قراءات نقدية

صالح الرزوق: صور بغداد في ذكريات نجم والي

saleh alrazukكتاب (بغداد، سيرة مدينة) ليس هو أول أعمال نجم والي في السيرة الذاتية. ولو استعرضت أعمال والي من الألف إلى الياء ستلاحظ أنها تنتمي إلى النوع المعروف باسم الرواية التسجيلية. وبمقارنة أعماله ستلاحظ أنه يبني عالمه حول مدينتين هما في الذاكرة: البصرة وبغداد. أما الأحداث فهي تتناول تجربة جيل الانتقال من الشمولية الملكية والشمولية الجمهورية.

والحبكة لا تخلو من الهم الذاتي، بمعنى أنه بمقدار ما اخترع من حكايات حول مدينتيه أضاف لسيرته بعض التطورات، وهي في الغالب الأعم من المضمون النفسي لنشاط المخيلة. فـ (صورة يوسف) مثلا رواية تدور حول صورة لا تذهب من خياله لبنت بقميص أزرق. و(تل اللحم) و(الحرب في حي الطرب) تعيدان تركيب أسباب وأهوال الحرب مع إيران وما تخللها من انتشار للفساد الاجتماعي ومن موت للطبيعة الخلابة. فالعملان يتوقفان عند ظاهرة انتحار أشجار النخيل وتأسيس حي العهر والتهريب المعروف باسم حي الطرب.

لا يوجد عمل لنجم والي يخلو من سيرته، حتى أن عمله السياسي الوحيد وهو  (زيارة إلى قلب العدو) يتقاطع مع بغداد، ولا سيما في تحليل ظاهرة الأغاني العسكرية الحماسية. ومنها أغاني فيروز عن القدس في كتابه زيارة والأغاني الوطنية (الفاشية كما يقول) في كتابه بغداد، ص ٦١.

و يرى أنها جزء من حملة البروباغاندا التي أدارها الملك غازي ضد اليهود. مثل نشيد (لاحت رؤوس الحراب تلمع بين الروابي). ص ٦١. إنها جزء من غسيل المخ القومي الذي يبيع العنف في أسواق أو سوبرماركيت التخلف والحضارات الجريحة.

هذه السيرة المكتوبة بشكل ذكريات هي اختراع لمدينة تعرضت للنهب والتدمير عدة مرات وأعيد ترميمها عدة مرات حتى أصبح تاريخها الحالي نوعا من الإنكار لبداياتها.

ويعبر والي عن هذه الفكرة بقوله: إن مدينة بغداد التي بناها أبو جعفر المنصور عام ٧٦٢ قد ماتت عام ١٢٥٨ وقد نحرها هولاكو حين اجتاحها وألحق بها الدمار. وما نراه اليوم هو اسم على غير مسمى، وهي مدينة غريبة وتختلف عن الأصلية بطراز هندستها وأيضا بمكانها. ص ٣١.

إن بغداد مدينة متجددة، وخلال ثلاثة أعوام فقط بين ١٩١١ و١٩١٧ شهدت تغيرات راديكالية لا تقل بأهميتها عما جرى بعد السقوط عام ٢٠٠٣ (ص ١١٢). ويمكن التأكيد أن كل اجتياح يحمل إليها فلسفة للتأقلم مع ظروف الحياة ومستجداتها. فهي تلغي نفسها باستمرار مقابل ثبات واستمرارية أقدم ثلاث مدن تقاوم الفناء في بلاد الرافدين والمقصود: البصرة (بصرياثا الآرامية)  والموصل (نينوى الآشورية) وأربيل (مقر الكرسي السومري أربيلواو  أو أرض الآلهة الأربعة ). ص ٢٦.

