قراءات نقدية

بديعة النعيمي: المكان سيد الحكاية في رواية أم أسعد لسميح مسعود

يتسيد المكان بناء رواية أم أسعد، من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2023،  من حيث تأثره وتأثيره في باقي العناصر مثل الشخصية والحدث والزمن ويشكل همزة الوصل الرابطة بينها جميعا. وهو الذي حرك مشاعر سميح مسعود وذاكرته حيث قريته "برقة" التي فتحت المجال الواسع لخياله ليكتب من خلالها عن أماكن بما فيها قرى ومدن بأسمائها الواقعية ويرصد حقبة زمانية وأحداثا مهمة من تاريخ فلسطين.

فنجد الكاتب يصف الأمكنة طيلة صفحات العمل،وهذا الوصف من الأمور المهمة التي تتدخل في البناء السردي له. وقد ظهر أثر هذا الوصف أحيانا في صورة مقاطع كاملة وفي صورة جمل أحيانا أخرى،على لسان السارد العليم أو الشخصية.حيث كان لها الأثر الواضح في صنع إحساس مختلف بسرعة النص السردي.ويتجلى هذا ص٥ على لسان السارد العليم في افتتاحية الرواية فيقول" ومع اقتراب الليل زحفت غيوم سوداء على طبقات أجواء قرية (برقة) إحدى قرى وادي الشعير الشرقي،الممتدة على أطراف جبل النار ،خاصة فوق الجهة الغربية من القرية،حيث توجد سقيفة سليم أبو ذياب التي بناها على عدة أمتار من الأرض" ولقد كان لهذا الوصف الافتتاحي لهذا الجزء من القرية حيث تقع سقيفة سليم أبو ذياب دور تقني بالغ الأثر في صنع تصور لدى المتلقي عن نقطة الانطلاق إلى داخل السرد.

والمتتبع لرواية أم أسعد يجد بأن العلاقات المكانية برزت على شكل ثنائيات كان منها ثنائية المغلق/ المفتوح فسقيفة سليم المصنوعة من ألواح الزينكو وأفرع الشجر وأكوام الحجارة تقابلها العقود والمضافات لملاك القرية كلها بيوت والبيت يعني الأمن والاستقرار مع أنها توصف بالأماكن المغلقة لكن الانغلاق بالنسبة لسقيفة يطلق عليها اسم بيت كسقيفة سليم هو انغلاق نفسي وليس بمعنى الانغلاق المكاني أو الجغرافي. وقد أقدم الكاتب على تنفير المتلقي منها من خلال الوصف الذي جاء ص٥ على لسان السارد" تلتصق بها لوائح زينكو مغلفة بأفرع من الشجر ،بغير انسجام وأي قيمة بنائية تجذب المارة ،ولا يجذبهم السقف المغطى بعشرة ألواح زينكو طويلة مثبتة بأكوام من الحجارة الثقيلة.." وقد صنعت هذه السقيفة صراعا داخليا لدى ساكنيها وشعورا بعدم الاستقرار على عكس البيوت الآمنة المبنية من الحجارة المتينة ،ويتضح ذلك على لسان السارد ص٦ ما جاء عن سليم أبو ذياب" وبعد عدة دقائق اتسعت تقطيبة جبينه عندما سمع صوت سقوط المطر على ألواح الزينكو المثبتة فوق سقيفته ،وشعر بتيار خفي من التوتر يخيم على زوجته" وهنا يتحول البيت إلى وظيفة ودلالة عكس وظيفته الحقيقية من حيث أنه مصدر الأمان والسعادة وهي الوظيفة الحقيقية ويتجلى ذلك ص١١٨ في الليلة التي استقر فيها سليم أبو ذياب وزوجته في عقدهما الجديد الذي بناه ولدهم حمد بعدما كبر"تأكدا من حقيقة ما لديهما في داخل العقد،ثلاثة شبابيك على اتساعها طبقة زجاجية واسعة يمكن من خلالها رؤية كل شيء خارج العقد ،حتى النجوم وهي تلمع كالدرر في السماء الصافية"

كما ويستطيع المتلقي التقاط العديد من الأماكن المفتوحة مثل الحقل ومخيم عمل سكة الحجاز وغيرها وتوحي مثل هذه الأماكن بالحرية.ويعتبر الإنسان فيها حلقة وصل بينها وبين الأماكن المغلقة.

لكن البطل حمد لا يرضى بحياة فرضها الفقر وضيق ذات اليد عليه وعلى أسرته فيقرر الارتحال إلى مكان آخر للعمل بعيدا عن الحقول التي يستنزف فيها ملاك الأراضي جهده ويسرقون تعبه. ليكون أول ارتحال له نحو سوق الماشية للعمل دلالا هناك باسم أحد ملاك الماشية حيث يلتقي في هذا المكان الجديد بصديقه السلفيتي الذي يحدث حمد بما سمعه في مضافة عمه وهنا تبدأ شخصية حمد بالتبلور ومعرفة ما يحدث على أرض فلسطين من أخبار عن الصهيونية وسعيها لانتزاع الأرض من أصحابها الحقيقيين اعتمادا على أساطير توراتية.

