قراءات نقدية

سمير الخليل: قراءة في ديوان رحيم الساعدي: هل الذات تسترق السمع إلى نفسها؟

raheem alsaidiديوان (استرق السمع لكي اسمعني) للشاعر رحيم الساعدي الصادر عن دار ميزوبوتوبيا_ بغداد 2015   بالقطع الصغير، والمتضمن أربع وعشرين قصيدة من التفعيلة وقصيدة النثر وعلى الرغم من حجم الديوان المتواضع غير انه زاخر بالدلالات، لاسيما تلك التي تحتاج إلى حفر عميق داخل ذلك الجسد اللغوي المتصف بالغموض، ومن الأساليب التي بدت مهيمنة في الديوان توظيف تقنية (التجريد) أو المخارجة أي جعل الذات ذاتاً أخرى وفي أبسط تعريفاته: ان يولد من الشيء شيء مثله بأسلوب تجريدي وهذا اللون أصطبغ به الديوان بشكل كبير حتى بات ظاهرة مميزة فيه (1).

وربما تعمد الساعدي أن يبتدئ تجريده من العنوان، إذ جعل من نفسه مسترقا للسمع على ذاته ومتحدثا في آن واحد عن أفكاره بصوت عالٍ، وهذا التجريد منح النص مزيدا من العمق، وله المقدرة على تكثيف المعاني بدرجة كبيرة، فكأن الشاعر أراد أن يقول : إنني وحدي، لا أحد يشاركني بما أنا فيه من صخب الذات وصمت العالم، لهذا يتمحور الخطاب حول ذات الشاعر مستبطنا أعماقه، كما نستطيع القول إن ثمة قابلية كبيرة في النص تتيح له تقبّل الكثير من الاحتمالات الدلالية المنفتحة، تلك القابلية التي ربما لا يمنحها أي أسلوب آخر غير أسلوب التجريد، وهي بذلك تغري تعدد الدلالات التي يمكن إيرادها في النص، هذا فضلا عن انه _ أي التجريد _ يعطي الشعر قدرة عالية على الإيحاء، وهي التفاتة ذكية من الشاعر، استطاع من خلالها أن يبث الكثير من المعاني  في القليل من الألفاظ، ولعل هذا الذي حاول ان يؤكده في أسلوب (الحذف)، إذ عمد الساعدي إليه بشكل كبير جدا، فلا تكاد تخلو منه قصيدة في الديوان، والحذف ظاهرة أسلوبية لغوية متميزة تتوجه نحو توليد الإيحاء وتوسيع الظاهرة الدلالية، وهو _ غالبا _ ما يريد منه الشاعر أن  يترك مساحة في نصه الشعري تكون نصيبا للمتلقي، له أن يملأها بما يظنه مناسبا وطيعا للانسجام مع الدلالة الكلية للنص، وهو بهذا المنظور عطاء تعبيري تتعدد زواياه بأختلاف القارئين وما يحملونه من تجارب متباينة ومرجعيات مختلفة، ان الحذف بشكل عام يستمد أهميته من حيث لا يورد المنتظر من الألفاظ ومن ثم يفجر في ذهن المتلقي شحنة فكرية توقظ ذهنه وتجعله يتخيل ما هو مقصود، ويبدو أن رحيم الساعدي اختار التمليح على التقرير للسبب الانف الذكر فضلا عن رغبته في الكتمان على التصريح إلا بنسبة محددة، كما ان هناك الكثير من الموضوعات تمثل هماً مشتركا بين الشاعر والمتلقي وهي الأخرى لا تحتاج إلى تفصيل،وإنما باتت من الأمور التي تغذي عواطف الناس بالحزن والألم على حد سواء . ان مداخلة الصمت للكلام وإدراج علامات الحذف في القصائد وسط سطور ملأى بالكلمات أضفى على القصائد تشكيلا جديدا جعلها أشبه باللوحات التي تتصرف بالأشكال والألوان والمساحات .    ان الشاعر في مجمل نصوصه بدا مختلفا عن الآخرين في كثير من همومه، ومن الظواهر التي أنماز بها (عاطفة الحزن)، فمن حيث النوع فأن عواطفه تتدفق حزنا قد لا يشبه حزن عامة الناس بل حتى أقرانه من الشعراء، بحيث لا يستطيع أي قارئ لشعره الانفكاك مما هو فيه من المحاولة في التعرف على بواعث الحزن التي أوصلت الذات الشعرية إلى هذا الإحساس المرهف، والمقدرة على إقحام المتلقي في خضم ذلك الحزن من حيث يشعر أو لا يشعر بمجرد الإمساك بمستهل النص الشعري، واما من حيث الكم فإننا أمام سيل عارم من الألفاظ الحزينة المتوسمة بالألم والحرقة المصاغة في عبارات طافحة باللوعة وكأنه رومانسي أخطأه الزمن، لذا لاحظنا ذلك الحزن منتشرا في ثنايا نصوص الديوان من خلال ألفاظه التي أخذت حيزها في اغلب القصائد، حتى باتت ملتحفة فيها .ان ظاهرة الحزن في الشعر تتمتع بأهمية خاصة تنبع من قيمتها الإنسانية، فالشاعر من خلالها يصور جانبا مهما من جوانب النفس الإنسانية، فربما يكشف عن نقاط ضعفها، أو ربما يلامس بها بعض مشكلات الوجود الإنساني وقضاياه الكبرى، ففي قصيدته التي جعلها عنواناً لديوانه يطفح الحزن والوجع وآلام الذات، يقول:

