قراءات نقدية

طارق بوحالة: رواية قداس الكردينال و مهمة  تخليص الذاكرة من النسيان

"قداس الكردينال" هي  رواية للأكاديمي الجزائري سليم بتقة، والصادرة في طبعتها الأولى عن دار خيال للنشر والترجمة، الجزائر، بعدما  فازت بالمرتبة الأولى في المسابقة التي نظمتها هذه الدار في نسختها الأولى عام 2023.

تستدعي الرواية لحظة تاريخية تخص المجزرة التي قامت بها السلطات الاستعمارية ضد الأبرياء من سكان مدينة بسكرة، في 29 جويلية 1956، وهو ما يعرف في التاريخ الجزائري بـ"الأحد الأسود" حيث سقط المئات من القتلى الأبرياء في شوارع وساحات المدينة.

وقد حاول الروائي تمثيل  هذا الحدث التاريخي عن طريق عملية التخييل منتجا بذلك نصا روائيا يضاف إلى قائمة الروايات الجزائرية التي تعيد تشكيل التاريخ الجزائري خاصة الوطني منه، وتخضع بعض السرديات التي خلفها الاستعمار الفرنسي إلى مصفاة الفحص النقدي، ولهذا فأن رواية قداس الكردينال تنخرط في حقل الرد بالكتابة، من خلال تبيين مواطن العنف الاستعماري الفظيع الممارس بطريقة ممنهجة في حق الشعب الجزائري دون استثناء.

وتعيد هذه الرواية عملية استئناف النقاش الدائم الذي يخص التاريخ الجزائري في علاقته بالفترة الاستعمارية وضرورة إعادة كتابته من أسفل بعيدا عن الرؤية الكلية التي حاولت بعض المدارس التاريخية تكريسها. بمعنى حان الوقت من أجل إعادة إحياء الحوادث التاريخية التي تجاوزتها الخطابات التاريخية والإبداعية في نسختها الكلانية.

وقد تمكن سليم بتقة في عمله الروائي من تحريك السردية التاريخية المحلية/ الوطنية بتوظيف مدينته التي يعيش فيها "بسكرة" وما لحق بأهلها عام 1956 جراء الآلة الاستعمارية التي قتلت الرجال و الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة، وتجاهل الأمر من قبل الإعلام الاستعماري أنذاك.

وبعيدا عن السجال القائم داخل الأوساط الثقافية والأكاديمية حول الحقيقة التاريخية والتخييل الجمالي والفني، فإننا يجب أن نتعامل مع هذه الرواية على أنها خطاب أدبي يجمع كما تقول ديانا ولاس بين التاريخ الذي هو حقيقة أو واقعة وبين القص الذي هو غير حقيقي أو مخترع، ولكن هذا النوع من التخيل التاريخي قد يستهدف نوعا مختلفا من الحقيقة.

ولا تكتفي هذه الرواية بتوظيف الحدث التاريخي لموقعة ساحة الكردينال لافيجري في مدينة بسكرة فحسب، بل إنها تمزج ذلك بنوع من الذاكرة الثقافية من خلال الحديث عن هذه المدينة ونسيجها الاجتماعي ومستويات الحياة اليومية فيها، وطرق الاحتفاء وأنماط الاستشفاء وأطباق الطعام وطرق الاحتفال بالعائدين من الحج وغيرها .

وتحضر بسكرة بأحيائها الشعبية المقاومة مثل 'حي المسيد" ، وحدائقها العالمية مثل حديقة "لاندو" وكذا الشخصيات الأدبية العالمية المعروفة  التي زارت بسكرة أو حلمت بزيارتها، مثل صاحب رواية اللأخلاقي أندري جيد الذي كان "يرى جمال بسكرة في صفاء سمائها وشمسها وخضرة بساتينها، ووداعة أهلها، وفي أزقتها وحارتها ومقاهيها.. جمال لو قدر لأمير النثر شاتوبريان لكان وحيا له ولأمي الشعراء لامارتين..." ص118. وأوسكار وايلد وكارل ماركس وغيرهم.

وتتوزع شخصيات الرواية بين شخصيات تاريخية "حقيقية" وشخصيات تحيل على نماذج عاشت الحادثة المروعة ولكن ليس بالضرورة أن تكون حقيقية اسما وحضورا تاريخيا. فشخصية العيد الرجل البسيط الذي غادر قريته "أوماش"  يمثل الجزائري البسيط الذي كان يحلم بعمل يعيل به عائلته الصغيرة، والذي لم تكن له ثقافة نضالية أو حس وطني كبيريين،  ولكنه رغم هذا نجده قد رفض رفضا قاطعا أن يهان من قبل أحد الجنود الأفارقة الذين جلبتهم فرنسا الاستعمارية معها، فرفقة قريبه مسعود تمكن العيد من قتل ...جنديان ذوا سحنة إفريقية، قتلا طعنا بالسكين على ما يبدو في جميع أنحاء الجسم، أكثر من طعنة في البطن، في الظهر في الحوض وفي الوجه... ص 147

يمثل ما قام به العيد ومسعود  ردة فعل طبيعية من أناس بسطاء تم شحنهم بكمية كبيرة من كره للاستعمار الذي استعمل كل أساليب العنف ضد الجزائريين قتلا وتعذيبا وتشريدا وتجويعا وحرقا ورميا من الطائرات الحربية وغير ذلك كثير. مما خلق عندهم نوعا من العنف المضاد.

