قراءات نقدية

دروب واتجاهات في القصة الحديثة

saleh alrazukلا يمكننا أن نضع كل أبطال حداثة الستينات في سلة واحدة. والإشارة هنا لمغامرة القصة في سوريا. مثلما لا يمكننا وضع كل كتاب الواقع الأدبي بصف واحد.

كانت الواقعية تزدهر بعدة اتجاهات.

محور تفرض عليه الإملاءات السياسية نفسها. بحيث تبدو الشخصيات مثقلة بثمار البروباغاندا. ومحور قريب من فن المحاكاة السابق على الواقعية، لكن مع تبسيط اللغة. فهي ليست جزلة ولا عامية، وتنتمي لما تعارفنا على تسميته باسم اللغة الثالثة.

بهذه الصورة تنوعت الحداثة. ولو شئت الحقيقة كانت لدينا حداثات.

إن ما قدمته غادة السمان مثلا لا يمكن أن ندرجه إلا ضمن إطار تيار الوعي. وبأسلوب أنوثة مذكرة. وهذا لا يدل على تردد أو غموض في نبرة معاناتها. فقد كانت تصور معاناة المرأة في مشهد ذكوري. والفرق بين المشهد والواقع لا يمكن التغاضي عنه. فالمشاهد غالبا مكانية، تكون ثابتة، ولا تتوالى الساعات واللحظات بانتظام، ولكن توجد قفزات وثغرات، أو ما نسميه الفجوة. وهي الفضاء الذي ترفض غادة السمان الاعتراف به، وتترك لنفسها حرية تخيله.

كما كانت تفعل فرجينيا وولف.

لقد كانت وولف تصارع أحداث مخيلتها الواقعية، بمعنى أوضح: كانت تعيد ترتيب أوراق واقعها في عالم افتراضي. ولذلك إن الشخصيات مجزأة، لا توجد في مكان واحد، وتكرر الحدث بصيغ متعارضة في نفس اللحظة. ومثل هذا التلاعب بورقة الزمان والمكان هو الذي يحول الحياة البسيطة إلى نوع من الموقف الملحمي، ولكن بمعيار الذات، وليس بمعيار المجتمع.

و هذا هو الفرق الثاني.

أن المعنى لا ضرورة له إن لم يمر بمرآة محدبة، تزيد من حجم المساحة بين الواقع وطريقة إدراكنا له. وأعتقد أن عنوان مجموعتها الرائدة (لا بحر في بيروت) يعبر عن هذه الفكرة خير تعبير. فهو يلغي الواقع المنطقي (تلازم بيروت مع البحر) لصالح واقع نفسي (جفاف الحياة في مدينة متحجرة القلب وتجارية).

من هذه النقطة بدأ وليد إخلاصي مغامرته المتميزة.

كان يعتدي على نفسه من خلال التعريض بواقعه النفسي في مدينة فوق واقعية. كان يهتم بمعنى المدينة والإنسان الضائع في دروب خلفية بنفس أسلوب المغربي محمد شكري.

لكن شكري رسم نفسه في إسقاطات طنجة. بحيث فضاء نفس الأعماق هو الحواري الداخلية والأسواق البعيدة عن التمدن، أو طبقة الغرائز من مأكل وتكاثر غير إنتاجي أو تكاثر ربوي تتآكل فيه الأطراف مجازيا. بينما كان إخلاصي يشعر بضياع المدينة نفسها وليس إنسانها فقط. فشخصياته غير مسماة، مطلقة أو نسبية، أو أنها رموز لحالة نشاط ذهني وأسطوري كالأسدي والكواكبي وسواهما. أما المدينة بحد ذاتها فهي علامات تتحرك من فوق الواقع  كأبراج القلعة وأسوارها في (الحنظل الأليف) أو علامات تندثر تحت الأنفاق  كما في (زهرة الصندل) التي تنطوي على سراديب فيها حياة متجمدة (عظام أموات وليس أضرحة).

وأعتقد أن هذه الفكرة (الموت بمعنى التثبيت) هي كل مضمون تجربة جورج سالم.

