قراءات نقدية

احمد الشيخاوي: عوالم سامي العامري.. الجرعة زائدة والشّذرة بنْت الاغتراب

ahmad alshekhawiإن شاعرا إشكاليا مثل سامي العامري تضطرّه أوتوماتيكية الآني وروتينه إلى صناعة عوالم موازية للحلم .على الدوام ثمّة سقف الرؤيا المستأثر بحصة الأسد من المنجز لديه، يجري الاشتغال عليه لتوجيه المعنى في خطّ ال ـــ ما لانهائي من خطاب بياض يعرّي الذات إلى دغدغة كامنة تلدغ بسخريتها العالم.

إنها فلسفة الكامن كمعادل للوطن في تبئير الظاهرة على دهشة إقحام ثيمة الحرية لتأثيث فضاءات شذرية مقتصدة اللغة و باذخة التصوير الفني وأغوى انتصافا للحسّ المرهف المغلّف بجراحات الاغتراب.

طاقة إبداعية هائلة تتوزّع بين هموم الشعر والقصّ والنقد. صاحب بضع مجاميع متمخّضة عن اختمار تجربة الموت الوشيك يفسح لأناشيد حيوات تتيحها قراءة الماضي في مرآة الراهن لتحصيل صياغة جديدة وإنتاج مغاير للمعطى الوجودي والإنساني ضمن ما يحقنه في الذاكرة تاريخ الهزائم و تزعزع الثقة به لحظة هي أشبه بمقاضاة أعوام تداول الوهم.

كأن يقول:

" ولقد خبرتُ الوهم حتى صرتُ من طلاّبهِ 

واليأسَ حتى صرتُ من أحبابهِ 

لكن أجمِّلهُ 

أسمّيه انعتاقْ .' "

فسقف الحرية حسب تصورات شاعرنا، ليس يعلو عليه عدا معنى الإنسانية باعتبارها نواة بناء القصيدة من الداخل وملحها الذي لا نكهة من دونه لموائد الكلام.

كما وقفزة الحرف من الحلق تفضحها فلكلورية التعتيم وعدم الإقناع ما لم تنمّ وتفصح عن سندبادية تضمن لها تجليات الهجرة الروحية كغاية أسمى من الممارسة الإبداعية لدى صوت مهجري رصين ونوعي جداّ برغم كونه مكثارا في القول الشعري المتماهي مع الإيقاعات العروضية والتفعيلية على نحو خاص.

وطبعا، غير المطعون  بمأساته، ذبيح هويته، لا يأنس كثيرا بالبحر كمكون طبيعي مفتوح، هاهنا، على بكائية المشهد، والعجز الذاتي، و شقلبة قواعد اللعب مع الآخر كمتهّم،تجري على لسان أدبيات المقارنة والمفارقة بين نظامين شرق/ غرب،  مقارعته كآخر غير منفصل عن الذات ومحاججة ما يلوك ــ بنعرة غجري ـــ حتى لا أقول عقلية شرقي، من زيف أيديولوجيات طائفية تفتيتية تلتهم الأخضر واليابس و تصيب الوطن في مقتل.

هكذا، ومن شرفة الغياب، يبدو الوطن على هيأته الطفولية البريئة، لتطالعنا الشّذرة متعثرة بنكهة الحنين، حنين قصيدة أيضا، للوطن وخبزه . هذا ما ترفل به الذات المغتربة في استسلامها الأبدي لنوبات جنون إدمان كتابة صادقة وجريئة تحوم حول جماليات شبحية طافية تلوّن أعين التلقّي وتغزو الأفئدة قبل العقول.

من ثمّ قوله:

" وأصيحُ بنوارسك:

ثقّبي قاربي بمناقيرك يا مناجل البحر

فيغترف السّمك/ موجا يُخلّفه قوامك

ونحن وخبز الوطن

مناديل مشرعة على الحنين.' "

هو تهيّب شراك زمن دوّار النواعير بما لا تشتهي الذات العيية من تبعات مصير الانكسار، مما يعلّل حسّ الرّفض عن وعي  ويحيل على خربشات  ضرب من الصعلكة الإبداعية في تتنفس ملامح البديل،عبر رئات المتخيل المحاكي لواقع  الاكتظاظ العبثي والمنافسة المتوحشة في العادي والمألوف .

وهو صلب ما يرقى فوقه شاعرنا روحا وفكرة ورؤية. ليرسّخ في أذهاننا شعرية أنسنة الكائن الورقي، وشحنها بنعوت البشر، كرهان على البناء السريالي للقصيدة لكن بنكهة التقاط أدق تفاصيل الواقع وضخّ نبض اليومي وفتات الهامشي في صلصال ما تجود به قرائحنا وإن في الحدود الدنيا لتعرية جوانية مسوّقة للمعاناة.

" نواعيرُ مدّتْ بكلِّ الثغورِ

رئات

فعادتْ شِراكًا

لأنّ هوائي طريدُ.' "

..............

" أُجيّشُ الجيوشْ

أزرعُ ألغاماً وأنغاماً

ومن ثدْيَيَّ أُرضعُ الوحوشْ "

التحام أنوي مطبق بسياقات غرائبية تشي بوجوم مبرّر وانقلاب على سماسرة تحويل الأوطان واختزالها في مجرّد بقرة حلوب حلفها وتكاليف إسطبل رعايتها من جيوب الشعوب ونبيذ جلودهم، أما ثمرة ضرعها للحشد المبجّل وهمه، بلغة أنا الدولة، ولصنّاع إيديولوجية ما لله لقيصر.

" ما لي ولِلحشدِ المُبَجَّلِ وهمه/عمري سؤال مثل سجن رحبِ

تعساءُ رُوحهم فجسومهم/ والأفُق أضيقُ من حفائرِ الضّبِّ

أمّا معاصرهم فهل أعطى لنا/ صُنبورُها إلاّ عصير الذّئبِ "

............

" وإنّما جوعٌ أنا،

جوعُ الحياةِ إلى الحياةِ،

نشيدُها، "

...........

هذيانات تعانق روح التجربة " السيابية " فتلتقي معها في جوع وضياع وعطش فعل الاغتراب وجدانا وجغرافية وذاكرة،وربما تزيد عليها شذرات العامري في تشكيل المعنى وتلوين الفكرة عبر نقلها إلى مستوى أعمق من حيث التعاطي مع أزمة الهوية والكينونة المفتوحة على أسئلة وجودية جمّة.

 

أحمد الشيخاوي - كاتب مغربي

 

في المثقف اليوم