إن سيرة بغداد كما ينظر إليها والي قائمة على التبشير بالقطيعة المعرفية. فهو يعيد صياغتها بعيون العشرينات وما بعد، أي ابتداء من عام ١٩٢٠ وحتى وضعها الحالي. وهي صورة غير استشراقية بريئة من خرافات ألف ليلة، بلا بساط الريح والمارد العملاق القادر على تحقيق الرغبة بطرفة عين. ص؟ ١٥٦. إنه يصورها بتكنيك التقابل، الماضي الأبيض والأسود، أو ماضيها الملائكي المليء بخطايا الطهارة والدنس، أو سلوك وأخلاق البعد الواحد، أمام حاضرها الدموي والنابذ، فهي مدينة طاردة تنفي أبناءها وتسومهم  العذاب.

وربما كانت هذه  خلاصة لتجربة الجيل الضائع الذي نشأ بعد الاستقلال وتعرض للتشريد السياسي. فأبناء ما بعد سايكس بيكو جميعا أيتام في السياسة ولا توجد إيديولوجيا تأويهم، وأعتقد أن هذه الاستراتيجية التي أكد عليها والي هي بعكس ما أعاد صياغته معرفيا في كتابه عن إسرائيل، فهو يعتمد على ترميم الفجوة وإعادة إحياء التاريخ، بحيث يكون حدسا بالحضارة الإنسانية وبلا علاقة مع أساطير العرق والدين.

إن المشهد السياسي الإسرائيلي في كتابات والي هو مثاقفة، ولكن مشهد بغداد هو إزالة، بلا تناص، وهذه نقطة افتراق لا بد من توضيحها.

حتى قلعة حلب التي تعزى للأيوبيبن ثم العثمانيين تضم معبد حدد إله العاصفة. بمعنى أن بغداد مدينة تعرضت للتقشير، وما تركه المنصور هو على أنقاض اثار مهدمة  موجودة في الموقع.

و لكن أنا مع نجم والي.

إن الحضارات الميتة بلا قيمة عملية، وهي ليست جزءا من الواقع، والحقبة العثمانية من تاريخ بغداد سقطت مع دخول الإنكليز وتحول مستقبل المدينة من الذاكرة الإسلامية بنسختها المحافظة إلى الإسلام العربي. وكما أرى إن العرب في وادي الرافدين مدينون للإنكليز بحفظ هويتهم . وهذه إحدى مفارقات التاريخ. أن يكون لتوسع الاستعمار الغربي أجندا حافظة تمنع العروبة من السقوط والموت.

يعتبر والي أن عيد ميلاد بغداد كان على مرحلتين. عام ١٩١٦ يوم أمر الوالي العثماني بشق "خليل باشا جادة سي"، أو ما عرف اليوم باسم "شارع الرشيد" ص٩٩. فاسم هذا الشارع هو رمز لبغداد  ص ١٠٠، ثم  عام ١٩٢٠يوم ترأس  المهندس البريطاني ولسون  قسم الإنشاءات وصمم مدينة وفق طراز معماري أوروبي ص ٧٩ . إن أصول بغداد المعاصرة أجنبية مثل لغة البعث الفاشي الذي كان يرعاه صدام . فهي تخلو  من عقلية أهل المشرق الفانتازية المسؤولة عن توسيع الفجوة بين الإنسان والواقع.  فإيديولوجيا خليل باشا كانت مع الحداثة لمواكبة الغرب في صعوده،  أما إيديولوجيا ولسون تركز على مشروع  الدولة المدنية ص ٧٩، كما ورد بالحرف الواحد. وربما  يعني بهذه العبارة تجهيز الدولة بالمجتمع، أو تربية العقل العربي المعاصر .

يربط والي هذه البداية بثلاث علامات لها دور في تحديد الاتجاه الذي ستتطور به بغداد، وهي: بناء جامعة آل البيت في الأعظمية، وبناء الكنيسة الأنجليكانية في كرادة مريم. وإنجاز محطة بغداد للسكك الحديد ص ٧٩.

