قراءات نقدية

شعرية النفس الملحمي في: كادر باتّساع المشهد للمصري احمد مصطفى سعيد

ahmad alshekhawiفي تجارب مهمة  على هكذا منوال، لعلّ السؤال العريض  الأكثر إلحاحا ، من جهة منحه إيانا انطباع أنّه جدير بالتوّقف عند حدوده،ومن حيث هو، أيضا تجاوز لكل التوقعات،باعتباره إنما نُقش في جدار اللاوعي، بأحرف من دم لا حبر فقط ،دم فوّار يغلي مع ما يشهده الراهن من تقلبات في الأحداث وتسارع محموم عاصف بالآمال الإنسانية ومذوّب لفسائل استنبات ساحة ملائمة لفضّ عقد القبح والنتانة والتشوهات، من أجل عالم متناغم والنبض الإنساني المستجلب لقوى مؤثّرة تعيد له هدأته و توازنه المنشود.

جاعلا إيانا في دوامة ، بلبوس حمّى تحسّس الشقوق الضمنية المؤدية إلى جملة من التوليدات الزاخرة والضاجة بنوعية من دوال ذاتية تفيد الحسّ الثائر والإيقاع المتمرّد.

قلت لعلّ السؤال وإن تقنّع بأوجه عدّة مراوغة قابعة في المابين،المنطقة الرمادية و مفردات التعرية والمكاشفة، والطابعة لخصوصيات وحساسيات معينة، ضاغطة ومضغوطة، تنهض عليها ملامح الفروق والمفاضلة بين جيل وآخر يعقبه، بيد انها تلتقي جميعها لتضرب بجذورها في لحظة الانشطار الذاتي والتمزّق الوجودي بشتّى صنوفه وتجلياته.

السؤال لماذا..؟ اطرادا مع المسكوت عنه وسائر ما يضمره هذا المُختزَل،ويفضي إليه من عوالم تحتية طيفية ومحايثة لمسارات تفشّي الوجع المتراخي والمثقل بثقافة الشخصنة و الفرادنية وأعراض التوحد، مع موجبات إدخاله وتوظيفه في الفسيفساء التي قد تتيح له الوصف بكونه جرعة مضاعفة من إفرازات التلاقح الحضاري المحاصر بتحديات جمّة يعزب حصرها، فيما تتوجب الإحاطة ببعض جنباتها، من زوايا ليّ عنق الكلمة،في نطاق عاكس لما يسعفنا في التوغل ، تدريجيا ، في طقوس شعرية  الهزلي،بعدّه ثيمة مشاكسة،تتمّ المراهنة عليها في نسيج المواقف الهلامية الطيعة للمخيال في اغترافه من تفاصيل اليومي،والتعويل على قوالب لا تتعثر في صياغة هواجس التجدد واجتراح سراديب المنسي والمعطّل، كضرب من مسايرة محققة للصدمة والصعق ومعارضة لما هو امتداد في جغرافيا الاستحواذ المادي وجبروته على مكامن الكينونة و خبايا الروح التواقّة للإستقلالية والانحياز إلى المطلق واللامحدود، ضمن خارطة لتداخل وتكامل الأفقي والعمودي، انطلاقا من ذات الرّفض، وعودا إلى تخومها.

في الإضمامة " كادر باتساع المشهد" والتي هي قيد الطبع،سرب المعنى الذي نرومه،ونزعمه هاهنا، وإمعانا في طرحنا، ليس ثمة بدّ من التعريج على بعض ظلال ذلك، عبر الاقتطاف الومضي الخاطف، التالي، من المخطوط الذي نأمل له رؤية النور عما قريب، لأهميته و نوعيته ولأغراضه المكتنزة بروح المغامرة والتجريب قبل كل شيء آخر:

" ... تبرئ ذمتك

وترمي رعاياك

بالغباء السديم

وتجهر في وجه الرب

كنت نعم الأب

ياأبانا في شرم

كلما تذكرنا شعرك الفاحم

وأنت في الثمانين

ووجهك الصبوح

ومشيتك الخيلاء..."

...................

"... بوعزيزي

شكرا عود الثقاب

علمتنا كيف

نضيء بأرواحنا

دمس الوطن..."

..................

" ... المسحولة

لابكاء بعد اليوم

لاخجل

فالملائكة حفتك بالطهارة

ساعة الخزي

ولعديمي النخوة

العري الأبدي..."

....................

" ... يارب هبني ذاكرة

م

ث

ق

و

ب

ة

وحولا بسيطا

فحماة الله ملئوا دنياي

أنا عاشق الحياة صخبا

وغبارا... "

.........................

" ... ياسادة

لجسد الميت قداسة

وهذا أبي المبعوث في الشعر رسول

هذا أبي ليس وطننا المنكوب

المنكود المصلوب شقاقا

دعونى أملأ عيني

بالوجة الحاد قسمات

المنحوت كبرياء... "

....................

