قراءات نقدية

تعالق الخطابين الديني والشعر

ali mohamadalyousifفي المقدمة النقدية لدراسة الكاتب والناقد منصف الوهايبي عن الشاعر المجدد المعاصر اللبناني شوقي بزيع (1) ان جيل ديلوز يميز بين ثلاثة انماط من الخطاب اللغوي المعرفي، حيث الخطاب الفلسفي معقودا على التوسل ب (المفهوم)، فيما الخطاب الفني معقودا على التوسل بفعل (الادراك)، اما الخطاب الديني فمعقود على (الانفعال والوجدان ) .

ويضيف: ان الذات الرومانطيقية انما هي ذات انفعالية لذلك يمكن اعتبار الادب الرومانطيقي اقرب الى (الديانة) مستدركا انه يجازف بهذا الرأي ولا يدعي له الوجاهة حتى يتم اختباره والقطع بصحته .

وبرأيه ايضا : ان الذات في فضاء الشعر ادراكية، ومسألة الذاتية تظل شرط امكان المشاركة في (كونية الشعر) والكونية التي يقصدها نطاقها وساحتها الطبيعة البشرية المأهولة –كوكب الارض . وهي كونية محدودة عالميا وليست فضاءا غير منته غير محدودSpace  .

والكونية مقصود بها مراد منها مشاركة الذات الشعرية،و هي نقيض / ضد العولمة بمفهومها الايديولوجي السياسي والتاريخ الفلسفي المعاصر الدارج، بدليل قوله: (الكونية افق محدود يجدر الانسان الانخراط به، فهي لاتلغي الاختلاف والتعدد، بل تسعى ادماجهما في سياق التناغم ....) بينما العولمة بتعبير الوهايبي (على نحو ما يصرفها اهلها، اهل السياسة وتقنيو الاقتصاد العالمي تقوم على المجانسة والتنميط، ومحو تاريخ طويل صرفت فيه الشعوب حياتها وافنت  مصائرها من اجل اغناء تنوعها وتطوير اختلافها وخلافها ايضا ...)

لنا مداخلة بضوء التوطئة التي مررنا يها: مايتعلق بالشعر

- اشارة الوهايبي لتيارالرومانتيكية في الادب والفن التي كانت بدايات ظهورها في المانيا القرن التاسع عشر،نوفاليس،شيلينغ،فريدريك شليغل،التي دعت اضافة الى الهيام الرومانسي الحالم في تمجيد الحب،والتفاني بالحياة و الطبيعة،والمناجاة الشعرية في الليالي الهائمة في العشق،والتغني بالغريزة الجنسية والخيال.. ومصير الانسان الفاجع في الموت — معظم الشعراء والادباء الرومانتيكيين ماتوا في عنفوان شبابهم - واضافة الى ما طبع نتاجهم الرومانتيكي،فقد كانوا دعاة الغاء الفروقات الفنية والاسلوبية الجمالية التي تميز  الاجناس  الادبية  واكثر  من هذا، كانوا دعاة الغاء الفروقات  اللغوية الفنية المتواضع عليها ادبيا في تمييز الشعر عن النثر.من هنا يمكننا التساؤل هل كانت اشارة الوهايبي للرومانتيكية هدفها ربط تعالق الشعر بالدين بحسب اجتهاده التنظيري، ام كانت تمهيدا مقصودا في دراسة الشاعر،الذي لاعلاقة لشعره بالرومانتيكية. كما اجد في تعالق الدين بالشعر له اشارات في موروثنا العربي تفيد ان العرب في الجاهلية قبل الاسلام كانوا يقدسون الشعر وينشدونه على قبور موتاهم.

- لااعطي  نفسي  حق مجاراة الناقد المتمكن منصف الوهايبي في دراسته القيمة عن الشاعر المجدد شوقي بزيع، لكن انطباعي من مطالعتي بعض قصائد الشاعر المنشورة على صفحات مجلة الاداب اللبنانية،انه يمتلك خصوصية  لغوية شعرية بين كبار مجايليه من الشعراء المجددين، في عبارته الشعرية القصيرة،انها لا تتخلى عن الغنائية تماما وحسب بل تذهب الى اعدام الايقاع الداخلي كلية في ترابط المفردات الشعرية  لدرجة الالتقاء بالنثر الرمزي الملغز والمقتصد حد التكثيف، فتكون العبارة الشعرية عنده كباقي معظم شعراء جيله، عصية على التلقي والفهم،كما ان العبارة تعطي معناها الحدسي  في تضادها  اللغوي . وقام  الناقد الوهايبي  ياضاءة جوانب شعرية الشاعر شوقي بزيع باقتدار متمكن يحسب له. ومع تحفظنا الشديد في  تكرار ماقيل كثيرافي الخطاب النقدي الشعري، من ان نصوص الحداثة باتت لاتضع نصب اهتمامها متاعب وهموم ايصال (معنى) للمتلقي -- هذا التوجه على قدر اهميته من الناحية الجمالية الفنية الصرف،الا انه بات مشكلة لا يستهان بخطورتها على مستقبل الشعرية العربية،وانحسارمتلقي الشعر،اذ تشير احدى الاحصائيات الى ان من بين 300 مليون عربي لا يقرأون الشعر و يتابعونه اكثر من مائة الف قارىء فقط،على كل حال هذا ليس موضوعنا و يحتاج دراسة معمقة بضوء النظريات اللغوية المعاصرة،في ثنائية النص - المتلقي .