وأعتقد أن هذا يعني: بناء العقل الروحي والحياة النفسية والعقل الثقافي لإنسان سيدخل أيضا في عدة حلقات ملحمية من دراما بغداد. لقد استلهم ولسون العمارة الإسلامية وحقنها بمضمون غربي، وكان هدفه تحقيق التناغم مع البيئة والحضارة. ص ٨٠. وبرأي والي هذا الحل المعماري نقل المدينة من طور إلى آخر. ولكي تصل بذاكرتك إلى بغداد الحقيقية عليك أن تمر بمدن متخيلة. وهذه  العبارة يستعيرها من كالفينو. والعكس صحيح، كي يصل إلى عالم أحلامه  كان عليه أن يدخل إليها من بغداد. ص ٨٢.

تتميز هذه السيرة بثلاث نقاط.

أولا إنها لا تشخصن المجرد، فهي تتكلم عن عواطف تجريدية، بتعبير آخر إنها تتابع تاريخ المدينة منذ وضع المنصور حجر الأساس وحتى الاجتياح الأمريكي لها.  بمعنى أنه رصد الظاهرة ولم يتوقف عند حياته الشخصية.

وللتوضيح يمكن مقارنتها مع (شارع الأميرات) لجبرا، لقد كان جبرا مشحونا بنرجسيته الفنية وبالجانب الذاتي من حياة المدينة، لقد كان يضع نفسه في مركز الأحداث ويسمح للمجتمع والتاريخ أن يدور من حوله. وربما لهذا السبب لم يجد فرقا بين نكبة عموم فلسطين وخروجه منها. فقد تساوت التراجيديا مع المحنة الشخصية.

و هذا هو أيضا شأن طه حسين في أيامه بأجزائها الثلاث، فقد أسطر عميد الأدب العربي طفولته وجعل من عماه ملحمة اجتماعية تدل على بطولاته. وأعتقد أن حياته أمثولة، فقد وضع العقل السلفي على المحك، وعارض أفكار ابن تيمية بكوجيتو ديكارت، وهذا وحده موقف بطولي بالنظر لظروف  تلك المرحلة.

مع ذلك كانت مذكراته في (الأيام) عبارة عن إسقاطات ذاتية، وهو ما تهرّب منه نجم والي.

لقد وضع نفسه في الظل وسمح لبغداد أن تتألق . وكما قال: بدون بغداد لا يوجد نجم ص ١١٨و في النتيجة لم يقدم لنا معلومة واحدة  عن عائلته، من هو أبوه ومن هي أمه، كم يبلغ عدد أخوته، وما هي أسعد وأشقى لحظات حياته.

لقد أبقى هذه المعلومات طي الكتمان ليهتم بتطور المحطات الأساسية من المدينة.

و تجد أبلغ تعبير عن هذه الحقيقة في رده على نبوءة الحاج حنون، حين قال له: إن المدينة هي التي ربحت الرهان وليس نجم، ص ٨٩.

النقطة الثانية، أنه لم يكتب سيرة بغداد وفق تسلسل تصاعدي، فقد استعمل أسلوب الفلاش باك والتداعيات والمونولوج الحر. ولذلك كان يقف عند المحطات الحاسمة وفق ترتيب نفسي. الأحداث الأهم من وجهة نظره أولا ثم الأحداث الهامشية. ومن الواضح أن فكرة اختراع مدينة هي التي توجه خطواته. فقد كان يدخل إلى التاريخ من باب الشخصيات التي تصنعه. ولذلك تخطى الذاكرة الشعبية لبغداد، واختصرها في عدة منعطفات: لحظة البناء والتشييد بأمر من الخليفة العباسي. ثم أحداث الفرهود والتي رسمت خطا أحمر بين العرب واليهود. ودور الأرستقراطية الهاشمية في إلهاب النزاع. ثم السياسة الرعناء لصدام  والتي نجم عنها  اندثار المدينة وظهور مجتمعات الفوضى.

ثالثا، وهذه نقطة بغاية الحساسية أن نجم والي اهتم بصور بغداد وليس بالمدونات المكتوبة .

