قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مطالعة في كتاب سعد جاسم الشعري

الفضاء الدلالي بين مظاهر الجمال وتشكيلات البوح

توطئة: إن بلاغة الالتفات إلى مكنونات حالات الأشياء وطقوسها وممارستها في الخطاب الشعري، تتطلب من الشاعر النظر في محكم الكيفيات في صناعة النص، وليس في كيفية تدليل المسميات والظواهر عبر صياغة مقطعية، نادرا ما تجد فيها حيوية الموازنة بين (الذات = الموضوع) . لربما من السهل على كل مرء كتابة القصيدة في حدود عاطفة جياشة وسيالة، ولكنها في الأخير أكثر خضوعا إلى مجال العتبات الذاتية المفرطة: فهل هذه هي القصيدة في وجهة نظر بعض تجارب الشعراء؟ من الصعب تجاوز الموازنة بين الرؤية الذاتية والمعادلة الموضوعية في أي من مهام القصيدة سواء كانت حالات مسرفة في العاطفة أو أنها صورة مكرسة بحجم قناعات الحلم للشاعر بأن ما يكتبه هو الشعر؟. إن الفعل الشعري من الاستثناء دائما وأبدا، حتى ولو حاولنا غض الطرف عن عدمية مؤهلات كاتبها منذ مساحة زمنية لا تحصى ولا تعد. قلنا أن الأفعال الشعرية في موجهات الشعر، تتعلق في حضورها التصديقي، بذلك النص المتحفز في مجمل حسابات الرؤية واللغة والأداة والمعادلة الموضوعية بين ذاكرة الحلم وقصدية النظام الأسلوبي في مكامن خطاب القصيدة. من هنا سوف نتعامل مع منتج مجموعة (أنت تشبهينني تماما) إلى جانب مجموعة الشاعر الصديق سعد جاسم التي جاءتنا تحت عنوان (أرميك كبذرة وأهطل عليك) والقارىء إلى شعر سعد جاسم إجمالا، لربما يلاحظ إنتاج الحالات الأكثر تعلقا في موضوعة الذات المتمثلة بأشد مخارج ثنائية (الأنا ــ الأنثى) وعلى هذا النحو الذي تنعطف فيه أفعال الذات، تواجهنا منطقة الاستقرار على الصعيدين الدلالي والتشكيلي وبأقصى ما تتطلبه منظومة الدال من عناصر الفعل والتأثير والاستقبال في معطيات التذوق والذائقة القرائية.

1ــ السياق الفعلي وخصوصية الموصوف المركز:

تتكون الفعالية الحيوية في سياق أفعال قصيدة الشاعر من خلال مصاحبات خاصة في تحقيق المعنى المبثوث بذلك الزخم من العاطفة والوجدان. إذ تنحو دلالات النص، بذلك التوجه الذي هو بذاته علامة نوعية في طرائق (الخطاب ــ المخاطب) فالشاعر عندما يخاطب حالات الذات الأنثوية، إنما يعتمد في إيحاءات مرسله إلى تلك الجهة التي قد تكون (الوطن ــ الذات الملامسة) أو ما يتقصده الانسياق بعيدا عن مظاهر المعنى بذاته ولذاته:

أعرفُ أنَّ ليلكِ شائكٌ وطويلٌ

حتى صحارى الأرق

وأعرفُ أنَّ غاباتِ التوجسِ

والسهادِ المالحِ

تسرقُ كحلكِ.

تنتج هذه المقاطع خلاصة العلاقة المقاربة بين (حساسية المرسل) ومقولة (التشكيل الحسي) إذ تخضع صفات واستظهارات التماهي مع طبيعة (الفاعل المرسل) على النحو الذي يظهر الصوت الشعري وكأنه حالة من حالات التخاطب مع أنثى ما، ولكن حقيقة المتن الأفعالي جعلت من هوية مرسلاتها بمثابة المناجاة بأعلى كفاءة ممكنة: (فتندى عيونك.. ويشتاق جسدك لرائحتي. ) بهذا التوصيف، واجهتنا قابلية اشتباك الواصف مع هوية الموصوف، إذ يرتد الراوي الشعري (كلي القصد؟) نحو الظهور الدوالي بما لا تستنطقه محتملاتنا القرائية دون ذلك المرسل القصدي بكون أداة التلفظ لها من التجديف نحو منطقة الأنوثة الحسية حصرا، وألا ما اللافت دلاليا في مكونات جملة (ويشتاق جسدك لرائحتي) فالشاعر هنا لا يصافح المسميات في حدود مواضعها الانموذجية، بل إنه يقحم الجلاء في ظلمات من الرماد. وإذا كان الشاعر ملزما في الكتابة عن الأوطان فهو ملزما في الآن نفسه في توظيف مفردات أكثر طلوعا وماهية الحالة الموضوعية وما تتطلبه من مفردات وصفية خاصة:فهل من الممكن كتابة قصيدة تتحدث عن الأمومة، ولكنها معبرة في حدود لغة إيروسية مثلا؟لا طبعا فهذا الأمر لا ينتج للقصيدة سوى اضطرابات إنشائية في وظيفة المرسل إليه.

