قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. أدب

madona askarلا بدّ من التّخرّج من مدرسة أنسي الحاج الأدبيّة؛ كيما يتمكّن أيّ كاتب أو شاعر أو ناقد من تقييم نتاجه الأدبيّ وإدراك صوابيّة توجّهه في عالم الأدب. فأنسي لا يضع أسساً للعمل الأدبيّ التّقليديّ، وإنّما يتوغّل في سيكولوجيّة الأديب ويعرّج على سلوكه، ليشرح بدقّة ماهيّة الكتابة والكاتب.

يتجلّى في هذا الفصل (أدب) من كتاب "كان هذا سهواً" الفكر الأنسي النّقدي المتوغّل في ذات الأديب والشّاعر، والنّاقد. فمنها تنطلق الكتابة الفاعلة ليصبح "الأدب سحراً، خلاصاً"(ص 197) بعيداً عن التّيئيس والتّبئيس، فيفتح باب الانعتاق للقارئ ويحرّره فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً. فالكتابة أبعد من نصوص تُصاغ بهدف التّعبير عن الذّات أو البوح بمشاعر معيّنة. كما أنّها أرقى من هدف يُسعى إليه بهدف الوجاهة والشّرفيّة والشّهرة. إنّها، أي الكتابة، فعل الكلمة في نفس القارئ المحرّر الفكريّ والنّفسيّ والرّوحيّ. وبحسب أنسي الحاج يُسأل عن ذلك الشّعر، المقال، القصّة... "كم تُحرّر قراءة الأدباء العرب؟ هذا السّؤال. الجواب: كتاباتهم لا تتداول القضايا الأساسيّة للإنسان والمجتمع ولا حتّى نصف الأساسيّة، وإنّما تكتفي بالعموميّات أو بالتّصدّي (؟!) لمشكلات بديهيّة واتّخاذ مواقف تقليديّة (المحبّة ضد البغضاء، التّسامح ضدّ التّعصّب، الخير ضدّ الشّرّ، الولاء للأرض والوطن، مناهضة العادات البالية (؟!)،... تعود من مطالعة أدبائك ومفكّريك العرب وأنت أكثر حاجة إلى الانعتاق (ص 156).

قد يبدو النّقد قاسياً إلّا أنّه واقعيّ ودقيق في ظلّ ما يشهده الأدب المعاصر من تراخٍ وميوعة وجنوح نحو السّطحيّة والتّهافت على صياغة النّصوص البالية الشّبيهة بعصرنا (ما عدا بعض الانحرافيّين وهم قلّة محدودة الوصول) (157). وقد يذهب هذا النّقد إلى زلزلة غالبيّة الكتّاب ليعيدوا النّظر في ولوجهم في هذا العالم السّامي والمترفّع عن المظاهر والأضواء والانغماس في متاهات تزيد من انحطاط الأدب ولا ترفع من شأنه.

 

- في الكتابة:

الكاتب جزء لا يتجزّأ من الإنسان، ولا ريب أنّه يختبر إنسانيّته وتتشكّل شخصيّته ونفسيّته على هذا الأساس. إلّا أنّ عليه أن يدرك مدى تأثيره في النّفس الإنسانيّة، إن من ناحية استفزاز إحساسها الجماليّ، وإن من ناحية التّعبير عن وجعها بل ملامسته بل بلسمته. الكاتب الحقيقيّ هو ذاك الّذي يكتب بألمه إلّا أنّه يمزج الألم بالجمال، فيستنطق حسّ القارئ ويرتقي بفكره وروحه. "الجرح العميق لا يبرّر أشدّ الكتابات جنوحاً، فحسب، بل يبارك قارئها." (151).

ولعلّ معظم كتّاب اليوم يكتبون البوح بدل الألم، فتأتي الكتابة هشّة، تأثيرها آنيّ سريع لا يخلد في نفس القارئ. ناهيك عن افتقادهم للمعرفة؛ فتقتصر الكتابة على الوصف، ولا تقبض على الرّوح الإنسانيّة؛ لتنتزع منها الجهل وتستبدل به الحكمة والاتّزان. ما سيحول بينهم وبين استحالتهم إلى لغة يفهمها القارئ ويتفاعل معها ما إن تومئ إليه بحرفها.

