قراءات نقدية

قراءة في كتاب: قصص شعرية تعبر عن أحلام محبطة

sabiha shobarفي مجموعة قصص  (طائر الغابة السوداء) يصحبنا الأديب المغربي (محمد فاهي) في رحلة ممتعة إلى غابة كثيفة من الأشجار المتشابكة الأغصان، المتعرجة الدروب حيث البراءة والرغبة الكبيرة في العودة الى أحضان الطفولة السعيدة، والابتعاد عن الأقنعة الكثيرة التي ما فتئت  مدننا  ترغمنا، على ارتدائها مهما تحججنا من ذرائع.

يحاول الإنسان إنقاذ نفسه من عبثية الواقع، والبحث عن سبل الخلاص وأمله أن نكون صادقين، تتراءى لنا هذه الرغبة كبيرة مقهورة في المجموعة القصص الجميلة التي أبدعتها مخيلة أديب كبير .

 يواصل المرء البحث عن حبل النجاة، فكل منا مجبر على النوم والاستيقاظ،  والورقة والقلم هما الواقع الوحيد الذي يتمسك به ( حبل ص 3)

 شعور  هائل بالفراغ، لا يمكن مجابهته، وفي إدراك هذه الحقيقة يمنح الإنسان اليقظة، التي لا يجد عندها النجدة، فليس هناك غير الصمت والظلام  والجنون والموت..

 الحيرة مسيطرة، تتفاقم،تستبد بالنفس الإنسانية أمام هذا الخضم من المجهولات، الجد يحمل محفظة الحفيد، تحتار اليد المرتعشة، كيف تحمل المحفظة ؟ هل تتأبطها؟ أم تأخذها كلعبة؟ وهذا مما لا يليق بجلال  الشيخوخة (أغنية ص4)

 القسوة تلاحق الناس، أفرادا وجماعات، يكونون مجموعين في أوقات الأفراح، ولكن حين يطلب الفرد منهم قطرات قليلة من الحنان، لتقيه صقيع البرد، يقابله الآخرون بلامبالاة  قاتلة، فالمرأة الهاربة، يتعقبها مختل، تدق باب المدينة المتجاهلة تطلب الحماية، فلا تكترث لها الأبواب الموصدة إلا بابا واحدا، يوصلها الى المبغى  الدخول منه والخروج سيان (غجرية ص 6)

 وتبدو القسوة واضحة جلية،على الصديق الوفي (الحصان) حيث يتلقى  ضربات السوط لسعات حارقة، بشكل يستعصى على الفهم، فيأخذ بالركض هربا من صوت الحوافر، ولكن الخوف من اشتداد  عنف اللسعات، التي سبق له ان جربها، يمنعه أن يكون حرا، يلبي نداء الغابة، ينقذ  الحيوان المسكين الصابر، من  قسوة المعاناة  انتشار رائحة الياسمين في حقل أبيض، يستنشق السائق العطر، ويستعير نظرة المرأة  إلى العالم، فيرى  حصانه بعيون جديدة،جميلا بهيا، منتميا للعالم اللطيف للمرأة (حقل من الياسمين ص10)..

 الحنين إلى الطفولة، حيث البراءة والركض بين المروج، والبحث بين شقائق النعمان، وعن الأمكنة التي تمسح فيها الشمس قطرات الندى، يقودنا المبدع الهاديء (محمد فاهي) الى شتلات الفرح، لننسى حينا  من الوقت،عالمنا المفجوع قسوة وضياعا، يقف الطفل حائرا، يصير طائر السمان، يحرس قوقعة الطائر، يتلمس إصغاءه العميق، يتخيل حقل القمح، فيهتف بأكوام السنابل، كما يهتف الطائر بأكوام الصباح، يتخيل مربط البهائم، فيهتف بما كسب،  كما يهتف الطائر بثلاثة أصوات مختلفة الذبذبات، ليموه عن مكانه، يفتح الطفل عينيه من حلم لذيذ، حين يسمع صوت الرصاص، تردد صداه الأرض، فأي لذة يفرضها انتفاض الطائر من بين الحشائش؟ حين يطلق الصياد الرصاص، يسقط الطائر عموديا، يتسابق الأطفال اليه، يلتقطونه دافئا مستسلما (قاف، سين، تاء  ص 11)

 يتواصل الحلم الجميل بحياة أكثر دفئا ومحبة، ويبدو شديد الوضوح، في مجموعة قصص (محمد فاهي)، العودة إلى القرية  حيث المحبة الصادقة، والرحيل عن حياة المدينة القاسية الجافة، والبعيدة عن دفء العواطف، ونشدان الهواء الطلق المنعش والخيرات الكثيرة والألفة بين البشر، تكون الخيمة، لتقي من البرد والمطر المنهمر، يتواصل الحلم بالدفء المفقود، باشعال أعواد الخشب، لكن الطفل لا يمكنه أن يدرك أحلام  الغرباء،الباحثين عن  ظلال الحنان، وسكينة النفس في الصلات الحميمية (خيمة ص15)

 

