا أبدا ما يدعوا له المبشرون ذوي الأصول الأوروبية، والحل يكمن في جلب عناصر مسيحية تشترك مع الجزائريين في اللغة والعرق. وهذا ربما سيخلق جوا من الثقة بين الطرفين ويساعد على تمرير الأفكار التبشيرية لهؤلاء الآباء البيض. وفعلا قد جلبوهم ولكن النتيجة كانت صفرا. وكذلك ستكون النتيجة لمن يدعو للتطبيع مع الشذوذ الجنسي مستغلا في هذا أبا نواس. فالفيلة لا تدخل الشرك الذي نصب لها إلا بتوظيف صائديها لفيل خائن درب على هذا العمل كما يخبرنا بهذا علماء الحيوان. وكما كانت مؤامرة الكاردينال لافيجري مفضوحة فكذلك ما يقوم به اليوم المبشرون باللواط هو عمل مفضوح نتيجته معروفة ومحسومة مسبقا. ذلك أنهم قد كانوا ربما يحرزون بعض النجاح لو أن الدراسات لا زالت في بدايتها، ولا نعلم شيئا عن حقيقة الرشيد ولكن اليوم الرؤية واضحة ومن المستحيل غش الأعين أو إتباع أحد الفيلة الخائنة.

كما أن أبا نواس كان قد تبرأ في آخر أيامه من هفوات الشباب وطيشه. ولهذا فقد قال شعرا في الزهد وشعرا يتبرأ فيه من شعر المجون الذي قاله ونسخه. ولعل الذين يتمسكون بالمرحلة الأولي من عمر الشاعر ويديرون وجوههم عن الشطر الثاني فإن عملهم هذا مغرض وسيء النية. كما لا يمكن أن يبقي الشاعر سجين أوهامنا نحن عنه. ترى هل الاستشهاد بما قاله وفعله بولس الرسول في حق المسيحية قبل إيمانه بها استشهاد منطقي ؟ إن هذا منطق لا يستقيم. وهل يا ترى يمكن لنا أن نستشهد بما كتبه أو قاله روجي جارودي قبل إسلامه، ونحن نعلم علم اليقين أن الرجل ليس هو قبله. وهل يمكن أن نبقى نكذب على أنفسنا ونجتر أخبار القديس أوغسطين قبل إيمانه بالمسيحية، إن هذا لهو عين السخف والهراء. ولكن لماذا نتعامل مع الكل بطريقة منطقية، ولكن عندما نصل إلى أبي نواس نظلم الرجل ونُـغَـيّـبْ عمدا الجزء الثاني من حياته وهو الأهم. أليست العبرة وكما يقال بالخواتم؟ ولماذا نبقي نظلم الرجل، وكل هذا لأننا ندرك ضعف موقفنا. وبالتالي فنحن نتخذ من العظماء عكاكيز نتكأ عليها علها وبها نخفي ضعف حججنا وتغطي على عيوبنا ونبرر بها شهواتنا الآثمة.

ولنبدأ من آخر القصة فأخبار أبي نواس تقول بأنه قد كان نديما لهارون الرشيد. والذي كثيرا ما قرأنا عن استهتاره، ولكن الدراسات الحديثة قد أنصفت هذا الخليفة العباسي وأرجعته إلى مكانه الطبيعي. وهذا من بعد أن تمت عملية الغربلة لما ألصق به أعدائه وخصوصا القرامطة وأبناء عمومته من العلويين. ذلك أن المعركة قد كانت سجالا بين الطرفين وأدواتها الزيوف والأخبار الكاذبة. ولأن العصر كان عصر دين ومن تنزع عنه الشرعية الدينية بالضرورة تنزع عنه الشرعية السياسية ومعها

