قراءات نقدية

الأشجارُ لا تغادرُ أعشاشَها لـ ـسعد ياسين يوسف.. قراءةٌ نقديّةٌ*

لا شكَّ أنَّ كتابةَ النصِّ المفتوح أو ما سُمِّي بـ (قصيدة النثر) تحتاج إلى وعيٍ خاصٍ،لأنَّ هذه القصائد هي قصائدُ تأملٍ، في حين أنَّ الأيقاع َفي قصيدةِ الشطرينِ، وقصيدةِ التفعيلةِ يُعين كثيراً على إدراكِ النصِّ وتدفقِ صورهِ، وفهمِ مغزاه ..

 في النصِّ المفتوحِ لابدَّ أنْ يكونَ الشاعرُ أو صانعُ النصِّ قادراً على أن يقبضَ على جمرةِ النصِّ الشعريِّ، من غير أن تحترِقَ أناملهُ، كالظليم (ذكر النعام) الذي سبق أن أشرنا إليهِ مراراً، فهذا المخلوقُ عندما يُستثارُ يزدردُ الجمرَ ازدراداً، ويبدو أنَّ العربَ انتبهتْ إليه، وأسمته بـ (الظليم)، أي المظلوم، فهو حين يُستثارُ لا يؤذي أحداً غيرَ نفسه، فقصيدةُ النثرِ ـ أيها الأصدقاء ـ تحتاجُ ظليماً قادراً على مسكِ جمرةِ النصِّ الشعريّ باقتدارٍ وتمكّنٍ، لأنِّنا وجدنا الكثيرين ممن يكتبونَ في هذا الشكل، غيرَ مقتدرين، وليسوا متمكّنين، ونصوصَهم سطحيّة جداً، وعليهِ فهذه النصوص ليست هي التي ننتظرُها، ولذا نقولُ: إنَّ القابضينَ على جمرةِ النصِّ المفتوحِ قلَّةٌ، والشاعرُ سعد ياسين يوسف هو واحدٌ من هذه القلّةِ بامتياز.

 في قراءتِنا النقديةِ للنصوصِ الإبداعيّةِ يجبُ أن نخدِمَ أطرافَ العمليّةِ النقديّةِ برمّتِها، وهذه الأطرافُ ثلاثة هي: القارئ (أو المتلقّي)، والمبدع (أو صاحب الأثر)، والأثر الإبداعي(النصّ)، سواءٌ أكانَ هذا الأثرُ شعراً أم نثراً.

 فهو يخدم القارئ لأنه يوفرُ عليه الوقتَ بما يختارُ له من نصوصٍ جيّدةٍ يرشده إليها، ويدلّه على عناصر الجمال فيها، ليزدادَ فائدةً، ويحقّقَ المتعةَ المطلوبة، كذلك يخدمُ المبدع َ بتقريبهِ من القرّاء، فيشيرُ إلى مواطن التفرُّدِ في إبداعهِ، وما يتمتعُ به من اقتدار، وما يجب عليه تجاوزهُ من هناتٍ، أوعيوب، أمَّا خدمتهُ للعمل الإبداعيِّ، فتتمثلُ في كونِ الأحكام النقديةِ التي تصدرُ عن الناقدِ يجبُ أنْ تكونَ في صالحِ الأثرِ، وتجعل الآخرين يلتفتون إلى مكامنِ القوةِ فيه، فيطورونها في تجلياتهم القادمة، ويبتعدون عما يشينُ الإبداع َمن عيوبٍ أشار إليها الناقدُ، وطلبَ تجنبها، فضلاً عن إشادتهِ بالنصِّ إذا كان جليلاً مغايراً،كي يعمِّقَ هذا المبدع ما انتهى إليه،.. وهكذا تقدّمُ هذه العمليةُ النقديةُ خدمتها للقارئ، والشاعر، والنص .

