قراءات نقدية

المشهد الشعري في: لم أستعر وجها

rahman khodairabasفي مجموعته الشعرية الجديدة (لم أستعروجها) يتألق الشاعر عبد السادة البصري ألما وحزنا ووحشة،  يتألق شعرا. وهو ينزف أحلامه الصغيرة، مكتويا بجمر قصائده التي سفحها حرفا حرفا، ليكوّن تلك التوليفة من القصائد المتباعدة الأزمان والمتقاربة الأشجان . فبعضها يعود الى عقد التسعينات، كما هو مؤرخ  ولكن البعض الآخر غير مذيّل بتأريخ معين، واغلب الظن أنّ أغلب القصائد التي اهمل تأريخ كتابتها حديثة  .أزعم ذلك لأنّ الشاعر لم يتوقف عن معاقرة الشعر يوما،فهي كأسه المترعة بالهم ، وخمرته المشحونة بجنون الرغبات  .  يبقى الشعرمصدر أنسه وهويته التي رفعها عاليا ، وهو يتشظى بين جدران المدن وسقوف البيوت الطارئة وبين شواطيء الغربة، للبحث عن مدينته التي فرت منه، وتركته مهزوما، يبحث عن عش يلملم أحلامه الصغيرة .

(لم أستعر وجها) هي موقف عبد السادة الشاعرالإنسان والمناضل، وبيانه الشعري، وعشقه،ووحشيته،وحزنه العميق، وفرحه الطفولي .

" أنا الذي أنهكتني المسالك

وشردتني الدروب ولاطعم لي غير طعم الألم "

 تأتي جُل قصائد المجموعة محملة برائحة البحر الذي يستغرق الشاعر ويهيمن على

 فضاء قصائده . البحر همُّ وأفق ومصدر رزق . والبحر عمق هائل يمتد الى المجهول، والبحر قدر أزلي وحلم ووهم وأمواج تختزن موتا . أوسكون يحتضن الحياة .ومع ان الفاويين – نسبة الى الفاو- يقعون على هامش البحر، اي بينهم وبينه عدة فراسخ بحرية بامتداد شط العرب نحو مصبه . ولكنهم يعيشون وكأنهم قد ولدوا بين موجات البحر وإنسياب اسماكه وطحالبه ومحاره  . حتى ان شط العرب يترائى لهم وكأنه لسان بحري، يحفل باالبواخر الكبيرة التي تحمل النفط والسمك وشتى أنواع  البضائع المستوردة . كما يحفل  ايضا بقوارب الصيد والحمولة وقوارب التهريب، والعمال الذاهبين الى أعمالهم في لجة الخليج  . لذا فمن الطبيعي أنْ يكون وفياً للبحر   . ففي قصائده تشم رائحة السمك والطحالب،وتسمع أغاني البحّارة ورقصاتهم، وفيها ترفرف صواري السفن الشراعية، وتسمع هدير الموج ودعاء الصيادين وهم يودعون بيوتهم .

"إمتلأ البحر بأجنحة لعصافير ذُبحتْ ذات مساء

فز السمك الناعس نشوان عند الصبح

ليبدأ بوح الأسفار الراعشة الآن قدام الملكوت " ص5

يحمل البحرُ مختلف المعاني في قصائد الشاعر فهو كائن خرافي، يمتد بامتداد صحراء العمر التي بدت قاحلة، ويصنع كل الأهوال، فهو رحيم مرة وشرس مرة أخرى، وهو كريم بالعطايا والهبات ولكنه شحيح حد الموت . لقد طافت قصائد الشاعر محلقة على شواطيء البحر كالنوارس، وامتلأت بطاقات البحر وحملت كل أحزانه . هذا البحر الذي يتحول الى انيس لهؤلاء الذين لاخيار لهم سواه .

" البحر يبكي صحبتهم، يبكي لياليهم، يبكي الأيام " ص20

وقد يتحول في مقطع آخر الى منبع للأسلاف الذين اورثوا الشاعر ولعه بالبحر، من صيادين ونوتية وعمال بحريين . كما يصبح البحر فضاءً لأحلام لم تتحقق . ومن الملفت ان الشاعر حينما يتعامل مع البحر تختفي (أناه) تماما ويحل بدلا منها أل (هُمْ) من الناس الذين يجدون في البحر ملاذا لهم ومصدر عيش . لذا فكانت قصائده تمجد أفعالهم .

" اولئك الذين قايضوا البحر أحلامهم

تاجهم الأماني وعرشهم زورق ورقي يتهادى"ص16 .

