قراءات نقدية

قصي الشيخ عسكر: شخصية الضابط ابتسام في رواية غابات الإسمنت

حين أتحدّث عن (غابات الإسمنت) وهي رواية جديدة للكاتبة والشاعرة السيدة ذكرى لعيبي، أجدني اطلع للمرة الأولى على موضوع حيوي أعطاه الغرب مجالا واسعا من البحث والتدقيق والنشاط سواء من الناحية الأدبية أم الناحية الاجتماعية والعلميّة أو النفسيّة.

لا مشكلة في باب المثلية أو مايعادلها لدى الغرب ولا تثير عيبا أو استغرابا.

لكن.. يبقى المجتمع العربي يراها مشكلة وعيبا ويطالب بإيقاع أقصى العقوبات على من يوصفون بها. ومن يقترفونها.

لا أحب أن أدخل في نقاشات فقهية وغيرها فأنا في مقالتي هذه أود أن أشير إلى المساحة التي دخلتها السيدة ذكرى بهذه الرواية. إنها مساحة الاستثناء الذي يشكل حراما وعيبا، غير أن الكاتب أو الكاتبة ليسا هما فقيهين ولا رجلي دين بل إن المؤلف هو فنان يلتقط الظواهر فتؤثر فيه فيصوغها شعرا أو مسرحية أو عملا روائيا حسب تمكنه الفني وقدرته الإبداعيّة.

فلأترك دراسة الرواية لناقد آخر ولأتناول جانبا واحدا منها هو شخصية نقيب الشرطة ابتسام التي صاغتها الكاتبة بدقّة متناهية ورسمت ملامحها من دون تحوير ولا زيف.

حين نطالع شخصية الضابطة نجد أنفسنا أمام شخصية غير نمطية للشرطية تلك الصورة التي كوّنّاها عن الشرطي والشرطية في حياتنا العامة من خلال المعايشة اليومية أو من خلال الأفلام العربية التي ترسم ملامح أفراد الشرطة القاسية وعنفهم وسلوكهم المشين.

اعتقد أن الكاتبة رسمت صورة للشرطية فريدة من نوعها وجديدة، ولو تابعنا حياتها لوجدنا أنها ابنة لامرأة لاحول لها ولا قوّة، أبوها تزوج على أمها وخلف أولادا ورثوه. صحيح أنها ورثت بعض مال إبيها وبيتا من أمها لكن الحصّة الأكبر ذهبت لأخوانها.

إنها الخطوة الأولى التي جعلتها تتخذ موقفا سلبيا من الرجل أيّا كان أو لنقل ترسم علامات استفهام على الرجل.

المرحلة الثانية جاءت لأسباب فسيولوجية هي كما تقول الرواية ليست جميلة وليست قبيحة، تكتشف أنّ لها ميولا نحو الأنثى مثلها ويبدو أنها ميول فسيولوجية وليست من باب الشذوذ قد تكون المسألة قضية هرمونات أو طفرة عضوية. لذلك تصادق فتاة في مرحلة المراهقة ثم بعد فترة تنتهي هذه العلاقة. لاشك أن ابتسام أرادت أن تحقق ذاتها وقد اكتشفت مبكرا أنها ذات ميول مثلية فسيولوجية فتقاربت مع النساء أكثر وأعجبت بهن.

المرحلة الثالثة:

وتتجسد في أن ابتسام وصلت إلى نقطة تتقمص فيها دور الرجل. الرجل الذي أهان أمها وأخذ حصته الكبرى في الميراث، فكيف تأخذ بثأرها منه؟ ليس هناك من سبيل إلا أن تكونه هو الذكر الذي تعدى عليها بصفتها أنثى، والذي يتتبع علاقاتها الجنسية بخاصة عندما تدخل البطلة في الحمام يجد ابتسام تبدأ بالتحرش كما لوكانت رجلا يغازل أنثى. إن مثليتها المتطورة تجعلها أقرب إلى الذكورة لاسيما أنها متوسّطة الجمال والبطلة جميلة.

من خلال ماتقدم يمكن أن نسأل ماهي ملامح الرجولة في سلوك ابتسام؟ على وفق قراءتنا للرواية، إن العلامة الدالة على انسجامها مع الوضع المثلي كانت تشير إلى اختيارها في المرحلة الثانية لوظيفتها الحالية. استغلت مكانة أهلها وسمعتهم عند الدولة فدخلت كلية الشرطة لتتخرج ضابطا، ونحن بصفتنا محايدين نقول ان هذه وظيفة خشنة تتطلب قوة وصرامة وموضوغية وقباحة في الوقت نفسه، فهي لم تختر وظيفة شرطية من باب الهواية بل لتحقق انتقامها من الرجل هذا من ناحية، من ناخية أخرى إنها حين تصبح شرطية تكون بالطبع في قسم النساء وهناك في هذا القسم سجينات لأسباب عديدة: القتل.. السرقة.. البغاء إلخ.. يعني هذه أسباب تتعلق بالرجل، فتكون قريبة من سجينات هن من ضحايا الرجال حسب تصورها فتكون أكثر رحمة بهن من أي ضابطة أخرى. تستطيع أن تعاملهن بلطف وتفكر بمساعدة من تخرج من السجن، ولعلها تجد من تحبها بصفة دائمة من السجينات الضحايا حسب تصورها، كانت تريد أن تكون هي الرجل لتنتقم من الرجل فأصبحت ضابطة في الشرطة لتعايش النساء اللائي كتب عليهن لسبب ما أن يكنّ ضحايا، ولم تنس مشاعرها .اختارت واحدة لتكون حبيبتها تدعوها إلى بيتها، ولأجلها كانت تختار بعض الليالي سجينات أخريات تصحبهن لبيتها فينمن في المطبخ أو الصالة. تعاملهن باحترام وتثق بهن، إن مشكلتها مع الرجال فقط وربما استخدمت مع السجينات طريقين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي:

الإيجابي هو أن تشجع وتدعم من يطلق سراحها سواء من كانت مهرّبة أم تمارس البغاء في إيجاد عمل شريف لها ترتزق منه بدلا من العودة بعد السجن لما كانت عليه الحال قبله.

ثانيا الطريق السلبي أي طريق الغاية تبرر الوسيلة. هناك نية عند الضابط ابتسام لمعاقبة التجار الكبار ومن بيدهم مقادير البلد ممن ينضوون تحت مسمى الرأسمالية والبرجوازية، أو يحتلون مراكز حكومية، بحكم عملها في الشرطة ومسؤوليتها عن سجن النساء كانت تنتقم بالمرأة نفسها من هؤلاء بتوظيفهن وهن سجينات عند المخابرات التي تستغل جمالهن وفتنتهن، لتضمن لهن رواتب ومستقبلا أفضل بعد أن يخرجن من سجنهن. وقد وقع اختيارها على اثنتين هما البطلة القاتلة وزوجة سجين سياسي، في الوقت نفسه كانت تستغل وظيفتها في الحكومة فتقيم علاقات مع المهمين في الدولة مثل رئيس غرفة تجارة البلد، كانت حريصة على أن تعمل البطلة حبيبتها في سلك المخابرات لتمارس الجنس مع هؤلاء المتنفذين لسرقة معلومات منهم، ومعرفة خصوصيّات تصبح ورقة يُهدَدون بها وهي لا تشعر بالغيرة من ذلك، فلو وجدت عشيقتها السجينة تمارس الجنس مع امرأة أخرى لقتلتها هي تعترف بذلك لكن مادم الفعل مع رجل بغرض تهميشه وتحطيمه فالأمر لا يستحق الاهتمام والغيرة والقلق، هذا السلوك قد نجده عند الشخصية غير المثلية التي يطلقون عليها في بلادنا العربية الشخصية السوية، شاهدت مرة شريطا سينمائيا أمريكيا لرجل يعمل عسكريا ذا رتبة رفيعة يكتشف أن امرأته تمارس الجنس مع فتاة مثلها فلم يبال لأن الفعل لم يكن مع رجل، والشريط نفسه تناولت أحداثه مع سيدة دنماركية فكان جوابها لو وجدت زوجي يمارس الفعل مع رجل لما غضبت ولما غرت، هل أغار من رجل؟ وشاءت المصادفة أن أتابع مسلسلا كويتيا منذ أكثر من 20 سنة تكتشف فيه الزوجة زوجها يمارس مع رجل فتطلب الطلاق، ولو حللنا نفسية الضابط ابتسام لوجدنا أنها شرقية غير أن دافع السيادة والمساواة التي تؤمن بها كل ذلك دفعها إلى أن تتنازل عن حبيبتها لرجل بل أكثر من رجل لتحقيق رغبة تتمثّل في دفع الذكورة إلى مرتبة أدنى.

يثبت ما أشرنا إليه مجتمع الفتيات اللائي يشكلن تنظيما دينيا وثنيا وعبادة الشيطان، فهي تغتنم الفرصة وتطلب من حلبيبتها تأجير الشقة فوق محل الحلاقة لهن، وتتحرك فيها رغبة الشرطي لتراقب سلوكهن، لا بدافع الانتقام منهن بل لكسر شوكة آبائهن، هناك فيهن ابنة السياسي وابنة العسكري، إن ابتسام كونها أنثى وكونها مثلية في الوقت نفسه ولأنها ضابط تستطيع أن تحقق نتائج ايجابية للسجينات عبر طريق الغاية تبرر الوسيلة.تريد أن تحتل مكان الذكر لتنتقم منه.

ليس هذا فحسب إن الضابط ابتسام تجمع بين الثقافة والحزم والعلاقات العامة التي تتمثلها في أعماقها بكره الرجل، تعامل السجينات بإنسانية، وليس لديها مانع أن تتحول إلى مجرمة في تعاملها الخاص مع الرجال وتنسيقها في علاقاتها الخاصة مع دائرة الأمن للتخطيط لسجنهم وتجريدهم من صلاحياتهم بوسائل شريرة.

الرجل عندها مجرم.

والمرأة ضحيّة

ولكنها بذكائها المتوازي مع غريزتها تدرك ضرورة الرجل لاستمرارية الحياة، تحلم بمستقبل يغير العالم ولو جزئيا: أن تتزوج رجلا لأجل أن تكون أُمّا

وتحلم أن تتزوج حبيبتها من رجل لكي تصبح تلك أيضا أُمّا، هي يرثها وليدها وحبيبتها ييرثها وليدها ويمكن إذا كبر ابنها يتزوج بنت حبيبتها إو العكس.

إنه تخطيط وليس حلما يمكن أن تتزوج موظفا عندها فتطلقه، ثم بعد تحقيق الحلم لايهم أن يقتل بحادث أو يضيع في فوضى العالم.

إنه حلم أشبه بمخطط يحمل الخير والشر وذلك متأت من روح التناقض التي تعيشها ابتسام البطلة الموازية لبطلة الرواية الضحية.

***

د. قصي الشيخ عسكر

في المثقف اليوم