  حينَ قرأتُ مجموعة الشاعر سعد ياسين يوسف الموسومة بـ (الأشجار لا تغادر أعشاشها) لم أكنْ بصدد تحليل نصوصها واحداً تلو الآخر،أو تفسيرها، لكونها (كما أزعم) نصوصاً شفّافة ً لا تحتاج إلى كدِّ ذهنٍ،أو تنطّعٍ إنشائي، إنَّما أردتُ الإشارة إلى تقنياتٍ مهمة فيها، وأنْ أقف على بعض ما وجدته من تميز في اشتغالِ شاعرها على بعض الصور، والأفكار، وفلسفة النص، وقد تمثّل ذلك في الآتي:

 1 ـ إرضاءُ الذاتِ الشاعرة: يميل الشاعرُ إلى إكمالِ الصورة مسترسلاً في الكثير من النصوص، فهو حينما يبدأ بقضية تحتاج إلى إجابة لا يعطي الجواب بعُجالةٍ، بل يكمل الصورة بصور متدفقةٍ أخرى بإلماح من الذات الشاعرة كما في قصيدة شجر القداس، ص23:

(القُدّاسُ المُتواري

خلفَ تراتيلِ الفيروزِ المعقود ِ

على جيدِ الذَّاكرة ِ...

ووقعِ لآلئِ المطرِ المرتطمِ،

بأجنحةِ الطُّوفانِ

نحوَ سماءٍ ثامنةٍ

أنبتَ أشجارَ شموع ٍ)

فقد اندفع الشاعر في تدفقه الشعري مابين الجملة الشعرية الأولى (القداس المتواري) و(أنبت أشجار شموع) بدافع إحساسه الداخلي ـ لملء الفراغ ـ بتدفق صوريٍّ، وهذا الكلام هو إكمال للصور حينما تتداعى الجمل (جملة تقود إلى أخرى) ثم يجيء الجواب لإكمال الصورة المعنويّة كما ينبغي، وهو إرضاءٌ للذات الشاعرة الملحّةِ،وكما في ص 47:

(يا نَورَسةَ الأسئلةِ

كلَّما أجهشَ البحرُ

لمْلمَ الصُّبحُ ناياتٍ مُهَشمةً

وأوغلَ في الغناءِ

أطلقتِ للريحِ جناحَ المغفرةِ

وابتنيتِ...

ألفَ سرابٍ

أو سلالمَ يرتقيها الراكضون

في شوارعِ اللهاثِ خلفَ الرغيفِ

ورَسمْتِ،

مشهدَ الأفقِ..."

 لم يقل: (يا نَورَسةَ الأسئلةِ أطلقتِ للريحِ جناحَ المغفرةِ) على نحوٍ مباشر، بل سعى إلى توظيف تدفق الصور؛ هذا التدفق الذي تطلبه الذات الشاعرة في الإبداع أحياناً يضطر الكاتب إلى التوسع في الجمل الشعرية أحياناً، وإلى الإيجاز في أحايين أخرى، فالقرارُ (كما ألمعنا) للذات الشاعرة ليسَ غيرَ.

وفي قصيدته " ما تعسر من شجرة البحر" نجد هذا التدفق جلياً حينما يبدأ بوصف الغريق:

(يا أيّها المسكونُ بالصلواتِ)

ويواصل تدفقه الشعري ليقول:

(بالدمعِ بالتهجدِ،

بابتهالاتِ العيونِ وهي

ترسمُكَ الموجةَ الأعلى

أمنيةً هدهدها البحرُ

على لمعانِ موجتهِ البعيدةِ)

ليصل إلى هذه الجملة الشعرية:

(وما كنتَ سوى زجاجةٍ

مختومةٍ بسرِ انطلاقتِها )

فهي إكمالٌ للصورةِ ليس إلا.

 

2 ـ الاقتباس: معظم الشعراء يقتبسون، أو يضمِّنون، وللتوضيح نقول: الاقتباس هو أن يُضمِّنَ الشاعرُ أو السارد كلامه شيئاً من القران الكريم، أو الحديث النبويّ الشريف، وهذا الاقتباس على نحوينِ: إمّا اقتباسٌ نصيٌّ، أو اقتباسٌ إشاريٌّ .أما التضمين، فهو استعارةُ الشاعر شطراً، أو بيتاً من غيره . وعلى وفق هذا فهنالك فرق بين التضمين والاقتباس، وكثيراً ما التبس على بعضهم، فظنّوا التضمين اقتباساً، ودراسة هذه الضروب الصناعيّة مهمة جداً لأنها ترشدنا إلى مصادر الشاعر، فنعرفها من خلال الاستقراء... ماذا قرأ؟ بمن تأثر؟ ما مصادره؟ هل كان يكتب جزافاً اعتماداً على الاستعداد من غيرِ الاهتمام بالاكتساب؟ أم أن ثقافته توسَّعت نتيجة قراءات قرآنية، وشعريّة، وتاريخيّة، إلى غيرها من مراجع معرفيّة مهمة.

