قراءات نقدية

الاستلاب والغربة والقرين في رواية منفى الجسد

ahmad alkhozaiصدر عن دار ضفاف للنشر والتوزيع، رواية (منفى الجسد) للروائي خضر عواد الخزاعي، لتكون تجربته الثانية في عالم السرد الروائي، والتي تعد امتدادا فكريا لقراءة الكاتب لجزء من تاريخ العراق المعاصر بعد روايته الأولى (ألواح العقد الثامن).

رواية منفى الجسد ..تجربة أدبية رائدة من حيث الثيمة التي تناولتها، والتي سلط فيها الكاتب الضوء على جزئية لتركة ثقيلة انبتت في ثنايا أرواحنا هاجس الخوف والإحباط، من ماضي وسم بالموت والاستبداد، طبع في ذاكرتنا أحداث مريرة متشبثة بذواتنا، لا نستطيع مغادرتها إلى عوالم أكثر فرحا وأملا .

بأسلوب تنساب فيه الكلمات كنهر هادئ، ولغة سردية ملأها الشفافية والوضوح، عبر استخدامه تقنية الاسترجاع والاستذكار، وتدوير الأحداث عبر زمن السرد ..تناول الكاتب حكاية امرأتين عراقيتين عاشتا حالة من الاستلاب القسري،تداخلت أقدارهما ليلتقيا في الغربة المكانية، والتي ظل فيها عامل الزمن مفتوحا،إلى مديات لا متناهية،أتاح لكلتيهما الإبحار في فضاء الذاكرة، ليسردا قصتيهما اللتان اختلفت وتشعبت أحداثهما،إلا إنهما كانتا نتاج لحقبة زمنية واحدة، المحصورة بين الحرب العراقية الإيرانية والحصار الاقتصادي الذي عانى منه الشعب العراقي في تسعينيات القرن الماضي .

في الأسطر الأولى للرواية وفي محاولة من الكاتب للتمهيد ،ليهيأ القارئ للولوج إلى خضم أحداثها، كتب على  لسان بطلته الرئيسية (هدى)،المرأة المثقفة الحاصلة على شهادة أكاديمية في التاريخ، والتي جعلها الكاتب راوية للأحداث، لتروي رحلة الاستلاب لامرأة عاشت محنة الأنوثة في مجتمع ذكوري، هيمنت عليه معالم البداوة والاستبداد ..(ثمة ثمن علينا أن ندفعه، لنحافظ على شكل الانسجام العام،مع هذا العالم الذي نعيش فيه، فعالمنا الضيق هذا استطاع أن يصوغ قوانينه خلال حقب تاريخية غاية في التعقيد، واستطاع خلال هذه الحقب الطويلة أن يحافظ على بعضها ويجعل منها نواميس مقدسة ليس من السهولة تجاوزها او التمرد عليها،وليس أسوء من هذا الاسترقاق البائس للمخلوق الأضعف الأنثى).

