قراءات نقدية

صالح الرزوق: أشكال التعبير الروائي لدى عبد الرحيم المراشدة

saleh alrazukفي كتابه (الرواية والمستقبل والنص الموازي)، الصادر عن دار العارف في بيروت، يناقش الدكتور عبد الرحيم المشاهدة اتجاهات أدبية سائدة في المشهد المعاصر.

الأول هو الخيال العلمي

ومع أنه يتناول بالتحليل والنقاش رواية (آدم الجديد) لروائي متميز وغزير الإنتاج، وهو قصي الشيخ عسكر،  لكنه يحاول أن يتكلم في حدود النوع بشكل عام. فقد أغنى رؤيته بمجموعة من المقارنات التي تضع الذاكرة الفنية بجوار الحاضر. ورأى أن الخيال العلمي لا يختلف عن الظواهر العجيبة التي تحفل بها رسالة الغفران للمعري مثلا. وهذا بدوره يحمل بذور اللامعقول. ووجد أن لهذه الأنواع فلسفة تساعد الإنسان على إعادة صياغة مفهومه للعالم والواقع والحياة ص 11. بتعبير آخر هي أساليب تشجع الإنسان على توسيع مداركه بالتنبؤ والاستشراف. ومع ذلك هناك خيط رفيع يميز العجائب التي يتناولها الخيال الشعبي وتلك التي تعيد العلوم الحديثة إنتاجها. فالظواهر العجيبة (كما ورد عند حازم القرطاجني) هي أشياء تراها العيون ومتعلقة بشيء معروف ومألوف ولكنه منسي ومدفون في أعماق النفس ص 57. ولذلك كانت اللغة في (آدم الجديد) تتألف من مستويات: التراكيب العادية والمفردات الغامضة التي تنتمي لعالم استباقي لم يئن أوانه. ص 56.

ولا شك أن الدكتور المشاهدة أراد بهذه النقطة أن يرسم خطا أحمر بين استهلاك المخزون النفسي للإنسان وإعادة إنتاجه. فالاستهلاك ضار في معظم الأحيان. وهو يهدر الطاقات الكامنة ولا يغنيها، وبالاستطراد إنه لا يساعد على تجديد عقل المعرفة. فالإدراك مشروط بالسببية. والخرافة هي التي تقفز إلى النتائج قبل أن تمر بالأسباب.

ويمكن توضيح هذه الفكرة لو قارنا بين الأدب الشعبي وأدب الثقافة العلمية.

الأول يستعمل الخوارق والمعجزات ليرمم بها مشاعر النقص والإحساس بجرح الحضارة. وغالبا تزدهر الآداب الشعبية في فترات مبكرة من يقظة الأمة  أو في فترة الانحطاط والهزيمة. في حين أن النوع الثاني يبحث عن الممكن أو عن الحل الناجع لمشكلة وجودية. ص 9، ولا يخرج على منطق التاريخ، ولكن كما ورد في الاستهلال: يستبق الواقع ويتجاوز الحاضر ويحفز الذاكرة البشرية. بعبارة أخرى إنه يدخل في عداد تحليل الواقع المؤجل. فالخيال العلمي يحترم الدلالة الفكرية للمرحلة ص 11 ويحاول أن يجد ماذا وراءها. ص 12.

وأعتقد أن النوعين على طرفي نقيض. مثل التوهم وتحليل معطيات التاريخ. أو فلسفة الأمل واستراتيجية الصبر. وأنا مع الدكتور المشاهدة أن الحس التاريحي ينطوي على قراءة للمستقبل. ص 13. وأن الخرافة والأسطورة هما حل لو أن المفاهيم الجاهزة لم تعد تكفي لتحقيق التوازن مع الواقع القائم. ص 17. وأن الغرائبي والعجائبي يفيد الواقع في إنتاج وعي مختلف أو وعي بالعبور ص 18. إنه بلا أدنى تردد لا يوجد أي تماثل بين الظواهر الاتكالية التي تميز عيوب التخلف وظاهرة الحدس واكتشاف اللاوعي الباطن. 

ويجمل الدكتور المشاهدة صفات الخيال العلمي في ثلاث نقاط أساسية.