 في قصيدته (شجرة الارتطام) ص 71، ثمة اقتباسانِ إشاريَّان:

الأول "هززتها " يأخذك إلى سورة مريم في قولهِ تعالى: (وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقِطُ عليكِ رطباً جنيّاً ...) الآية 25 .

 

(يدُ المَخاوفِ حَولَنا ... أفعى

تلقفُ ما تشاءُ

من آياتِ طَمْأنَتي لها

لاتَحْزَني:

لا تَحْزَني ….

هَززْتُها

لا تَحْزَني

غيرَ أن اللهَ ساعتَها

لم يكنْ مَعنا !!! )

و " لا تحزني " هي أيضا إشارة لسورة التوبة في الآية 40:

(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَاۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.)

وفي قصيدته (شجرة الأشواك) ص93 نجد مثالا آخر على الاقتباس حيث يقول:

(ألقِ عصاكَ

ستلقفُ كلَّ من ألقى الحجارةَ

في عينِ بئرِك

كلَّ مَن ... ...

تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ........)

وهو اقتباس إشاريٌّ لعصا نبيِّ الله موسى عليه السلام.

 وفي ص 104 ثمة اقتباس آخر في قصيدة (ما رآه الواسطيّ):

(والقوافلُ في صحراءِ" رحلةِ الشتاءِ والصيفِ "

شتى بلا اتجاه ٍ

تعد ُّ ثقوبَ الرّملِ)

بمعنى أنَّ هناك أشياء في وعي الشاعر، ولا وعيه حين يحتاج إليها تنبثق فتصعد من الأسفل إلى الأعلى، كما في قصيدة " سحر باطل " ص81:

(ما أن يعلو في المئذنة ِ

صوتُ اللهِ

ويندحُر الشيطان ُ...

ستلقفُ عصايَ أفاعيَهم

الزاحفةَ نحوي)

3 ــ المسكوت عنه: اشتغل الشاعر سعد ياسين يوسف في مجموعته " الأشجار لاتغادر أعشاشها " على المسكوت عنه الذي لا ينبغي ذكره، ولا يقبل التصريح أو التأويل، وللتوضيح نقول: في أحايين كثيرة لا تحتاج بعضُ النصوصِ إلى تفسير، أو شرح، أو تأويل، فإن تنطَّعنا بتأويلها قتلنا براءتها، لكونها تحملُ معانيها بنفسها، أو بعبارة أخرى يمكن القول: إنَّ هذه النصوصَ تفسِّرُ نفسهَا بنفسها، وهي واضحة للقارىء، كما في قول المنخّلِ اليشكريِّ:

وأحبُّها وتُحبُّني ..... ويُحبُّ ناقتَها بعيري

 فهذا البيتُ لا يمكنُ تأويله، أو تفسيره لأنه واضح وضوحَ الشمسِ في نهارٍ صيفيٍّ؛ ولتعميق الفكرة نورد البيتين الآتيين للشاعرِ نفسه:

 فإذا أنتشيتُ فإنني ..... ربُّ الخورنقِ والسديرِ

وأذا صحوتُ فإنَّني..... ربُّ الشويهةِ والبعيرِ

 فمثلُ هذه النصوص لا تُفسَّر، ولا يجوزُ شرحُها على الإطلاق، فإنْ فعلنا ذلك نكونُ كمن يتكلَّفُ، مع سبقِ الإصرارِ والترصُّد.

 وقد تبنّى شاعرنا أسلوبَ المسكوت عنه حينما أدركَ جليّاً إنَّ ذكره قد يزري بالنصِّ، فقرّرَ عدم الإتيان به، كما في شجرة الابواب، ص26:

(يا ... أيَّتُها المُفضِيَةُ لي

كوني شجرَ الوحدةِ

علّي استوقفُ سربَ يماماتي

ليلةَ قدرٍ

أسألُها أن تهدلَ للأبوابِ

حتىّ الفجرِ ...

أن انفتحي ..

لا فرقَ لديَّ الآنَ

للجنَّةِ كانت

أم ....)

فقد سكت بعد (أم)، ووضع عوضاً عن المسكوت عنه نقاطاً، لأن المتلقي سيكمل قائلاً: (للنار) فلا داعي لذكرها ما دامت النقاطُ ستومىء إليها، وكما في قصيدة موج ص 47:

( ورَسمْتِ،

مشهدَ الأفقِ...