كما نقف في رواية قداس الكردينال على شخصيات فرنسية كانت تساند الجزائريين والثورة الجزائرية، ومنهم شخصية السيد دانيال صاحب فندق روايال الذي وقف ضد الجنود الفرنسيين، محاولا الدفاع عن الأبرياء ممن تعرضوا للقتل في ذلك اليوم، مما كلفه بعد ذلك السجن، فقد كان " مشاكسا وساخطا على الظلم المطبق على أهالي بسكرة وأبنائهم..."ص 84.  وهو الذي تمنى أن يكون "قادرا في يوم الأيام على شرح كيف أمكن هؤلاء المرضى نفسيا أن يحولوا بلدا متحضرا مثل فرنسا إلى آلة قتل بليدة، وعديمة الأخلاق." ص191

كما  يأتي أيضا استحضار لشخصيات تاريخية منهم شباح المكي و "موريس لابان" وغيرهم

وقد استطاع سليم بتقة في روايته أن يجمع بين مسويات ثلاثة من اللغة، اللغة العربية التي كتب بها العمل، ومستى اللهجة الجزائرية في نسخة أهل بسكرة وقد استعملها في أغلب حوارات الشخصيات التي تعيش حياة عادية وبسيطة مثل العيد ومسعود و"نانا هنية" وبولخراص وغيرهم، ومستوى اللغة الفرنسية حيث جاءت معظم حوارات الجنود والساسة الفرنسيين باللغة الفرنسية.

وتستند الرواية في رسم هذا اليوم الأسود  في حياة الجزائريين على تفاصيل مروعة تعيد تمثيل العنف الهمجي الذي مارسه الاستعمار في شوارع المدينة إلى حد العبث، فقد قتل بعد أسبوعين من احتفال الرابع عشر من جويلية المئات دون تمييز بينهم، ...فهذا صبي   في العاشرة من عمره يركض باتجاه الرصيف..كان شاحبا جدا..وخائفا لدرجة أنه نسي أن يتوقف أمام ضابط قادم من المقر الرئيس للقوات الفرنسية..قبض عليه هذا الأخير ودون أن ينبس ببنت شفة، سحب مسدسه ووجهه نحو رأس الصبي وأطلق النار..." ص 165

ويمكن لنا أن نقول بأن رواية قداس الكردينال قد استندت على الذاكرة من أجل إعادة بعث الماضي وتدويره، والخروج من سجنه، فمن مهمات الذاكرة هو عدم سجن أنفسنا داخل الماضي، بل السعي إلى تخليصه من النسيان. خاصة إذا استحضرنا الاهتمام البليغ بمبحث الذاكرة في الدرس التاريخي المعاصر. والتخلص من السرديات الكبرى التي كرستها الكتابات الكولونيالية. ولهذا يرى "كروين لي كلاين  أن الذاكرة لها القدرة على إعادة الفتنة والسحر إلى علاقة الأفراد بعالمهم الذي يعيشون فيه، والقدرة أيضا على استرجاع الماضي في الحاضر والعكس مرة أخرى.

وتحضر مدينة بسكرة في هذه الرواية باعتبارها فضاء مركزيا تؤثث داخله الأحداث، ولكننا مع نكتشف أخيرا أن هذه المدينة هي بطل الرواية، وليست شخصيات العيد ومسعود وسي بوبكر ودانيال والتجار اليهود والجنود الأفارقة ورجال السياسة والدين الفرنسيين، بل إن بسكرة هي التي تنتصر في الأخير كونها تملك مقومات حضارية وثقافية وذاكرة تاريخية تمكنها من تذويب كل هذه النماذج البشرية وتجاوزها.  إنها بمثابة المدينة: الحلم والذاكرة.  فقد رأت "نانا هنية" في حلمها أن مدينة بسكرة "قد استعادت حياتها المفقودة، عاد إليها أطفالها .. وادي سيدي زرزور يجلب حرارة الصيف إلى حوافه..تتزاحم القوارب عند شطآنه  لنقل أنواع التمور والبرتقال والزيتون.. كما عادت أمسيات الصيف وامتلأت المدينة بالإلهام مثل كأس الشاي المنعنع واهتزت ساحة الكردينال لافيجري بضوضائها المعتادة من الفجر، تألقت الأضواء الكهربائية  متحدة مع وهج الشفق..كأنما هو يوم احتفال..في نهاية هذا الشارع الجميل، أقيمت حفلة مثل حفلة زفاف مضاءة بالشموع، وبأصوات الأبواق والطبول." ص196.

يمكن لرواية قداس الكردينال أن تكون ضمن النصوص الروائية ذات الطابع التاريخي التي تساهم في إنتاج خطاب أدبي ليس ضدا للدرس التاريخي، بل يتقاسم معه مهمة تخليص الذاكرة من كل أنواع النسيان. وتخليص التاريخ من سلطة السرد الكولونيالي.

***

طارق بوحالة

في المثقف اليوم