قراءات نقدية

سعد الدغمان: غُربة ظافر البياتي ومشهد التساؤل

- جاء بالاستهلال ليختصر المعنى العام وحمل قصيدته الكثير من الصور الشعرية

 - ذهب ظافر البياتي إلى الحفاظ على النسق الشعري الجمالي للأبيات

تبقى ميزة الشعر الحر( شعر التفعيلة) كما يسمى، أن صاحب القصيدة فيه ينتهج نهجاً يسير من خلاله نحو أفاق الكلمة وأبعادها اللامحسوبة، ويمكن من خلاله للشعراء أن يرسموا ما شاؤوا من صور، نعم المخيلة الشعرية تمنح الشاعر الإبحار على متون الأمواج ليتجاوز من خلالها حدود التناظر والتناغم، لكن وفق أصول العملية الشعرية وقواعدها ليكتب برصانة الكلمة ووقعها على مسامع المتلقي بثقلها وموسيقاها وشجونها وحتى ألامها وأمالها في الكثير من الشعر المستتر بخفايا الاحاسيس والعواطف والمواقف والمحن.

أردت أن أسوق تلك المقدمة المبسطة لأدلف إلى ما كتب الشاعر ظافر البياتي في قصيدته التي وقعت بين يدي (غربة) والتي ذهب من خلالها ظافر إلى الحفاظ على النسق الشعري الجمالي للأبيات، والتي سعى وبجهد واضح أن التمسك بالجوهر الذي حفه بتقنيات ورؤى جمالية أثرت ما كتب من حيث الجنس والنوع لينتقل من خلالها إلى مراحل التطوير والتشكيل الصوري ليخلق نموذجه الشعري الذي احتوى صوراً عدة لايحار المتلقي بتلمسها في القصيدة والوقوف على أبعادها ومعانينها، وتلك خاصية قصيدة ظافر البياتي والتي كتب أبياتها ببساطة المفردة ودلالة معانيها.

غربة

ويأتي الليل ...

فتصب العيون

دموع العتاب

تصب الآلام ...

ووجع العذاب

تصب الظنون

تناول الشعراء صورة الغربة كل حسب رؤياه وتفاعلاته وما عاشه وما سمعه، لكن أن تقل صوراً للغربة من الوطن، فتلك هي المأساة التي تمثلها كلمات ظافر، قرأنا صوراً شعرية لشعراء مغتريبن عاشوا عقوداً بعيدين عن أوطانهم وكتبوا الشعر لما عاشوه من لحظات ألم وحنين وفراق وهم خارجه في الغربة، وهو شعر وجداني مؤثر وغاية في الروعة، لكن الصورة الشعرية الظاهرة في القصيدة عن (غربة الوطن) من داخله، وأنت تعيشه في أنفاسك، وتستشعر حنينه أكثر بشاعة من الغربة الأخرى التي تتماسك وتمتلك فيها نفسك وحرية التصرف والتجوال والعمل، أما الأولى فلا خيار لك فيها سوى (الغربة) بمعانيها الشاملة المملة الممنهجة لقتل النفس والوطن.

تلك هي غربة ظافر البياتي، ومحنته التي أسس عليها أبياته التي احتوت الوصف وألقة والنسق الموحد الذي يفضي إلى التعبير الصادق عن ما يستشعره من ألم وهو في وطنه، بل في بغداد التي باتت غريبة على أهلها ومحبيها.الاستهلال الذي جاء به ظافر البياتي في قصيدته أختصر المعنى العام، وعبر عن القصيدة بشكل مجمل، بل كان قصيدة بحد ذاته، تحمل عشرات الصور التي يسطتيع القارئ أن يلمسها بقلبه لا بيده، فتجسدها العين صورة ناطقة بالإحساس والشجن، ( ويأتي الليل)، ولك أن تسرح في متاهات الصور التي يسلط هذا البيت ضوءه على فحواها، فالليل قاتل في الغربة، أجاد ظافر في هذه، لكنه أخفق فيما بعدها (فتصب العيون، دموع العتاب، ووجع العذاب، تصب الظنون)، كان لابد لهذه الصورة ان تكون مخفية على القارئ لأنها مجسدة في قدوم ليل الغربة، وفيها أن العيون تصب دون إشارة، بل هي يجب أن تكون ضمنية لا حسية، يعني خافية عن عين القارئ، يستشعرها حين يريد، فكثرة الشجن تثير القارئ وينفر من القصيدة.

ثم أنها تحدد، والتحديد مرفوض في فناءات الشعر، إلا الاستثناء، (ولكل قاعدة شواذ)، لذلك تنجح (قصائدالمدح) وبخاصة في الشعر الشعبي حين يمتدح الشاعر و يعرف بالعامية (المهوال)وهوالذي اتخذ من المدح منهجاً محدداً لمسارات شعره يمتدح شخصيات بعينها من اجل المال او لقضاء حاجة معينة، لكنه لاينجح في غير المديح، وذلك هو (التخصيص).

