قراءات نقدية

رمزية الصباح في وشوشات علي عنبر السعدي

وشوشات لصباح متأخر

- انسكب الصباح - كخطى نبي .. ومازال ضياؤه - .يستقرئ الشحوب في - حصى الطريق.

- الأ من قنديل .. يقيل عثرته .. ذلك الصباح ... مصاب بالرمد ..

- وحدها رئتي - تستقبل الصباح - بحفنة من- عتاب

وشوشات - دون وجه

- معطفك يحجب - نعاس يمامة  – أيها الصباح – دعنا نستأنس – بحضورك المريب .

- لماذا تختبئ – وراء ظلك – أيها الصباح – دسّ أنفك – في مباهج وردة – وادهن أصابعك – بزفير غصن.

- حارس رديء – أيها الصباح – لاتعرف كيف – تسرقك الستارة.

 

منذ أن بدأت قراءة نصوص الدكتور علي عنبر السعدي الصباحية، التي اعتاد قراء صفحته أن يبدأوا صباحاتهم بها، تجدها متلألئة كحبات الندى تحت مسمى يجمعها ب (الوشوشات)، هكذا اختار السعدي أن يسمي هذا النوع المتفرد من نصوصه، ومنذ ذاك الحين وأنا أحاول أن أجد نوعاً أدبياً من الكتابة تندرج تحته هذه النصوص، فليست هي بقصيدة نثر كما هي قصائد النثر بتركيبتها وإن كانت تبدو لك قصائد نثرية، إلا إن طريقة كتابتها باستخدام علامة الشارحة القصيرة (-) التي يصر السعدي على ادراجها بين جملة شعرية واُخرى، وأقول جملة شعرية لانها كذلك بالفعل صورا وإيحاء وخيالا، هذه الشارحة تجعلك تتوقف امامها وتسأل لم وضعت هذه العلامة إن كانت النصوص قصائد نثرية ؟؟  

أما تركيبتها البنائية فهي غالباً ما تكون عبارة عن ثلاثة  أو أربعة  مقاطع يكتب الواحد تلو الآخر عمودياً، وكل مقطع مكون من ثلاث الى اربع او خمس جمل شعرية تفصلها علامة الشارحة القصيرة، أما من حيث الدلالة فهي في مجملها خطاب للصباح، إذ تبدأ معظم هذه الوشوشات بعبارة (أيها الصباح)، إلا أن أي واحدة لا تشبه الاخرى في الدلالة على الإطلاق وليس بينها شيء مشترك سوى هذا الخطاب الصباحي، إذ تنفرد كل واحدة بخصوصية دلالتها ابتداء من العنوان، فلكل نص عنوانه الخاص، تدور حوله الدلالة الكلية لمجمل  مقاطع النص والتي يتخذ كل منها مستوى دلالياً يصلح أن يكون وحده نصاً مكتملاً، أشبه ما يكون بقصيدة الومضة، تقترب أحيانا مما يسمى ب (الهايكو)، وأحيانا تراها تحمل ملامح ما يعرف بفن (الأبيجراما)، ذلك الذي عرفه الشاعر الإنكليزي كولردج بقوله: (انها كيان مكتمل وصغير، جسده الإيجاز، والمفارقة روحه)، وهكذا بقية المقاطع، لكنها تبقى دلالات جزئية ضمن دلالة كلية من الصعب على القارئ الاعتيادي أن يحظى بها، وربما هذا ما يدركه متابعو هذه الوشوشات، فمن أراد الاكتفاء بدلالة المقاطع له من ذلك متعة القراءة، ومن أراد أكثر من ذلك فلا تكفيه أدواته النقدية ومعرفته بفنونه بل يجب أن يكون ممن يتحلى بخيال واسع خصب ليبدأ رحلة التفكيك للمقاطع حتى تنكشف أمامه دقائق خيوطها فيتبعها خيطاً فخيطاً ثم يعود فيربط أطراف الخيوط المتشابهة حينا والمتباينة اخرى، عندها سيظهر أمامه نسيج للوحة مكتملة الملامح وتأخذه الدهشة كيف استطاع الكاتب أن ينسجها ليبدو للوهلة الاولى كل ركن منها منفصلاً بذاته عن الاخر لكنها اخيرا تظهر صورة كاملة بكل بهائها، انها لعبة التفكيك والتركيب للناقد البارع ليصل الى مفارقة النص في مخاطبته للصباح، فما الصباح في وشوشات السعدي الا رمز من الرموز يكشفه من يحسن قراءته،فالدال (الصباح) هنا لا يظهر بمدلوله المعجمي بل يرتدي مدلولاً شعرياً لكنه لا يفقد دلالته المعجمية بكل الأحوال وإلا كان اختياره دون غيره من الأزمنة عبثياً من قبل الكاتب، ولذا يبقى السؤال ما العلاقة الدلالية بين معناه المعجمي ودلالته الرمزية ؟؟ الصباح، ذاك الذي يحمل عند الكثير منا معنى الإشراق والأمل وبداية كل جديد، وربما مثل للبعض الآخر استمراراً روتينياً لما سبقه من ممارسات وسلوكيات، ولا نستبعد أن يمثل للبعض مصدر خوف وقلق من نهار مشؤوم او مشحون بالمخاطر، انه الصباح بكل حيثيات دلالته الزمانية والنفسية، يتفرد في نصوص السعدي رمزاً شعرياً لمعان متشعبة مبتعدا بِنَا عن النمطية في إيراد الصباح كبعد زماني لا ينفك عن دلالته المعجمية، ومثلما هي الأبيجراما التي اعتمدت البناء الإفرادي في القصيدة إذ اختصت قصائدها بحقول دلالية كالزمن والموت والحزن، تقترب وشوشات السعدي منها في إفرادها كل وشوشة بحقل دلالي، فواحد للألم يأتيك فيه الصباح مريضاً على عكازه (خاملاً - أيها الصباح - جئت مندفعاً - عكازك الحجري - يشبهني تماماً)، وآخر للجمال والبهجة ترى فيه الصباح بكامل أناقته (أكمل أناقتك بزرار غيمة - أيها الصباح - أراك منفعلاً- من وقاحة شرنقة)، وهكذا للحب والوطن والشجاعة والحزن، تراها تارة فلسفية وتارة اجتماعية وآخرى عاطفية أو سياسية  ...وكما هو واضح من المقاطع الصغيرة المكتملة السابقة (الومضية)، فان السعدي يؤنسن الصباح ويستنطقه، فتراه حيّا يحس ويشعر، يتألم ويبتهج، ينام ويصحو، فمن هو هذا الصباح وأية رمزية يحمل ؟؟ قد يكون الوطن الجريح،و قد يكون الحبيبة، وربما هي الذات الحزينة أو الطفل اليتيم أو الغريب المهاجر، انه أنا وأنت وهي وهم .

 وكما هي عادتي منذ أن بدأت لعبة تفكيك وشوشات السعدي تشدني اليها، أقف في كل مرة امامها، لأفتش عن الغائر من معانيها وكأني أحل شفرة رسالة كتبت بالحبر السري، وهذا ما يجعل بعض القرّاء يصفونها بأنها غامضة وشديدة التعقيد، لكنها ليست كذلك رغم أن الغموض أحد خواصها فهي نص عالي الرمزية يتصف بتكثيف الصورة،  ومن أهم ركائزه الفنية، الاستعارة والتشبيه، انها ليست معقدة لمن يمتلك أناة الرسام على لوحته حتى تكتمل ملامحها أمامه، قد لا تكون هي نفسها التي أرادها الكاتب من وشوشاته لكنها هي التي تجسدت للقارئ كل وفق  رؤيته لها و مخياله لصورها وتحليله لدلالاتها، لاشك ان قراءة الناقد لإيما نص انما هي حلقة وصل بين النص وقارئه، وهكذا فقد رأيت العديد من القرّاء يقفون مندهشين أمام وشوشات السعدي يعيدون قراءة النص مرة تلو أخرى، وفي كل مرة يزداد المعنى التباساً عليهم، كمن ينقض غزلاً فيتشابك عليه ولا يحسن اعادة غزل نسيجه، لكن الالتباس ما يلبث أن يزول بعد قراءتي النقدية للنص، وإن كنت لا اتبع نقداً ممنهجاً في القراءة،  لكنني أعتمد ذائقتي الأدبية وقراءة معنى المعنى، وهي معانٍ غالبا ما تكون مستترة خلف سلسلة من الاستعارات والرموز والإيماءات، إنها قراءة المسكوت عنه،تلك التي تمنح النص كما قال عنها السعدي (نضارة الحضور وبراءة المحمول) وأنها (كرنفال لبهجة موازية)، وهي ( بمثابة حفر معرفي تمكن من استخراج المضمون رغم سياقاته في كثافة رمزيتها) .

