قراءات نقدية

الممكن المعدوم وتنافذ عدمية الجدوى

دراسة في الأعمال الشعرية للشاعر حسين عبد اللطيف.. الفصل الثالث ـ المبحث (1)

مهاد نظري:

العدم أو المعدوم هما صفتان لا يتصف بهما من يجانب (التكون - التغيير) والانتقال بهما إلى عالم من مداليل الشعر.كما هو الحال في صفات (الأضداد)فلا يمكننا وضعهما جنبا إلى جنب في مساحة فضائية موحدة من الاحوال والأنسنة في قرائن الملفوظات الغير عاقلة.فالعدم ليس فيه بذور أو جدوى من أوجه الإمكان في مسار التصور والتكوين النواتي إطلاقا، لذا لا يمكننا إطلاق التسمية العدمية حول شواغل مدلول شعري، وإلا أصبحت القصيدة عبارة عن مجموعة من الغمائم الفارغة.فلابد إذاً من وجود (الممكن ـــ الإمكان ـــ الذات النواتية) فالقضية القائلة من قبل بعض النقاد بأن هناك حالات عدمية، فهذا بالأمر الممكن، ولكن لا يمكن لهذه الحالات اكتساب صبغة عدمية كلية على مجمل تفاصيل النص الشعري.فالممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد أو لا يوجد؟والمعدوم بدوره ممكنا أيضا ولكن في حدود مؤشرات موضوعية معدومة أيضا.إذن يمكننا القول حول بعض من نماذج شعر مجموعة(لم يعد يجدي النظر)كونها حالات شعرية جعلت تستدعي المعدوم في صفات من يحمل الإمكان، وهذا الأمر من جهة ما جائزا، لأن الفاعل المنفذ - الدوالي، موجودا في تمفصلات الممكن المتخيل، وإذا صار الأخذ بالممكن دون وجود عدمية الفاعل نفسه، فلابد لنا من التوغل في أسباب ذلك الفاعل ومن خلفه المعدوم في اللاجدوى من التكون والتفاعل في تحولات الإمكان الوصفي والقولي في خطاب الدال.

ــ الذات المؤولة وحوادث الممكنات العدمية:

بيد أن من البين من خلال الممكنات الاحوالية حالات الاستدعاء التلفظية في حدود حقيقية معقولة بالقياس إلى كون جوهر حقيقة المادة الذواتية، هي مسمى صوري ووسائطي لا توجد مقاديرها إلا في (الحدوث ــ الحادثة ـــ الزمن) وإذا كان وجود الذات ممكنا كحادثة مسبوقة بالأعراض والكيفيات، فلابد لها من التسليم بضرورة شرائط المصير.الشاعر حسين عبد اللطيف كما صادفنا الأمر المشار إليه تحديدا، هو من أبرز ممكناته شعرا حيث إحداث هذه الأوضاع من موضوعة (اللاجدوى ــ العدم ــ التيه) وصولا إلى جوهر المعنى الكامن في هوية قصيدته (أصرة) ضمن مختارات ديوانه موضع بحثنا:

بين الطريق والطريق

القدم

بين الغصن والشجرة

برعم

أو

ورقة

بين حياتي و ـــ النجف ـــ

خط مستقيم ./ص188

بإمكاننا ملاحظة الاتفاق الضمني والعلني بين عمومية الدوال، وما يترشح منها من خاصية ذاتية ملموسة في إطار حسية الذوبان في المعدوم من خلال دلالة العنونة المركزية الدالة ـ علائقيا ـ ب(أصرة ) ويبدو أن ما تصدرت به الدوال الأولى من النص، كوحدات تجمعها ملمزمات علاقة أفضائية على نحو ما من ملفوظ السياق.في هذا المعنى من مؤديات الدوال، تنحسر عيانية التلفظ بما يخولنا على معرفة أن المشار إليه عبر ضمير المتكلم، هو الشاعر نفسه، ذلك عندما أجاز لذاته العبور المستقيم الذي لا تحد منه العوائق والعلاقات بشكل ما، نحو موضع حتفه المشار إليه بـ (النجف) والمقصود بهذا الدال ليس المدينة ذاتها، وإنما حول وجود المقبرة فيها. إن القراءة المجملة للنص لا تعني لنا بعدا مخصصا حول الحديث عن الأثر النصي من ناحية إبداعية، بقدر ما تحملنا موجهات مبحث دراستنا حول وجود مستوى خاص من الخصوص حول ثيمة(العدم ـ المعدوم)وما جاء به النص موضع نموذجنا القرائي، خير دليل على أن الشاعر ينطلق نحو العدم من زاوية الاتفاق الممكن، إي من منطلق حدوث الأمر أو عدم حدوثه في أي مرحلة زمنية ما، مادام هو مسلما وجوده بالدلالة القاطعة كونه لا يفصله عن الموت أية حاجب ما، حتى وأن اختلفت الأسباب والمواقيت في ذلك الحدوث.

