قراءات نقدية

احمد مطر في انتقاد السلطة.. القصيدة بوصفها عالما مشفّرا تغلّفه جرأة زائدة

ahmad alshekhawiمع التحفّظ الشديد على لفظة "سلطة" وبخاصة عند الحدود الدنيا لهذا التداول ــ مفاهيميا ــ والمتساوق مع نبض الإشكالية الوجودية والقديمة قدم التواجد البشري بحد ذاته .

إن المسألة برمتها أشبه بعملية قيصرية تغتال لبّ الحقيقة حين تغدو على قرابة أوثق وصلة أوطد بسلطة فلكلورية جوفاء فارغة المحتوى، في زمن إنتاج التبعية وضمور أو تلاشي الخيط الناظم لأسس ومقومات ما يؤهل لشرعية تحكم أهل الولاية برعية يسوسونها.

إنها باختصار شديد، شعرية التحقيب لصولة من الزعامات السطحية المبنية على روح تمجيد هلامية الكرسي وإضفاء بعض من جوانب القداسة الدينية على صيغ التعاطي معه ومن ثم الخطأ القاتل في تقدير إحالاته وتأويله من زوايا صحيحة وسليمة تفيد ما يصبّ في دائرة كونه مجرد ميكانيزم مسخّر لخدمة إنسانية ما لا أكثر.

كل ذلك مقابل التمكين لتمظهرات الخلل  والسماح للورم الخبيث بالتفشي في أوردة الحياة الاجتماعية العامة على نحو تتم مع جريمة نخر توابث الخصوصية والهوية وتقويض ركائز المواطنة القحة وبذر الشحنات السلبية للاستعباد والإستقواء وكذا شحذ ملامح الكاريزما السلطوية بإفراط في تناول الجرع المخدرة والمنومة وفق ما سيقود إلى توتر واحتقان بين القاعدة والقمة لا محالة.

إنها تجليات المنطق المضاد والداعم لثقافة إنهاك عقلية الحكامة العاقر التي أفرزت ولما تزل معادلات اللاكرامة بما يشكل تهديدا متراكما ومتسم بالديمومة لشتى المناحي الحياتية،تعزى إليه الفتنة القائمة والمتجسدة في رجّ كمّ مهول من تيارات السفسطة والابتذال الذاهبة ضحيتهما المصلحة الشعبية كل حين.

إننا واطرادا مع حفريات نناوش بها عقد التاريخ الحافل بتجارب " الصعاليك" وأدبياتها المبطّنة باضطراب وركاكة الحبل السري بين الحاكم ومحكوميه ، إذ نتقمص بمنأى عن التوصيف القدحي لهذا الشذود،ونخلع على لحظتنا  وظائف وأدوار الشاعر الصعلوك، عيشا ومعاناة  ليس فقط اقتراضا أو استعارة، سنفقه دون ريب ماهية ذات تسبق الجيل بآلاف الرؤى ،وتشوك بلاط الراح بنبوغ العصامية ،وتحرج الكواليس المخاتلة المترعة بمخملية أجساد الحسان، وتصطدم بسلطة الفقاعات وفقاعات السلطة التي ليست تملك سوى رمزيتها المماطلة في إيهام الشعوب.

هي تمثيلية تحصل حدّ بثّ السمّ الزعاف في شريان كهذا بلاط  نمطي وصوري يلغي امتيازات المواطنة.

الشنفرى وسيرة تمرّده وتسلّحه بأحلام البسطاء والقادمين من الهامش ليشكلوا جبهة معارضة تتصدى لغطرسة زعيم واهم ما فتئ يكدّس ثروته على امتداد تناثر أشلاء وجثت محكوميه بدافع نعرة التوسع القبائلي المتشرب حدّ الثمالة من فلسفة الغزو و السّطو والدم.

"أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم/فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ

فقد حمت الحاجاتُ،والليلُ مقمرٌ/وشُدت، لِطيات، مطايا وأرحُلُ

وفي الأرض منأىً، للكريم،عن الأذى/وفيها، لمن خاف القِلى ،متغزَّلُ

لَعَمرُكَ، ما بالأرض ضيق على امرئٍ/سرى راغبا أو راهبا،وهو يعقلُ

ولي،دونكم، أهلُونَ: سِيدٌ عمَلّسٌ/وأرقطُ زُهلول وعرفاءُ جيّالُ

هم الأهلُ.لامستودعُ السرِّ ذائعُ/لديهم،ولا الجاني بماجَرَّ،يُخذلُ

وكل أبيّ، باسل. غير أنني/إذا عرضتُ أولى الطرائدِ أبسلُ

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن/بأعجلهم،إذ أجشعُ القوم أعجلُ

وما ذاك إلابسطة عن تفضلٍ/عليهم،وكان الأفضلَ المتفضّلُ

 وقبل هذا الرمز مثلما بعده ثلة مشهود لها بأعين تراثية متلاحقة ،بالنزوع الإنساني  نحو صفوف مناهضة الظلم والاضطهاد وشنّ مبادرات الثأر للحشود المستضعفة والمعدومة.

الشاعر احمد مطر ينحو الغرض ذاته، وإن على أصعدة مغايرة الطابع كنتيجة لإملااءات التطور وعجلة عالم ألف التوغل في حدّ البصر دون التفات إلى الخلف.

بشعره الدافق وغير المهادن الذي طالما ألهب الأوساط الجامعية في كل ربوع بلاد العرب ، مغذيا في الشباب والأجيال احتياجات جمة،تستفزّ التكوين الشخصي على مستوى آليات  تتعد وتتجدد لتحتوي لغة أنسب تتناغم و الكيان الآدمي المثقل بحمولات العولمة، كائن قائم الذات وأعمق وعيا بتطلعاته وبحقوقه وواجباته.

"يا وَطَـني

ضِقْتَ على ملامحـي

فَصِـرتَ في قلـبي.

وكُنتَ لي عُقـوبةً

وإنّني لم أقترِفْ سِـواكَ من ذَنبِ.' 

لَعَنْـتني..

واسمُكَ كانَ سُبّتي في لُغـةِ السّـبِّ.'

ضَـربتَني

وكُنتَ أنتَ ضاربـي ..وموضِعَ الضّـربِ.'

طَردْتَـني

فكُنتَ أنتَ خطوَتي وَكُنتَ لي دَرْبـي.'"

يفضي هذا إلى الخوض في كنه منظومة القيم المستصدرة أو المحصّلة باعتبارها وقود الدينامية المنبغي تطبّع السلوك الحضاري بها ، والتي لن تكتمل وتتأتى إلا مذيلة بفعل الرفض ونبذ السائد ومحاربة صنوف القمع وألوان التأليه الذاتي قبل الغيري تأمما لصناعة حقيقية وبناء شمولي للإنسان.

هي جدلية تلقائية تقحم لتجلو أقنعة زعامة فجة ومتهتكة ،ولتغسل ماكياجات الولاية وادعاءاتها باعتماد الأسلوب التهكمي والكوميديا السوداء بغية إتاحة ضرب من اقتصاص ــ إبداعيا ــ من راهن فخفخة المعلم وجعله أسيرا للعُجب والأنانية المريضة تجاه تلامذة مسلوبو الإرادة مرغمين على الفهم بالخشيبات.

عوالم مطر السحرية المشفّرة والمعجونة ببساطة القول الشعري وبلاغته و جرأته الزائدة، حدّ تحريك الحكام كدمى جراء ممارسة إبداعية تنفصل عن الآني لتلتحم به سياسيا ،عبرها، تنأى الذات عن المواربة والنفاق الكلامي المعسول أو الاسترزاقي حين ينسج الذرائع الواهية من رسميات وغواية البلاط.

إنها أصداء سرمدية لحكاية دامية ستستمر ما دام الطغاة وبهم في شكيمة المعترّ استنزاف ثروات الأوطان المتخبطة بعد والمتعثرة بحشرجات قنافذ تلقّي الدّرس الرسمي الشاحب والبائت في نطاق ما يفسح لمزيد من التسويف والتغاضي على واقع الانكسار وطعن مواطن النبل والبراءة والجمال.

 

احمد الشيخاوي/كاتب مغربي

 

في المثقف اليوم