وستكون لي محطة هنا أقف فيها عند واحدة من وشوشات الكاتب علي عنبر السعدي لنستمتع مع سرب الدلالات وهي تحلق بِنَا الى عوالم مختلفة من المعاني :

وشوشات كيفما اتفق

- أغلق أو اطرق – كلاهما واحد – أيها الصباح – لاتريد الانشطار – دفعة واحدة .

- غششتني – أيها الصباح – حين أمسكت بأطراف عقلك – كان المطر – ينظر شامتاً .

-  بماذا تتبجح – وأنت لاتعرف -  كم قسوة – تحمل الطاولة ؟– كم حجّة– يتسع البريق – في قلبك الأملس .

- هل منحت الشراشف – إجازة طائة؟ أيها الصباح – ماذا تراني - نداء ينكسر؟

- هنا تجلس الأميرة -  هناك يسرح الملك – قم بخدمتهما أيها الصباح – الملك الورق – والأميرة الجانحة .

 

القراءة النقدية:

بانوراما لغوية، لوحة تصويرية متسعة المعاني بزوايا متعددة الرؤى، هكذا حين ينشطر الصباح دفعة واحدة، دفقة من المعاني تأخذ طريقها الى مساحة لا حدود لها من الروح، لتجد نفسك أمام فسيفساء كونية الألوان، قد تبدو عبثية التكوين، هنا يغششك الصباح، فلا تنخدع فاللوحة محكمة الربط، لن يترك لك الصباح معانيه ارجوحة، ألا تراه ما زال ممسكاً أطراف عقله، فابدأ رحلة البحث عن المعاني في زوايا الصباح المنشطر ولا تأبه لما تمحيه قطرات المطر الشامت، ها قد بدت لك المعاني تبرق تارة هنا وتارة هناك، يتسع البرق، فتتسع الرؤية،  حجج وفلسفات، من يدري ماذا جال بذهنك لتسأل (كم قسوة تحمل الطاولة؟)، وأي رمز تشير اليه طاولتك تلك ؟ لا بأس لك أن تطرح ما تشاء من اسئلة، فما استجمعته من احرف الصباح المتشظي لن تؤذي قلبه الأملس، لا غطاء لعينيك اليوم عن زوايا المشهد، ولن تجد ما تستتر به، بارع هو الصباح حين يعطي الشراشف اجازة طارئة ليجبرك على مواصلة النظر والتمعن، سيسمعك الصباح وإن لم تطلق صوتك فلا تأبه لندائك المنكسر ... أراك أخيرا وقد لملمت أطراف الصورة، كيف بدت لك؟؟ هنا تجلس الأميرة، وهنا يسرح الملك، يا لها من لوحة،  ملك من ورق وأميرة جانحة .. ماذا عنت لك؟؟ لعلها صورة نهارك، انها انعكاس لروحك هذا اليوم، الصباح المنشطر يرسم لكل منا صورة لنهاره، فلملم أطراف صورتك وانظر ماذا ترى ؟ انها انت وان بدت صورة (كيفما اتفق).

 

أفراح الصّباغ

 

في المثقف اليوم