1- المدلول الشعري بين التزامن الممكن والتلائم الدلالي:

من الروابط البديهية في شعر حسين عبد اللطيف، أن تكون المحصلة الإنتاجية ــ النصية، على مستوى من المقايسة المتزامنة بين فاعلية التلفظ والبرهنة القرائية المخصوصة في العلاقة والشكل والحيز.وذلك تحديدا ما وجدنا لمثله في شواهد قصيدة (خطاب إزاء خطاب)والمقصود من وراء هذه العنونة، هو التحقق الامتثالي بين الأوضاع الدلالية:

يطلق البحارة:

لحى غلايينهم

دون أن يفطنوا

إلا أن الدخان ـ هو الآخر ـ

يطلق حكمته الأخيرة

حول المصير . / ص189

نحن هنا حيال ظاهرة شعرية تشتغل على المزامنة في التمثيل والمماثلة، كوظيفة موقعة في مسار المشابهة والمقابلة دلاليا: (يطلق البحارة ــ الدخان ــ المصير) وهذه الوقائع التلفظية ذاتية في المختزل والموجه والتحفيز.غير أنها أيضا تنطلق من ذات (جهات الموضوعة) ولكنها تتعارض من حيث الخاصية في المحكي.أن الكتابة في شكل هذا النص عملية إنتاجية نظرا لوضع المنتج الدوالي في وحدات مقابلة من الوصف والرؤية: ولكن يا ترى هل أن مجمل متعلقات الثيمة العدمية مختزلة في النص نفسه؟الجواب يكون بالتوكيد الممكن من كون شاغلية جمل (الدخان ــ هو الآخر ــ يطلق حكمته الأخيرة ــ حول المصير) إذاً الصفة الملوحة في غاية المحصول (الدخان ـ المصير) غالبا ما يشكل قيمة ممكنة نحو المصير العدمي، لذا فدلالة جملة (لحى غلايينهم)هي بحد ذاتها شكلا نحو تبخر الآمال والأوضاع المؤملة في رؤية البحارة، الأمر الذي جعل خطاب النص يقابل خطابا عدميا مصدره مجهولية المصير.

2 ــ تفكيك الجاذبية ومغامرة إبطاء الاختلاف:

إن في أغلب الأعم من تجارب قصائد ديوان (لم يعد يجدي النظر) ثمة اكتمالات (ميتا حداثوية) في ما يتعلق و مجرى مكونات الدال وشيفرته ووظيفته.وهذا الأمر بدوره أيضا ما ينسحب على أعمال الشاعر الأخرى وخاصة رائعته الكبرى (نار القطرب) التي من خلالها إكتملت تجربة حسين عبد اللطيف كشاعرا على حد تقديري النقدي.أردت أن أقول في هذا الفرع من مركز مبحثنا، إن الأكتمال البنائي (الشكلي ـ الموضوعي ـ الدلالي ) في مشغل قصيدة مجموعة (لم يعد يجدي النظر) كانت اعتمادا على المخيلة الفعالة التي من خلالها، بدا المنتج الدوالي في نص الشاعر، يحتل لذاته مراتب حضورية تتوغل بعيدا في سطوة الآفاق النصية .من خلال قراءتنا إلى قصيدة (إحالة) تعرفننا على موضوعة الإثبات وكينونة التجاوز والانخلاع من منطقة النمط الشعري السائد، لذا وجدنا عبر محاور الدوال ثمة متماهيات في الرؤية الأقرب إلى الفن السريالي، ولو أن الشاعر قد أشار عبر يافطة نصه ب (إحالة) ما يقصد به الاستدعاء في الأمر عينه وليس في شكله.إذ نقرأ هذه المقاطع من النص حتى تتبين لنا أوجه الصورة أكثر سعة وصدورا:

من بين ما يعنيه السلم:

الهرب من الجاذبية

لا مناص من الموضوع

إن لم تصدقوا...

اسألوا الجناح

عن القفص ./ص192

ربما إن التفصيلات في دوال النص، كانت تتطلب من الشاعر نفسه أن يكون أكثر تبحرا من مشاعية هذه المفردات الإخبارية.على أية حال، أقول أن حجم التماهي بين (السلم ـ الجناح ـ القفص)هي ليست بالإحالات تماما، بقدر ما تعنيه حالات العلامة السيميائية من مرمزات ذات أوجه متغايرة، ولكنها من ناحية ما بدت متوافقة في الحضور المعادل.الشاعر ومن خلفه الأنا المتخيلة تسعى إلى رفع القيد عن وجوده الآنوي، لذا فهو يرجح لنا في جملة(إن لم تصدقول..؟)فهو يواجه سطوة أغلال الواقع بمحاولة الاستئثار بذلك ـ الشاهد الغائب ـ في مزاياه ومسمياته، ليتوحد مع جدلية (حرية السلم )من قيود سلطة الأرضي، بما يعادل دليل المقاربة في جملة (أسألوا الجناح ؟)وهذان الموقعان رغم تفاوت المشبه والتشبيه بينهما، فللضرورة بينهما علاقة معادلة ومقارنة على حد ما.