و هو سلوك له علاقة بالذاكرة الثقافية ودورها في تحديد الإدراك. ففي بحثه عن ذاكرة المدينة وانتقالها من عاصمة إسلامية تحكم العالم إلى مدينة مسكينة في مستعمرة مغلوبة على أمرها لم يتوقف عند ما كتبته مسز بيل أو ما دونه مستر مالوان (زوج أجاثا كريستي والذي اهتم به جبرا في مذكراته) ولكنه أعاد ترتيب ذاكرته بالاعتماد على الصور الحية. وهي غالبا من فصيلة بطاقات المعايدة. وكان يبني بخياله مدينته وعينه على هذه البطاقات والصور ص ٩٥.

و من غيرها لم يكن مقدرا له صياغة تأملاته الأولى للعالم وعلاقة المكان بالفرد ص ٧١.

و هذه نقطة بالغة الأهمية، أنه  يولي السبق للمكان وليس الفرد، ويضع كل شيء ضمن خلفياته وليس بمعزل عنها. فمع كل صورة كانت تنشأ صور أخرى، ص ٧١. 

إن الصور التذكارية تكون عاطفية وتخاطب المشاعر وليس العين فقط كما يقول دولوز، وبالعادة لها معنى حركة تعبير وإبانة ( فلسفة الصورة، جيل دولوز، ترجمة حسن عودة، دمشق،  ١٩٧٧(.

و بلغة والي نفسه إنها تحرض الإنسان على التخيل، مثلا صورة الكنيسة تدعوه ليتخيل نواقيسها وهي تضرب بقوة، وكذلك القطارات  يسمعها تصفر وتنهب السكة ويرى بعين ذهنه عمود البخار الأسود وهو يندلع منها ص ٨٣. فالصورة ليست طبيعة جامدة، ولكنها إعادة تشكيل لعلاقة المكان مع الأحاسيس  ذات المضمون التاريخي. ومثلها القراءة.

إنها ترتيب لموقع الإدراك في الحدس. وهي منبع ذكريات نجم والي بعد الصور. ولا سيما قراءة الصحف، فقد لعبت دورا هاما في تعريفه بمدينته المحبوبة بغداد ص١٣٠.  وكذلك كانت مسؤولة عن صقل موهبته، ومن أطرف أخبار المطبوعات أنها مقسومة إلى حرملك (و منها البوردة وهي مصدر ترفيه ومعرفة لأمه وصديقاتها) وسلاملك التي تنشر معلومات عن أحوال المجتمع، ناهيك عن كواليس السياسة، ولذلك جمهور القراء في الغالب الأعم من الذكور.

و إذا نظر نجم والي بعين العطف لوفرة المطبوعات قبل انقلاب البعث عام ١٩٦٣ الذي تسبب بإفقار البلاد وتجميد الحياة العامة، فقد أبدى إعجابا منقطع النظير بالجمهورية وملحقها الأدبي ص ١٣٣.

و تستطيع أن تفهم أن بغداد هي بوابته إلى مرحلة النصج ولكن ملحق الجمهورية هو بوابته إلى بغداد. حتى أنه  يعتقد أن القراءة  قربته من المدينة التي  رآها جنة عدن ص ١٣٦ وخاصرة العالم  ص ١٧٢ وأتاحت له أن يعيش في مكانين ص ١٣٦ حيث يقيم (مدينة العمارة) والعاصمة التي أغرم بها لحد العشق العذري . كان شعوره  كما قال: ملتبسا ولم تنطفئ شعلته أبدا، ص ١٣٦ وتحول إلى نبراس جعل منه كاتبا وعرفه على مشاهير ونجوم تلك الفترة، وفي المقدمة سعدي يوسف محرر طريق الشعب، وعبد الرحمن الربيعي محرر الأقلام،ص١٤٣. ويمكنك أن تختصر علاقته بالمكان في الوجوه الأدبية والمطبوعات.

كان لهذا الثنائي دور حاسم في بدايات نجم والي وتحديد ميوله. بتأثير منهما أقلع عن الشعر وتابع مع القصة ثم الرواية.