ان سعي الشعر الحديث المعاصر في توخي تواصله تحقيق تجاوب انفعالي يستوقف المتلقي حتى وان جاءت العبارة الشعرية في ومضات لغوية اشارية،ورموز تشتت المعنى في خلق تشكيل لغوي خارج المعتاد،وانعدام التناغم وفقدان الانسجام، الذي يصل حد الصدمة في غرابته في ملفوظ القول ومكتوبه في النص الشعري .لا يدخل في هذا القول،شعر العمود ولا الشعر الشعبي.

- الشعر الذي هو بؤرة مركزية في الاجناس الادبية،يتأرجح فيه المتلقي حسب مقدمة الناقد الوهايبي،وفي مرجعيته التي اعتمدها عن جيل ديلوز ان الخطاب اللغوي بأجناسه الثلاثة،الفلسفي الذي يتوسل المفهوم في التلقي، والخطاب الديني الذي يتوسل الانفعال الوجداني،والخطاب الفني الذي يتوسل الادراك،يكون الشعر الذي هوضرب من الفن في تعالقه مع الخطاب الديني،متأرجحاً في الجمع بين الفهم الادراكي،والتلقي الانفعالي الوجداني،اذا ما أخذنا صحة فرضية الوهايبي،ان الشعر الرومانتيكي يقترب من الفعالية الدينية ويتعشق معها بمشترك الخطاب اللغوي. هذا التعالق بين خطابي الدين والشعر ضمن استقلالية بنائية كل خطاب منفردا لوحده،يتوسطهما الشعر في فعالية التلقي بين المنحيين،و تكون الذات المستقبلة للشعر ادراكية وجدانية معاً.

- يشترط الناقد الوهايبي ان يكون شرط الذات المبدعة – ذات الشاعر- المشاركة الفاعلة في (كونية الشعر) اي عالميتهِ المنفتحة على افق بشري محدود،وليس عولمة الشعر بالمفهوم الايديولوجي السياسي الشمولي السائد في سحب مؤثرات واهداف العولمة- ان كانت هذه التقديرات والمخاوف في محلها- على روافد الحضارة الانسانية من ثقافات وفنون الامم و الشعوب قاطبةً... هذه المخاوف التي ترى ان للعولمة مجالات استهداف اخرى غير السياسة والاقتصاد والتكنولوجييا والمعلوماتية والاتصالات، ليصل الدمج والهضم والتذويب الى مجالات الهويات والثقافات والفنون والمعارف وروافد الحضارة الاخرى المتنوعة في مصاهر العولمة!! 

وكونية الشعر، او بالمعنى الاشمل كونية الاداب والفنون والافكار و المعارف و الفلسفات، لن تكون ضريبة عالميتها بالضرورة في اللقاء مع العولمة، بالتبعية والصهر والاذابة بالصبغة الاحادية، فهذا برأينا من الصعوبة بمكان كون جميع تلك الفعاليات الثقافية والمعرفية والحضارية محصنة ذاتياً بخصوصيات مشروطة تتأبى على مصهر العولمة!! ولاتخضع هذه المجالات في ملامحها الفنية الخاصة، كما يتجلى في مخاوف البعض امكانية ان تفعل العولمة مع الاداب والفنون والمعارف ما تفعله في الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا. ان التنوع الثقافي والادبي والفني والحضاري سماته التمايز والتعدد النوعي بتعدد امم وشعوب العالم،ولن يكون من اليسير السهل صهر وتبعية ذللك التنوع عولميا، مهما كانت ادوات ووسائل ايديولوجيا العولمة نافذة فاعلة في مجالات قاطعة اخرى اسهل من مجالات روافد الحضارة واكثر طواعية في التبعية والاندماج الاحادي الذي لم يثبت لحد الان تطبيقات له . لذا لاخوف على عالمية الحضارة وكونيتها من عولمة القطب الواحد.

 

علي محمد اليوسف

في المثقف اليوم