1- اللغة العلمية. وهي المفردات المختارة من نتائج الاختراعات. وهذا يعني أنها لغة تستند على إنجازات وتجارب سابقة.  ص 55 وعلى عوالم افتراضية متعلقة بشيء معروف إلا أنه منسي ومدفون في أعماق النفس ص 55، بعكس السير والملاحم التي تعتمد في مفرداتها الغريبة على نصوص سابقة.

2- ثم اللغة الخارجة على المألوف. وهذا لا يعني أنها جزء من التفكير الخرافي وإنما هي غير متداولة في حياتنا اليومية والمادية. فهي جزء من لغة النخبة أو أنها تعبر عن منعطف حضاري غير شائع. ص 62. وتعكس موقفا إنسانيا من التحولات المتسارعة التي تجتاح حياتنا الراهنة. ص 61.  إنها لغة تأتي من خارج النسق الملموس عند الإنسان العادي للكشف عن الخبيئة أو المعاني المستترة خلف السياق. ص 63.

3- كما أنه يستعمل لغة التقارير والمذكرات لتبدو وكأنها كتابة وظيفية. ص 64. وهذا جزء من فلسفة الخيال العلمي. فهو يحاول أن يرى ما هو غير موجود وكأنه واقع حقيقي.

إن مشكلة الخيال العلمي تأتي من المرور من ثقوب الزمن، أو القفز من فوق جدار العزل بين المراحل، دون التخلي عن إيمانه التاريخي بجدلية الوقائع. ولذلك لا يمكننا اعتبار رواية (المسخ) لكافكا خيالا علميا. بكل بساطة لأنها نبوءة رجعية. فهي تعكس اتجاه خط التطور من الكائنات الراقية إلى البدائية، وبالتحديد من إنسان إلى صرصار، بينما المفروض أن تتوقع النبوءة العكس تماما.

وأغتنم هذه الفرصة للتذكير بقاعدة هامة من قواعد اللغة االتي وضعها شومسكي وهي المنطق. إنه على أي تعبير لغوي أن يلتزم بما يقبله العقل. وهذا ينسحب كذلك على الخيال العلمي. إنه لا يمكن أن تنظر للخرافات والأساطير على أنها نبوءة يمكن أن تحصل. أما (آدم الجديد) فهو من رابع المستحيلات. ولا أستطيع أن أتصور إنسانا تجري له عملية زراعة دماغ وكلية ورئتين. إن هذا لا يتحدى المنطق فقط ولكنه يشكل نوعا من التحدي للبداهة العلمية. وهو ما فعلته ماري شيللي في (فرانكشتاين). لكنها لم تكن تتعمد التكهن، وإنما الترميز جريا على عادة كل الرومنسيين الإصلاحيين الذين يعيشون بخيالهم لا بعقلهم. كانت الرواية تعيد صياغة الصراع التقليدي بين نداء الحياة وغريزة الموت السادية.

وقد لعب على هذا الوتر لاحقا أحمد سعداوي في (فرانكشتاين في بغداد). لكن أضاف للصراع الملحمي على صعيد الإنسان الواحد مشكلة الصراع بين الحضارات وفكرة الغزو والمقاومة.

هذه الأعمال برأيي جزء لا يتجزأ من الفن القوطي ولا سيما إذا انتبهنا إلى لغتها الكئيبة وجوها الرمادي الذي ترعاه أيضا أبنية لها هندسة موحشة تذكر الإنسان بالمقابر وفكرة الموت. إنها تدخل في نطاق الإحياء الرومنسي لوجدان جريح يبحث عن العزاء في المناطق الغامضة من الحياة البشرية. ولا أستطيع أن أجد فيها نبوءة ملموسة وهي على أقرب تقدير مقاربة فلسفية تبرر ظاهرة التوسع والاستعمار، أو إنسانية الأفكار وأمميتها (و هذا افتراض فابي ينفرد به قصي الشيخ عسكر في رؤيته للنسخة الأخيرة من أدم أبي البشر).