لا يوجد كاتب ملتزم بموضوعه وأسلوبه مثل جورج سالم. لقد كتب قصة أسطورية لشخص خيالي لا يوجد إلا في ذهنه. وهو دائما يحمل اسم (س)، حرف واحد فقط، وكأنه يختار الشكل التصوفي لتجربته غير الإيمانية، باعتبار أنها تجربة شك ورعب. كان ديكور القصص غربيا، يحمل صورا من خارج المكان، بالمعنى الفلسفي،  ويعيد تركيبها بوحي من بقايا هندسة كولونيالية. وهذه الإشارة تدل برأيي على معيار اغترابي. فالشخصيات مغتربة عن البيئة، لا تستطيع التحاور معها (كما في حوار الصم). وكذلك هي مفارقة لذاتها، ولا يكون بوسعها أن تؤمن أنها جزء من هذا الواقع، وفي كل الأوقات تسير دونما اتجاه لتصل إلى حفرة موتها الخاص.

ولا يمكن الادعاء أن الرحلة هي للهرب من آلة التعذيب التي تهدد البقاء وغريزة الحياة. ولكن هي للتجاوب مع نداء تدميري يحمل بذوره في ذاته. فكل أبطال جورج سالم لا أدريون ومازوشيون يستمتعون بالإنكار والعذاب. ويجدون فيه معنى وربما دليلا على الوجود. وإذا كان ديكارت اشترط لحساسية الوجود والكينونة شرط التفكير (أنا أفكر إذا أنا موجود)، والتفكير لديه طبعا بمعنى الشك، وليس التعرف وإيجاد الأدلة المنطقية، فإن جورج سالم يشترط (مثل كافكا وبوهاميل) إدراك معنى عذاب الأفراد خارج مجتمعاتهم القطيعية، بحيث يبدو العذاب هو الحكمة المتبقية من هذا الوجود الميؤوس منه.

تبقى تجربة زكريا تامر. فهي ذات حساسية خاصة ولم يتقن أحد كشف أسرارها.

لقد اهتم النقد العربي بطليعية القصة التامرية، واعتبرت في حينها، ولا سيما خلال أول 10 أعوام من تاريخها، أنها ذات ميول تركيبية ومجازية خاصة. لكن تم القفز من فوق فكرة الحداثة. فقد كانت مسيسة جدا، لها استراتيجية وليس فلسفة، بمعنى أنها تتبنى وجهة نظر نسبية وليس موقفا مطلقا من الإنسان الكوني.

كانت شخصيات زكريا تامر فكاهية وساخرة، وتضع مسافة بينها وبين نفسها، باعتبار أنها الواقع الاجتماعي والنفسي للإنسان  الموجود. ولم تتكلم أبدا عن افتراضات أو كينونة موازية. واستمدت مشروعيتها من موقفه الإيديولوجي من الذاكرة العربية والتاريخ الذهني للماضي. أو بعبارة أوضح للتاريخ ولكل ما سلف من أمور.

إنها حداثة تنتقد المضمون والشكل في نفس اللحظة. وهذا ساعده على اكتشاف طريقة مبتكرة في إعادة صياغة الشكل النوعي لفن القصة القصيرة.

لقد وظف المخيال الشعري، لأمة تحتفل بالشعر، في فن مستحدث وبعيد كل البعد عن عصاب التراث والسلفيات المعاصرة. ولو فككت أقاصيص بواكيره ابتداء من (ربيع في الرماد) وحتى (دمشق الحرائق )، وهي آخر مجموعاته الهامة، ستجد بذور فن الطباق كما كان يفهمها العرب، سواء في رسالة (الغفران للمعري) أو الأحاديث غير الموثوقة عن معجزة الإسراء والمعراج. بحيث تتواجد الأضداد في ديالكتيك غير جازم، هو المسؤول عن ما يشوب حساسيته من غموض. فالبراءة تنطوي لديه على عنف تدميري مرعب، والماء يلتهب أمام ناظريه ببريق لا يبختلف عن اشتعال النيران، ويجد الموت تعبيرا موضوعيا له من خلال فكرة النشور في واقع متخلف ورجعي، أو ظلامي.

إن الذهن في قصص زكريا تامر نبوئي واستباقي. ويكشف الحجاب عن ما يسمى لغويا بالعالم الآخر والذي هو في الواقع مجرد تفسير لأسرار الموت.

ولو شئت الحقيقة لا يوجد قاص حداثي في ستينيات سوريا غير زكريا تامر. بينما فرسان الحداثة الآخرون كانوا عبارة عن مغامرين أو طليعيين أعادوا كتابة الإنسان الواقعي بلا ظاهرة التفاؤل ومن غير النهاية الإيجابية وبعد تخفيف أو ربما قطع العلاقة مع السلطة.

 

صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم