قراءات نقدية

خضيردرويش: الرمز وتمظهرات الإبدال اللفظي في: الأشجار لاتغادرُ أعشاشها للشاعر د. سعد ياسين يوسف

khudayir darwishمما عرفت عن الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف أن هناك من الدارسين من أسماه بشاعر الأشجار، ولقد لفتت انتباهي هذه التسمية، ولم يسعفني الوقت للإطلاع على إصدارات الشاعر السابقة لتحري مرد تلك التسمية، ولكني في حدود هذه المجموعة الشعرية أرى أن التسمية كانت في محلها المناسب، فهذه المجموعة بدءاً من عنوانها وانتهاءً بعنوانات قصائدها كانت مصاديق لتلك التسمية، إذ شكل اللفظ أشجار أغلب عنوانات المجموعة.

وبنظرة إحصائية وجدتُ إنَّ نصوص المجموعة لا تخلو من هذا اللفظ أو ما يحملُ دلالتهُ.

وفي مقاربة سيميائية للعنوان (الأشجار لا تغادر أعشاشها) بوصفه (نصاً عتباتياً موازياً) أستطيع القول: إن الشاعر بانتقائه لهذا العنوان الذي هو في الأصل عنوانٌ لواحدٍ من نصوص المجموعة استطاع أن يجعل هذه العنوان مشيراً سيميائياً يشي بدلالات نصوص مجموعته كلها.

وفي تحليلنا للعنوان بمستوياته المختلفة ابتداءً بالمستوى المكاني نجد من العلامات ما يشير الى الثبات والتجذر ويُستشَفُّ ذلك أولا: من اختيار الشاعر للفظ (الأشجار) والابتداء به، فالشجرة ثابتة وثبوتها متأتٍ من تغلغل جذورها في التربة بعيداً، ويتجلى الثبات ثانياً في الفعل المضارع المنفي (لا تغادر) أما على المستوى الزماني ففي هذا الفعل المضارع المنفي ما يشير الى دلالة الثبات في الزمن الحاضر امتداداً الى الزمن الأتي.

وتتأكد صفة الثبات أيضا في المستوى اللغوي في فرعه النحوي، فقد تشكل العنوان من جملة اسمية والأسماء مثلما هو معروف تحمل دلالات الثبات والاستقرار.

وعلى المستوى الدلالي فانّ ما يلفت النظر في هذا العنوان أنَّ الشاعر شكَّلَهُ على أساس مما يمكن أن نسميه هنا التشكيل الإبدالي اللغوي فقال : (الأشجار لا تغادر أعشاشها).

والإبدال على مستوى التشكيل اللغوي بمستواه اللفظي هنا تأكد من حالة المغادرة بمستواها الإجرائي التي تجسدت بالفعل المضارع المنفي (لاتغادر) الذي تعلَّق في هذا التشكيل بالأشجار إسنادياً، ذلك إنَّ الفاعل المقدر إنما هو عائد عليها فجعل الشاعر الأشجارَ الثابتة الراسخة فضلاً عن إنها المكان الأول والأوسع جعلها قابلة للحركة والتغيير من خلال حركية الفعل (تغادر) بمستواه الإجرائي، وأسند حالة الثبات لما هو أحق بالتغيير (الأعشاش) بوصفه مكانا جديدا فهو مستوطن في مكان سابق لوجوده. ثم إن الأعشاشَ على المستوى السيميائي تشير إلى منشئها وهي الطيور وكأنَّ الشاعر في نهاية الأمر أراد أن يقول إن الأشجار لا تغادرُ طيورَها، وهذه هي حقيقة الإبدال اللفظي في التشكيل اللغوي.

والأشجار على المستوى السيميائي تشي بالثبات والاستقرار المؤسسين على علاقتها بما سواها مما هو قابل للتغيير وعدم الثبات، فقد تكون الأشجار الأوطان أو الإباء أو الأمهات فهذه جميعها تتسم بصيغة الثبات قياسا بعلاقاتها بمن هو أقرب لها في سلم درجات القرب. هذا أولا أما الأمر الآخر في المشير السيميائي للأشجار هنا فيتمثل في صفة التمسك أوعدم التفريط، فالأوطان حين يغادرها مواطنوها تبقى متمسكة بهم وتظل أحضانها الملاذ الدافئ لهم، وكذلك الأمر فيما يخص الآباء أو الأمهات عندما يفارقهم أبناؤهم .

