قراءات نقدية

أقدم مجموعة قصص باللغة العربية في العالم / روبيرت إيروين

saleh alrazukفتح السلطان العثماني سليم الرهيب القاهرة عام ١٥١٧. بعد انتصاره على المماليك في معركتين رئيستين في سوريا ومصر. احتفل بانتصاره بمشاهدة صلب آخر سلطان مملوكي على باب زويلة. ثم أشرف على نهب ممنهج لكنوز القاهرة الثقافية.

ومن بين تلك المسروقات محتويات معظم مكتبات القاهرة. ثم أرسلت المخطوطات بحرا إلى إسطنبول وتم توزيعها بين مساجد المدينة. وربما بهذه الطريقة وصلت (الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة) إلى مكتبة الجامع الكبير أياصوفيا.

وقد استمرت هناك دون أن يقرأ فيها أحد وتراكم عليها الغبار، وتحولت إلى مخطوطة ممزقة، لم يعلم أحد أصلا أنها موجودة، حتى عام ١٩٣٣ حينما وجدها بالصدفة المستشرق الألماني هيلموت ريتير، وترجمها إلى لسانه الأم. وطبعت لاحقا نسخة عربية منها عام ١٩٥٦.

وفي أواخر التسعينيات، حينما كنت منكبا على كتابي (الليالي العربية: دليل القارئ). وجدت مراجع تدل على هذه المجموعة من القصص، باعتبار أنها تشبه الليالي العربية (أو لتكون دقيقا بالعنوان: الف ليلة وليلة)، وتبادر لذهني أنه يجب أن ألقي نظرة عليها. كانت قصص (الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة) فانتازية حقا وغريبة كما هو حال الليالي، وشعرت مثل شعور بعض الباحثين حين اكتشفوا جزءا ضائعا من (حكايات كانتربري) ومثل مشاعر آخرين وجدوا مسرحية مفقودة لشكسبير.

القصص قديمة جدا، تعود لأكثر من ألف عام مضت، ومع ذلك معظمها جديدة جدا بالنسبة لنا.

بعد سنوات قليلة، اقترحت على مالكوم ليونز، مترجم طبعة جديدة من الليالي، باعتبار أنه أنجز ذلك العمل الهام، أن يفكر بترجمة الحكايات العجيبة. ولكنه رد بفتور فألغيت التفكير بالموضوع. لاحقا، في الصيف المنصرم، أرسل لي رسالة إلكترونية يخبرني فيها أنه انتهى من الترجمة. والآن تم النشر، وهذا يعني أن هذه القصص أصبحت متاحة للقراء بالإنكليزية ولأول مرة.

ومع أن صفحة عنوان هذه المجموعة من القصص العربية القروسطية مفقودة (وكذلك أكثر من نصف القصص الآصلية هي بلا عنوان)، كانت الجملة الافتتاحية في مقدمتها تعلن بوضوح أن هذا الكتاب هو "الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة".

العجيبة هي صفة وتعني "مذهلة" أو "مدهشة"، وهي بصيغة اسم الجمع، وكلمة العجيب مصطلح يستعمل ليدل على نوع مهم في الأدب العربي القروسطي يتناول كل شيء يتحدى الإدراك البشري، ومنه السحر وعالم الجن وغرائب البحار والحياة الحيوانية والنباتية الغريبة واللحظات الحاسمة من الماضي والكنوز الثمينة والمخفية والقوطيات (الظواهر الظلامية المرعبة) والمصادفات المستحيلة.

لقد دعا القرآن مرارا جمهور المؤمنين للتمعن بعجائب مخلوقات الله، فهي حافلة بالاشارات الواضحة "لمن يريد أن يعتبر". وطبعا، القران بذاته هو واحدة من أعجازات الله. والأشياء المذهلة هي أشارات على قدرات الله الخلاقة. والاعتبار والتفكير بخلق الله إحدى صفات الايمان والطاعة.

كانت عدة قصص في الحكايات العجيبة مباشرة في التعبير عن الجوع لرؤية أو سماع أنباء مدهشة. فقصة سعيد بن حاتم الباهلي تبدأ بالخليفة الأموي يطلب من وزيره:"إحضار بحار عربي فورا يمكنه إخباري عن عجائب وشرور البحر. لربما هذا يشفيني من سهادي وأرقي".

وفي ثالث قصة من أربع قصص مخصصة لصيد الكنوز، يقول قائد الفريق للراوي:"أنا رجل يبحث عن المعجزات مثلك". ولاحقا. حينما يحاول سنطور أن يرشي القائد ويغض النظر عن التاج السحري، يرد بقوله:"نحن نريد روية المعجزات والاطلاع على ما لا نعرفه من قبل، ولو رأينا التاج يمكننا إعادته إلى مكانه". وفي قصة ملك النهرين أحد الأسباب التي تسهل ترشيح وصيفة لخدمة إحدى الأميرات هو عشق الخادمة للظواهر الفائقة وغير العادية.