 هل يستعين الكتّاب بعالم الورق والحبر عن عالم الواقع الخداع ؟ هل يهربون عن  واقع كالح لا طعم له ولا لون؟ في قصص المجموعة: نلحظ ذلك الحب الكبير، لعالم الكتابة والعلاقة الوطيدة مع  الكلمات وتركيب الحروف، لخلق مدن رائعة، يسكن فيها الغرباء الغامضون، في حوار بين القاص والقصة، نسمع القصة تدلي بحججها أمام القاص، الذي يأتيها متأخرا، إما مجروحا، فيجعل منها خميلة تلعق جراحه، وإما مدركا لما فاته، فيحول القصة إلى ذاكرة للوجع، أو يأتيها مدفوعا بالعادة أو بالحنين، حاملا أثقالا لا يمكنه التخلص منها إلا برفقته للكتابة، فهي الصديق الوفي الذي  يحمل عنا همومنا، وتتفهم دوافعنا، وتعرف طبيعة الأثقال المرهقة،التي لا قدرة لنا بتحملها، فتمد أياديها منتشلة  الكتاب من شعور ممض بالخذلان، القاص يتحدث عن أسراره للقصة،التي تصغي إليه بانتباه، وتساعده في إعادة تركيب ما تريده من عوالم (غابة سوداء ص21)

 ولأن الأساتذة يدركون، ما في عالم التعليم من  غرائب، فان الكاتب يصحبنا في رحلة إلى قاعة الدرس، في الزاوية اليمنى عش عنكبوت  كبير، في حضنه يرقد عنكبوت ضخم، عيناه تنظران شزرا الى ما يدور  على  الخشبة، على اليسار سبورة  كالحة بلون التراب، وضعت على الأرضية،فيعطي التقابل بين سماء العنكبوت  والسبورة، صورة مختلة لعالم مقلوب، لا توجد فيه السماء والأرض في موضعهما، وهذا العالم المقلوب نجده كثيرا في قصص الأديب (محمد فاهي) حيث أحلام الإنسان تغدو سرابا، والرغبة بالحب تصير جفافا، السبورة المغطاة بورق ملون، خرقت من الوسط، وبدلا من وسائل الإيضاح التعليمية، علقت ملصقات علب الشاي، ولا يعلم لأي غاية؟

 رجل يبحث بين الطاولات، عن آخر الكلمات، قد يكون المدير أو المفتش، كلام كثير بعضه محفور، وبعضه مكتوب،كلمات فقدت أطرافها، لأنها خربشت في عجلة، يبدو المعلم يغوص في شرحه للدرس، فيقتحم غرفة الدرس طائر، يسبب ضحكا متواصلا للأطفال، ثم تتبعه نحلة عابسة تئز، هذا التصوير الرائع لشخصيات القصص،والخيال الخصب والكلمات المرهفة، والمعاني الغنية يبدع فيها القاص المتمكن، مهارة في  إبراز عالم الأطفال السعيد، حيث الأحلام ترتدي أجنحة، تدخل فراشة تغمز الأطفال، يتبعونها واحدا واحدا الى الغابة، ويظل المدرس  وحيدا، بين عنكبوت ظافر وسبورة ضاحكة (جرة الضحك ص27)

 يبلغ الحلم أوجه، ويصل الخيال إلى أحلى القمم، حيث القصيدة تنبت شجرة،، في أعلى الشجرة حطّ طائر كبير، هل  يكون الطائر نذير شؤم،عن الخراب الذي حلّ بأراضينا التي كان ماضيها سعيدا؟ رغم إنشاد الشاعرة لأبياتها في أول الليل، طائر الشؤم يخفق بجناحيه، تتفرق القصيدة أبياتا، تتحول إلى طائر بجناحين قويين، يحوم حول رحبة واسعة ويحط، يصير خيمة سوداء، حيث يتربع النابغة، يتوجه الطائر نحو بلاد الرافدين حيث الحضارة العميقة، ويحلق على أطلال  آشور ونينوى، نازلا على ألواح الطين، يختفي الطائر، ويلوح أخيرا في سماء بغداد، يبتعد عن جزمات المارينز، يغيب في سحاب من دخان، فيعود للشاعرة صوتها، وتتفقد الخراب، يتساءل الطفل عن الطائر، الذي يحلق في الرماد الداكن، فيطارد الأب الطائر عبر طريق هولاكو (الطائر البابلي ص36)

تصوير رائع لحضارة آفلة، وواقع مظلم، وضعف مهين، قطعة  قصصية شعرية لمبدع يجيد القص.

 في التعبير عن انقطاع حبل المودة، حين لا يجد المرء من يتواصل معه، فيحيا غريبا عاجزا عن الدفاع عن نفسه، أمام سيل الاتهامات التي توجه له، يفتح علبة السردين بالطماطم، لم يقدر على كل السمكتين، لأنه أفرط في تناول السردين المعلب، زوجته المتربصة به، والتي يلذ لها أن تكيل له،  في مثل هذا الموقف، ظلت تتغيب عن البيت، قاصدة هذا القريب أو تلك القريبة، أو ممن لا تربطها بهم إلا رائحة (الشحمة في الشاقور) بمناسبة زفاف أو ختان، أو بدون مناسبة، كانت تقول له  :

- لأنك معقد وانعزالي

 وكالعادة، كان الكلام ينحبس في حلقه، فلا يجد غير الهروب ملاذا (علبة سردين ص63)

 رحلة ممتعة في غابة (محمد فاهي) السوداء حيث الطيور تغرد وتبني أعشاشا للحب ولتواصل في عالم  ينأى الانسان به عن صحبة الآخر، والأشجار الباسقة تمنحنا ثمارا من رائع المعاني وجميل الكلمات

 

صبيحة شبر

 

في المثقف اليوم