ولعل الخيال العلمي لم يولد قبل رواية (الساحر) لسومرست موم. فهي تتنبأ في خاتمتها بطفل الأنابيب وإنتاج إنسان كامل الملامح بزرع أنسجة في سائل مغذ أو في حاضنة. وهو شيء مفهوم إذا وضعت بعين الاعتبار أن موم بالأصل طبيب.

***

يناقش النصف الثاني من الكتاب العلاقة بين النص الفني والمتوزايات التي يستند عليها. وأيضا يعتمد على رواية لقصي العسكر وهي وثائقية بعنوان (الثامنة والصنف مساء).

في لقاء خاص مع الشيخ عسكر يؤكد: أنه استمد أحداث روايته من موقف بطولي للدكتور عبدالرضا علي حينما غامر بحياته لغاية إنسانية ونبيلة. وهي تسهيل لقاء بين موقوف وزوجته. ولذلك يعتقد الدكتور المراشدة أن الحبكة نص والواقع نص محايث. لكن التوازي يمكن أن يحصل في عدة مستويات. بمعنى أن التناص قد تكون له أشكال رمزية وأخرى صورية. وبالعبارة الواحدة كما ورد في الدراسة: إن التوازي هو تقابل لثنائيات ويمكننا أن نسميها مع جيرار جينيت بعتبات النص أو مع حميد الحمداني مقدمات النص. ص 87.

ولهذه العتبات أو المقدمات أنواع.

منها صورة الغلاف والعنوان. فالصورة مرموز يوحي لك بطبيعة الموضوع وجو الحبكة. أما العنوان فهو رسالة مهمة له قيمة سيميوطيقية. ص 89. والعنوان يهيئ سياقا دلاليا لاستقبال المعنى ولذلك يجب عليه أن يكون من مكافئات الموضوع. ص 89.

وللأقوال المأثورة والعناوين الفرعية أهمية بالغة أيضا. إنها تختصر الموضوع أو تهيئ القارئ له. فهي مفاتيح مهمة لاكتشاف الدلالات العميقة. وتحيل إلى البعد الاجتماعي والفكري . ص 94. وهي بلا شك نقطة تنوير تضيء النص وتشكل مدخلا أساسيا له. ص 96.

ولكن المحاكاة للواقع الخارجي عنصر حاسم في هذا النوع من الأعمال. فهي تضع الذهن بمواجهة الواقع التجريبي. ص 98. وإعادة تدوير الواقع من خلال تسجيله يضعنا أمام معضلة التأثير والاختيار. أو كما يقول المراشدة: تنتقل إشكالية الدرس النقدي من الاستيعاب إلى مدى التأثير وطريقة توجيه الواقع للكاتب. والأسلوب الذي يتبعه في اختيار ما يجب تضمينه في الكتابة وما يجب التخلي عنه. ص 99.

وتتعلق مثل هذه الإشاليات بصدقية العمل الروائي ومشروعيته في التعبير عن الوضع الوجودي أو اللحظة التاريخية. ولهذا الصدد لا يسعنا إلا التمييز بين عدة أنواع روائية تعتمد على إعادة تدوين الحقائق وهي الرواية التاريخية والواقعية والتسجيلبة والوثائقية.

إن كل نوع منها له خصائصه وميزاته. غير أن أكثرها اقترابا من عالم الحقيقة هي الرواية التسجيلية التي تعيد إنتاج التفاصيل الفعلية كما هي. بينما أبعدها عن الحقيقة هي الرواية الواقعية التي تفترض أن الواقع الفني هو المطلوب إنتاجه وليس التفاصيل الفعلية. لكن النوع الوثائقي هو لعبة شكلية الغاية منها حقن الخيال الفني بعناصر تلغي المسافة بين الفن والحقيقة كما يفعل صنع الله إبراهيم أو صلاح عيسى. فكلاهما يلغي الحدود بين أشكال الكتابة وبين المؤلف والواقع ويحاول التقريب بين النشاط العقلي والخيال. وهو ما أوضحه الدكتور المراشدة في ختام كتابه حين قال: إنها تختزل الأحداث والواقع وتقدمها بثوب فني له مرجعيات متعددة. ص 120.

 

في المثقف اليوم