هذه هي قراءتي للعنوان الذي كان الشاعر موفقا في صياغته بهذا النحو، وهو ردي في الوقت نفسه على من تمنى على الشاعر لو أبدل العنوان فقال (الأعشاش لا تغادر أشجارها) معللا ذلك بملازمة الأشجار لحالة الثبوت فهي لا تغادر إنما ما يغادر هو الأعشاش بحسب رؤيته في قراءة سطحية فوقية.

وفي قراءة تحليلة لقصيدة (الأشجار لا تغادر أعشاشها) وهي القصيدة التي شاء الشاعر موفقا أن تكون عنواناً لمجموعته الشعرية التي ابتدأها بهذه القصيدة التي يقول في مستهلها :/ الأعشاشُ التي أمطرَها الخريفُ / بوابلِ الذهولِ / .

في البدء أقول أن الشاعر ذهب إلى اجتراح رموزهِ الخاصةِ ليُحملَّها على المستوى السيميائي إشارات تتضمنُ مصاديقَ الغاية الشعرية التي سعى الى تحقيقها بتشكيلاته الشعرية. ففي الحقيقة أن الأشجار والأعشاش والخريف هنا هي ليست ما عهدنا وعرفنا في حياتنا، وإنما هي رموزٌ تأثَّثتْ في وجدان الشاعر ليؤسس من خلالها تشكيلاته الشعرية المصورة، وهنا استعمل الشاعر الأعشاش رمزاً للبيوت، والطيور رمزاً للناس، والخريف رمزاً للقسوة وهذا ما سوَّغهُ قوله فيما بعد / بوابل الذهول / فتشظت على يد الغياب /.

والملاحظ أن الشاعر حاولَ أن يوائم بين المستويين الزماني والمكاني في تشكيلاته الشعرية، فتمثل المستوى الزماني بالخريف في قسوة أمطاره التي تشير سيميائيا إلى الحزن والابتلاء، وتمثل أيضا بالغياب الذي جاء نتيجة لما سبق . أما المستوى المكاني فتمثل بالأعشاش في إشارة إلى البيوت وفي التشظي إشارة إلى التفرق والارتحال .

وعلى المستوى البلاغي فان الشاعر استعمل التشكيل الإستعاري، فاستعار المطر من الغيوم الى الخريف، واستعار الوابل من المطر إلى الذهول ليشكل بذلك صورة تجريدية تحصلت من اقتران المحسوس (المطر) بالمجردين (الخريف والذهول) لتتحصل بنتيجة ذلك حالة التشظي التي تشير إلى حالتي التفرق والارتحال اللتين قصدهما الشاعر حين قرن هذا التشظي بالغياب الذي استعار له اليد في تشكيل إستعاري أيضا (يد الغياب) فأنسن الغياب تجسيداً حين استعار له اليد التي قرنها به اضافياً ليسند لها عمليتي التفرق والارتحال بمستواهما الإجرائي.

وهذا الغياب الذي وصفه الشاعر بالتشظي إمعانا في رسم صورة قسوته التي تتضحُ صورتها من خلال الوصف للمكان الأول متمثلا بالوطن والمكان الثاني الذي يمثل مكان الغربة الاضطرارية، وكأنها الرحلة من الحياة الى الموت، وما يؤكد ذلك التشكيل الوصفي الإستعاري لحالة الارتحال تلك إذ يقول الشاعر :/ متنكبةً سارية الفجيعة /.

إنها حالة التشظي والانتقال من حالة العلو إلى الأسفل التي يؤكدها بقوله :/ لترفرف واطئةً على / مشارف حلمها الذي استحال قفصاً / بمرايا زائفة .../ . هنا رسم الشاعر صورة الوطن البديل بحس وطني واجتماعي إبتدأ بالهبوط ليصل إلى حد الاستحالة إلى قفص .

