قراءات نقدية

علجية عيش: المقصفُ الملكيّ للدكتور قصي الشيخ عسكر

eljya ayshرواية ترسم لوحة لـ: "التزاوج الإسلامي المسيحي" وتدعو إلى "التعايش السلمي"

في الساحة ألأدبية توجد طاقات إبداعية يتحلى بها كتاب  وروائيين عرب وشعراء ونقاد وفنانون إذا وضعت هذه الكتابات موضع قراءة ودراسة ستجعل لا محالة من الثقافة ومن الآثار الأدبية والفنية التي ينتجونها أسلحة تستخدم لاستعادة الحرية وبناء أنظمة جديدة، هي رسالة لإعلان الطلاق النهائي لقيد الأدب الاستعماري، والانفلات من القهر الممارس على الشعوب ولغتهم ودينهم

يعتبر النقاد أن الرواية العربية الجنسَ الأدبيّ الأكثر مقروئيّة في العالم،  وإنّ كتّاب هذا الفنّ أكثر حظوة عندَ الناشرين العرب، كما تلقى إقبالا كبيرا في المعارض الدولية وغالبا ما يروج الروائي إصداره الجديد عن طريق حفل بيع بالتوقيع أو عقد ندوة فكرية، يستدعي فيها المهتمين بعالم السرديات وبخاصة تلك التي لها علاقة بالمهجر وأحوال المهاجرين من العرب وما يعانونه من عنف وعنصرية، ففي رواية الدكتور قصيّ الشيخ عسكر" التي تحمل عنوان: المقصف الملكي" موضوع الإنسان (العراقي) المستلب في المهجر، يصف فيها عنتَ العيشِ وضنكه، وما رافقهما من قلقٍ وخوفٍ دائم من مصير مجهول، والدكتور قصي هو شاعر ونقاد وروائي عراقي،  الرواية  ترسم لوحة لمثقف عراقي من أبناء مدينة البصرة اختار المنفى، فكانت وجهته نحو بيروت، هروبا من حرب شنتها الدكتاتوريّة الحاكمة في بغداد على أبناء الشعب الكردي في كردستان العراق، في الثلث الأول من عقد السبعينيّات من القرن الماضي، وبحكم عمله كصحفي جعل من مقصف بيروت هو" المقصف الملكي" فضاءً مكانيّاً لمعظم أحداثِ هذه الرواية، لعل وعسى  يتنفّسَ فيها هواء الحريّة، غير أن الروائي تحفظ عن بعض الأمور المسكوت عنها،  التي تشكل "طابو"، فطغت على روايته أساليب الحذف المتعمّد حتى تجبر القارئ على تشغيل مخيلته، أو طرح تساؤلات، ما جعلها موضع اهتمام النقاد ومنهم الدكتور عليّ عبد الرضا، الذي اعتمد في نقده للرواية على آراء غاستون باشلار في الكتابات السردية الذي جعل من "المكان" مقياسا في نجاح روايات المهجر، وقد يفقد العمل الروائي خصوصيته وأصالته إن صح التعبير دون توفر هذا العامل .

فالحبكةُ التي تتلخّصُ في كونها أحداثاً ترتبطُ فيما بينها بأزمنةٍ معيّنة لتؤدّي غرض السرد، أو السارد، لن تكون بغير أمكنةٍ ترتبطُ بالأزمنة ولا تنفصلُ عنها، ففي مقطع من الرواية التي أشار إليها  النقاد ومنهم الدكتور عبد الرضـا عليّ،  يتبين أن صاحب الرواية استعمل بين الحين والآخر اللهجة العراقية، ومزجها بلغة "الضاد" مثل قوله: (عمي  يا بياع الورد.. كل لي الورد بيش، وعبارة شلونك، تكرم عينك) حينما كان يستمع إلى أغنية بائع الورد وهي أغنية عراقية، كما استعان  بالمناجاة  (المونولوج الدرامي) والتداعي الحر، وغيرها، وهذا النوع لا يخلو من انسيابيّة جميلة، حيث تجعل القارئ أسيرا للرواية، إذ نجده يعيش أحداث غيره وكأنها حدثت له، والحقيقة أن الرواية حسب الناقد تكشف عن سمات شخصية الروائي، أو بالأحرى معاناة  مثقّف عراقيٍّ مستلب من الباحثين عن الأمان في الغربة والمنافي، ومع أنّه هربَ من بلده كي لا يُشارك في قتال أبناء وطنه، إلّا أن شبح الحرب يلاحقه حتّى في مستقرّه الجديد "بيروت"، فقد كانت نذر اندلاع الحرب الأهليّة على وشك الوقوع في منتصف سنة 1967م، لكنّ السارد  تحفظ عن ذكرها وقفز إلى زمن آخر أو مرحلة أخرى  ربما أراد أن يلملم جرحا، أو يطوي صفحة من بقايا ماضٍ أليم، وهي لمحة ذكيّة تدلّ على أنّ قصي الشيخ عسكر كاتبٌ روائيٌّ متمرّس، فضلاً عن كونهِ  ناقدا وشاعراً موهوباً، خاصة وقد شخص الحياة في لبنان،  النساء فيها لا تختلف عن الرجال، يدخنَّ بكل حرية، ويسهرن في الحانات وأشياء أخرى..

و الذي يطلع على رواية الدكتور قصي  يجد أنه استعان ببعض الألفاظ الغير مقبولة في المجتمع العربي مثل كلمة : " مسترجلة" وهي تطلق على النساء المتحررات، وحاول أن يعطي لروايته طابعا سياسيا، من خلال حديثه عن الشيوعيين المتطرفين، وهو ما يوحي أن "المقصف" هو المكان الوحيد  الذي تجتمع فيه الطبقات المثقفة ( سياسيون وإعلاميون، كتاب ورجال أعمال ..)، ومن تقوم بهذه ألأعمال من النساء لابد عليها أن تلغي "أنوثتها"، طبعا فداخل المقصف يوجد صراع بين السمراء والشقراء، والمحظوظ هو من يدفع أكثر، هي حياة اللهو والعهر، يدخل الرجل بشكل ويخرج بشكل مختلف،  هكذا هي حياة "الضياع" فبغداد تختلف عن بيروت، التي فتحت له جميع ألأبواب والأسرار، وأي أسرار؟، الجنس؟ يا لها من سخرية،  فالحياة داخل المقصف أنستهُ (....؟)، وهو القائل: " في بيروت..انفتحت لي جميع أبوابها وأسرارها ..الخ"، ثم يضيف: " كنت أعجب من أي عراقي يتحدث عن نفسه  بصراحة فنحن الجيل الذي هرب بعد عام 1968 عشنا زمن الغموض والشك، نشك بكل شخص ولا ننفتح، انقطعنا عن أسمائنا التي حملناها يوم وُلِدنا وأمامي امرأة عراقية  لاتخفي عني كل شيء ..حالة شاذة".

ما يلفت الانتباه أن صاحب الرواية أشار إلى ظاهرة التعايش السلمي، فلبنان يتميز عن باقي البلدان بتعدد الأديان والمذاهب، والحرية فيها شبه مطلقة، ولعل هذه الحرية أتاحت ظهور ما يسمى بالتزاوج الإسلامي المسيحي، وهو ما أشار إليه الدكتور قصي الشيخ عسكر وهو يتحدث عن حواره مع النادلة في المقصف،  فالنادلة هي ابنة رجل عمل في البلاط الملكي، وقتل، وبعد سنتين من وفاته  تزوّجت أمها من مسيحي ورزقت بأختها منه (مسلمة أختها مسيحية، أبوها مسلم وزوج أمها مسيحي)، وأراد الدكتور  قصي القول انه بإمكان أن يتعايش الشرق مع الغرب..،  " لا رجعية ولا استعمار..، وطن حر.. ديمقراطية وسلام.."، عش كما يحلو لك، فأنت حرٌّ، لا أحد يتدخل في تصرفاتك، في لبنان بلد الحرية، قد تنسى نفسك  إن كنتَ شيوعيّ؟ إسلامي؟ قومي؟ آثوري؟ كرديّ؟..سنّي، شيعي، أو تنتمي إلى الإخوان المسلمين وقد تكون كل هؤلاء، أو لا تكون (لا ديني) هذا هو التعايش، تكون مسلما مع المسلمين ومسيحي مع المسيحيين، بمعنى أنك في الظروف الصعبة تلبس الثوب الذي يريح الآخر، وتنام على الجنب الذي يقابله، حتى لو كنت عربيٍّ ابن عربيّ، فكل شيء معقول في الزمن الطائفي، حتى النساء تُوَظّفْنَ في مسائل تتعلق  بالدين والطائفة والسياسية، أما ما يسمى بعالم الجاسوسية.

و الحقيقة أن الدكتور قصي أراد أن يشير من باب التلميح إلى الصراع السني الشيعي، صراع الحضارات والأديان،، ولأن لبنان  في وقت المحن الكل يلتجئ إلى طائفته، لكن ما يميز بيروت هي أنها لا تموت جوعا، هكذا قال صاحب الرواية، فرغم المقاومة، فبيروت لا تنام ليلا،  يطبعها التسكع في الشوارع والأزقة والعبور من الحواجز والمشي على الألغام، المنظمات كثيرة.. بندقية .. حراسة،  الوقوف عند حاجز.. اقتحام بيت .. إلقاء القبض على مشبوه، الجميع يتحدثون عن شارع الحمراء، هل تبقى ساحة خضراء لا تطالها النار؟ ربما تتحول الشرقية إلى حطام، تصير الضاحية سيارة ملغومة محترقة وتبقى الحمراء، بيروت هي الرئة التي يتنفس بها الرجل .. أيّ رجل شرقي أمن غربيِّ، سني انم شيعي، كردي أم هندوسي، الكل يعيش على وقع الحرب القادمة، والصحف  تنشر أنباء بعناوين كبيرة وبلون أحمر " النداء تدعو جميع الدول اليسارية إلى الوقوف مع القوى الوطنية... الاتحاد السوفيتي يحذر إسرائيل من التدخل في النزاع اللبناني.. كوبا الرئيس كاسترو.. الفلسطينيون في بلادنا.. لا للتجنيس"، ها هي لبنان تغلي بل تحترق، يضيع صوتها الرسمي. لاأحد يرى ويسمع مع أن  الجميع يتكلم،  إلى أين المفر؟ طبعا المقصف الملكي وحده  يبعث النشوة في رأس الهاربين، يتحول غلى معبد يرتلون الخمر آية،’ هي حالة مؤقتة أو استثناء لا يشكل قاعدة عامة .

 

علجية عيش بتصرف

 

في المثقف اليوم