تتضمن الحكايات العجيبة حكايات من فوق الطبيعة وغراميات وكوميديا وعادات بدوية وواحدة من القصص تتطرق لنبوءة ملحمية وقيامية. وصفحة فهرس المحتويات تشير إلى أن المخطوط الكامل يحتوي ٤٢ فصلا، ولكن لم يقاوم عوامل الفناء غير ١٨ فصلا فيها ٢٦ حكاية فقط. ويثبت خط النسخ في المخطوط أن هذه النسخة مكتوبة في القرن ١٤. ولكن محتوياتها تدل أن القصص دونت وفي بعض الأحيان رويت في القرن الـ١٠ إما في سوريا أو مصر.

وهذا يعني أن النص الذي لدينا هو أقدم من مخطوط ألف ليلة وليلة (بنسخته الأولى التي تعود للقرن الـ ١٥)، وهذه النسخة هي التي اعتمدها أنطوان غالاند في ترجمته لليالي في القرن الـ ١٨. علما أن مؤلفي ورواة الحكايات العجيبة وألف ليلة وليلة هم مجهولون.

لا تتشابه مجموعتا القصص في نوع المحتويات، ولكن توجد عدة قصص مشتركة ومنها قصة عنوانها قصة أبو محمد الكسول والعجائب التي مر بها مع القرود وكذلك عجائب البحار والجزر.

عموما إن عامل الزمن في نسخة الحكايات العجيبة عامل هام، لأنه يوفر للباحث رؤية تكشف طرق عمل رواة ألف ليلة وليلة على مواد سابقة موجودة طوروا فيها وعمدوا إلى تكثيفها بجرعات مركزة.

تختلف الحكايات العجيبة عن ألف ليلة وليلة في كل الجوانب. مؤلفو الحكايات العجيبة لديهم قناعات خاصة حيال ابن عم النبي، وهو علي بن أبي طالب، وفي نفس الوقت هم يحترمون الخلفاء الأمويين الذين كانوا في سدة العرش في القرنين الـ ٧ و٨. وفي عدة مناسبات يتدخل الله في الحكايات العجيبة مباشرة لانقاذ بطل أو بطلة من الشرور. وترد أوصاف لرهبان مسيحيين مرارا وتكرارا في الحكايات العجيبة وتلعب شخصية تاريخية هي محمد بن سليمان دورا أساسيا في ثلاث قصص.

لماذا؟.

ليس لدي جواب.

وبشكل أعم، الفانتازيا أعنف وأوضح في (الحكايات العجيبة) لو قارنتها بالليالي. والابتكار الحاسم والجنوني في قصة محلية ومحبوب والغزال ذو القدم البيضاء، وبما تقدمه من قناعات وطقوس إسلامية ومسيحية ووثنية تسرع من الأنفاس. هنا لدينا نسر ميكانيكي، وأحلام قيامية، وحوار مع إله وثني، وتحول سحري، وتيجان من الغضب والرحمة. وغزال مسحور. وقطيع من النعامات العملاقة، وجن مهووسون، وأصنام تتكلم، وملكة للغربان، وأسد يبكي، وقلعة يحرسها ساحر، وتمساح في أذنيه ياقوت، وعذراء تقدم أضحية للنيل، وأشياء غير ذلك.

والسرد هو كرنفال طويل من الفانتازيا الغريبة. وقصة (عروس العريس وحيلها الماكرة)، وكذلك عجائب البحار والجزر ترسم صورة وسيط عربي يستخدم السم والشعوذة لنحر الرجال والجنية التي تنام معهم (وهي ترتكب الموبقات كثيرا). وفي سعيد بن حاتم الباهلي تذهب فرقة من الجهاديين إلى الهند وهناك يقابلون ليس جيوش الهند الوثنيين فقط، ولكن أيضا راهبا يتذكر أيامه برفقة النبي دانيال والمسيح. قبل أن يعتنق بعد ذلك الإسلام، وكانت لديه نبوءات متعددة. ثم تواصل فرقة المسلمين طريقها شرقا لمسافة بعيدة وتكتشف وادي النمل ووادي القردة.

وكلما قرأت وأعدت قراءة هذه القصص، أقتنع ببطء أن الشخص الذي دونها لأول مرة في القرن ١٠ لم يعمل على جمعها من مصادر مختلفة، ولكن في بعض الحالات قام في الواقع بتأليفها. فعدد من القصص تحمل علامات تدل أنها بنت مخيلة وإلهام دونه المؤلف بتأن. على سبيل المثال، في قصة ساحر الجبل ومعجزاته، فقط بعد لأي يتذكر الراوي أن يخبرنا عن اسم المملوك المروع.