 ثمة تكثيف للبحر في متون النصوص، حتى جعله الشاعرُ نافذة للولوج الى متاهات الروح المعذبة التي تهفو الى الرحيل ولكنها تخشاه . الروح المتأرجحة بين قلق اللحظة المتحجرة في الزمن الحاضر، حيث تُقتلع الناس من مدنهم ، ويزجون في متاهات الحروب والموت، وبين قلق الآتي الذي لايشفي .

كما أدرك الشاعر فداحة المخاطر التي يتعرض لها المثقفون وحملة الفكر الحر،  في زمن تكميم الرأي، فحاول ان يجعل من البحر مأوى له على صعيد الرمز، ورمى فيه كل أشرعة المعاني التي استنبطها من تجربته الحياتية، ومن تجارب الكثير من المتعبين والذين فقدوا حياتهم وشبابهم في تلك الحروب . ولكن هذا البحر قد يتحول الى وهم ودهشة، وقد يكون البحر قرينا للشاعر ومماثلا له .

" وتعود تسائل نفسك، عن نفسك

لترى، في بحرك تطفو القشة" ص93

إن هذا التكثيف الدلالي الذي ينبعث بين الفينة والأخرى بين متون النص ‘ يُشعر المتلقي / القاريء بان ثمة هموما جمعية تتصارع في مخيلة الشاعر، وانه يذرفها كالدمع لتنبثق معبرة ليس عن عذاباته وأوجاعه الخاصة فحسب، بل عن عذابات المتعبين والمشردين والباحثين عن المأوى أيضا . هؤلاء الذين طفحت قصائده بالتعبير عنهم، بل أنه يتقمص خيالاتهم متصالحا مع حزنه الذاتي لصالح أوجاعهم .

" وسريت وحدك

كنت لاتخشى من الليل الذي سيضم بين نزيفه حلما يباغت

صحو مخمورين قد ساروا ثقالا في خضم العاصفة " ص49

  تتهاوى علامات الإستفهام في متون مجموعة الشاعر عبد السادة . ربما تبحث عن الأجوبة المستحيلة، وربما يقودنا ألأمر الى قضية مفادها : أنّ الدهشة هي الباعث للسؤال، أوانهما معا - أعني الدهشة والتساؤل - اصل في الفلسفة حسب اعتقاد الفيلسوف اليوناني سقراط . وهذا يقودنا الى استقراء الحمولة اللغوية لمعنى التساؤل وفق توظيف الشاعر والذي لم يتورع أنْ يعنون بعض قصائده بثيمة التساؤل (للبحر تساؤل آخر) مما يجعلنا نتوقف عند فحوى الأسئلة، وثقلها المعنوي وقيمتها التعبيرية . ولنأخذ بعض النماذج من الأسئلة التي تبعثرت بين النصوص "من يمسك الغصن كي يسقي الورد ؟" او " بماذا يفكرون " أو " هل من ملاذ " أو " ترى هل يعودون ذات صباح " أو " هل يزهر العمر " ....الخ من اسئلة تبدو كالمطارق، يلوّح بها الشاعر، وكأنه يحتج أو يتألم أو يستنكر، لذا فالسؤال يمنح النص ثقلا معنويا، لايقصد به مجرد أسئلة ساذجة تحتاج الى أجوبة مماثلة، بل أنها تحتمل الرفض والإدانة والصراخ .

 "أيّ الأوراق ستبقى خالدة؟  داهمني شك أخلج ما في الصدر

رحت أداعب شكي، أطرحه يطرحني واسنتجنا

إنّ العمر وريقات من ألم وبقايا صور !! "

  من خلال الأحلام، يطل الشاعر عبد السادة البصري محاولاً ان يصنع عوالمه المحيطة به . وهو يعلن ذلك دون مواربة .

" أنا الهائم الحالم.. المتأمل دوما

ذلك هو أنا ، القابع في أدراج الحلم الوردي"

واذا كان فرويد يرى أنّ أحلام اليقظة لها علاقة بوظيفة التخيل . فان شاعرنا يفتح ابواب قصائده نحو تخيل عالم جميل يسعى اليه حتى في الوهم . رغم أنه يصف لنا الوهم بقوله:

" الوهم غشاوة أيام لاهثة وراء قطار

لايعرف أين محطته.."