تعرَّيتِ

وقلتِ للفاقدينَ عيونَهم:

ها أنا

ارقصوا

وراقصوا ناري التي اشتعلتْ

بعينينِ من دمعٍ

و....)

 فلم يكمل ما بعد الواو، لأنه مسكوت عنه، وهذا المسكوتُ عنه سيهتدي إليه القارئ الذكيُّ ويقولُ: (ونار)، لذا نقول: إنَّ هذه النصوص التي تضمنتها مجموعة الشاعر سعد ياسين يوسف تحتاج إلى قراءة تأملية في بعضِ ألأحيان. ولعلَّ أوضح مثالٍ للمسكوتِ عنه يتجلّى في قصيدة (اللعبة) ص 87:

(تاركاً ظِلَّ التَّوجُّسِ

الذي أحاطكِ بذراعِ الارتباكِ

وعفَّركِ بترابِ أجنحةِ الفراشاتِ المُتَهالكةِ

مِن رَأسكِ ...

حتى أخمصِ الذاكرةِ،

مقتلعاَ جذورَكِ التي

ظننتُها جذورَ ماءٍ،

وما كانتْ سوى

جذورٍ مِن .....

ياااااااللأسى ....)

فقد سكت عن شيء في التي كتب عنها القصيدة، مستذكراً الحديث النبويَّ الشريف: (إيّاكم وخضراءَ الدِّمن)، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: (المرأة الحَسناء في المنبِت السوء)؟

وفي قصيدة (شجرة يونس) ص96 نجد أيضاً مثالاً آخرَ للمسكوت عنه:

تصاعدتْ من بعدما

تشظَّتِ المنارةُ ..القبابُ

وتزلزلَ الضريحُ

وحدَهُ

سيسألُ اللهَ

عن هتافهم

(.... ....)

 فقد سكت بعد (سيسألُ الله عن هتافهم) ووضع نقاطاً، فماذا قصد الشاعر بالنقاط هنا ...؟ بالتأكيد قصد هتافهم: (الله أكبر) وهم يفجرون أضرحة الأنبياء، ويذبحون الناس الأبرياء، ويهتكون الأعراضَ.

 هذا هو المسكوت عنه في الشعر الذي سيهتدي إليه المتلقّي الحاذق مباشرةً.

4 ــ مخالفة السائد: ينحو شاعرُنا في بعضِ نصوصهِ إلى مخالفة السائد، ومعاكسته، وهو ذكاءٌ يتمُّ فيه خلق المخالف الجديد الرافض للتقليدِ الفجِّ الذي يتكرّرُ في النصوصِ المفتوحة، ومن شأنِ هذه المخالفة ـ بمرور الزمن ـ أن تحفِّز الآخرين على التمرّدِ، والبحثِ عن الجديد المختلف .

 ومخالفته للسائد في هذهِ المجموعة وردَ في أكثر من نصٍّ، لكنَّنا سنشير إلى ثلاثةِ أمثلةٍ: تعلّقَ اثنان منها في الوقوف ضد الإرهاب، وتعلَّق النصُّ الثالثُ بفجيعة الذات الشاعرة وهي ترثي حالها.

 كان الأوّل في قصيدته (غصن الرغيف) التي أراد فيها أن يهجوَ القتلة، لكنه لم يسر على وفق ما سار عليه السابقون الذين يهجون على نحوٍ مباشر، إنما انتهج مغايرةً خالفت نمطيّة الخطاب السائد، فقال ص 49:

(الرَّغيفُ الطَّالعُ

مع الصَّباحِ

حلمةً ...

حالماً بفمِ الصِّغارِ

باغَتهُ انفجارٌ

فاحترقَ .

طارَ

دمعةً في مُقلةِ السَّماءِ

ومن غيرِ وداعٍ

اختفى

وما زالَ الصِّغارُ

بانتظارِ وجهِ اللهِ

مُبتَسماً على مائدةِ

الصَّباحِ .)

 فيا لهذا الهجاء من مغايرة، فهجاءُ الدمويين القتلة لم يجئ مباشراً، إنما تمَّ بعد توظيف قرص الخبزِ ليكونَ جسراً إلى مقصده، فهذا القرص الذي طار نتيجة الانفجارِ الإرهابيِّ ربما كان يحمله والد أولئك الصبيةِ الصغار(أو أحدُ أفرادِ العائلة)، فاستشهد مع الرغيف ...وهذا هو الجديد المغاير الذي يرفض النمطيَّة، ويبحث عن المغايرة، وإن كانت في الهجاء ليس إلا.