أنا آسف

حد انطفائي في ظلام تصوري

حد ارتماسي

في بقايا ما قطفت من المدى

الحزن .. لا يكفي لأشرح لحظتي

الوقت ….لا يكفي لأرسم الوجع المخطط في خيالي

 

أنا آسف

حجم انتظارك …

قدر الطيور النائمات ببابك

قدر الفراشات التي تجتاح صمتا …..نورك

محدودب الأحيان …..أرسم ضحكتي

استرق السمع …لكي اسمعني

لكنني لا أستطيع

لأنني كالقمر الغريب لا احد ….يدرك حجم غربته

البرد يأكل لونه …. وينوح كالصفصاف …كالطفل اليضيع دميته

الليل سجن ابدي حوله

وينام كالعصفور يقلقه البكاء ….أو الضجيج ..أو انتظار الصبح

كي يحلم من صبح أخير …لن يجيء

لأنني مثل الأيائل

ترنو إلى الماء ولا تشربه

فتنوح كالأيتام في بلد غريب

لاشيء يورق في يدي غير اعتذاري (2)

يمثل العنوان العتبة الأولى التي لها وظائف متعددة، تسهم بشكل كبير في معرفة أسرار النص الأدبي بوصفه ظاهرة أدبية وجمالية لا تقل أهمية عن متن ذلك النص وبما أن العنوان علامة سيميائية تشير بشكل أو بآخر إلى مكنونات النص، وقد ذكرنا سابقا ان العنوان حمل دلالات كثيرات من خلال أسلوب التجريد الذي يعد الأبرز فيه، وإن واحدة من دلالات التجريد  (المفارقة )، وهي من أهم ما يلاحظ على عنوان القصيدة، إذ جمع فيها بين المعقول واللامعقول، ولعل ذلك ليس خافيا على النظرة العجلى، فالذات هي السامع والمسموع في الوقت نفسه، وهي إذن جملة صرحت بمعنى استراق السمع  كما صرحت بمن أُسترق منه السمع، إلا ان الجمع بينهما في ذات واحدة  اخرج الجملة من حدودها اللغوية البسيطة إلى مفارقة تحكمت بهذا العنوان والى أداة من أدوات الشاعر الخاصة لخلق نصه، فيتمثل لنا صراع عميق بين الشاعر وذاته جسّد المفارقة وصنع المخالفة فأوحى بالغرابة في ثنائية تكون فيها الأنا والآخر واحدة، وربما طابع الحزن والألم الذي يعاني منه الشاعر هو الذي جعله يلتف على ذاته ويسترق السمع إليها ويقيم معها في دائرة واحدة لا يكاد يمسك منها طرفاً إلاّ ووضع الطرف الآخر بين يديه. لقد استقامت نغمة الحزن في القصيدة حتى صارت ظاهرة تلفت النظر، بل يمكن ان يقال إن الحزن قد صار المحور الأساسي في البناء العام للقصيدة، وقد استفاضت هذه النغمة حتى أثارت كثيرا من الألفاظ تلونت وتنوعت حسب الإطار العام للنص وربما تكمن علة هذه الظاهرة في طبيعة الحياة التي عاشها الساعدي، وفي ظروف