الشرعية الاقتصادية والاجتماعية أيضا. ولهذا فلقد اجتهد كل معارض في أن يدمر صورة خصمه، وذلك بتشويه صورته أمام الرأي العالم. ولئن كان من المستحيل اتهام الرشيد بالزندقة إذن فلنهدم صورته التي يتخذ منها شرعيته بواسطة اتهامه باللواط أو على الأقل إشاعة الخبر الذي كان فحواه بأنه كان متسامحا مع اللواط. ولكن ولئن كان هذا الاتهام صحيحا فكيف سكت الفقهاء وهم حراس الشريعة على ما يدور في بلاط الخليفة، وخصوصا منادمته لشاعر فاسق وشاذ جنسيا. قد يقول قائل بأن الخوف يسكتهم وهذا الرد مرفوض ونحن نعلم تمام العلم كيف لم يرضخ القاضي عياض لإبراهيم بن الأغلب حتى أنه سلط عليه عبيدة الذين فقتلوه لا لشيء إلا لأنه أنكر عليه تشريعاته المعاندة للشريعة. ونفس المصير كان من نصيب القاضي البهلول بن راشد الذي حبس ونكل به في القيروان وقبل هذا كلنا يعرف قصة أبي حنيفة النعمان مع الأمويين ثم مع العباسيين لكونه رفض منصب الولاية مع الأوائل ومنصب القضاء مع بني العباس. وكذلك كيف لم يستسلم ويذعن ابن حنبل أثناء محنته مع المعتزلة، في ما يخص مسألة خلق القرآن. وأيها كان الأسهل والأقل شأنا على أمثال الإمام أحمد بن حنبل ومن معه من الفقهاء أهو الصمود في مجلس الخلفاء والسوط فوق ظهورهم والسيف على أعناقهم كما هو حال ابن حنبل دوما في مجلس المناظرة حول قضية خلق القرآن بين يدي المعتصم. أم مفاتحتهم في أمر شذوذ شاعر الكل غير متيقن منه. نحن نعتقد أن رجال الدين ما كانوا ليسكتوا لو أن موضوع شذوذ أبي نواس كان صحيحا، ولكانوا هدوا المعبد على رأسه وعلى رأس خليفته، إن لم يكن غيرة منهم وحمية على الدين، فيكون هذا بغية استرضاء العوام، وكسب ودهم. وهذا للإبقاء على مناصبهم وامتيازاتهم، خصوصا وأن التاريخ يمدنا بأمثلة تؤكد رأينا هذا. وهنا نقصد محنة فيلسوف قرطبة ابن رشد وكيف نكل به الفقهاء ومعهم السلطة الحاكمة متمثلة في شخص الخليفة الموحدي يعقوب المنصور.

ولنستمع الآن إلى ما جاء في كتاب أسرار الأمير العاشق ليالي هارون الرشيد بين الأسطورة والواقع. وهذا في معرض حديثه عما أشيع حوله من أخبار عابثة فهو يقول: "... بأن ذلك يعود للأدب الشعبي وعلى الخصوص حكايات ألف ليلة وليلة التي ساهمت بقدر كبير في اشتهار الرشيد دون سائر أمراء المؤمنين عند عامة الناس فأغلب ما يحكى عن بغداد لا يخلو من ذكر الرشيد والإشادة والتعظيم له... ". وهذا ما ينطبق على أبي نواس، والذي كان ضحية لهذه الرؤية الشعبية المولعة بكل غريب وبأخبار الفضائح. حتى أصبح كل ذكر للشذوذ الجنسي مرتبط بأبي نواس، كما أن كل ذكر لمجالس الطرب مقرون بهارون الرشيد.

كما أن أخبار أبي نواس قد جاءت بضمير الغائب، يحكى، حكي قال، قلت، تماما مثل تلك الأخبار التي تروى في التوراة على أن قائلها هو موسي. ولكنها تحدثنا دائما بضمير الغائب، كأن تقول ذهب موسي وليس ذهبتُ ومات موسي وليس متُّ ودفن موسي ولا يعقل أن يكون النبي موسي هو من ألف تلك الأخبار كما يقول ناقدو التوراة وعلى رأسهم الفيلسوف باروخ سبينوزا. ونفس الأمر يتكرر مع أبي نواس كما يخبرنا بذلك المتخصصون في الأدب العباسي.

وها هو ابن منظور يري بأن أخبار الرشيد مع أبي نواس موضوعات لا تصح وأن أبا نواس ما دخل على الرشيد قط وهذه النقطة لوحدها بحاجة إلى دراسة معمقة حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في ما يخصها. كما يخبرنا ابن منظور دوما ومعه ابن المعتز صاحب كتاب طبقات الشعراء، بأن الكثير من أشعار الحسين بن الضحاك وأبو بحر عبد الرحمن بن أبي الهداهد قد وضعا شعرا نسب لأبي نواس. كما أن ابن المعتز وفي نفس الكتاب السابق يخبرنا بأن الكثير من شعر والبة بن الحبحاب تنسبه العامة إلى أبي نواس. وهذا بشهادة أبي نواس ذاته والذي قال لصاحبنا أنه ما قلتَ شعرا في الخمر إلا نسب لي.

ومما يضعف أيضا تلك الروايات الدائرة حول أبي نواس أن نفس الخبر في الأغاني أبطاله بشار بن برد والمهدي في حين نجده عند ابن المعتز بين الرشيد وأبي نواس كما يخبرنا دارسو سيرة هؤلاء الرجال. خاصة وأن هذه المصادر لا زالت بين أيدينا ويمكن الرجوع لها بسهولة وهنا نحن أمام مشكلة كبيرة فأي الخبرين صحيح أهو ما عند الأصفهاني أو ما عند ابن المعتز ؟. كما يخبرنا أبو نواس أيضا بأن الكثير من المقالات الشعرية كانت للضرورة الشعرية وهذا كما جاء في خبره مع المأمون حول بختيشوع فهل نصدق بعد كل هذا كل ما يُـنسب له من أقوال شعرية ماجنة ؟.

ولقد جاء في كتاب الأغاني الخبر التالي: " قال اليزيدي: قال عمي حدثني الحسين بن الضحاك قال: كنت مع أبي نواس فأنشدني أبياته التي يقول فيها:

يا بني النقص والغير         وبني الضعف والخور

فلما فرغ منها قال لي: يا أبا علي، والله لكأنها من كلام صاحبك " يعني أبا العتاهية ". وهنا من حقنا أن نتساءل كم من بيت شعري وقصيدة شعرية ينسب وتنسب إلى أبي نواس ولكن الحقيقة هي أنهما لغيره وهذا ما يدفعنا إلى التعامل بحذر مع كل ما ينسب إلى أبي نواس من أشعار وأخبار.

ولنا هنا أن نعرج عمّا جاء في مقال تحت عنوان قراءة جديدة للفکر النواسي للدكتور يوسف هادى بور المتخصص في اللغة العربية وآدابها في جامعة كرج الإيرانية والذي يقول: "... ولعلّ اتجاهه هذا إلى الهزل والدعابة إلى جانب ما تمتّع به من جرأة وحرية في قول ما كان يخطر بباله، جَعَل الكثيرين ينسبون إليه النوادر والسلوك الماجن والشعر الفاسق. ولهذا نرى في ديوانه كثيرا من الأبيات لا تحمل خصائص أبي نواس. ولكن ظرفه وهزله كان أشدَ من الجّد، والجد المخبوء تحت الهزل هو أشد من الجدّ الظاهر. ويفسر لنا تماجن أبي نواس بما يلي "... كما لجأ أبو نواس إلى التظرف وإظهار المجون وكان من الشيعة واتّخذ " التقيّة " مذهبا له... ومن خلال القراءات الواسعة ينكشف لنا أنّ الكثير من الشعراء والأدباء اتخذوا التظرّف في تلك الفترة طريقا لتبيين أفكارهم وتماجنوا خوفا من السلطة الجائرة الّتي كانت تحكم باسم الإسلام. ومع هذا قتل الكثير من الشعراء والأدباء بتهمة الزندقة والخروج على الحكم الديني مثل: ابن المقفّع، وعبد الحميد الكاتب، وصالح بن عبد القدوس، وبشار بن برد. ومكانة هؤلاء في معاداة العرب وانحيازهم إلى الشعوبية لا تخفى على أحد. الأمر الذي عرّضهم لهذه التّهم التي كانت السلطات الدينية تتخذها وسيلة للوقوف في وجه كلّ من سوّلت له نفسه إظهار العداء للسلطة السياسية الحاكمة. " وينهي مقاله ب: "... هذا هو النواسي الذي يمكّننا الولوج إلى خمرياته من الكشف عن خفايا عصره المليء بالاضطرابات والتعقيدات. وغنيّ عن البيان أنّ خمرياته بحاجة إلى المزيد من الدرس والبحث لإماطة اللثام عن الزوايا الخفية في شعره وحياته ممّا لا يسعه هذا المقال. وعسى أن يعقب هذا المقال مقال آخر يعالج هذه الأمور ".