" ... لاتعجلي بقيامتي

يا دنياي هو الحلم الزائف

خانني فخسرت حريتي

وأبقت الأيام على

إرث خيبتي..."

................

" ... الزوجة المشتهاة :قالت

رمضان ولى

فتعال من أول النهار

ارتع في جناتي وفى المساء

دع الساق تشكو لهفتها للساقي

واصلب على القد الناتح شوقا

آهاتي..."

.................

"... للنيل

ألا يرد التحايا على العاشقين

الصبايا

الجالسين همسا على كتفه

وأن يولي بوجهه

فيوم عسرته

تركوه

والأحزان

وحده والهموم

يداوي الجرح

الذي كاد يرديه

لولا  أحبته الغيوم ..."

..............

" ... أماه

فى دواوينك المهترئة وردة

تفيض حياة

رغم مرور الأيام

أماه

لم كل هذه الدموع ؟!!!!"

................

"... النيل يبكيك يا آخر العناقيد

في كرمة المخلصين للنهار

للوئام للوطن المبتلى

 بفراق الأبرار الصالحين

النيل يبكيك... "

...............

" ... راجين الأرض

أن تهبنا مخلّصا جديدا

والسماء تمسح عن الوطن

السديم

ياآخر ال

                 ق

                       ن

                           ا

                                د

                                     ي

                                         ل..."

لماذا...؟ ذلكم المفصل الحيوي المحيل على وقفات تمليها عتبة الديوان/ كادر باتساع المشهد، هذه الإفادة بما هو باعث على الاستغراب والاستنكار الواشي بالمعرفة المسبقة والتمكن من أجوبة لفيض وطوفان من استنطاقات ،مثلما تستدعيها إقحامات مقصودة ، لا عرضية، ويبسطها حال التلاعب بالمعطى الوجودي المغرق في صوفية الارتكان إلى نتوءات جوانية تغطس في معالجات درامية مغلّفة بخطاب ملحمي لاذع بكوميدياه المتفحّمة.

فضلا عن أن المناورة لا تبصم مشاهد لعبة الذات المكلومة والمأزومة، إبداعيا، بسوى اعتناق النفس الملحمي الملتزم بإرسالية بين شعرية المطولات و النص الومضي المشدود إلى الوحدة العضوية، في التحام تام ودورات مكتملة وانفلاتات ما تفتأ ترمّم التحامها بعتبة المنجز انتهاء.

لتتأتّى جماليات الغرض،وتبرز أكثر وعلى شاكلة تبرر مناحي انتشار سياقات النصوص وتعلل منسوب أدائيتها المكتظة بالحمولة الوجدانية المتشربة من أيديولوجيات تحاول مناهضة الوضع السياسي القاتم القائم.

لماذا تمّ ويتم إجهاض كل ثورة يسعى أصحابها إلى الخلاص من جلْد وسرطان طال، ويتأممون البديل سياسيا واقتصايا وثقافيا واجتماعيا، لأوطانهم...؟

منذ فجيعة البوعزيزي،وربما قبلها،وإلى الآن وكما سيكون فعل الدناءة والبهيمية والخسة ، في ما سوف يأتي كذلك، دونما ريب.

إنها زمرة من الشعراء الذين أبوا إلا أن يخطّوا أو يوثّقوا أحلامهم المشروعة، ويسجلوا براءتهم من حقبة أكثر دموية،وعصر متوحش يتمادى بابتلاع أبناءه قاطبة دون تمييز،بنهم، بلا هوادة.

الحقبة التي سرعان ما تفضح زيف المجدّفين خلافا لتيار المواكبة، والكتابة بسوى النار والدم المقابل بل والمتجاوز للغة النار والدم ،لتدين جحافل المتعالين، المتشدقين من أبراجهم العاجية،وآل السمسرة والمتاجرة بجرح يتعمّق وتئزّ أخاديده المترعة قيحا وصديدا.

ضدا على هؤلاء ممن يمثلون وينتسبون إلى الأبواق المخزنية المتصادية مع النرجسية المقيتة، نلفي الزمرة التي أشرت إليها،وقد طفت على الساحة بفعل فاعل، لا من العدم،لتغرّد بما هو حقّ وأكثر من مجرد رد فعل ، واعتراض على سياسة هوجاء تخول لآل الحماية برواسب أخطاء التاريخ،وتشجعهم على التشبث بشرعية مزعومة، مكرسة لكاريزما وبريق كراسي العروش، ومنظومة ما تعتّم عليه من عنتريات وسادية وأدوات مسخرة للجلد والردع والقمع، ومخلّدة لسلطة الاستبداد والطغيان واستعباد الشعوب المقهورة أصلا.

 

احمد الشيخاوي

 

في المثقف اليوم