قراءات نقدية

نجاح جبيلي: العمق الفلسفي لأسئلة الوجود في من لا تحضره السكينة لعادل مردان

961-adilيمثل العنوان إحالة إلى المشهد الصوري الجامد: الهيكل البشري في جماديته ووقوفه الصنمي إزاء الحركة الدؤوبة للحياة على جميع  الأصعدة، إلا أن المتن الشعري لدى عادل مردان يجعلنا ننقاد إلى ماهو أكبر من كونه إنموذجا ً للخراب الانساني على صعيد التأويل الايجازي الذي يُقاس به جانب مهم من إفرازات هذا العالم (الرائي المتفائل / على دكة البلاستيك / يوزّع باقات النبات الاصطناعي / تماثيل حائرة على الدكات / تراقب العدم ــ ص 8)  . فالأشياء هنا لاتبدو حقيقية: دكة البلاستيك / النبات الصناعي / لذلك فان الوجود بات يشبه العدم / العدم المُراقب من قبل التمثال / الانسان في حظوره النسبي في الحياة / الوطن، كذلك هي الحيرة:

إنها جامدة / رسم أبدي أو نقش سرمدي على حجر من الصمت أوهو الصمت الذي يشبه وجه الميت وهو يراقب من وراء المجاز الكارثي بعينه البرزخية العدم الذي يرزخ تحت وطأته العالم بالرغم من استمرارية الحياة . إن أسئلة الشاعر، أسئلة جذرية تمتد عبر شبكة من الاحالات التي تتلائم مع المجهول فيصعب تفسيرها، المجهول الذي يبحث السائل في خضمه عن أجوبة لايعتقد أو أنه مسلّم بعدم قابليتها على الاقناع أو إدراك كنه الحقيقة التي يسير في إثرها . فتارة تأتي متلفعة بالسخرية التي لاتبدو ظاهريا ً، وتارة أخرى تأتي بثوب اختباري لا يخلو من نبرة التهكم: (أين الجلنار؟ / أيها المخطوف حديثا ً ؟ ــ تماثيل تراقب العدم ص8) / (الآن من يعبر الأكاسيا / إلى التمثال المتحرّك أمام الشباك / يراقب الجهنّميات ؟ ــ ص8) . وتارة ثالثة  تأتي كإيماءة توحي بحلول الاجابة عما قريب، لكنك سرعان ما تُخذل، أوربما أنها تأتي على شاكلة السؤال الذي يجيب على نفسه، وبالمقابل فأن الدهشة التي تخلقها هذه الاجابة عادة ما تكون قاسية: (حتى أنت ياحجريّ / تعرف / لماذا يدعونني (بالخولي) ؟ ــ تماثيل تراقب العدم ص (9) .

إن قوة الجذب في شعر عادل مردان تكمن في المعنى الحضوري إن جاز القول، المستوطن في اثناء النص، والذي يحتاج إلى تحريك ذهني دائم وبحث قرائي وفكري وفلسفي وأسطوري عميق . وأن الشيء الذي يقوم من تلقاء نفسه يعني أنه حي، بعكس الذي يحتاج إلى تحريك / الميت . إذن فالانكفاء لايعني بالضرورة أن ثمة موتا ً وشيكا ً وراءه، إلا أن ذلك لايمنع من طرح فرضية الميت الحي، فالدهشة حين تجتمع مع الشيء الجامد، يعني أن ثمة حضورا ً مقطوعا ً، وأن هناك ما يجعل هذا الشيء يتحرك من تلقاء نفسه وإن تكن الحركة بطيئة، لكن ما خُفي كان أعظم، فما بالك لو كان هذا الذي خُفي شيئا ً من التفاؤل، ومن يدري: ربما تكون نهاية المطاف: (منكفئا ً على الأسمى / فوق دهشة الجماد / أدلق النور ـــ معجم متنقل ص13) .