ومن تلك السمة التي أقحمها ظافر في الاستهلال، يعود ليخرج من التخصيص إلى فضاء القصيدة المفتوح حين جاء بـ(تحكي) إشارة واضحة بتوظيف الدلالة حين استخدم الزمن الحالي ملحق بالتاء، وهي ضمير المتكلمة المؤنث، لكنها هنا مجهول جيء به للدلالة على حركة الزمن وانفعالات القصيدة وإرهاصات الفعل الدال على أن ثم حركة ستحدث تغييراً ملموساً في ال\مشهد الشعري.

لكن ظافر البياتي لم يفصح من تلك التي تحكي عن الغريب، هل هي الغربة أم من عاشتها، أم ما يتطلبه السياق العام للقصيدة التي جعل منها في مشهدها الثاني (جواب شرط) عن دالة الحكي، فأستخدم عوضاً عنها الإشارة ليُثَبت الدلالة (ذاك الغريب)، ولاستكمال كونها تفيد بالاستفهام، ومنها ليُضمن المشهد الشعري دلالة الاستفهام فقال (هو الجنون)، وتشعب في مابعده في الاستفهام ( أو من يكون، تراه الغياب؟)، دون أن يحرر جواب عن تلك التساؤلات المفردة والجمعية التي ضمنها القصيدة في مشهدها الثاني، حتى أني أطلقت عليه (مشهد التساؤل)، ليتمه بوصفية حاول البياتي أن يختم بها ذلك المشهد، وأظنه لم يخرج فيه من الإبهام والتساؤل والحيرى، فجاء ليورد وصف الليالي وشجونها وما تخلفه من ألم الغربة، فأفرد لها التوصيف ب (الثكلى) .

تحكي ....

عن ذاك الغريب

هو الجنون

جاء يبحث الأسباب

تراه نبياً أم رسولاً

او مَنْ يكون؟ !

تراهُ الغياب ..؟

وتظل الليالي بالآه ثكلى

وألم الشجون

وتسالوني نبض

السنون

ضاعت أوماتدرون؟!

ومن تلك التساؤلات وتضمنين المشهد بالاستفهام والمبهم، والتي خرج ظافر البياتي منها بحصيلة دالة على الحقيقة التي بنى مشهد برمته عليها، حين أورد جواباً للسؤال الأخير الذي ضمنه المشهد الثاني ومثله بالضياع نتيجة تلك الغربة والألم الناتج عنها، (ضاعت أوما تدرون)، ليختم المشهد بتوظيف حقيقة مجسدة للفقد الذي يعاني منه الكثير في عالم تسوده عدم المبالاة وسيطرة قطاع الطرق على مصائر الناس.

من هذا التوصيف يدخل ظافر للمشهد الأخير لقصيدته ليقف على دهشة الحقيقة وثبات التوصيف (ستظل أغنيتي الحزينة) تاكيد يتطلبه المشهد بعد تلك التساؤلات والليالي المثقلة بألآم الغربة وشجونها ومرارتها و(المجون)، (جواز اغتراب) كل ذلك التوصيف يدفع لوصف ما كتب ظافر بالوجدانية المطلقة، والتي لاتقف عند حد التوصيف ورسم الصورة الشعرية التي تجسدها المشاعر، بل دقة الدلالة (مدن الضيم الدامي)، (بين السجون) على اعتبار أن الغربة في الوطن هي سجن مفتوح على غربة الروح، واغتصاب للمعنى السامي للحياة.

ستظل أغنيتي الحزينة

والمجون ...

جواز اغتراب

في مدن الضيم الدامي

بين السجون

يبقى أغتصاب .

القصيدة بمشاهدها الثلاث احتوت توظيف عناصر البناء الشعري بشكل جمالي يتناسب والمعنى العام والوقفات الدلالية التي جاء بها ظافر البياتي كانت متناسقة وموسيقى القصيدة، ومنها انتج شكلاً درامياً يوحي من خلال وصف الغربة بأن صعوبة ما يعانيه الناس كشعور إنساني يتمثل في غربتهم داخل أوطانهم، والتي تفوق الغربة عنها على الرغم من أن الغربتين تمثلان مآساة دائمة لايحبذنبل من الجرم أن يعيش الإنسان تجربتها بسبب الكثير من المتسلطين العابثين بالأوطان ومصائر الناس.

فحوة القصيدة رائع وموضوعها أروع بوصفه يشير لحالة ومشاعر إنسانية نبيلة، ناهيك عن ما تحمله من مشاعر وطنية خالصة.

***

سعد الدغمان

في المثقف اليوم