بهذه الأسطر القليلة التي اختزل فيها الكاتب على لسان هدى، عظم الإشكالية التي عاشتها بطلته، الهاربة من قصة حب فاشلة مع (عمار) الشاب المحبط المستلب الإرادة،بفعل الظروف السياسية والاقتصادية المحيطة به، والتي ارتبطت به بعلاقة تجاوزت فيها الكثير من الخطوط الحمراء لمجتمعنا الشرقي المحافظ، فقررت السفر بعيدا عنه إلى الدنمارك لتعيش محنة الصراع بين (الغربة والانتماء) ..هناك حيث ينتظرها (قاسم) زوجها ورفيق غربتها القسرية التي فرضتها على نفسها، قاسم جارهم القديم، الذي تغير كثيرا بعدما صقلته التجربة وأنتجت منه إنسان يعيش حضارة الغرب بنكهة شرقية ممزوجة بالحب والحنان .. إلا أن ارتباطها بعمار وضع جدران من الجليد بينها وبين عالمها الجديد، وان حنينها إليه جزء من حنينها لوطنها، لأزقة حيها القديم.. فأنتج هذا الصراع المحموم مع الذات، حالة من التناقض النفسي والسلوكي لديها، فكانت تعيش بجسدها مع قاسم، وأما روحها فما زالت متعلقة بحبيبها عمار الذي كانت تعده الأنموذج الرجولي، فأضفت عليه صفات ساحرة قد يفتقد الى الكثير منها على ارض الواقع، لكنها ظلت مشدودة إليه، إلى جسده الفتي وفحولته وشعورها بالطمأنينة والأمان حين كانت برفقته ..في إحدى رسائلها إليه.. (اليوم كنت قريب مني، أكثر من أي وقت مضى، كنت في نزهة مع قاسم في متنزه قريب، ذكرني بحدائقنا الفقيرة الجميلة).. وفي ذروة إحساسها بوطأة الغربة، تسوقها الأقدار لتتعرف على (شوان ) الفتاة الكردية، التي تسكن بجوارها، كانت شوان تحمل قصة مأساوية حزينة من نوع آخر، قصة لامرأة فقدت الأهل والأحبة في عمليات الأنفال التي حدثت أبان الحرب العراقية الإيرانية، لتتعرض إلى عملية اغتصاب جماعي من جلاوزة النظام السابق، ثم تباع إلى إحدى النوادي الليلية في مصر، لينتهي بها المطاف في الغربة،زوجة لسمسار أجساد مغربي، فرض عليها حبسا إجباريا في شقتها، ومنعها من الاحتكاك بالآخرين، يسافر بها في المواسم السياحية إلى مصر لممارسة الدعارة.. كانت علاقتها بشوان تمثل نقطة تحول كبيرة في غربتها، فقد وجدت لها رفيقا تستطيع من خلاله التعبير عن الكم الهائل الذي تحمله من الشجن والحنين  لعمار الذي كان يمثل لها الوطن والأهل ..أما شوان فكانت الأرض والوديان وأشجار الصنوبر التي كانت تجلس تحتها مع ابن عمها خورشيد هو كل ما تحمله ذاكرتها لمفهوم الوطن  ..(كلينا في آخر المطاف نبحث عن شيء واحد، الحرية، لكن أنت حريتك لا تتحقق إلا مع عمار ..أما أنا فحريتي هناك).. في أشارة إلى عالمها البكر الذي نشأت فيه.

شكل القرين العمود الفقري في البناء الهرمي للسرد داخل الرواية من خلال علاقتين شكلتا  الحيز الذي تحركت فيه البطلة الرئيسية هدى داخل النص .. العلاقة الأولى كانت ارتباطها بعمار الذي كان قرينا مضطربا مشوشا، جعلها تغادر العراق يائسة هربا منه ومن واقع مرير لا تستطيع مواجهته وهي معه ..لتتحول إلى قرين آخر هي شوان، كحالة من التعويض لقرار اكتشفت خطأه بعد فوات الأوان، فجعلت صداقتها لشوان تحمل إبعادا روحية وارتبطت معها بوحدة المصير..مكنها هذا من تحمل وطأة الغربة،وجعلتها بديلا مؤقتا لحالة انتماء خسرتها بإرادتها  ..(الفرق بيني وبين شوان،إن منفاها كان إجباريا، وأما منفاي فكان اختياريا).

أصبحت شوان قرينا تعويضيا لهشاشة الذات والانا المعذبة المفتقدة لعمار، كانت  تجلس معها  لساعات طويلة  لتخفف من وطأة الغربة داخل روحها المضطربة، تستنطق جملها المقتضبة التي كانت تفصح فيها عن الفجيعة التي عاشتها .. بعدما اختارت شوان  الصمت ليكون مهربا لها من استذكار ماضي حزين ملؤه الموت وحاضر يوشحانه، الرذيلة والاستعباد ..فشكلا عمار وشوان قرينين ملتصقين بها لعبا دورا كبيرا في اتخاذه قراري السفر والزواج من قاسم، ومن ثم العودة  التي قادتها إلى تلك النهاية الدراماتيكية الحزينة ..فبعد الانتحار المفاجئ لشوان والذي أصابها بصدمة كبيرة، وانقطاع رسائل عمار عنها، أدركت أن شوان سعت لنيل حريتها بهذه الطريقة التي اختارتها، وان عليها  أن تستعيد حريتها هي الأخرى، التي سلبتها منها الغربة ..(لكن هذه المرة غلبتني شوان، للمرة الأخيرة نجحت في أن تحرر نفسها)، فقررت العودة إلى العراق لمعرفة مصير حبيبها عمار، لتقتل على يد ضابط امن عراقي على الحدود العراقية الاردنية.

منفى الجسد للروائي خضر عواد الخزاعي ..رواية بطعم عراقي، لامست واقعنا المعاصر بصدق وشفافية عاليين، تمكن فيها الكاتب  من إيصال فكرته بإيقاع درامي متماسك، وسياق للأحداث وفق نظرة أبداعية محكمة، استطاع من خلالها التحكم في البناء الهرمي لها، دون إحداث أي إرباك للقارئ.

 

احمد عواد الخزاعي

 

في المثقف اليوم