 

- في الشّعر:

"لا أعرف إذا كنت شاعراً. أحياناً أشكّ وأنفي عن نفسي الصّفة. (ص199)

إذا كان أنسي الحاج المعلّم "الشّاعر"، لا يعرف إذا ما كان شاعراً أم لا، فكيف نحن الّذين ما زلنا نحبو في عالم الكتابة والشّعر نفرض على القارئ الشّعر بلقب يسبق أسماءنا؟ وكيف لنا أن نسمّي ما نكتبه شعراً إذا اقتصرت سطورنا على البوح والحزن المبتذل والرّداءة اللّغويّة...، بعيداً عن الفكر والفلسفة، والعلم.  فالشّاعر الّذي يحتاج للتّعريف عن نفسه بلقبه لا يعي ضمناً أنّ شعره غير مؤثّر، فيحتاج لفرض التّأثير باللّقب. "الشّاعر علّامة. ما يقوله عن النّفس، عن الجنس، عن الألم، عن الخلاص، عن الجمال، عن الله، عن الموت، ما يقوله عن تفاصيل الكائنات ما يشدّها وما يهدّها، يسبق إليه الجميع هو والأطفال" (8). فالشّاعر والطّفل يتساويان عند أنسي، لأنّ النّقاء يمتلكهما. ونقاء الشّاعر لا يعني بالضّرورة الكمال الرّوحيّ، وإنّما يعني المسافة بين الجانب المظلم في الإنسان والجانب المستنير، واستخدام الثّاني في سبيل بلوغ المقام الشّعريّ. "الشّرّ هو أكثر ما يتأثّر فينا بالجمال. الجانب الخير يمرّ عليه ماء الجمال كما ينسكب الجمال على ذاته." (ص146)

 

- في النّقد:

إذا كان النّقد مرآة الكتابة الّتي تكشف ملامح الكاتب الإبداعيّة كما مواطن الضّعف، بهدف الارتقاء بالعمل الإبداعيّ. وإذا كان النّقد يهتمّ بالنّصّ الأدبي كعمليّة يتمّ فيها التّمييز بين جيّد الأدب ورديئه، فأي معنى للنّقد المتعلّق بشخص الكاتب، إن من ناحية مدحه أو ذمّه؟ وأيّ مكانة للنّقد إذا اقتصر على تمجيد الكاتب أو تسفيهه؟ "وفي أدبنا الحديث، لا يزال معظم النّقاد يصرف أكثر جهده في الكلام على حواشي الأثر ومقدّماته وظروف صاحبه أكثر ممّا يدخلون في الموضوع. قرأت عن آداب الحفاوة بأحمد فارس الشّدياق وأمين الرّيحاني وجبران وميّ وأحمد شوقي وأمين نخلة وشفيق معلوف وسواهم أكثر ممّا قرأت نقداً لأدبهم..." (ص148).

يندرج النّقد كفعل خاصّ وضروريّ في إطار الأخلاقيّات الأدبيّة. فللنّاقد حضور مهمّ يرافق الكاتب ليستخرج الجمال من عمق الحرف ويسلّط الضّوء على مواطن الضّعف، ويرسّخ العمل الأدبيّ في ذهن ونفس القارئ. وبالتّالي فأخلاقيّات النّاقد تحتّم تحرّره من استرضاء الكاتب أو كسبه عاطفيّاً، لأنّ النّقد تنتفي أهمّيّته وتتراجع فعاليّته في ظلّ غضّ النّظر عن الثّوابت القيمية والفكريّة. "لا تزال أخلاقيّات الأدب العربي بل الآداب العربيّة عند فضائلها مذ كانت ولم يتغيّر فيها حرف رغم ما يقال خلاف ذلك. ما عدا حفنة من "الانحرافيّين". ولا أحد فهم ما قالوا. وإن فهموا جرى التّصرّف وكأنّهم لم يفهموا" (157)

 

أنسي "الشّاعر" كتب من نقاء وليس من كمال، فأسعد وأبكى في لحظة خاطفة. أنسي ومضة الشّعر والنّقد والكتابة في عصر أدبيّ يبدو وكأنّه يتراخى وينحدر.

 

في المثقف اليوم