قراءات نقدية

احمد عواد الخزاعي: الحكواتي والمقاربة السردية في رواية (خلف السدة)

ahmad alkhozaiالهجرة من الريف إلى المدينة من المنعطفات المهمة التي رافقت تاريخ العراق الحديث ومدينة بغداد بوجه خاص، تلك الهجرة التي غيرت معالم هذه المدينة الكبيرة، ولعبت دورا كبيرا في خلق واقع جديد لها حمل أبعادا ديموغرافية واجتماعية، تباينت الآراء والطروحات حوله تبعا للمنظومة الفكرية والعقائدية التي انطلق منها الكتاب الذين تناولوا هذه الجزئية، غير أن السرد العراقي قد تغاضى الطرف عن هذا الحدث المفصلي في حياة بغداد، ولم يتناوله بصورة مباشرة، سوى القليل من الإشارات التي نجدها في بعض الروايات والمجاميع القصصية، وأصبح هذا الموضوع من المسكوت عنه لأسباب عديدة، منها تتعلق بالنشأة الاجتماعية لمعظم كتاب السرد الذين عاشوا تلك الحقبة، كون اغلبهم من سكان المدن الكبيرة الذين لم يتعرفوا جيدا على حياة أبناء الجنوب وطبائعهم وعاداتهم ولهجتهم وطريقة حياتهم، وسبب آخر هو حساسية هذا الموضوع من الناحية الاجتماعية بعدما أصبح المهاجرين جزء من النسيج الاجتماعي لهذه المدينة، وساهموا بشكل فعال في أحداثها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وشكلوا رافدا مهما للكثير من الحركات والتوجهات السياسية بشطريها القومي واليساري، إضافة إلى عامل السلطة وتأثيرها على المنتج الثقافي العراقي في الأربعين سنة الماضية، هذا التجاهل المتعمد لهذه المسيرة الإنسانية الناشئة جعلت من رواية (خلف السدة) للروائي عبد الله صخي تكتسب أهمية استثنائية، كونها أماطت اللثام عن ذلك العالم الصغير الذي تشكل على أطراف بغداد القديمة في (الميزرة والعاصمة والشاكرية) من المهاجرين الجنوبيين الهاربين من فقرهم وحرمانهم وجور الإقطاع في ذلك الوقت، والحالمين بحياة أكثر يسرا على أعتاب مدينة يجهلونها ويجهلون مصائرهم فيها.

في مشهد بارنورامي فنتازي يصور الروائي هذه الرحلة التاريخية للمهاجرين الأوائل والذي تجاهل ذكر تاريخها غير انه أشار إلى إنها حدثت منذ زمن بعيد، لكن الحقائق التاريخية تشير إلى إن تاريخها لا يتعدى العقد الثاني من القرن الماضي، في هذا المشهد الساحر يستغرق الروائي في وصف رحلة المهاجرين الأوائل، بوجوههم المغبرة، وجدائلهم المنسدلة من تحت كوفياتهم العربية المرصعة بالعفص والخضرم، يقودهم فيها (سيد جار الله) نحو حياة جديدة وارض موعودة وبداية مجهولة المعالم، رحلة أطرها الكاتب ببعد مثيولوجي يحمل دلالات دينية ليست ببعيدة عن موروثهم الحضاري (في الفجر نهض سيد جار الله، اعتلى حصانه وغادر من دون أن يثير أي ضجيج، وحين عاد وجدهم مازالوا نائمين، وقد غمرتهم الشمس بحرارة لاهبة، أيقظهم، أرخى كوفيته السوداء، تنفس عميقا وقال بنبرة واثقة، انه وجد لهم بقعة مباركة سيعيشون عليها هم وأحفادهم جيلا بعد جيل)، ويعزز الروائي هذا المفهوم في موضع آخر من روايته (هناك توقف حصان سيد جار الله، فهبط منه، طاف ببصره متأملا الأرض التي لم تطأها قدم من قبل، ابتسم للسماء ودعاهم للصلاة، فيما انتشر الأطفال بعيدا في البرية الموحشة، حين انتهوا من صلاتهم، نهض معتمدا على يديه، وقال بصوت مجهد شعر به الجميع : هنا بيتي، وهنا قبري)، بعد هذه الإشارة التي استمدها الكاتب من التراث الإسلامي، يموت سيد جار الله ويترك جحافل المهاجرين الفقراء بلا أب روحي أو دليل لهم في رحلتهم المصيرية هذه (في الفجر أفاقوا على رائحة عطرة، تنتشر حولهم، وشيئا فشيئا تيقنوا إنها كانت تنبعث من جسده الممدد بسكون، أطلقت النسوة صراخا مباغتا تبدد في فضاء الأرض الفسيحة، انتحب الرجال، ودخنوا كثيرا يساورهم شعور بأنهم تركوا وحيدين يواجهون مصائر مجهولة في ارض غريبة).