961-adilوثمة اقتراحات يطرحها الشاعر على مائدة التساؤل، وتمنيات يضببها العجز أو يقيدها المجهول دائما ً وعدم القدرة على إرساء الفعل وترسيخه ونزعه من جلباب التمني . إن (لو) الشاعر في ومضة عادل مردان لا تشي بنزوعها نحو النقطة الابعد فحسب، ولا تعنى بالصورة فقط، وإنما تشتغل على متوالية الحلول في نقائض الشخوص المُبتكرين أو الخلاص عبر المتنفس الافتراضي الذي لم يتمه الشاعر بعد: (ماذا لو أصمم شخوصا ً لصورتي / أتوزع في نقائضهم ــ معجم متنقل ص13) والشاعر في الومضة التالية يحيلنا إما لعالم الموت أو الحياة التي ينشط فيها الموت، الا ان كفة عالم الحلم الذي ليس بوسعه الافلات هي الراجحة دائما ً، مع امكانية تأويل (قيادة الاطياف) أو إحالتها الى عالم الموت . إذ ان ثمة مسافة شاسعة وربما غير محدودة بين الشاعر و(الوجه الباهر) و(الماء): (ليتني أقود الأطياف / إلى وجهك الباهر / وأسكب قرآن الماء ـــ معجم متنقل ص13) . فيما يسترسل الشاعر في ومضته هذه المرة لكي يكون المعنى ذا منتج يتفاعل مع ذهنية المتلقي بشكل ناضج . ولابد من الاشارة الى ان (من لا تحضره السكينة) هي مجاميع داخل مجموعة واحدة، وفي المجموعة الثانية من الديوان (أقوال غير مأثورة) تتفرع قصيدة (غيبة النور) كما هو الحال في اغلب القصائد إلى عدة اتجاهات شعرية، فنرى الغياب حاضرا ً في العنوان ككلمة ذات مغزى / ورؤيوبا ً بإضافة دالة جامعة  تسبق الانثيال الشعري الذي يطغى على المتن . كما نراه حاضرا ً من خلال التنقيط الاستهلالي الذي عوّض عن غياب عنوانات تلك التفرعات . وحالما نأتي لقراءة ما استبدله الشاعر وهي فرضية قائمة، في مفردات ومصادر المتن الاقتباسي، نجد جدوى هذا الاستبدال من ناحية تأويلية تبحث في حقيقة الغياب / الموت أو ربما النفي أو الخلاص في اشكاله المتعددة . فنرى الموت يأخذ مكان الصليب، مع ان الصليب دالة تحيلنا الى الموت نفسه / الصلب الناتج عن التضحية . وبدلا ً من ان يكون الخلاص على يد المخلّص (بكسر اللام) / المصدر الاول والمدون تأريخيا ً وإجماليا ً بغض النظر عن تنوعاته واختلاف مشاربه الروحية والحدسية نجد أن الشاعر يقدم التماسه الى الزمن، إلا أن الغياب عادة ما يكون هو المهيمن في نهاية المطاف الذي رسمه: (يحمل موتنا ويسير / كم بكينا على أخطائه / بينما نسرّح جدائل الشفقة / نلتمس من الزمن خلاصا ً / والموجة تزأر في قفصه الصدريّ / قرب الفنار اقتربنا من وداعه / أمسكنا بصوته الرقراق فاختفى ــ غيبة النور ص17) . ومن الجمال ما هو باطني غير مألوف إلا للشاعر الذي يعبر عن ذلك الجمال بعد تقديمه لجمله المتراصة اتصاليا ً، نلمس فيها هشاشة الحركة الملتذة / الجامدة في المنحى البنائي للمعنى كونها تشتغل في حيز السير الى الحتف النهائي، بينما نجد الشاعر وهو يخذل هذا المسير المصائري غير المقدس، يستأنس بكسله / الحراك الذهني أو الجمود الذي هو في الواقع نشاط ضد النشاط في معناه المصيري البشع الذي تطرب له الجوقة: (أعمال تنمو بلدّة الحركة / أشعة زرقاء في الزوايا / ترمم متحجراتها الهشة / كسل أجمل ما يكون عليه / أنه يخذل الجوقة ــ جمال الكسل ص25) . وثمة ما هو في متناول المخيلة قبل ان يصير الى اليد، في إشراقة حلمية ووقوف يركن الدافع الشبقي المبتذل جانبا ً ويكتفي بالانتفاع الحسي والتذوق اللغوي وقدسية الصورة من خلال طقوس شعرية متأنية وخلابة في جوَّ من اللاشبع الانساني الذي يدفعنا الى الغوص في الجمال وجمالية اللحظة التي تعبر عن نزوح الذات إزاء موقف لا يكتفي بالوصف الظاهري النثري: (العين جائعة إلى القوام / رخام لا يرتوي من اللمس / لغة الورد تتكسر على الفراش / وقوف يسجد للعري / يزحف إلى بهجة الزند / شرشف على الظهر يمنع النشور / الليل يتفرقد شجرا ً / فوق الحرير أقبل أنامل تشتعل ـــ لوعة الرخام ص(26) .

إن الشعر لدى عادل مردان ليس أداة للتعبير عن الخلجات العابرة أو الاحاسيس المقتضبة وإنما هو اشتغال على سطح هذا الـ(العمق) الفلسفي لأسئلة الوجود، وحتى تلك التي تُصاغ بعفوية أو نبرة سليقية . وثمة ما هو أساسي ويتداخل مع عمق التجربة السايكولوجية وانبهار الروح أمام الموت في شعر عادل مردان . وهذا (الاساسي) الروحي ينوه عنه مازجا ً إياه بالامنية تارة وتارة أخرى بالرغبة الجامحة ورقيها وارتقائها نحو المصائرية التي يعترك فيها الالم والوهم وأبدية الجزء السكوني الاثير من اجزاء اليوم: (فمي على حلمة الألم / أودّ لو ينطلق الفجر أبديا ً / لأستعيد أوهامي / التي معظمها نزوع إلى المصائر ـــ مازحا ً يقرص أذني ــ ص28) . إن هذا الابد يخرج من شرنقة التمني أخيرا ً، حتى يكون بوسعه ضم الشاعر الى فيئه، إلا ان الاكتشاف الحقيقي الذي تكمن فيه المفارقة هي الصورة الموحية التي صيغت بطريقة جميلة رغم أنها تعبر عن الهروب الى الموت الاختياري والناتج عن إقبال الموت المحتوم في صوره القسرية إن جاز القول . فبدلا ً من (كفني) استعمل الشاعر ملكية أخرى هي (حتفي) لشعوره ان الصورة (البنلوبية) لا تتم شعريتها في حال استخدام الملكية الاولى (الكفن) وبالتالي فان المشهد سيكون اقرب الى الروتيني منه إلى الشعري التعبيري: (تحت شجرة الآبد / أغزل حتفي الأبيض ــ مازحا ً يقرص أذني ص28) . و(البياض لون متناقض، فهو اللون الذي يشير إلى الموت والتفسخ، وفي الوقت نفسه يشير إلى الطهارة والبراءة والشباب، وهو يعلو على كل الألوان من جهة أنه لون يشتمل عليها كلها، بينما هو من جهة أخرى لون ناسخ لكل الألوان، لون فارغ يملأ بالمعنى وفقا ً لهوى الناظر إليه . وهو لون يوحي أيضا ً بالمعاني الغربية الغامضة التي تشكلت عنها الافكار الاسطورية والدينية) .. فما بالك لو كان هذا (الأبيض) هو الموت ؟ إنها سحنة الموت المتراكم، والدالة الأولى للبياض التي تفسد (الطهارة والبراءة والشباب)، وليس بالضرورة أن يكون الموت هو ذاته المشار إليه بخروج الروح من بدنها، وإنما تتعدد صوره في الحياة وتأخذ الحيز العلاقاتي الأنساني أيضا ً: (مازحا ً يقرص أذني / الموت الذي لا صاحب له ــ مازحا ً يقرص أذني ص28)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يرتبط الحلم وربما الكابوس المليء بشتى مشاهد الموت . هذا الكابوس الحياتي الحقيقي المرعب عندما لا يريد الشاعر ان يصدق أنه حقيقة، فأن الموت المتربص ينبهه الى ان ما يخشاه آت، وان ما يراه هو واقع يعيش بين ظهرانيه وليس كما يظنه هو: كابوس ستقتله اليقظة في ساعات الصباح الأولى . أما المزحة فذلك هو تجاوز الموت الذي يعتقد الشاعر أنه فلت من قبضته، الى ان ادرك أنها اشبه بالمزحة، حين يراود الموت روح الشاعر ثم يتركها، تاركا ً في إثره ضحكة توحي بالعودة مجددا ً . إن أكثر ما يميز الشعر بصورة عامة هي تلك الأسئلة المتوهجة الزائفة فيما لو ارتكزت على ارضية صلبة . وربما ينحى الشاعر من خلال سؤاله التالي: (ماذا يريد المساء من أيامي ؟) منحى ذاتيا ً يؤسس للنظر الى ما يعيق رؤاه والافق الذي يشتغل عليه، الا ان النبرة الاستهلالية التي هي جزء من السؤال تأخذنا الى جهة غير الجهة التي تُفسر لصالح الشاعر / ذاتيا ً: (الخواء / حكمة الزمن الطازجة) وهذا لا يعني فقط بأن حتى الحكمة في الزمن الآني غُيّرت أو زُيّفت واصبحت هي التي تحدد المصائر بثوبها المُغيّر، وإنما الخواء في معناه المباشر، العوبة الزمن الذي تسيّره المنظومات التعسفية من اجل استهلاك البواطن البشرية والعواطف الجمعية للمجتمعات . ويسند هذا التأويل السؤال التالي: (من يستحق وسامك أيها العدل ؟) ويتوافق العدل مع الألوهية كون العدل صفة تعود بمرجعيتها الى الاله . وبالتالي فأن السؤال يحدد الاجابة التي تفيد بعد وجود من يستحق هذا الوسام / الصفة، من بين الاوشاب الطافية على سطح المشهد السوريالي المحض الذي يتبناه الواقع . وفي خضم هذا الأحتدام الجماعي المريع والى جانب صفة العدل في المنحى التساؤلي الباحث، ثمة (الحقّ) أو الحقيقة الخفية التي لم يدركها بصر الشاعر، وانما هو الادراك الحسي / الشعوري هو الذي لمسها عن قرب، فتكوِّن السؤال عن الجمال يعني أن السائل ما زال يعيش في ظلمة الخراب، كما أن البحث عن الجمال بحد ذاته هو كنه الحقيقة التي تبحث بدورها عن الوجود الحقيقي للشاعر (يوتوبياه) المُهلكة نظرا ً لو عورة الطريق المليء بالحفر والافخاخ . ويلون الشاعر اشتغاله مترفعا ً عما هو اقرب الى التجديف، لذا فأن الجملة الشعرية لدى عادل مردان عادة ما تكون مثقلة بالطابع السوداوي الباحث والمتسائل الذي يدرك او يعرف خاتمة المطاف أو المحصلة النهائية لبحثه هذا . وبالتالي فأنه ينتج خطابا ً عاليا ً يعبر به حدود الشعرية المفرطة بالعفوية فنراه يتحف الجملة بما يظنه البعض غموضا ً قصديا ً، وهو في الحقيقة نسيجا ً متواشجا ً بعيدا ً عن العرضية والتسطير الاسفافي الذي يقتل القصيدة: (العبارة تمسح عن وجهها المكياج / وتعود إلى مرايا الماء / العادات تُشهر الألسنة / الحجة حديثة منذ القدم / تُخرج أشجارها من التجريد / وتلبس صفصافة الخريف / الجنون يغني للعقل / دون رتوش سأجيء بأعراسك / الجادة ــ الجنون يغني للعقل ص (44) . إن علاقة الساعة / الوقت بالمرآة ليست بالعلاقة التي تثير الجدل التأويلي الذي يعطي بالتالي نتيجة مجانية جاهزة . الا ان النتيجة المعطاة في حال احلنا معنى المرآة الى الاسطورة الموغلة في القدم ستصدمنا حقيقة أن وقوف الشاعر أمام المرآة / النهر، هو وقوف غير مستقر: على أرض رخوة أو رمال متحركة، وهو متأت ٍ من حالة قنوط شديد، أي أنه وقوف عدمي أو تشاؤمي مرتبك وليس كما قد يظنه البعض وقوف نرجسي مؤسطر، إذ أن إطلالة الشاعر على العالم الآخر / تحديقه في المرآة، هي إطلالة روحية وليس على الصورة، إطلالة على الحقيقة التي هي في الواقع حقيقة صادمة ومُدمرة أحيانا ً: (وأنا أحدق في المرآة / دقت الساعة ثلاث عشرة دقة / فتهشّم الوقت / حين حدّقت مليا ً لم أبصر نفسي عبرها / تساميت عاليا ً في السديم / إخلاصا ً للقنوط المأخوذ / وطبقا ً لناموس الطاقة ــ طبقا ً لناموس الطاقة ص (49) . إن علامة الأستفهام التي في آخر الجملة الأستهلالية، لا توحي بمجهولية ما وراء الأفق الذي يطمح الشاعر لكشفه، وإنما جاءت كتتمة للسياق الترتيبي للجملة . والذي يقرأ بإمعان سيجد ان ثمة دعوة للانعتاق من خيال الواقع إن جاز القول ورومانسية الاحلام والانطلاق الى فضاء اللامسمى، والذي يطل من نافذة عادل مردان سيرى فلكا ً يشبه المجرة / لا منتهية: (النسمة / أيّ حقيقة مثلى / تأتي من النافذة ؟ ــ الرضا رحل بعيدا ً ص 75)، ويبدو أن الشاعر عادل مردان لا يعبأ بالمشاكسات المجازية المُغرقة بالتخيل الجاهز الذي هو وليد عدم القدرة على استيعاب الجذوة الحقيقية لما يتوق دائما ً للخروج من خناق الكتمان . أنه يبوح بأشياء ليست عديمة الاهمية، أي أنه يهتم بإظهار الصورة عبر مجازات صورية تتخذ من التخيل المعرفي بؤرة لانطلاقها . ونرى في مواضع كثيرة من الديوان، أن الشاعر لا يحاكي عزلته من خلال التباكي أو الأفراط الرومانسي المصطنع، بل يعود الى صوته الخاص في إدماج الروح التهكمية المتمردة التي تتوق الى الغوص في عزلة أكبر من العزلة الفوضوية التي يرزح تحتها الحيّز الذي يعيش فيه: (الصواري مدهونة بالأسى / آه ... / لو تستدير الدقة إلى جزيرة نائية) كنت نفضت خيالي من عناء قديم / هكذا أقذف إلى المراسي ضجر الأشرعة / أغذي دمي بصراخ النوارس ــ مديح اليابسة ص (83)

 

نجاح جبيلي - روائي عراقي من البصرة

 

                                                               

 

في المثقف اليوم