 وكان الثاني في قصيدة (رأس الفرات) وهو يصف هول الفجيعة ص 61:

(الكاسِرونَ مرايا الصَّحوِ

أمسَكوا عنقَ الفراتِ...

لوَوهُ

قطَعوهُ

ليَدخُلوا أسوارَها

غير أنَّ النهرَ أبى أن يستديرَ

تُوغلُ الأفاعي

تنفثُ الموتَ

في شارعِ الموكبِ

لكنَّه مازالَ

يبحثُ عن رأسهِ

بين أشلاءِ انفجارِ بابل

الأَخير . )

 لقد أنسنَ الشاعرُ الفراتَ حينما قال: أمسَكوا عُنقَ الفرات.. لووهُ.. قطعوهُ، غير أن النهر أبى أنْ يستدير ليعبر عن الشموخ، على الرغمِ من هولِ الانفجار الهائل الذي استشهد فيه أكثر من 75 مدنيّاً بريئاً، وأصيب فيه أكثر من 150 مواطناً من أبناء بابل التاريخ والحضارة.

أمّا الثالث الذي تجسَّدَ فيه مخالفة السائد على نحوٍ رائع فقد كان في قصيدة (غصن الرحيل) ص 51:

(منذُ أن رحلتِ

أدركتُ أني بلا عائلة .

وكلما قالوا لي:

- سلِّم لنا على العائلةِ

أضحكُ... ثم أبكي في سِرّي ..

وأنا أتحسَّسُ جدرانَ

خيمتِنا التي هَوتْ ...

لأظلََّ غصناً مكسوراً

يتدلّى من شَجرتِها

الصاعدةِ لسماءٍ

لا تعرفُ

كيفَ تجيبُ عن

الأسئلةِ المذبوحةِ)

 مخالفة السائد هنا كانت في الرثاءِ، هكذا دون تصريح مباشر بهِ، وقد نجح في إيصالِ شحنة الحزن إلى المتلقّي على نحوٍ مدهشٍ .

5 ـ الانزياح: يميل شعراء هذه المرحلة إلى تقنيةِ الانزياح (والانزياح هو تغيير في نسق التعبير المتوقع المعتاد إلى نسق آخر يؤدِّي دلالةً مخالفةً . فهو خرقٌ للثابت وعدولٌ عنه إلى قصدٍ توليدي يخالفُ مقتضى الظاهر.)

فالانزياح عدولٌ عن قضيةٍ من نسقٍ، إلى نسقٍ آخر على نحوٍ عامدٍ، والكثير من شعرائنا المعاصرين يميلون إليه، وفي قصيدة (شَجرةُ الصَّباح) صورةٌ منه، ص30:

(ما إن تبزُغ أغصانُها

حتى نستعيذَ بالحياةِ،

من عتمةٍ

تنتظرُ الضوءَ فينا ..)

 ففي قولَه: (حتى نستعيذَ بالحياة) انزياحٌ، أو عدولٌ عن نسقٍ آخر قد يكونُ مضمراً، أو ظاهراً اختصاراً لجملة (حتى نستعيذ من الظلمةِ بالشمسِ .)

 كما كانت له صورة أخرى في قصيدة (اللعبة) ص87:

مِن رَأسكِ ...

حتى أخمصِ الذاكرةِ،

فقوله: (حتى أخمص الذاكرة) انزياحٌ، أو عدولٌ عن الأصل المعتاد الذي هو(حتى أخمص القدمِ).

6 ـ التابو والمقدس: وقد تناوله الشاعرُ هامساً على نحوٍ سرديٍّ، وظّفَ فيه تقنيةِ المحاورة بذكاءٍ وصولاً إلى تحقيقِ مقصدهِ في جملة التوتّر التي انتهت عندها القصيدة، وكان ذلك في (شجرة الصباح) ص30:

(يئِدُ رجلُ الحافلةِ

صوتَ الموسيقى

... ... ...

أستيقظُ !!

أفتحُ نافذةً

يُداهمُني دُخانُ المحروقاتِ

صراخُ الشرطيِّ المتربِّصِ:

-     لا تتوقفْ،

أسرِعْ ... أسرِعْ .

أغلقُها ..

اسألُ أن تنطلقَ الموسيقى

ثانيةً..

فيضجُ الركابُ بصمتٍ

يقطعُهُ صوتٌ:

-     استغفر ربَّك

فالساعةُ آتيةٌ لا ريبَ....)

 ففي صوتِ الراكب القاطع الذي يقولُ لبطل القصيدة: (استغفر ربّكّ ... فالساعةُ آتيةٌ لا ريب ...) يكمن الحسم، وكأنه القولُ الفصل، وهذا هو التابو الذي لا يمكنُ مناقشته في العراقِ اليوم، لوجود دكاكين الأحزاب المخيفة، لكنَّ القصيدةَ أوضحت موقفاً تجلّى برفضِ المبدعِ للقطعيّة الصارمة التي يتعكّز عليها بعضُ أدعياء الدين.

7 ـ استحضار الرمز: استخدام الرمز يُثري النصَّ في التعبير عن شواغل الذات الشاعرة إذا تمَّ توظيفه كما ينبغي، لاسيّما إذا كان طيّعاً في إطار المزج بين أزمنةٍ مختلفة، وفضاءاتٍ متباينة، وجعلها تشي بأشياء ذات دلالات مجازيّة، أو تستثمرُ توريةً خاصّةً تقودُ إلى غنى التجربة الفنيّة.

 وقد سعى شاعرنا في هذه المجموعة إلى استحضار شخصيّة رمزيّةٍ من تراثنا الإبداعي لم يستحضرها قبله شاعرٌ، ليحمّلها الفعلَ الخلاق الذي أراد التعبير عنه، وهذه الشخصيّة التي تمَّ توظيفها عبر قصيدة (ما رآه الواسطيُّ) هي شخصيّة الرسّام (يحيى بن محمود الواسطيّ) فقد جعلَ منها قناعاً للتعبيرعن رؤى ذاتهِ الشاعرة، وجعلها تنطقُ بأفكار تلك الذات تحديداً.

 تكشفُ لنا القصيدةُ أنَّ الشاعرَ كان قد مرَّ بتمثالٍ جسّدَ رسّاماً عراقيّاً قديماً وُلِدَ في مدينة واسط جنوبيّ العراق في بداية القرن الثالث عشر الميلادي هو (يحيى بن محمود الواسطيّ ـ الذي يُعد واحداً من مؤسسي مدرسة بغداد للتصوير) كان قد اختطَّ نسخةً من مقامات الحريريِّ في العام 1237، وزيَّنها بمئةِ منمنمةٍ من رسومهِ، جسَّدَ فيها مقامات الحريريّ الخمسين، فانتبه إلى أهميّةِ رمزيَّتِهِ، وعمد إلى توظيفهاِ شعريّاً، فتماهت الألوان بالصور الشعريّة، وتمَّ المزجُ بين الريشةِ والقلم، وكأنّهما يتبادلان الحواس.

 إنَّ ولادةَ هذه القصيدة كانت شأناً مدروساً، فحين اتسعت الهوَّةُ بين موقفي المتزمّتين والتنويريين في قضايا الفنِّ عموماً لاسيّما التشكيليّ منه على نحوٍ خاص بعد سقوطِ الدكتاتوريّة انبرت ذاتُ الشاعر لتعلنَ موقفَها المنحاز، فلا يمكن للحياةِ أن تُستساغَ بدونِ جمال، وهكذا كانت ولادة هذا النصّ الجميل الذي رأى أنَّ ما أبدعه الواسطيُّ كان بمثابة المقامة الحاديةِ والخمسين، وأنَّ توظيفها فنيَّاً يدلُّ على انحيازِ للحياة، ورفضٍ للعقم؛ علماً أنَّ رسومات الواسطيِّ، ومنمنماته قد أعجبت الناسَ في أهمِّ عواصم العالم الغربيّ، ووصلت إلى لندن وباريس، وأُلفتْ عنها دراساتٌ فنيّة أكاديميّة عديدة.

 إنَّ استلهام سعد ياسين يوسف لإبداعِ فنانٍ تشكيليٍّ عراقيٍّ عاش ظروفاً مماثلة لما نعيشه نحن اليوم منح القصيدةَ ألقاً مبتكراً، كما منحَ الواسطيُّ (عبرلوحاتهِ المدهشة) مقاماتِ الحريريِّ خلوداً مضافاً ..لأن العمل الذي قدمه الواسطيُّ عن تلك المقامات وراويتِها (الحارث بن همام) تشكل إيماءةً لشخوصٍ هم أجزاءٌ من حركة الفعل الخلاق.