إن صورة ذلك الحلم إنما تصورت انعكاسا بمرايا زائفة وليست حقيقية، ويعلل لذلك بقوله : / لا تعكس خضرة / حقول الأسى/ المرتبكة بالثمار / . والشاعر هنا أراد رسم صورة المكان الجديد فذهب إلى تصوير ذلك مستعملا المرآة ولقد كان موفقا هنا حين أراد لها أن تكون الوسيط في التصوير، وكأنها أعين الناس الآخرين الذين يحاولون تجميل أماكن الهجرة للآخرين، لذا جاء بهذا التشكيل الإستعاري اللوني التجريدي، فهذه المرايا لا تعكس خضرة حقول الأسى، فهو قد جعل للأسى حقولاً وللزيادة في ذلك جعل تلك الحقول مخضرة للدلالة على كثرة الأسى، وزيادة في المبالغة جعل تلك الحقول (حقول الأسى) مرتبكة بالثمار، وما يعزز صورة ذلك الأسى الابتهالات والتضرع المقترنان بأحاسيس الأطفال وتساؤلاتهم التي يضيع صداها في الريح فلا من مجيب.

وحين تبتعدُ الأحلامُ وتتوارى الآمالُ ويتعالى التوترُ النفسي بغياب المسرة والابتهاج تستحيلُ غصونُ الأشجار بما ترمزُ إليه إلى أسراب مُهاجِمةٍ تجعلُ الناس يلوذون بحقول الأسى التي صورتها المرايا الخادعة، وكأنهم بذلك يتجاوزون حالة الخجل التي أنتجتها خيبةُ ملامسة الأحلام الوردية ممثلة بالضياء المزعوم.

ويعتمد الشاعر الإبدال اللغوي على المستوى اللفظي ليجترحَ دلالة خاصة مختلفة عن السائد، حين يجعل الاكتواء بالمطر بديلاً عن الاكتواء بالحرارة بقوله :/ المحلقون بين النخيل/ يكتوون بغربة الغيمة/ مطر السوء/ الذي أمطرتهم إياه / فؤوساً تلجُّ بذبحِ أشجارنا / من الجذور الى الجذور/.

لقد رحَّلَ الشاعر إستعاريا حالة الاكتواء بنار الغربة وهو المألوف الى الاكتواء بغيمة الغربة التي حمَّلَها المطر لتأكيد حالة الشمول، وهو ليس مطراً عاديا إنما هو مطر سوء قرنه إسنادياً بالفؤوس فأحال بذلك الفؤوس غيمةً محملةً بمطر السوء حين جعلها كما يقول :/ تلجُّ بذبحِ أشجارَنا /.

وهنا لابد من الوقوف على فطنة الشاعر وتوفيقه بهذا التشكيل الشعري، فهو لم يقل (تقطع) وهو الفعل المضارع الأنسب للفؤوس وإنما قال  (تذبح) فجعل الأشجار تُذْبَحُ بالفؤوس لتتأكد لنا الدلالة الرمزية للأشجار التي سبق الحديث عنها، فضلا عن إن اللفظ (ذبح) بصورته الصوتية وبتأثيره على المستوى النفسي أكثر مناسبة لرسم صورة الأسى كما رآها الشاعر التي تتأكد بقوله أيضا:/ من الجذور الى الجذور /. وفي هذا التشكيل تتأكد حالة التشظي على يد الغياب التي أشار لها الشاعر في أول قصيدته، وهو بذلك أراد أن يقول بأن هجرة الناس أوطانهم مُقابَلةً بهجرة الطيور أعشاشها هي أكثرُ إيلاماً وأشدُّ وجعاً على المستوى النفسي.

وإذ يستمر الشاعر في رسم صورة تلك الأشجار المذبوحة من الجذور الى الجذور، يسعى في الوقت نفسه الى تصوير دلالتها الرمزية بصور متعددة تؤكد أنسنتهُ لتلك الأشجار كما يتوضحُ ذلك في قوله :/ غير إنها كلما سقطت من عليائها شجرة / وارتفع غبارُ الأرض من تحتها / وارتجَّ رأسُها بأسفلت / مخالب الظلام / وفاح منها عطر الدم / والأمنياتُ الوئيدةُ / لفَّتْ أغصانَ أُمومتها / على الأعشاش / وحكت لهم / حكاية البدء ........ / فاقتلاع الأشجار بطريقة الذبح من الجذور الى الجذور كما أرادها الشاعر تعني الانتقال من الحياة إلى الموت، وفي هذه التشكيلات الشعرية التي يرسم فيها صورة الموت يؤكد الشاعر التداخل بين الرمز والمرموز لهُ، فيستحيل أحدهما إلى الآخر مع ثبوت الدلالة الرمزية بينهما، فسقوط الأشجار من عليائها وارتجاج رؤوسها بإسفلت مخالب الظلام وفوحانها بعطر الدم ووئد أمانيها إنما قصد به الشاعر الناس ممثلة بالأشجار بمستواها الرمزي، لذا ستلفُّ الأشجار التي استحالت أُماً أغصانَ أمومتها على الأعشاش، وهو تشكيل إستعاري ذهني أحال به الشاعر الأشجار إلى أمٍ تحتضنُ أبناءها ممثلين بالطيور في الأعشاش لتحكي لهم حكاية البداية الجديدة قبل أن (تغمض خضرتها) كما يقول.