ولئن كان أبو نواس يتظرف في ما يخص اتجاهه الجنسي الشاذ فنحن هنا بحاجة إلى أن نعرف سبب ذلك. فهل كان معارضا سياسيا وبالتالي فأحسن أسلوب ليتخفي به هو التشكل الكاذب للشخصية حتى يبعد عنه تتبع السلطات له. خاصة وأن التاريخ فيه سوابق فشيخ الخوارج في البصرة قفاف وأبو عبد الله الشيعي معلم صبيان. ولكن ما كان لأبي نواس التخفي وراء الزندقة لأنها تهمة كفيلة بقتله. وهنا نعرج على ما قاله ابن المنظور، مختار الأغاني ج 3: " وأمّا المجون، فما كلّ أحد يحسن أن يمجن، وإنّما المجون ظرفٌ ولست أبعدُ فيه عن حدّ الأدب. ولا أتجاوز مقداره. ". ثم كيف نوفق بين ما قاله أبو نواس من شعر في الجواري وبين ما قاله في الغلمان إن صدق هذا الأخير طبعا ومنه قوله:

فالخـــمر ياقــــوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ       من كـــــفِّ لؤلؤةٍ ممشوقة القدِّ

تسقيك من عينها سحرا ومن يدها     خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ

ومما قاله في النساء أيضا:

ألـم تـر أنّـني أفـنـــــيتُ عمري             بـمطلبها، ومطلـبها عسيـر

فـلمّا لـم أجـد ســــــــبـبا إليها             يـقـــرّبنـي وأعيتنـي الأمـور

حـجـجْتُ وقلت قد حجّت جنانٌ             فيجـــمعـنـي وإيّـاها المسيـر

وقوله كذلك:

سألْتـُها قبلةً فـفــزتُ بها           بعد امـتـناعٍ وشـــــدّة التعــــبِ

فـقلتُ بالله يا معذّبـــــتـي           جودي بأخرى أقضي بها أربي

فابتسمت ثمّ أرسلت مثلا           يعرفُــــــــهُ العـجْمُ ليسَ بالكذبِ

لا تعطينّ الصّبـيّ واحدة            يـــــطلبُ أخرى بأعـنفِ الطلبِ

وتساءل البعض قائلين: إنّ الرجل الشاذ جنسيا لا يهتم بالمرأة فأنى لأبي نواس أن يوازن بين شذوذه وبين شوقه إلى المرأة. وقد فسر البعض هذا التصرف من أبي نواس بأن هذا الأخير قد كان: " مندفعا وراء الحياة، حياة المتعة واللذة، الحياة الحرّة في تنوّعها وخصبها، مغرما باستيفاء اللذة التي وجدها في الخمر والنساء والغلمان، وجد المتعة في تأنّق الغلمان وعلى أوتار القينات، ولذا دار شعره حول النساء كما دار حول الغلمان، وإنْ كان شعره في الغلمان أفضل منه في النساء.". ويتساءل آخر بالقول لعل تغزّله بالغلمان لم يكن لشذوذ جنسي لديه، وإنما رغبة في التجديد خاصة وأن التاريخ لم يذكر لنا حادثة أو حادثين موثّقتين لشذوذه الفعلي بدل القولي. ثم إن الرجل كان قد تزوج وترك أحفادا. ومنهم من سكن دمشق ومنهم من سكن جنوب جزيرة العرب. ثم لماذا لم تحتفظ لنا كتب التاريخ بأي كنية لأبي نواس نسبة إلى أحد معشوقيه من الذكور، يمكن أن نستدل بها على ممارسته للشذوذ الجنسي مع الفتيان. كما هو الشأن مع شعراء وفلاسفة وأرباب اليونان القديمة. ولا يمكن أن نتصور أن مجتمعا محافظا كمجتمع العرب في عهده، أو أن أعدائه كانوا يفوتون هذه الفرصة على أنفسهم للنيل منه والتشهير به، وهذا يبرهن لنا على أن الرجل ظلمه من ألصق به هذه التهمة. وإنما كتب التراث حفظت لنا كنيته كالتالي هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن عبد الصباح بن الجراح بن عبد الله بن حماد بن أفلح بن زيد بن هنب بن دده بن غنم بن سليمان بن حكم بن سعد العشيرة بن مالك و كنيته أبو نواس. وكفى. كما أننا لا نجد في ديوانه أخبارا تذم الجنس السوي بين رجل وامرأة أو على الأقل استهجانه له أو معاداته أو مدحا لظاهرة اللواط في حد ذاتها. وهو الذي جعل من الباكين على الأطلال أضحوكة ونكات في المجالس ونوادر لسمارها.