و لا يمكن أن تحدد ماهية هذا التأثير، فالربيعي ناثر وعلاقته بالخيال الفني يشوبها الغموض، فهو كاتب منمق، نقل الخيال الفني من المباشرة إلى لغة العواطف القاسية. وشخصياته تواجه نفسها ولا تعرف شيئا عن محاكاة الواقع، ودائما هي شخصيات مشغولة بتحطيم بنيتها الداخلية، ونظرته لما يدور من حوله ضعيفة، بمعنى أنه معني بالدراما النفسية، وكل من قرأ (عيون في الحلم) و(القمر والأسوار) وعشرات القصص التي شغلتنا طوال الستينات والسبعينات سيلاحظ تجزيء الأشخاص وتماسك الواقع، فالشخصيات حاضرة في الحبكة من خلال صوت أفكارها وحركاتها في المكان المحدود والمغلق، بينما الواقع غائب وافتراضي وينعكس على غيره.

و نفس الشيء تستطيع أن تقوله عن سعدي يوسف.

فهو شاعر مشغول بتعميم الذات الخاصة وهمه إيجاد علاقة ولو جزئية بين الذات ومحيطها النفسي. والواقع في قصائده بناء لفوضى الأفكار، إنها أفكار تعبر عن مغامرة الذات المتحولة، ولكن أرى إنها ذات لنموذج أو شريحة، وهكذا حدد معنى المجاز الفني، إنه تصنيع لضمير تجريدي يعبر عن ظرف أو عن حالة وليس عن دراما الأفراد، ولانجاز هذه الصيغة استعمل أسلوب الاسقاط والاستعادة، وكان التاريخ بالنسبة له لا يختلف عن الحاضر، ولايهمه من الطرفين غير شروط الحركة، كيف يمكن للماضي البعيد أن يكون هو حاضر الأحداث التي تصنع الأخبار في المرحلة الراهنة، وكما أرى لا يوجد شيء من ذلك في أعمال نجم والي.

فمن خلال أسلوبه مع الواقعية البذيئة ثم تفسير الواقع بلغة الرغبات أو ما يضمره لها من عواطف، يجعله أقرب للعقل الوجودي المغترب عن نفسه ، كما عند شارلز بوكوفسكي.

يغلب الإلزام على تعامل نجم والي مع الواقع، وهو ينظر إليه كفروض أو بصورة شرط لا يلتزم به أحد، ويستحق منا مقاومته.

و هذا واضح من إدانته لحرب العراق مع إيران في (الحرب في حي الطرب)، وكذلك في عدم وضوح مشاعره من الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣. فقد تحولت الحبكة في (بغداد مالبورو) من متابعة الخراب بسبب الغزو إلى تأمل في الرعب والخراب من جراء ما يسمى دولة الجهاديين.

لقد كانت الرواية وثيقة للمساواة بين كل من الجاني والمجني عليه من خلال لفت أنظارنا إلى الظلام السلفي والفجوة المعرفية التي تسبب بها.

وقل نفس الشيء عن همنغواي، مع أنه مثال يحتذى ولا سيما في لعبة المجال الخاص، ص ٢٠٦ فنجم والي يرى أنه فيلسوف أو رائد الكتابة الشخصية، بمعنى أنه يكتشف فضاءه النفسي وهو يقاتل شروط المكان والمجتمع، ولكن كلما حاولت المقارنة بين الكاتبين لا أجد روح همنغواي،

وإصرار سانتياغو وحلقة المتمردين في (لمن تقرع الأجراس) تضعنا أمام عالم بمشاهد محطمة، كان همنغواي يرثي نفسه أو الشخص الذي ينمو ويعيش في داخله بينما والي يبحث دائما عن تصالح مع الآخر من خلال إلغائه للذات، فهو في (بغداد مالبورو) يصالح ماننغ العسكري الأمريكي، ويجد أن مصيره الغامض يعبر عن اندحار العقلية العسكرية الموروثة من فلسفة حل النزاعات بالحروب.