تتضمن ألف ليلة وليلة قصة طويلة واحدة عن البحث عن كنز، وهي (مدينة النحاس)، وفيها يرسل حاكم مصر فرقة للبحث عن قدور النحاس المختومة والتي تحبس جنيا ألقى القبض عليه سليمان قبل قرون. ولا يوجد في الليالي غيرها من حكايات البحث عن الكنوز . أما الحكايات العجيبة فتتضمن أربع قصص قصيرة موظفة لصيد الكنوز وفي ثلاث من هذه القصص كان قادة تلك الفرق محترفين.

تطورت المقاربة السردية لصيد الكنوز بالتوازي مع الأطروحة غير السردية المخصصة لنفس الموضوع. في مصر القروسطية، نظم صيادو الكنوز المحترفون أنفسهم في جمعية مهنية. ومعظم صيادي الكنوز المحترفين كانوا في الحقيقة رجالا محافظين يفترسون ما هو بمتناول اليد. أضف لذلك، تحفل عدة كتب إرشادات عن صيد الكنوز بتفاصيل عجيبة عن التعويذات السحرية، وطرق التعامل مع الموتى وقصص عن الحظ السيء الذي لحق بباحثين سبقوهم وكلها بالفعل جزء من فئة حكايات الترفيه. وفي القصص الخيالية، كما في الواقع الملموس، يحتاج المرء لما هو أكثر من خريطة وجاروفة كي يحفر بحثا عن الكنوز القديمة، لأن صياد الكنوز قد يواجه وحشا يحرس ثروته، أو تمثالا قاتلا أو فخا سحريا، وهذا في الحقيقة ما يعمل المشاركون في البحث على تضمينه في الحكايات العجيبة على أنه جزء من المخاطر التي يواجهونها.

ويمكن مقارنة هذه المغامرات المحفوفة بالمصاعب بمغامرات إنديانا جونز، مع أن الصفات الخارقةفي القصص القروسطية أوضح.

وقصص صيد الكنوز شاهد على التجارب المريرة التي مر بها عرب القرون الوسطى حينما ترنموا بعجائب آثارهم وسألوا أنفسهم ماذا حصل لثروات الإغريق والرومان القدماء، وو كنوز الفراعنة وأباطرة الفرس.

وكما تؤكد قصص السفريات الخطرة، تطورت رؤية الرواة القروسطيين تكنولوجيا من غير إدراج توقعات سوف تتحقق في فصل لاحق من المستقبل، ولكن كشيء ضاعت أسراره في الماضي البعيد. وفي الحكايات العجيبة، قدم التعامل الروتيني مع الموت حماية للكنوز التي يبحث عنها أبطال القصص خلال عمليات البحث.

وعلى غير العادة في قصة جلنار، كانت الساحرة الملكة لاب هي خليلة لجماعة تعمل في الغناء بأدوات متطورة. كانت التماثيل خطيرة. وفي عدة قصص من الحكايات العجيبة تدخل العفاريت في التماثيل وتتكلم من خلالها. ويحرس رهبان من حجر الكنوز في أول أربع قصص عن صيد الكنوز. ويوجد تمثال على جبل الساحر يمتلك قوة تساعده على سفينة. مثل هذه الأشياء، ليست حية ولا ميتة، ولكنها فريدة من نوعها فقط.

في قصص صيد الكنوز عجائب واثارة، ولكن، كما في قصة (مدينة النحاس) من الليالي، هي أيضا تحمل الكثير من التعبئة الأخلاقية عن نقل الثروات المادية وعن كبرياء القوة الموسة. وبالنتيجة يحصل المرء على معنى يفيد أن صيادي الكنوز لا يبحثون عن أشياء محسوسة بقدر بحثهم عن مغامرات غريبة. وأن قصة البحث عن كنز تبدو لاحقا كأنها قصة للبحث عن حكاية.

صدر كتاب "الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة" بمقدمة لروبيرت إروين، وبترجمة مالكوم سي ليونز، في سلسلة كلاسيكيات بنغوين، وثمنه ٢٥ جنيها أسترلينيا.

روبيرت إروين ROBERT IRWIN: مواليد ١٩٤٦. درس في جامعة أكسفورد. وهو روائي ومؤرخ بريطاني يهتم بالأدب العربي.

 

ترجمة صالح الرزوق/ عن الإندبيندينت. عدد ١٣ تشرين الثاني ٢٠١٤.

في المثقف اليوم