ويمكن القول بأن أبا نواس يجرى عليه حكم القرآن الكريم، من أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون وهم في كل واد يهيمون. فهذا أبو نواس لما تقرأ شعره في مدح على الرضا الإمام العلوي الشيعي الثامن، فهو يقول كلاما فيه يماثل السحر. وهو هنا يتجاوز حماس أعظم دعاة الشيعة والمتحمسين لمذهبهم، وإن لم تتحكم في نفسك فلربما أصبحت شيعي الهوى نتيجة لوقع شعره فيهم في النفس، ولقوة حجته التي يصوغها. ومن جهة أخرى فهو يمدح الأمين الخليفة العباسي وولد هارون الرشيد بشعر لا يقل جودة وروعة عما قاله في على الرضا العلوي. فأيهما نصدق شعره في مدح الأول أم في مدح الثاني وأيهما كان أصدق في مدحه، إن لم يكن هذا كلام شاعر هو بنت اللحظة والموقف ولا علاقة له بالجانب الإيديولوجي. وكذلك ما قاله في الغلمان، إن كان قد قاله حقا فهو قول ظرفي يرتبط بالزمان والمكان ولا يتعداهما. تماما مثلما قال رسول المسلمين ص عند سماعه بخبر توليه الفرس لابنة ملكهم حاكمة عليهم: " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً ". وهو قول مرتبط بالحادثة السابقة ولا يجب أن يتعدى هذا الحديث هذه الحادثة كما قرره فقهاء السياسة الشرعية من المسلمين. ثم إن أبا نواس قد اتهم بالزندقة وكاد يقتل من جراء هذه التهمة وذاق لأجلها مر العذاب في السجن. فهل كان زنديقا حقا ؟ أم أنها تهمة هو بريء منها كما هو بريء من تهمة اللواط.

ومن ناحية أخرى فنحن مع من قال من الفلاسفة: " يراد من الشاعر حسن الكلام أما الصدق فيراد من الأنبياء ". ذلك أنهم في كل واد يهيمون أي أنهم يتناولون المواضيع الشعرية، وليس بالضرورة أن يكونوا معتقدين في ما يقولون. وذهب البعض إلى أن الهيام هو حالة لا واقعية، وبالتالي فليس كل ما يقوله الشاعر هو بالضرورة واقعه الحقيقي. وعلى هذا ففي الشاعر تتعايش شخصيتان الأولي هي شخصية الشاعر الذي يقول ما لا يفعل والثانية هي شخصية الشاعر التي تعانق الواقع وتفعل ما لا تقول. ومن هنا وجب علينا التفريق بين قول أبي نواس في التغزل بالذكران وبين شخصيته الواقعية والتي لم تتكشف على حرام أبدا كما قال هو في آخر أيامه.

وهنا نستعرض تقييم الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور لتجربة أبي نواس فهو يقول: " لا أعرف في تاريخ الشعر العربي شاعرا فرح بالحياة كأبي نواس، لكن هذا الفرح لا يفرحني، بل إني أحس به شاعرا دفع به إلى مأزق، لقد درس وتفلسف ولكنه وجد أن كل قراءاته وفلسفته لا تساوي شيئا في مقياس العصر وأن جلفا من أهل النسب أو الثروة ليستطيع أن يدرك في عصره ما لم يدركه أستاذه واصل بن عطاء فتبدل واستهتر، ما أنه لم يستطع أن ينجو من شكه الميتافيزيقي، الذي لا يستطيع التعبير عنه فآثر الانتحار الأخلاقي ".

ثم إن النفس البشرية لجد مولعة بالغريب من الأخبار وبكل ما هو خارج عن المألوف والذي يسحر الناس ويجذبهم. وهذا على عكس العادي من الأخبار، تماما كما هي شائعات اليوم في الصحف والمجلات والمتحدثة على النجوم، مما يؤمن لهم الانتشار الواسع أكثر وأكثر. كما أن الناس غير مهتمين بالمقالات التي تكذب تلك الشائعات حتى ولو كانت صادقة فهم يتمسكون بالشائعة أولا وأخيرا وهذا ما وقع ضحية له أبو نواس.

 

سمير خلف الله ابن مهيدي

الطارف / الجزائر

في المثقف اليوم