و لا أعتقد أن همنغواي يعرف شيئا عن الهدنة، لقد كان في كل أعماله مقاتلا عنيدا، إما أنه ملاكم على الحلبة، أو أنه متطوع وفي الخندق الأمامي.

و كما أرى لا الربيعي ولا يوسف ولا حتى همنغواي لديهم فلسفة أو استراتيجية والي في الكتابة.

لقد كانوا محطة ليمر منها إلى مدينته بغداد وإلى مهنته الأدب.

إن غياب شبح المؤثرات من أعمال والي هدف سعى إليه بوعيه، حتى أنه يقول عن هذه الناحية إنه سعى للتميز، وبذل وسعه ليحتفظ بشخصية له، وأن لا يشبه أحدا ص ٢١٢.

و لم يكن يحب أن ينتسب إلى جيل أو جماعة، وشعاره الاحتفاظ بمسافة بينه وبين غيره.

و يبدو أن والي ليس متعنتا أو عرقيا في أي شيء سوى الأدب، وحين يفكر بعمل جديد عليه أن يطهر العالم من كل عمل آخر، وأن يبيد غيره من ساحته، وهذا التعصب في شعار الفرادة والتجديد والإضافة هو الذي يقود خطواته ص ٢١٣.

ثالث الثلاثة هي المقاهي، ومن الواضح أنها أهم من الصور والمطبوعات. لكن من المؤسف أنها بلا أي راسب في أعماله الإبداعية.

يترنم نجم والي بأسماء المقاهي الشهيرة في بغداد وبأسماء روادها اللامعين، ويرى أنها كتبت سيرة ثقافية شديدة الغنى لمدينته المحبوبة. لقد كانت المقاهي هي المصانع الحقيقية أو المدارس التي خرجت الأجيال وجيشا من النخبة، ففي الخمسينات رفدت الأدب العربي بالتكرلي وفرمان وفي الستينات قدمت السياب والبياتي ولكن في السبعينات أضافنت أسماء الصعاليك ومتشردي حقول المعرفة كجان دمو ووالي شخصيا ص ٢٥٢-٢٥٥.

و مع ذلك لم تنتقل هذه الصور الغنية بمحتواها النفسي إلى رواياته وقصصه.

لقد خلت أعمال نجم والي من أي إشارة إلى المقهى، واقتصرت على اختيار المبغى وساحات الحرب ومكاتب الإدارات الرسمية للأحداث.

وهذا بعكس الصفة اللازمة في كل مكاتبات الوجوديين وأفراد الجيل اللامنتمي، بمعنى المتمرد على الفروض والواجبات التى تمليها السلطات من فوق، فقد وضعوا المقهى في مركز الحياة الثقافية. ونادرا ما تقرأ لكاتب من تلك الفترة لا تدور نصف أحداث روايته في مكان عام من هذا النوع.

و خذ على سبيل المثال المرحوم هاني الراهب، فصفحات روايته (ألف ليلة وليلتان) تربو على ثلاثمائة صفحة وتتابع فصولا من حياة ضباط وموظفين في خريف العمر، لجأوا إلى لعب النرد في المقاهي الصيفية المفتوحة هربا من الدوام في البيت.

وهنا لا بد من ملاحظة.

 لقد أبقى بعض الوجوديين بنسختهم الريفية على ولائه لتقاليد حكومات العسكر واستبدل المدينة بالقرية، والمقهى بالمضافة، ومن هؤلاء المرحوم عبد النبي حجازي الذي وجد فرصته في رثاء هزيمة حزيران من خلال رسم شخصيات ضعيفة تهرب من مواجهة العجز في الفراش إلى السهر في المضافة وتداول النكات البذيئة والأكاذيب والعنتريات ،

و أعتقد أن شخصيات نجم والي لا ينقصها الانتصاب وهو يعبر عن فراغه الإيديولوجي باللجوء إلى عالم لا يحتاج للعاطفة ولا إلى الامتلاء النفسي ولا سيما عالم المبغى. هنا أمكنه أن يعيش بغريزته المجردة، وترك التفكير واعتمد على ردة الفعل، ولجم الحكمة واستعمال الرأس وأرخى العنان للحواس المباشرة.