ـ استدراج النص إلى غواية شعرية اللاجدوى:

أنني ميزت من خلال دراسة شعر حسين عبد اللطيف وأدركت بأن الكتابة لدى الشاعر نفسه بوصفها حادثة (هيرمنيوطيقية)يقوم بها زمن الدال عبر هواجس فاصلة بين الأوجه الذاتية ومؤشرات العلامات التي هي بحد ذاتها وقائع أحوالية ولكنها تصب في مجرى فعالية (التأويل ـ المؤول) إذ يرتبط المعنى في أحياز شواغل الدلالات في مرجحات غنية بالمضمر والمرمز وسيكولوجية المنضوي تحت المقاصد والأغراض الأكثر غورا في غواية (العدم ـ اللاجدوى) أو من خلال غائيات مرتبطة بمقادير تمتزج في مساحة تشكيلية متمحورة من بؤرة الأنا الشعرية عبر صوتها المتلفظ تحققا وحضورا متحولا.نقرأ ما حلت بمجال قصيدة (بنا حاجه) حيث الخلفية الصراعية المحتملة في كشوفات أغراض الذات الآنوية:

بنا حاجة

بنا حاجة إلى النوم

إلى نوم طويل ونسيان

إلى عزلة في الجبال وهرب

إلى هرب./ص 204

1 ـ فضاء اللاجدوى وعزلة توطين الحلم:

يعود ـ فضاء اللاجدوى ـ مجددا في مقترحاته الإظهارية في مستهل هذا الفرع المبحثي، لنواجه منه ذلك النموذج الشعري عبر جملة تفعيلات في مواضع ومنازع مرهونة بوعي اغترابي يسعى إلى توطين الماهية الحلمية في منظور الرؤية إلى ثنائية خاصة من(التداخل الذاتي ـ التخارج الذاتي)وعيا تاما يرتقي بدوال الممكن صعودا إلى الالتحام بالإمكاني المعادل، وذلك عبر مفتتح جمل النص (بنا حاجة ـ بنا حاجة إلى النوم ـ إلى نوم طويل ونسيان)وتضع المعادلة الابتدائية من المعلوم الإمكاني، ضوءا في الانتقال من فضاء الاستتار الأحدي في الذات المتلفظة (بنا حاجة) وصولا إلى مسار الدلالة في طبيعة مكونات الحاجة في ذاتها (بنا حاجة: إلى النوم ـ إلى نوم طويل ـ ونسيان ـ إلى عزلة ـ في الجبال ـ وهروب إلى هروب) وهنا تبتدى مقاصد المتن النصي خضوعا شبه تام إلى منظومة فعلية من التلاعب في استدراجات المشهد، ناهيك عن صوغ أحواله ضمن حدود الأداء الفعلي وبالجمع وبالمعطى الدوالي المتكرر في تفعيل دور لفظ (بنا حاجة) امتدادا نحو التغييرات والاستبدالات (النوم ـ النسيان ـ عزلة ـ جبال ـ هروب ـ هروب) إذ تتخلق وحدات الدال عبر مراحل تحول تدريجي، وتفتح لذاتها كشفا أنزوائيا مشيعا في مناخ النص وضوحا عاليا بالمسلمات الذاتية اللامجدية من التواصل النواتي عبر الزمن والمكان والذات التي تحيا في مقتضيات وجودها الداخلي بمعطيات خائبة خارجيا ومسلوبة من آهلية وجودها الحق:

أو

ترك العشب..

ينمو..

على الأثر./ص204

ولعل في هذه الوحدات ما يفسر لنا، مدى انسحاب الذات الشعرية عن محيطها الابتدائي الأولي، بيد إنها لا تعول بهذه النهاية حتى على جدوى أن ينمو العشب بصورته الطبيعية والفطرية، وأنما من خلال فعل الأثر المخلوع عن الذات في جملة موزعة ما بين اللاجدوى والعدم الأقصائي إلى أقصى غاية من الحدود الصفرية.