وتواصل شخصية حمد النضج مع انتقاله للعمل في مخيم سكة الحجاز حينما يلتقي برائد الذي يحدثه عن جريدة الكرمل الحيفاوية وما تبثها من أخبار سياسية وهنا يكتشف بأن الأرض ليست مجرد مصدر للرزق بل هي كالبشر تحرك في نفوس أهلها أوتار الوطنية وتبلور الوجدان العام لهم وهي ذاكرة الماضي والحاضر. ومن هنا فالمكان له قوة تقود الإنسان إلى دروب المعرفة وبالتالي تصنع شخصيته من خلال الحدث.والإنسان يحمل هوية مكانه والمكان يشكل ملامح هذه الشخصية من خلال رسم أبعاد تاريخها وواقعها ورؤاها. فثنائية الإقامة/ الارتحال ساهمت بتغيير المكان والذهاب بحمد إلى أمكنة جديدة كان لها بالغ الأثر في بلورة شخصيته.

فالشخصية تصنع أحداث الرواية وهذه لا تقوم إلا بوجود المكان الذي يرتبط ارتباطا عميقا بزمن الأحداث. هذا الزمن الذي يشكل عنصرا مهما في رواية أم أسعد كون عجلته تدور على أرض ساخنة الأحداث ،إنه الزمن الفلسطيني الذي تنبني من خلاله علاقات ثنائية ضدية بينه وبين المكان ،فمرة نجده عطوفا على المكان وأخرى قاسيا عنوة عنه لأن هناك من يتحكم بتلك العلاقة ألا وهي الشخصية.فعندما انتقل حمد بنصيحة من رائد للعمل في حيفا بوظيفة تقيه الحاجة والعمل بسخرة في الحقول ص١٠٥ على لسان رائد" إذا رضيت بعملك الجديد يمكنك الاستقرار في حيفا" يأتي الزمن بسوطه التركي ليرغم شباب فلسطين على المشاركة في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جملا.وهنا نجد الزمن الذي يفرض سطوته وقسوته على المكان/ حيفا.ويتجلى هذا ص١٣٩ على لسان صديق حمد عن جيش الأتراك" سوف يلحقوننا قريبا بكتائب الجيش المنهار" فيضطر حمد للهرب والارتحال من مدينة حيفا إلى الريف وهنا يجد المتلقي نفسه يصطدم وجها لوجه مرة أخرى أمام جدار ثنائية المدينة/ الريف حيث يحنو الزمن على حمد من خلال إيجاد عمل في الأرض مرة أخرى في قرية عليوط والزواج من إحدى فتياتها. لكن الزوجة بعد حملها لن تحتمل برد قريتها شتاء فيفعل الزمن فعلته وسطوته ويجبر حمد على الانتقال إلى قرية لوبيا التي تتميز بدفئها فتتطور الأحداث هناك عندما يرزق حمد بأسعد الذي يتبلور بدوره فكره السياسي عندما يلتحق بمدرسة الأحمدية في عكا ص١٨٤ فيلعب المكان وتبرز أهميته في خدمة أسعد ورفاقه حين يقدمون على مقاومة الإنجليز.

 إذن فالعلاقة التي تربط الزمن بالمكان والشخصية وتأثر كل واحد بالآخر وهذا التأثر يؤدي إلى دفع الأحداث للأمام. فالمكان لا ينفصل عن الزمن بل يرتبط به بقوة والأخير قادر على رسم معالمه على الأول بفعل الشخصيات التي تشاركها الأحداث حيث تتطور الحكاية وتقود السرد إلى النهاية لتشكل وحدة نص أم أسعد. ف قرية برقة تغيرت ملامحها عند مد سكة حديد الحجاز في زمن السلطان عبد الحميد الثاني.

وحيفا تغيرت ملامحها بعد سقوطها على أيدي العصابات الصهيونية. فعلى لسان السارد ص٢١٣ عن الصغير -ابن سارة حيث يصف مشاعره بعد سقوط حيفا وفعل الزمن بها" مرت الأيام واختلطت أحداثها بمجرى حياة الصغير الذي أفاق بعد ثلاث سنوات على سقوط حيفا، واجه سقوطها بحزن ما زالت ناره تشب في قلبه حتى الآن،كتم غيضه وانطلق في منافي الشتات مع أسرته". فالزمن ظل وسيظل يؤثر ويتأثر بالمكان لكنه كان مختلفا بتأثيره على فلسطين بفعل انتداب ثم اغتصاب لم يغير فقط ملامح الأرض بل غير ملامح أبناء الأرض وقذف بهم خارج الأسلاك الشائكة تمزقهم الغربة يواجهون زمنا أقسى من ذلك الذي مزق فلسطين.فعزّ على الأبناء شراء لحظة زمن فائتة في أحضان الأم.

***

قراءة بديعة النعيمي

في المثقف اليوم