العصر المرتهن بالفواجع الإنسانية، حتى خرجت في إطار الاعتذار، فبالقدر الذي قدّم (فيه العقل) للبشرية من عطاءات وخدمات تفوق الوصف، ظل الوجه الآخر يغور عميقا ممزقا أوتار القلب وراسما قتامته على أفق الحياة، فلا تجد الروح برزخها الآمن، حينئذ تلوذ بوجعها المكتوب بجمر الكلمات. يريد الشاعر لمعاني كلماته ان تضطلع بمهمة تقديم الوجه الآخر للحياة، إذ تحمل كلماته المتكلم ومسترق الكلام في آن واحد _ وهو ما اصطلح عليه التجريد أو التخارج _ ليختزل المسافة الممتدة عميقا بين الذات والآخر، وذلك لتمزيق القشرة الخارجية لما هو سائد ومألوف من خلال ما تنث حروف قصيدته من طاقات دلالية تحملها الاعتذارات المثقلة بالمعنى،والتي تحملها الأبيات من مقطع لآخر. ومن اللافت للنظر أيضا ظاهرة الحذف التي شاعت بشكل كبير في القصيدة، وقد لاحظنا ان الشاعر يوزع مواطن الحذف في العبارات بشكل غير متساوٍ، فمرة نجد الحذف في وسط العبارة  ومرة  نجده في نهايتها، وأخرى في بدايتها، ومرة نجده وقد أخذ حيزا يتساوى فيه مع العبارات الأخرى في الوقت الذي لاحظنا حيزه الذي قد لا يتجاوز مساحة الكلمة الواحدة، وربما هذا يدل على ان الساعدي بلغ فيه الحزن انه عكف على نفسه مرة تلو الأخرى ليكتم بعض أسراره ويترك مساحة كبيرة للتأويل والتخمين .

من الملاحظ ان القصيدة مقسمة إلى عدة أقسام، والشاعر في كل قسم يقدم لنا مزيجا من الألفاظ وصورا ذات طابع مختلف عن الأقسام الأخرى، نجد ان الصور المبرزة كانت تتراوح ما بين  المجردة والمحسوسة، ومابين القليل والكثير، والصغير والكبير، ومن ثم يضع بين أيدينا مجموعة من الاختيارات:

وينام كالعصفور يقلقه البكاء …أو الضجيج ..أو انتظار الصبح .

ربما ليمنحنا فرصة ترجيح دلالة على دلالة أخرى .

ثمة ألوان كثيرة تحت سواد الحزن الذي توشحت به القصيدة، قد تحتاج إلى مقام أرحب، ودراسة موسعة ليس من وكدها التعريف بالشاعر وميزات شعره الفنية وتسليط الضوء على بعض ملامح تجربته الشعرية الناضجة في كتابة النص الشعري المنغم مرّة والخالي مرّة أخرى إلاّ من إيقاع آخر أشدّ عمقاً .

 

د. سمير الخليل

...................

الهوامش

ينظر: استرق السمع لكي أسمعني، شعر رحيم الساعدي، دار ميزوبوتاميا، بغداد، 17:2015 : 11، 12،18، 20، 21، 22، 27،  29،  32،  37 .

 

في المثقف اليوم