وهنا يتجلى التداخل الرمزي بوضوح في هذا التشكيل الإستعاري اللغوي بجملته الفعلية، فالإغماضُ إنما هو للإنسان والخضرةُ للشجر، فتكون الدلالةُ المتحصلةُ : إن إغماض الأشجار خضرتها يعني إغماضَ الإنسان عينيه في رقوده النهائي الذي يقرنهُ الشاعر بالحلم، لكي ترتسم حياةٌ جديدةٌ تتشكّلُّ بالعودة إلى البدايات والنشأة الأولى التي يترك الشاعرُ بعدها تنقيطاً طويلا وهو الفراغ الذي تركه ليشير به إلى مستويات تشكُّل البداية وتنوعها.

وفي مقطع آخر من القصيدة يقول الشاعر :/ الأعشاش زغب / تفتحُ وردَ دفئِها / تحدّقُ في المدى / والمدى جنونٌ فادحُ الأسئلة / كلمّا همّتْ بتحليقٍ / باكرَتْها الأسئلةُ /.

هنا يقيم الشاعر تشكيلاته الشعرية على أساس من التقابل بين الداخل ممثلاً بالأعشاش والخارج بالمدى، فالأعشاش بزغبها إنما هي الوطن بأبئانه مشبهين بصغار الطير وهم يتطلعون إلى الخارج ممثلا بالمدى الفسيح الذي وصفه بقوله :/ والمدى جنون فادح الأجنحة /. ليشير به إلى التمكن والقوة مقابل الضعف في زغب الأعشاش التي جعلها تتردد في الإقدام على التحليق بذلك المدى الشاسع.

وفي المقطع الأخير من القصيدة يرسم الشاعر صورة معاناة الإنسان وخيباته فيقول :/ أحلامُنا الوئيدةُ / تلك التي قتلتها المداراتُ / الشوارعُ المحتقنةُ / وجومُ الجدران / سكاكينُ الإنتظار / السفنُ العائدةُ بجثثِ انتصاراتنا / المثخنةِ بالتهويل /. فهو هنا يصور مأساة الشعب وخيبته على مدى أعوام طويلة مضت، قُتلتْ فيها أحلامُهُ وضُيِّعتْ آمالُهُ، فلم يجنِ إلا تشتتاً واستلاباً وانكساراً في تجارة حروب خاسرة، فعَزَّ عليه أن يعيش حياة إنسانية كما يريد، فهو لايزال مُعلَّقاً بحبال الأمل بين أحلامه الوئيدة بسكاكين الشوارع المحتقنة وبين مِدى الإنتظار، متأرجحاً بين حاضر مؤلم ومستقبل يرسمه بهيئة حلم .

فالشاعر في هذه التشكيلات الشعرية الإستعارية يصور لنا حالة ناسهِ بسعادتهم المُستلبةِ وأحلامِهم المؤودةِ، فيردُّ ذلك إلى أسبابه التي يحددها بالتشتت والإقتتال واليأس والإنتظار الطويل الذي يستعير له السكاكين ليكون أكثرَ إيلاماً والحروب الخاسرة التي تأكلُ الحرثَ والنسل إذ يقول :/ السفنُ العائدةُ بجثثِ انتصاراتِنا / المثخنةِ بالتهويل / وهو تشكيل إستعاري ضدي أحال فيه الشاعر الإنتصارات إلى خسارات في إبدال لفظي إستعاري، وكذلك فعلَ في قوله :/ المثخنةِ بالتهويل / فأبدلَ الجراح وهو المألوف في مثل هذا التشكيل بالتهويل ليرتقي بالتشكيل الشعري على المستوى الفني ويحققَ الغايةَ من مبتغاة الشعري بالصورة التي أرداها.

 

أ.د.خضيردرويش

 

في المثقف اليوم