الحلم يتحول احيانا الى رغبة في التغيير، او أمنية بسيطة لم تتحقق، او شكوى من واقع . حتى يصل الأمر ان يتمنى بيتا يأويه . وهو في كل ذلك يترجم الكثير من المنعطفات التي مرت به في حياته . ولكنه لايجعل منها تجربة ذاتية،  وانما  نسق لحياة يعيشها ابناء جيله، كقوله "الحالم دوما ببيت يأويه"

  لكن الحلم يسمو للبحث عن خلاص في فوضى الحياة . لذا فيقوم بخلق عوالم بديلة تتدلى من بين فجوات قصائده ، فالقمر يترنم بينما الموجة تتراقص على ترنيمته، والطفولة تضحك،والعصافير تنام بدعة وأمان . ان احلامه ماهي الا الملاذ الفردوسي الذي جعله بديلا عن شظف اللحظة المعاشة وقسوتها . وحتى الرحيل الذي يحلم به لم يكن حقيقيا فهو لايستطيع ترك عشه/مدينته ولكن استخدم لازمة الرحيل على المستوى الرمزي، وهو رحيل الى المدن الفاضلة، والتي تتم عبر اعادة بناء المدينة وترميمها وعودة الجمال اليها. إنه المواطن الأزلي الذي يعيش على رصيف مدينته ويأبى أنْ يتركها .

    في المشهد الشعري تمتلك اللغة عند عبد السادة قوة تعبيرية وذلك من خلال تنويعاتها وقدرتها على التأثير، حتى انه يستخدم بعض المفردات المتداولة والمحلية بشكل ناجح، مثل (ناقوط الحب، والكاروك، وعبد الشط ..الخ) وهي مفردات تغور في عالم الطفولة الذي افتقدناه  .وقد اصاب في تأثيراتها لروح اللغة باعتبارها حاضنة لأيحاءات المعاني . كما كانت مفرداته تتشكل وفق مقام النص، فتبدو شرسة أحيانا ورقيقة أحيانا أخرى . وهذا يقودنا الى الإعتقاد بان كل قصيدة هي بمثابة وليد جديد ينشأ ويترعرع وفق محيطه . لذا فقد ترافقت المفردة مع الموقف في حزنه وفرحه، في هدوءه وضجيجه . كما أنّ هناك تناصا جميلا ومقبولا مع بعض الصياغات عند الشاعر السياب واستخدام بعض المفردات . ولايخفي عبد السادة هذا الولع الذي جعله يصوغ قصيدة كاملة عن السياب في مناجاة مع روح الشاعر وهو يذكره بعناوين قصائده (وفيقة والشناشيل وإقبال ..الخ)

من ناحية اخرى فقد أثقل الشاعر عبد السادة بعض قصائدة بتكرار نفس المفردة  ولاسيما في مجموعته المعنونة (تضاريس)  والتي كتبها في منتصف التسعينات،  فقد حفلت بتكرار المفردة، بحيث أثقلت القصيدة وجعلتها تمر بركاكة لاتنسجم مع قدرات الشاعر الشعرية فقد كرر بعض الكلمات لعدة مرات مثل (القطارات، البيوت،الأيام،ظلال،غرف) وكل واحد من هذه الكلمات كانت تكرر في بداية الجملة، مما يثقل العبارة الشعرية ويخطف الكثير من ألق جماليتها، بإعتبار أنّ الجملة الشعرية يجب ان تتسامى فنيا .واعتقد بان الشاعر قد هجر هذه الطريقة وأدرك عدم جدواها .   هذا من ناحية ومن ناحية اخرى ان قصائد الشاعر عبد السادة في المجموعة اياها واعني تضاريس يعتمد على القصيدة القصيرة أو الومضة إذا جاز التعبير،  على خلاف قصائده الأخرى التي حفلت بفيض لغوي، وامتلكت قيمة تعبيرية وغنائية عالية كقوله

 "وسريت وحدك.. كنت لاتهفو الى قمرليطوي الليل

 تحت جناحه، ويفيض في الأحلام بعض شعاعه

ويلوك وهمَ حكاية قد أوغرت في النفس، منذ الوهلة الأولى .."

 وعلى العموم فقد كانت مجموعته الشعرية (لم أستعر وجها) تنم عن قدرة شعرية لشاعر استطاع أنْ يثير الدهشة عند القاريء، وان ينتزع الإعجاب من جمهور قرائه ومستمعيه، بما تتمتع قصائده بشفافية اللغة وجمالها، وماتتألق فيه من عمق المضامين الجادة  وما تحفل به من قيم حياتية نبيلة.

 

رحمن خضير عباس

اوتاوة/كندا

اوتاوة/البصرة

في المثقف اليوم