 إنَّ تصاعد قصيدة (ما رآه الواسطيُّ) دراميَّاً كان واحداً من عواملِ تفرّدِها، فضلاً عمّا كان من انسيابيّة إيقاعها الداخليِّ الذي مالَ إلى التدفّقِ فأفضى إلى تداخل الصور، وما فيها من قوة تأثير، لاسيّما حين تحدَّثَ عن الدمِ الذي يتحوّلُ لونه من الأحمرَ إلى الأبيض، وكأنه يريد أنْ يوكد أنَّ موتَ الإنسانِ المبدعِ الفاعلِ سيكون سبباً في ولادة سلام قادم ..وهذا دليلٌ على أنَّ المبدعَ لم يكن إلا حمامةَ سلام بيضاء ..وكأن الدم (الذي لا يُستساغُ ذكرهُ في الشعرِ) شكَّلَ رؤية شعرية جديدة مغايرة لمفهومِ الموت:

وكلما نُودي باسمهِ

يا يحيى.....

نزَّ من رأسهِ دمٌ

وارتفعتْ فُرشاتُهُ

تبحثُ عن دمِها الأبيضِ

بينَ دماءِ الألوان.

 كما أومأت القصيدة إيماءً ذكيَّاً إلى الطفولةِ العراقيّةِ وما عانتهُ من جورِ الصراعات، وآلامها التي مرّت على العراق على نحوٍ نابهٍ، لتهمسَ للمتلقّي أنَّ العراقَ كانَ فيها مجبراً لا مخيَّراً:

يا ابنَ محمودٍ

دمُنا وافرٌ تستلذُ بهِ الخناجرُ...

أغمسْ فرشاتَكَ

هنا الدمُ طفلٌ يُكركِرُ فوقَ الخضرةِ

أزهارُهُ فراشاتٌ ترفرفُ

فوقَ ما رسمتَ.

 إنَّ قصيدة (ما رآه الواسطيّ) ليست قصيدةً سهلة، بمعنى أنّها لا تُعطي نفسها لقارئها بسهولةٍ، إنّما تحفّزُهُ على التأمّلِ المفضي إلى معرفةِ عوالمها المتشابكة المقصودة، فاختيار الشاعر تجربة الواسطيِّ، والاشتغال على توظيفها انحيازٌ لاستلهامِ إيماءات اللوحات التي تفرّسَ صانعُها (الرسَّامُ) بتكوينِ ألوانٍ كادت تنطقُ بالشعرِ، لهذا بذلَ شاعرُنا جهداً كبيراً حاول أن يوازي به تلك اللوحات، لهذا يمكن القول: إنها المرّة الأولى التي نقف فيها على قصيدةِ نثرٍ عالجت موضوعاً تشكيليّاً على هذا النحوِ من التقنيةِ التي حمّلتِ الحرفَ طاقةً تعبيريّة فاعلة شدَّت المتلقّي وأثارت فيهِ الرغبة في فتح مغاليق النصِّ.

 ومع أنَّ مثل هذه التجارب ليست جديدة في استحضار التشكيل في الشعر، وأنّ للمنصف المزغنِّي في (حنظلة العليّ) الذي قدّمه الشاعر الرائد الراحل (بلند الحيدري)، ولـ جواد الحطّاب في (بروفايل للريح... رسمٌ جانبيُّ للمطر) سبْـقَهما في هذا الاستحضار، وكانا من رادتِه، فإنَّ استحضارَ شاعرِنا لايقلُّ أهميّةً عن تينِكَ التجربتينِ في هذا الشأن، فقد تناولت القصيدة ما عاناه العراقيون جميعاً من صراعات طائفيةٍ، وقتلٍ على الهوية، ودماء تسيل كلَّ يومٍ بفعلِ وحشيَّةِ الارهاب .

  نعم .. يمكن القول: إنَّ لوحاتِ الواسطيِّ كانت المقامة الحاديةَ والخمسينَ للحريري بالألوان، وإنَّ قلمَ سعد ياسين يوسف جسّدها نصّاً.

 

...........................

* نصُّ المحاضرة التي ألقيت يوم الخميس 27/10/ 2016 في (بيت الشعر) بتونس العاصمة وتناولت تقنية (الأشجار لا تغادر أعشاشها) لـ سعد ياسين يوسف .

 

 

 

في المثقف اليوم