2ــ التمثيل الإيروسي وسلطة الدلالة القصدية:

تتنوع صيغ التوليد الدلالي في مجموعة قصائد (أنت تشبهينني تماما) بما يوافق ويعارض بعض وظائف الموضوعة الشعرية (الميتاحداثوية) فالشاعر لحد الآن لم يتجاوز عاطفة ذلك الشاعر في مرحلة عمرية ما. وإذا عاينا محتويات النصوص في المجموعة، لربما وجدناها لا تتعدى حدود (فضاء حلم العشق؟) ودوام فيض هذه اللغة في حالات المنظومة الشعرية لدى الشاعر:

واقفةً بنداكِ وعطوركِ وصهيلك

تبتكرينَ ربيعاتٍ لأجلي

وتهطلينَ بغيمِ الكلمات

فتتعالى الأرضُ شجراً مستحيلاً.

ويمكننا في مثل هذا السبيل معرفة منظومة الأنساق والأفعال في نموذج قصيدة الشاعر، فهي قادمة من الذات القولية التي تحبذ لذاتها رصف أجود المفردات المجازية في وصف القادم من القلب والذات والانفعال الوجداني. هكذا تنطلق من: (وكلما أخصبك بملائكتي تزدادين فرحا) وتعاود تداعياتها المتبجلة إلى أقصى درجات الغليان المتوغل في أحوال المرسل إليه وصفاته الجمالية. ولو جربنا إحصاء لوازم وأدوات وموضوعات القصائد، لربما لا نجد من بينها من الفوارق الوظيفية، سوى اختلاف الصياغات العنوانية. فالمتون متقاربة واللغة تتبنى موضوعة شبه ثابتة إلا من حيث بعض الأغراض والأداة في الخطاب الموجه.

3ـــ فحولة التخييل وأنوثة الدال الشعري:

إن قابلية الاستعداد الذهني للشاعر هي عملية معايشة وتدبر وتفاعل أثناء التعرف على حالات الأشياء، فالشاعر ــ سعد جاسم ــ لديه الكثير من الأواصر والمسافة الحميمية مع الذات الأنثوية، لذا تراه ذا نظرة ذوقية ومدربة في وصف وطرح ما يريد قوله من حالات دلالية قد تتعدى مستحدثات الإدراك الجمالي العابر أو الاستقراء الاسقاطي مع حالات قصيدته. نتعرف من خلال مجموعته الثانية (أرميك كبذرة وأهطل عليك) كحالة مضافة في شواغل الدال القصدي، فالمخيلة في وقائع هذه المجموعة تسعى إلى استجلاء تفاصيل الآفاق الذاتية الأنثوية بكامل أسرارها وخصوصيتها:

لا وقت عندي إلا

لأبتكرك

حيث أهىء لك طين

الكينونة من ينابيع الليل

وأستجير بروح

الصبح وعصافيره

وملائكته

لتشاركني كرنفال

تكوينك وتدوينك. / مجموعة (أرميك كبذرة وأهطل عليك)

في الحقيقة أن محاكاة عملية الخلق لربما هي من الإيحاء عبرالكائن في صورة التلفظ والملفوظ، لذا فإن حالة الاستكمال في المشار إليه هي مخاطبة في حيز من المقاربة في مجال تعددية علاقة الإطلاق الصفاتي بالموصوف. وإذا أردنا التركيز على نوعية الأداة فلربما لا نعدها بغير تشكيل الصور وبث اللقطات في الحلول التصوري للمادة الشعرية. إذ لا شك أن جملة (لا وقت عندي؟) اللازمة الأولى والتوسطية والأكثر وصلا وفصلا في متن النص، هي لغرض اكتشاف مدى عمق دلالات هذا الكائن الحلمي المفترض، لذا فإن جملة العنونة (لا وقت إلا لإبتكارك) هي من الخصوصية والتركيز المكرس لأحوال دلالات أكثر حسية من كونها تتمخض عن رؤى خارج حدود سياق الدلالة المتفق عليها في مجمل قصائد المجموعتين.

4 ــ تعليق القراءة:

في الختام أشكر الصديق الشاعر سعد جاسم على جميل ما أتحفني به من تجاربه الشعرية، لذا لا يسعني سوى القول إلى القارىء الشعري في هذا المقام: النص الجيد هو الذي يدعونا إلى التأمل والتفكير والمداومة عليه بحثا عن المعنى الآخر عبرخياراته القصدية المؤولة، فهناك قدرات شعرية يحاول أصحابها الإضافة النوعية بها إلى نخبوية التلقي وجدل المغايرات في التأويل عنها، كما وهناك ثلة من النصوص ممن لا تكلف قارئها سوى عناء تقليب صفحاتها للمشاهدة فحسب. تمنحنا تجربة الشاعر سعد جاسم حركة الدوال العاملة نحو جذب التلقي والألفة معه، لأجل ضرورة فهم ما يشعر به الشاعر، فهو ــ أي الشاعر ــ ممن يتعامل مع روح القصيدة على إنها وصفا متبادلا للجمال كبداية ووسط ونهاية ترتبط ارتباطا حميما مع اللحظة الآنية من تقارب الملفوظ مع ضرورة أن يقرأ بمعنى كونه قصيدة مثيرة في لغتها وتجربتها. وعلى هذا الأساس رأينا انتعاش الشاعر بمنجزه الشعري، لذا فعلينا التبادل والتقاسم مع أنغام والحالات الانسيابية الخطية في القصيدة والاحتفاء بها مع فرحة وسعادة الشاعر المستغرقة.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد وكاتب عراقي

في المثقف اليوم