تبدأ الرواية بحلم رافق مكية وزوجها سلمان بحصولهم على مولود ذكر بعد أن فقدوا ثلاثة أبناء بسبب أمراض وبائية كانت سائدة في ذلك الوقت إلى إنهم عزوا هذا الأمر إلى فأل سيئ رافق حياتهم الزوجية، وبعد انتظار طويل تلد مولودا ذكر تسميه (علي) لتبدأ رحلة مكية في البحث عن طريقة ناجعة للحفاظ عليه ودرء خطر الموت عنه الذي حل بإخوته الذين سبقوه، وهنا يصور الروائي هذه الرحلة المضنية مع هاجس الموت بطريقة فنتازية أضفت على النص مسحة سحرية جميلة تعمل على شد القارئ وإدخاله في عوالم غرائبية لكنها كانت تمثل جزء من واقع هؤلاء الناس البسطاء، استعانتها بالسحر وعظام الهدهد والتمائم ونذرها بان تطوف به في مواكب عزاء الحسين بن علي التي كانت تجوب شوارع البلدة الصغيرة في العاشر من محرم من كل عام إذا ما كبر وظهر شعر شاربيه، واكلها لجزء من إذنه بعد أن أشارت عليها إحدى عجائز البلدة بذلك أملا بالحفاظ على حياته، وما إن كبر وتفي مكية بنذرها حتى يغادر زوجها الحياة بعد أن أنهكه العمل في معامل الطابوق القريبة من بلدتهم، بعد أن تنبأ بموته ثمنا لهذا العمل المضني بقوله (نحن تراب المعامل).. ومن خلال هذه العائلة البسيطة يصور الروائي حياة ذلك المجتمع الفقير وطبيعة اهله،أحلامهم وعلائقهم الاجتماعية وطريقة معيشتهم واعرافهم التي هاجرت معهم  إلى بغداد القديمة ( النهيبة، الفصل العشائري، دور العبيد في تلك المجتمعات، منزلة المرأة )، تلك الأعراف التي لم تستطع المدنية من تحجيمها أو تشذيبها ووقفت حائلا لفترة طويلة منعت اندماج هؤلاء المهاجرين مع سكان بغداد، حتى نشأت ثقافة مضادة عند البعض من سكانها الأصليين اتجاههم وظهرت مفردات منها (الشروكية والمعدان) شكلت شرخا اجتماعيا ما زالت أثاره باقية إلى وقتنا الحاضر.

لقد استخدم الروائي تكنيا سرديا خلق فيه عوالم متوازية ترتد على نفسها، بطريقة تهيأ القارئ للحدث القادم، ففي خاتمة الفصل الثاني يصور الروائي فرحة أهل البلدة بثورة تموز 1958 والتي خبت فرحتهم هذه بفعل حريق كبير التهم معظم بيوتهم، وفي بداية الفصل الثالث يعيد هذا الحدث إلى الواجهة ويسهب في سرد أحداثه وأسبابه وتداعياته على سكانها الفقراء، وفي مكان آخر يشير إلى العجوز خانزاد الكردية التي حاولت مقابلة عبد الكريم قاسم لتسأله عن مصير ابنها الوحيد الذي مات غريقا في نهر دجلة، ليروي في مكان آخر قصة غرق ابنها وبحثها عنه.. وبطريقة الحكواتي وأسلوب سردي غاب عنه الحوار المباشر بين أبطال الرواية وافتقد إلى التداعيات إلا ما ندر، يوغل عبد الله صخي في قراءته المتأنية الناضجة لذلك المجتمع الناشئ على أطراف بغداد القديمة فيما كان يطلق عليه من قبل المهاجرين ( بالعاصمة)، قراءة تنم عن وعي تام امتلكه هذا الروائي بكل الحيثيات التي رافقت نشوء وتطور ذلك المجتمع وعاداته وطبائع أهله ولهجتهم، لكن غياب الحوار والتداعيات افقد القارئ القدرة على رؤية أبطال الرواية بعينه هو لا كما صورها له الكاتب، هناك مقولة لسقراط تقول (تكلم كي أراك) وهذه هي الفائدة المرجوة من الحوار داخل النص السردي وبالأخص الروائي، فالحوار عنصر أساسي من عناصر السرد يمكن للقارئ من خلاله التعرف على أبعاد الشخصية التي يتتبع حراكها داخل النص، وكذلك فهو يمكن الكاتب نفسه من الإفصاح عن مكنونات هذه الشخصية (مشاعرها، ميولها، رغباتها، مخاوفها)، وأما التداعيات التي ندر وجودها داخل الرواية فهي عالم افتراضي آخر يضعه الكاتب بموازاة عالم الرواية يكشف فيه عن الوجه الآخر لأبطاله والدوافع والأسباب التي تقف وراء تكوين شخصياتهم وطبيعتها (بسيطة، ازدواجية، معقدة) .. إن غياب هاذين العنصرين المهمين في السرد عن الرواية مكن الكاتب من السيطرة على حركة أبطاله داخل النص وادلجتهم وفق ميوله الفكرية، وهيمنت آرائه وأفكاره وحتى مشاعره عليهم، حتى تحول إلى حكواتي، تقع عليه مهمة رواية الحدث والتعليق عليه ونقل حوارات أبطاله والإفصاح عن مشاعرهم وأحلامهم، والتعليق على الأحداث المهمة في الرواية، ولم يفسح لهم المجال  بان يقوموا بهذا الدور، وكأنه كان يخشى عدم السيطرة عليهم أثناء السرد أو الإفلات من سطوته أثناء سير أحداث الرواية، فطرح آرائه بثورة تموز وقائدها بمعزل عن البناء الهرمي للرواية، ونقل الواقع كما هو، لكن برؤيته الخاصة، هناك مقولة لارسطو في الأدب  (يجب أن يكون الأدب مرآة عاكسة للواقع)، لكن هذه المقولة خضعت لجدلية في مدارس النقد الحديثة ورد عليها الكاتب المصري محمد مندور بقوله (يجب أن لا نكتفي بان يكون الأدب مرآة عاكسة للواقع كما هو بل يجب أن يزحف هذا المفهوم إلى ما هو ابعد من ذلك الواقع)، وهذا ما لمسناه في سير أحداث الرواية، من خلال وجود شخصيات ثانوية زج بها الكاتب داخل النص لترافق حركة الأبطال المحوريين وتعمل على إيضاح صورة المجتمع القائم آنذاك، فاطمة التي فضلت العودة إلى الريف على الحياة في مدينة لم تستطع التأقلم معها، بعد أن امتهنت بيع (اللبن والقيمر) لأشهر عدة في سوق البلدة، البنتان التوأمان اللتان عانتا من الإهمال المتعمد من قبل أمهما مكية بسبب انشغالها بابنها الذكر الوحيد (علي)، وتأثير هذا الإهمال على سلوكهما، إحداهما  قد أدمنت على أكل الحجارة، والأخرى يداهمها النوم فجأة ودون استئذان وفي أي مكان تكون فيه، سوادي العبد الذي هرب مع فتاة بيضاء فكاد أن يموت تحت وقع طعنات أخوتها، لولا أن قام الأطباء في مستشفى (المجيدية) بإبدال مخه التالف بمخ كلب، كما أشيع عليه في البلدة، قدوري السكير الذي تحول إلى مناضل يحمل فكرا عروبيا، ليصبح احد أفراد الحرس القومي، كل تلك الشخصيات الهامشية ساهمت في البناء الدرامي للرواية وأضفت عليها بعد واقعيا سحريا، غير إن الرواية لم  تشر إلى طبيعة لعلاقة التي نشأت بين المهاجرين الجدد وبين سكان بغداد القديمة واثر تلك العلاقة على طبائعهم وتداعياتها على حراكهم داخل ذلك المجتمع المدني الكبير.

لكن بالرغم من هذه  الملاحظات،  تبقى رواية (خلف السدة) للروائي عبد الله صخي تجربة رائدة في تسليط الضوء على هذا التحول الاجتماعي المهم لبعض سكان الجنوب، وتجسيد لرؤية ناضجة تحمل في ثناياها أبعادا فكرية رصينة عبر عنها بتصويره لهجرتهم الثانية من (العاصمة إلى مدينة الثورة)  أواسط الستينات من القرن الماضي، حين باشرت الجرافات بهدم عالمهم القديم بعد أن رحلوا عنه ليخلفوا وأرائهم، غضبهم وحنانهم، مخاوفهم وشجاعتهم، أحلامهم ورؤاهم (شيئا فشيئا تتقدم الآلات في عمق البيوت التي بدأت تتلاشى من الوجود، ها هي تتحول إلى مجرد تاريخ مدون في ذاكرة الأجيال سوف يندثر هو الآخر في زمن ما)، لم يبقى من بلدتهم القديمة غير قبر رائد هجرتهم الأولى (سيد جار الله) التي تعطلت الجرافات عند حائر قبره فترك هناك وحيدا بلا مريدين، وتنبأ الروائي بأن هؤلاء الناس سيعانون هجرات أخرى على مر التاريخ قد لا تكون مكانية هذه المرة بقدر ما هي فكرية ايديولوجية، كجزء من تراث ديني وموروث اجتماعية ولد نمطية سلوكية ظلت ترافق الأجيال المتعاقبة للمهاجرين الأوائل بسبب التهميش والحرمان وغياب الهوية الذي رافق هذه الأجيال لعقود، تمكن القليل منهم من الإفلات منها وتجاوزها، (ربما يظهر من يعد لهم هجرة ثالثة ورابعة ويقودهم إلى مهاد وسهول وهضاب، ويختار بقعة نائية، يهبط من سيارته هذه المرة ويقول: هنا بيتي وهنا قبري، فهذه ارض مباركة سوف تعيشون عليها انتم وأحفادكم جيلا من بعد جيل).

 

احمد عواد الخزاعي

 

في المثقف اليوم