و من بين المؤثرات يذكر نجم والي اليهود الثلاثة الذين يشترك معهم في عشق بغداد وهؤلاء هم: شمعون بلاص وسامي ميخائيل وسمير النقاش. ويوكد أن المتاهة التي ضاعوا فيها في أرجاء العالم لم تغرب عنها شمس بغداد ولو لحظة واحدة.

إن بغداد حاضرة في أعمالهم من العنوان وحتى الأحداث، ص ٢٩٠. وحتى لو أنها ناطقة بالعبرية أحيانا لا يمكن للقارئ أن يشك أنها روايات عراقية وبامتياز ص ٢٩٠.

و في حقيقة الأمر لا يوجد في أدبنا العربي الحديث أحد ترنم بعاطفة رومنسية رقيقة وشفافة لبلاده مثل العراقيين والمصريين.

فثلاثية نجيب محفوظ معروفة في الأدب العالمي باسم (ثلاثية القاهرة)، وبجانبها تقف (رباعية الإسكندرية) للورنس داريل وهي علامة أو رمز على قوة الفكر الهيليني وعلى قدراته في التركيب والتفكيك، فإسكندرية داريل هي قاهرة نجيب محفوظ، لو استبدلنا عنصرا واحدا من الطبيعة وهو البحر لدى داريل والأحياء الشعبية عند محفوظ.

ويسهل على أي قارئ القيام بهذا الاستبدال الفرويدي. فالمشاهد أو مسرح الأحداث مجرد مهد للشخصيات، إنه الأداة الحاضنة التي توفر للطبيعة قدرة استثنائية على تشخيص المجردات.

وهو ما يفعله العراقيون عموما، إنهم مولعون بشخصنة العواطف التجريدية سواء بالاختزال أو الإسقاط والإحاطة، ولو تجاوزت اعمال الرعيل الأول أمثال فرمان والتكرلي لا يمكنك أن تغض النظر عن (قاموس بغداد) لعلي بدر، ولاحقا (الوليمة العارية) لبدر نفسه.

وتدخل أعمال والي في هذا المضمار، فكل رواياته لا تخلو من صورة لطور من أطوار مدينته التي يبثها لواعج الشوق والغرام والتأسي أحيانا بسبب ما يراه من انتهاك للحدود، وأقصد حدود الذهن المنتج للفكرة.

و الشيء بالشيء يذكر.

للأسف إنه لم يتوفر لدمشق  كاتب يرسم البورتريه المناسب لها، وكل ما تجده في أدبيات السوريين عبارة عن مشاهد عامة لها خلفيات ريفية، وبشكل أساسي يسيطر على الرواية في سوريا جو السهل والجبل (بالمعنى الذي أشار إليه محي الدين زنكنة في كتاب يحمل هذا العنوان). فالسوريون مغرمون بالساحل الضيق الذي ينعمون به على المتوسط وبالحقول نصف الجافة التي تربطهم بفكرة العروبة من جانبها الإثني والإيديولوجي، فهذه الحقول هي بقايا من البادية وثقافة الصراع مع عوادي الزمن والتصحر. وأعتقد أن بدايات الرواية في سوريا تختلف عن نظيرتها في بقية بلدان الجوار، فقد نشأت رواية السوريين عن دمشق بعد الاستقلال ونشوء التفكير القومي والذي كانت ترعاه شريحة من أبناء الريف المهاجرين إلى المدينة، وقد ارتبطت أفكارهم بماكينة بروباغاندا العسكر وباستراتيجية التحرير والكفاح المسلح.

فيما يخص المؤثرات توجد ملاحظة مقلقة.

مع أنني استمتعت بمتابعة وجوه الشخصيات الأدبية التي توقف عندها والي، والمتعة تأتي من الاكتشاف والأسلوب معظم الأسماء غير معروفة لنا، وهو يعيد تركيبها بأسلوبه القصصي المسلي، ويترك بين التجربة الذاتية والموضوع مساحة للتشويق والإثارة والفائدة.