2ـ تصادفية الأفعال ودينامية اللحظة المفارقة:

يشتغل المنطق الشعري في معادلات الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف على النحو الذي تبدو من خلاله معالم الأحوال والتحولات القصدية والغرضية والغيرية، وكأنها خاضعة في سياقات مكتفية بالاستفهام والاستنكار والرفض الوجودي، مما جعل أمر تشكيلات بنياته الدواليةفي مجموعته الشعرية (لم يعد يجدي النظر)موضع مباحثنا، وكأنها أطروحة صورية في حالات اصطياد (الإحالة ـ المفارقة ـ الأضداد ـ اللامتشابه في التشابه) أي أنها كما لو كانت جملة الأحوال اللامتكاملة في شرائح الأفعال والأوضاع التصويرية، أو إنها من جهة ما بدت في ذاتها هبوطا صاعقا بالمختزلات العكسية للزمن وبيان الموضوعة.نقرأ هذه النماذج المقطعية من ذات النص المصنف بهوية الهيئات الرقمية:

لم يعد يتناسل إلا السر

لم يعد يخضر إلا الخريف

لم يعد يستغلق إلا البرهان

لم يعد يتنمر إلا الذهب

المصادفات

وحدها

ما يترتب الآن!./ص205

المراد هنا من خلال أفعال الجمل الشعرية، هو إظهار إن الفعل الأحوالي، إذا أريد منه أن يكون شيئا آخرا، فهو لا يخلو من أحد اعتبارين: أما أن يكون بالفعل شيئا آخرا، أو بعد لم يصير شيئا آخرا، وبالاعتبار الأول يسمى بالفعل الجازم بوصفه تشكلا من تشكلات التفارق، وبالثاني يسمى التلائم في حدود النسبة النقيضة، أي أن يكون لنقيض المحمول بالجملة ما هو مصدق باليقين المفارق، أي إن الرؤية الشعرية بمثل هكذا مقامات وأحوال، تشكل المعرفة بوجود الامتناع، حفظا للمعنى المحمول إمكانا أو نقيضا متماثلا.الشاعر قد أختار هذه الحركية المتشكلة بالإمكان الجازم، حتى يتسنى له ترجيح الواقعة الكونية إلى محض تراتبية تصادفية ليس إلا.

ـ تعلق القراءة:

حاولنا في مبحث دراسة كتابنا في هذا الصدد من الاستدلال والتحويل والتأويل، الكشف عن تضمينات الدالات التي تؤلف بدورها أهمية النص الشعري في عوالم الفذ الكبير حسين عبد اللطيف، وإذا كنا قد سلكنا في مبحثنا هذا جملة دلالات تختص بـ(الممكن المعدوم لا يعد ممكنا بالإمكان؟)فذلك لأن آليات وأحوال ومقاصد قصيدة هذه المجموعة للشاعر، أكثر إيغالا في الأواصر(الميتا شعرية) نظرا لأن محفزات المخيلة لدى الشاعر راحت تصل بصفة الممكن العدمي إلى ملامح جعلت تسعى إلى خلق من المعدم دالا إمكانيا ذات موجهات مدلولية دالة تمثلا وإنجازا.ولكننا عندما قرأنا بعض من نماذج هذه المجموعة، لاحظنا العلاقة القصدية بالمعدوم الممكن، حيث من الصعوبة الإيحاء به كإمكانية محسوسة بالإيهام الإمكاني، ذلك لأن الدلالات الشعرية بوصلتها الاستعارة والمجاز والكناية والتورية والإحالة والتدوير، لا أن تكون مرسلا بالقيم العدمية عبر مداليل زوالية ذاتية مرهونة بالإمكان العدمي الذي لا يجوز الأخذ به كقيمة علائقية موضوعية شعرية خصبة.ولكننا بإمكاننا القول في الوقت نفسه إن بعض من نماذج شعرية المجموعة، قد سعت من جهة ما إلى توطين الذات العدمية في حدود حلمية وضنية وتفارقية فنية، إذ بدت الذات الشاعرة من خلالها تطرح العلامات والرموز والأسئلة في أتون أنساق موفقة من علاقات القرائن والبدائل المتواترة في المعنى والصورة والدلالة الضمنية الأكثر بروزا وتشخيصا في الكشف عن مأدبة الأضداد ومكابدة الواقع المعطى في قشور حياة الشاعر الانطفائية من كل رونق المقدمات الحياتية الهانئة والمبهجة، لهذا الأمر وجدنا أغلب قصائد أعمال الشاعر، تتصف باللوعة الفقدانية والحسية بالمعدوم من كل زوايا حياة الشاعر الضيقة الخناق والضاجة بأسئلة الأعتراضات والشجب والاستنكارات، فيما يبقى التعويض عنها بالمزيد من الأصوات والبنيات الشعرية القادمة من قعور ذاتية تفترض في خطابها المفردة العدمية، وتلحقها بقرائن من الذوبان في فضاءات من اللاجدوى والقنوط والمفارقة الفنية الدالة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم