قراءات نقدية

عصام البرام: بابلو خويلو.. صوفية النص والأسطورة في رواية الخميائي

قبل الولوج الى قراءة رواية الخميائي لكاتبها البرتغالي بابلو خويلو، لابد من نافلة القول والإشارة، الى إن الأدب العربي الزاخر بتراثه الفكري القديم والحديث، وكل ما ورثناه من الكم الهائل مما كتبوه أدبائنا الذين أغنوا الفكرالانساني بالعديد من الروايات والقصص والأساطير والحكيات المتنوعة، لاشك؛ كان له التأثير الكبير المباشر أوغير المباشر، في تأريخ الأدب الأنساني.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فمنذ أن كُتبت الملحمة السومرية ملحمة كلكماش أو الف ليلة وليلة، أوالأرث الشفاهي المتوارث عبر الأجيال لحضارة بلاد الرافدين وحضارات البلاد العربية الأخرى، يبدو جلياً وخاصة، عندما نقرأ فنجد أن هنالك الكثير من الروايات والكتب الغربية والعالمية، قد استقت جوهر الفكرة من تراث الملاحم و الروايات والأحداث العربية، لتكتب فيما بعد روايتها بشكل أو بآخر، ولكن بمعالجة سردية درامية وفكرية ترتدي ثوبها المعاصر، وبأحداث تكاد تكون تقترب صبغتها من التراث الفكري الأنساني الذي أنتجته الانسانية عبر أجيال متعاقبة من بلاد الرافدين او بلاد العرب الأخرى.

ولكي نعرج على عجالة من أمرنا بهذا المقال دون أسهاب وبأختصار، فأن المطلع على تفاصيل رواية الخميائي للكاتب بابلو خويلو، يجد هنالك خيوط تأخذ اشكالها بالربط بين ما ورد من أحداث في هذه الرواية و حكايات الف ليلة وليلة، وربما من رحلة السندباد والأساطير التي رافقته، إلا أن الشكل العام للرواية وأبطالها والبناء السردي حتما سوف يختلف ليوازي الكتابة المعاصرة والزمن الذي نحن فيه.

ولكن تبقى فكرة الخميائي المنبثقة من روح النص العربي والمركز المحوري لإنطلاق هذه الرواية، التي ترتكز على بداية الرحلة لبطل الرواية والمصاعب والأهوال التي عاشها وشاهدها وواجهته خلال رحلة البحث عن الكنز في أرض العرب، وكأنه يذكرنا ولمن اطلع على التراث العربي والقاريء اللبيب، برحلة السندباد البحري في حكايات الف ليلة وليلة.

تتناول رواية الخميائي من أحداث متنوعة، يختلط بها العالم السحري من الفنتازيا أو الدهشة، فهي واحدة من الأعمال الأدبية البارزة التي آستحوذت على اهتمام القراء حول العالم.

إذ يروي بابلو خويلو في هذه الرواية، عن قصة الراعي الأندلسي سانتياغو، الذي يترك بلاده ورعيته أو مرعاه وحقول المزارع في أرض الأندلس، ليبحث عن كنزٍ مدفون في أرض الحضارات العربية بمنطقة الشرق قادماً من جهة بلاد المغرب العربي، ليقرر السعي الحثيث في البحث والكشف عنه والغور في عالم الحضارات العربية.

والرواية تعتبر رحلة داخلية للبحث عن الهدف الحقيقي في الحياة، وتعرض مفاهيم وقيمًا فلسفية عميقة تدفع القارئ للتأمل والتفكير بشكل عميق.

حيث يقدم الكاتب للشخصية الرئيسية وهو بطل الرواية سانتياغو، كشاب راعي يعيش حياة بسيطة في بلاد الأندلس. يراوده حلمٌ يدعوه إلى البحث والسعي الحثيث من أجل الوصول لذلك الكنز، والذي يشكل محور الرواية التي قدمها لنا خويلو.

يخاطر سانتياغو بكل ما يملك ليحقق حلمه، ومن هنا تنمو وتتطور شخصيته والاحداث، ليواجه العديد من التحديات والصعوبات خلال رحلته، ولكنه يكتشف خلالها قوته الداخلية وإيمانه بقدرته على تحقيق أحلامه.

تتضمن رواية "الخميائي" العديد من المفاهيم الفلسفية المهمة في الرواية التي تحدث عنها الكاتب من خلال شخصية بطله والشخصيات الأخرى. إذ تتعامل الرواية مع مفهوم الرحلة الروحية والبحث عن الهدف الحقيقي في الحياة. حيث يتعلم سانتياغو خلال رحلته أن الكنز المطلوب الذي يسعى اليه، ليس مجرد كمية من الذهب أو غيره، بل هو اكتشاف الذات وتحقيق التوازن والارادة.

لقد أعطى بابلو خويلو لروايته العديد من الأبعاد والقيم الفلسفية والأدبية التي تساهم في إثراء المحتوى الروائي وتعمق البعد السردي الهادف، والجو الصوفي الذي يرافق احداث روايته.

لقد جاءت الرواية استكشافًا فلسفيًا للبحث عن الهدف الحقيقي والمعنى الحقيقي للحياة، حيث يتم تمثيل ذلك بواسطة شخصية سانتياغو ورحلته في البحث عن الكنز، فهو يعطي دلالة لكي يتعلم القارئ من خلال الرواية أن الكنز الحقيقي هو الاكتشاف الداخلي والتحول والانتصار والتصميم الروحي، والإيمان وتعزيز الإرادة، للوصل الى الهدف المنشود، وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أن الكاتب تناول مفهوم القدر والتوجيه الروحي في الرواية، ليعطي اكثر عمقاً بأن الإنسان ينبغي الا يكون أسير قدره السلبي والاحساس بالإحباط والهوان.

فعنده بطل الرواية يتعلم أن هناك قوى خفية توجه حياته وتدله على الطريق الصحيح، كما هو الحال حيث تتجلى هذه الفكرة في شخصيات الآخرين للرواية مثل ملك الملوك والكائن الخارق الذي يساعد سانتياغو على فهم العالم الروحي وتحقيق رحلته. أي يسعى الكاتب الى خلق حالة من المزج بين قراءآته لفلسفة الحياة الروحية والقدرية عند أهل الشرق القدماء، وبين العملية الابداعية المضافة لحبكة البناء الروائي وما يمكن توظيفه داخل ثيمة النص.

فالكاتب استطاع أن يوظف الرمزية والأسطورة في جسد نص الرواية، وهي أي الرواية، التي أغناها بالسحر الشرقي المليئ بالأساطير والرموز الذين يحملون معاني عميقة ومتعددة الأبعاد، على سبيل المثال، فعندما يرمز للكنز في الرواية، إنما يعني ذلك الهدف الرامي اليه في الحياة كمظهر وقيمة عليا، في حين ترمز الصحراء و كذلك البحر إلى الصعوبات والتحديات التي يجب تجاوزها لتحقيق النجاح، وهذا ما يسحرنا به بابلو خويلو في اسلوبه ؛ بنفس كتابي، صوفي، بلاغي، عالي الدقة.

تشجع الرواية على السعي لتحقيق الذات والتطوير الروحي. من خلال شخصية البطل سانتياغو ومعركته الداخلية، فالكاتب يسعى الى أن يلقى على المتلقي نظرة عميقة على أهمية التنمية الشخصية والتفكير العميق (بالمفهوم المعاصر) في السعي الى أهدافه وتحقيقها، لقد اكتشف خويلو في روايته هذه الى العلاقة المعقدة بين الإنسان والكون وكيف تتداخل طبائعهما، وذلك يظهرمن خلال العديد من الإشارات والتفاعلات الطبيعية التي تحدث خلال رحلة سانتياغو من بلاد الاندلس الى بلاد العرب وكنوز حضارته في الشرق.

تميزت رواية "الخميائي" بأسلوب سردي بسيط وجذاب يجذب المتلقي ويجعله متشوقًا لمعرفة تطورات الأحداث التي تتلاحق في أجواء رحلة سانتياغو، كما استخدم خويلو لغة بسيطة وصياغة مفاهيم فلسفية بطريقة سهلة الفهم، كأنه يدرك الكاتب في كيفية ومعرفة توظيف المفهوم الفلسفي للحياة داخل النص الروائي لتقديمه للقاريء مبسطاً، مما يثير إعجاب كل من أطلع عليها، ناهيك عن القيمة الروحية التي تعرضها الرواية حول البحث عن الغاية المنشودة، وإلهام القاريء وتحفيز ذاته للقراءة والتمعن والبصيرة المتعمقة بين أسطر الرواية.

فالرواية تأخذ ابعادها بطريقة تصاعدية هارمونية وكأنك بين عالم يتوزع بين الحقيقة والخيال، أو كأنك بين عوالم أساطير التراث العربي والحكايات العربية القديمة التي ألفنها وسمعنا عنها من قبل، فالكاتب يوظف عنصر التشويق والدراما التي تكون إيحائية وبصور وأصوات متعددة. فضلاً على عمق الشخصيات وتفاعلها مع بعظها.

لقد اعطى بابلو خويلو لشخوصه الروائية وقرآئه حالة من التعاطف بين الطرفين، والإستغراق داخل النص بانسيابية مبدعة

حيث لم تكن الاساطيرالا رموزاً وبعداً استخدمها في الرواية لإضفاء عمق وتعقيد على الحبكة الروائية، وبطريقة توحي بالقدرة الابداعية للكاتب في حسن التوظيف للأسطورة الموفقة للرمز.

لقد أثرت رواية الخميائي بشكل كبير في تأريخ الرواية العالمية، وحظيت بشعبية واسعة في جميع أنحاء العالم، وتعد مرجعًا روائيًا للعديد من القرّاء والكتّاب، حيث تحتوي على فلسفة وحكم ونصائح قيّمة.

تسلط الرواية الضوء على قضايا مثل البحث والإصرار في الحياة، وقوة الإيمان والتحقيق الذاتي، وأهمية الشغف والتفاني في تحقيق الأحلام، والسعي لتحقيق الطموح الشخصي.

بفضل تأثيرها العميق، أصبحت جزءًا من التراث الأدبي العالمي، ومرجعًا روائيًا يستخدمه العديد من الكتّاب والمفكرين في دراسة وتحليل الأدب. كما أنها ساهمت في إثارة الاهتمام بالروايات الروحية والفلسفية في الأدب العالمي.

إن ما تميزت به رواية "الخميائي" بأبعاد فلسفية عميقة تتعامل مع الهدف الحقيقي في الحياة، والتحول الروحي، والقدر، والأسطورة، والتنوير الذاتي، والعلاقة بين الإنسان والكون، تعتبر هذه الأبعاد جزءًا أساسيًا من القيمة الأدبية والفلسفية التي تقدمها الرواية، مما جعلها من بسط سلطتها الإبداعية على مساحة واسعة من القراء.

***

د. عصام البرام - القاهرة

في المثقف اليوم