و لكن كل النماذج التي أغناها بالتعليق والإضافات تدخل في عداد أدب الرحلة  ص ٢١٦-٢٠٣.

و لا يمكنني أن أرى لماذا لا يضع والي خطا أحمر بين الريبورتاج والترافالوغ والرواية.

لقد تعامل مع هذه الأنواع بنفس التكتيك. وأدى ذلك إلى غموض وإبهام في الأهداف.

فلو أن أولئك الأدباء الرحالة يبحثون عن بغداد كانت لمهمتهم عدة وظائف أهمها اكتشاف المسالك والدروب التي تنير للإنسان معنى المدينة، لكن هل هم يبحثون عن الصورة الفانتازية التي رسمها الاستشراق ولا سيما من خلال (ألف ليلة وليلة) وفلسفة الفتوحات (الصفة التي يدين بها الغرب ديننا الإسلامي وينظر إليه كدين منذور للسيف وليس العقل)، أم أنهم كانوا يبحثون عن بقايا بغداد والتي أنتجها منطق الصراع بين عدة قوى استعمارية.

مثل هذا التداخل في حدود الدلالة ساوى أيضا بين أوهام المشرق وواقعه المعاصر، فأنا مثلا لا أجد أية علاقة بين إسطنبول وطوكيو من طرف وبين القاهرة وبغداد من طرف آخر، إن لم أضف إليهما دمشق.

فالتغريب المفروض على بعض بلدان المشرق تحول لامتداد مبسط وساذج للعقلية الغربية.

و حتى إن الايديولوجيات التي لعبت دورا في التربية والحضارة مثل الإسلام والبوذية تحولت نتيجة إسقاطات الغرب إلى ترجمة رديئة له، وكلمة رديئة ليست مثلبة، ولكنها تعرب عن اختفاء الشرق وتدهور فلسفته أمام زحف الفلسفة الغربية.

إن انتماء اليابان إلى المشرق لا يزيد عن انتماء المملكة المتحدة للحضارة الجرمانية، لقد اختفى العقل الجرماني هناك وحلت محله روح متحولة تهتم بالحواس والغرائز أكثر من اهتماماتها السابقة بالعقل والطبيعة. وشتان ما بين الطرفين.

و بظني إن بوذا الياباني حاليا مدين لتطور السوق وآليات الإنتاج الرأسمالي. أما بقاياه التي تقاوم الفناء فهي محنطة في المتاحف وتشبه مبدأ المائدة المتنقلة الذي اخترعه همنغواي، فأن تنقل أمريكا إلى باريس يشبه أن تنقل بوذا إلى أمريكا، وبوذا المعبود حاليا نسخة أمريكية بدلالة التحول الحضاري لجوهر المعنى. وإذا كانت الكنيسة الأرثوذوكسية تقاوم عوامل الفناء ويوجد لديها نماذج انتقالية في طور التبديل وأذكر فالنتين راسبوتين كمثال باعتبار أنه يرسم صور تقابل بين الكولخوز والشركات متعددة الجنسيات، فإن جيل الساموراي انتهى من كل أرجاء اليابان، ولا أستطيع أن أجد أدنى علاقة بين يوكيو ميشيما وهاروكي موراكامي.  والفرق بينهما مثل الفرق بين بلزاك وكافكا، فالواقع المؤسف الذي يلغيه الفساد غير الواقع الخيالي الذي نتنبأ به ونهرب منه.

في كل الأحوال لا يمكنك ـن تقيس صورة بغداد بمقياس واقعي، إنها أوسع من هذه التقسيمات التي تعزل الشرق عن الغرب، فهي كل شيء في حياة نجم والي.

وكما يقول في آخر سطر من كتابه: بغداد هي اختراعه، والصورة التي لا تشيخ ص ٣٧٠.

 

في المثقف اليوم